منذ الربيع العربي، وهناك زعم يتردد في الدعاية الإعلامية الداعمة للإخوان المسلمين، مفاده أن الإخوان هم «الآباء المفترضون» للثورات العربية، وأن بقية التيارات خانت وباعت الثورات، فيما بقي الإخوان (والإسلاميون بشكل عام)، وحدهم في الساحة، يرفعون راية الثورة في وجه الاستبداد، ويدافعون عن قيم الحرية والكرامة والديمقراطية، في الوقت الذي تتحالف التيارات الأخرى فيه مع الاستبداد، وتوفر له الغطاء، وتبيع بثمن بخس كل ما ثار الناس من أجله عام 2011، ويبدو أن هذه البروباغندا الإعلامية، إن جاز التعبير، بحاجة إلى مواجهتها، عبر العودة إلى البديهيات، في ما يخص علاقة الإخوان بالحالة الثورية، وبالأنظمة الاستبدادية، ماضياً وحاضراً، قبل الربيع العربي وبعده.
لا بدَّ هنا، أمام هذه الدعاية، من التذكير بأمرين أساسيين، في فهم حركة الإخوان المسلمين، وعلاقتها بالثورة والسلطة السياسية، في الوطن العربي: الأول، أن هذه الحركة في تركيبتها ورؤيتها، ليست حركة ثورية راديكالية، وإنما حركة إصلاحية، تتمتع بقدرٍ عالٍ من البراغماتية، وليست هذه مشكلة بذاتها (ربما تصبح مشكلة أحياناً في تطبيقاتها، وفي المدى الذي تصل له هذه البراغماتية)، بل المشكلة هو ادعاء الثورية الآن، للمزايدة على الآخرين، وكسب شرعية تمثيل «الربيع العربي»، في الوقت الذي يشهد فيه ماضي الحركة وحاضرها، أنها لم تكن جذرية في معارضتها للأنظمة الاستبدادية.
الأمر الثاني، متصل بالأول، وهو أن الإخوان لم يكونوا خارج شبكات تحالف متينة مع أكثر من نظام عربي، في فترات معينة، بل وفي بعض الأحيان، تُسهم بعض الأنظمة في تغذية الحركة الإخوانية، وتمدّها بما تحتاج لتصنع دوراً لها في المجال العام. ولا يتوقف الأمر عند التحالف، بل يتعدّاه إلى استخدام السلطة السياسية لهذا التحالف في مواجهة الخصوم، وبالذات الحركات القومية واليسارية، وهو ما يعني أن حديث الإخوان اليوم، وبالذات في مصر، عن تعاون القوى العلمانية والمدنية، مع السلطة السياسية ضدهم، لا بد من أن يذكِّرنا بتعاون الإخوان في أكثر من بلد عربي، مع السلطة، ضد خصومهم السياسيين، من اليساريين والقوميين بالذات.
من المهم تأكيد ملاحظتين قبل الشروع في تفاصيل علاقة الإخوان بمعارضة الأنظمة الاستبدادية أو موالاتها: الملاحظة الأولى أن توضيح علاقة الإخوان بالسلطة السياسية، وطبيعة النهج المعارض الذي تنتهجه، لا يعني الدفاع عن مساندة قوى علمانية للاستبداد السياسي، في قمع الحركة الإخوانية، وإقصائها من المعادلة السياسية؛ فقد أثبتت النخب السياسية العربية، بإسلامييها وعلمانييها، عدم قدرتها على بناء حالة تعددية، يتم من خلالها الصراع، ضمن قواعد لعبة ديمقراطية، لا تحوّل الخصومة السياسية، إلى عداء يستجلب الإقصاء، ولذلك، ليس الحديث هنا في سياق الدفاع عن نخبٍ منحازة إلى القمع والإقصاء.
الملاحظة الثانية، أن الحديث عن استخدام السلطة للإخوان لضرب خصوم مشتركين، لا يعني أن الإخوان مجرد أداة وظيفية، مصنوعة من السلطة، وتستخدم لأغراضها، فالإخوان حركة واسعة، وصاحبة مشروع سياسي، وهي حين تدخل في تحالف مع السلطة السياسية ضد الخصوم، تفكر بالعائد عليها من هذا التحالف، والعائد على مشروعها، وهي بهذا المعنى، تستخدم أيضاً السلطة السياسية لتحقيق أغراضها، وإن كانت الفكرة – أي فكرة الاستخدام المتبادل بين الإخوان والسلطة – غير قابلة لتطبيق متوازن، نظراً إلى اختلال موازين القوى لمصلحة السلطة، لكن المسألة تكمن في تفكير الإخوان، بأن التحالف مع السلطة، يعود عليهم بنفعٍ ما، ما يجعله مبرراً براغماتياً.
الاستعراض المفصّل لنماذج من التعاطي الإخواني مع السلطة السياسية، في أكثر من بلد عربي، سيوضح الصورة أكثر، قبل الولوج إلى السلوك الإخواني غير الثوري، في حالة الربيع العربي.
أولاً: إخوان مصر والسادات
كما هو معروف، لم يكن الإخوان على وفاق مع نظام الرئيس جمال عبد الناصر، رغم أنهم لم يكونوا معارضين ثوريين لنظامه في البداية، وقد توسعت الخلافات بين الطرفين، بعد ثورة تموز/يوليو 1952، إلى أن أدَّت إلى مواجهة شاملة، لكن، بعد وصول الرئيس أنور السادات إلى الحكم، حصلت انفراجة في علاقة الإخوان بالحكم المصري، تُوِّجت بتحالف من نوع محدد، لضرب الناصريين واليساريين.
بنى السادات جزءاً أساسياً من شرعيته على تقديم نفسه كرئيسٍ «مؤمن»، وتقديم دولته بوصفها دولة «العلم والإيمان»، وقد استثمر التيار الإسلامي، والإخواني تحديداً، في تصفية حساباته مع خصومه من الناصريين واليساريين، المعارضين لنهجه. وعليه، فقد أطلق سراح الإخوان المسلمين من السجون، وأعاد إليهم ممتلكاتهم المصادرة، وسمح لهم باستعادة مقارّهم، وإقامة اللقاءات العامة، وإعادة إصدار مطبوعاتهم[1]، كما أنه أضاف مادة إلى دستور البلاد، تنص على أن الإسلام دين الدولة، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيسي للتشريع.
بدأ السادات لقاءاته بالإخوان منذ صيف عام 1971، حيث التقى بالداعية المعروف سعيد رمضان[2]، أحد أهم قيادات الإخوان في الخارج (وهو معروف بعلاقاته المميزة مع الأميركيين والبريطانيين)، ومعه مجموعة من قياديي الجماعة. وأكد السادات في اللقاء أنه يواجه المشاكل من العناصر نفسها التي عانوها (يقصد الناصريين)، وأنه يشاركهم أهدافهم في محاربة الشيوعية. توالت اللقاءات بعدها، وتم ترتيب الدعم من السادات، لمواجهة الناصريين واليساريين، وهو ما حدث بالفعل، إذ قام الإخوان بمواجهة الناصريين واليساريين في الجامعات، وفي أماكن أخرى، بدعم من نظام السادات، وقد بات هذا الأمر معروفاً. وتشير إحدى وثائق ويكيليكس[3]، وهي عبارة عن رسالة من السفارة الأميركية في القاهرة، تم إرسالها في نيسان/أبريل عام 1976، إلى سعي السادات لتشكيل كتلة يمينية إسلامية، لمواجهة الناصريين واليساريين. وتحكي الرسالة عن لقاء السفير الأميركي برئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية آنذاك، توفيق عويضة، والذي صرح للسفير بقرار الحكومة المصرية، استخدام كتلة إسلامية لمواجهة اليسار والناصريين، وقد ضرب عويضة مثالاً على الجهد المبذول لضرب اليسار عن طريق الإسلاميين، بكلية الهندسة في جامعة القاهرة، المعروفة وقتها بوجود نفوذٍ يساري قوي فيها. ويشرح عويضة:
«أغدق رجل الأعمال المليونير عثمان أحمد عثمان صاحب شركات الإنشاءات، من ماله على الكلية وأنشطتها، مستعيناً بخلفيته السياسية فى تعامله مع طلاب الكلية، كما تم استقدام المحاضرين من ذوى الانتماءات الدينية إلى الكلية، كان من بينهم محاضر أتى من السعودية، وآخر ينتمي لجماعة الإخوان، والذين أخرجتهم الحكومة المصرية خارج البلاد، وباتت هناك جلسات منتظمة تعقد في الكلية لقراءة القرآن وتفسير معانيه، وتم إيقاف الجريدة الأسبوعية التى تصدرها الكلية، زعماً بأن رئيس تحريرها لا ينتمى للكلية ولا يعمل بمهنة الصحافة، ولم تنطلق أي تظاهرات بالكلية لتندد بالحدث، رغم أن السبب الحقيقي للمصادرة هو الحوار المطول الذي أجرته الجريدة مع الكاتب محمد حسنين هيكل، وتم نشره على حلقتين»[4].
تشير الوثيقة إلى أنشطة أخرى تدعم فيها الدولة المصرية الإسلاميين لمواجهة الخصوم المشتركين، ومن الواضح أن السادات استفاد من الإخوان في ضرب خصومه، وإطلاق حالة إسلامية في المجتمع المصري، ورعايتها، قبل أن تنقلب عليه بعد كامب ديفيد، وصولاً إلى اغتياله على يد بعض أفراد الجماعات الإسلامية الراديكالية. أما الإخوان المسلمون، فقد كان هدفهم من التحالف مع السادات، يتلخص في أمرين[5]: الأول هو إعادة بناء التنظيم، وتجنيد أعضاء جدد فيه، بعد أن أصبح منقسماً وضعيفاً نتيجة قضاء قياداته فترة طويلة في السجن، وقد حصل هذا الأمر بشكل تدريجي، وتمكن الإخوان من إعادة بناء تنظيمهم، وممارسة نشاطهم، بدعم من الدولة. أما الأمر الثاني فهو نيل الاعتراف الرسمي بالجماعة من قبل الدولة، وهو ما لم يتمكن الإخوان من تحقيقه بشكل كامل، فقد كان السادات متسامحاً مع نشاط الجماعة، واعترف بوجودها في المجال العام، لكنه لم يوافق على إعطائها شرعية قانونية، وقد رفع الإخوان قضية ضد قرار حل التنظيم الصادر في عهد عبد الناصر، عام 1954، لكن المحاكم المصرية لم تحسم القضية.
في نهاية عهد السادات، وفي عهد مبارك، الذي استمر إلى ما يقارب 30 عاماً، انتقل الإخوان إلى موقع المعارضة، غير أن هذه المعارضة لم تكن جذرية أو راديكالية، وقد حاول الإخوان في عهد مبارك، نيل الاعتراف الرسمي من الدولة بهم، والدخول ضمن الدولة والمؤسسات القائمة، بما يعني أن الإخوان لم يكن لديهم مشكلة كبيرة مع وجود النظام، بل مع موقعهم داخل هذا النظام، إذ كانوا يتطلعون إلى الاندماج فيه، وتمت ترجمة هذا الأمر بخطوات عملية، شملت المشاركة في الانتخابات النيابية، والدخول في صفقات ومساومات مع نظام مبارك، طوال فترة حكمه، وصولاً إلى ثورة 25 يناير.
شارك الإخوان المسلمون في أول انتخابات برلمانية تجري في عهد مبارك، عام 1984، بالتحالف مع حزب الوفد، وقد شارك الإخوان رغم أنهم لم يكونوا حزباً سياسياً معترفاً به. كما أن قانون الانتخابات لعام 1983، يحظر التحالف بين الأحزاب السياسية المعترف بها، ربما لأن النظام أراد ائتلافاً واسعاً وقتها في مواجهة المسلحين الإسلاميين، كما أن مبارك ربما لم يشعر حينها بأي تهديد من الإخوان[6].
شكّل تحالف الوفد والإخوان أقلية معارِضة في برلمان 1984، وكانت المشاركة الإخوانية، كما هي مشاركات تالية، تُعبّر عن إقرارٍ بشرعية النظام، ورغبة في اكتساب شرعية وموقع ضمن هذا النظام، والقيام بإصلاحه تدريجياً، ضمن الرؤية الإخوانية الإسلامية للإصلاح، وقد كان هذا الخط الإخواني، مناقضاً لحركات إسلامية راديكالية، تواجه النظام بالعنف، رفضاً لشرعيته، وتمسكاً منها بحاكمية الشريعة، أي أن الأبناء الشرعيين لسيد قطب وطرحه، كانوا على النقيض من توجه الإخوان نحو الدخول في العمل السياسي ضمن مؤسسات الدولة المصرية، وتحت سقف النظام، وهو ما يوضح الفارق بين ثورية راديكالية تتبناها جماعات العنف الجهادي، وبراغماتية تبنتها جماعة الإخوان منذ السبعينيات، في التعاطي مع شرعية النظام القائم.
عاد الإخوان إلى البرلمان مرة أخرى عام 1987، وقام نواب الإخوان في البرلمان، في السنة نفسها، بترشيح مبارك لولاية رئاسية ثانية، رغبةً منهم في تجنب الصدام مع رأس النظام، في سياق بحثهم عن شرعية قانونية لعملهم السياسي، عبر اعتراف الدولة القانوني بهم، ورغم أن قرار ترشيح مبارك، لم يكن محل إجماع داخل الحركة، إلا أن حسابات مكتب الإرشاد، فرضت نفسها، كما يقول عبد المنعم أبو الفتوح[7]. وفي هذه الحالة، يظهر قدر عالٍ من البراغماتية، في تصرف الإخوان المسلمين، وهم واصلوا العمل السياسي، وتأرجحوا بين مقاطعة بعض المحطات الانتخابية، والمشاركة فيها، وكان لحملة النظام الشرسة عليهم في التسعينيات، وانتقاله من التسامح معهم إلى التضييق عليهم، بسبب تراكمات محلية وإقليمية، أثره في علاقة الإخوان بمؤسسات الدولة، لكن الإخوان أصروا على نهج العمل السياسي تحت سقف النظام والدولة، إلى أن قامت ثورة 25 يناير. وشاركوا في محطات انتخابية قبل الثورة، وحاولوا مجاملة النظام ورموزه بغية تحقيق بعض المكاسب، مثل كلام مرشد الإخوان محمد بديع عن أن حسني مبارك والد للمصريين[8]، ومطالبته بالعدل بين أبنائه، وهذا التوصيف الأبوي لرأس النظام، يتعارض مع أي نزعة ثورية مفترضة، رغم أن الإخوان كانوا وقتها في عز المواجهة مع النظام. وفي كل الأحوال، لا يظهر الصراع بين نظام مبارك والإخوان، صراعاً بين نظام مستبد وحركة ثورية، إذ إن كل الشواهد تدل على انتهاج الإخوان براغماتية عالية، ومرور علاقتهم بالنظام بمد وجزر، ينفي وجود موقف معارضة راديكالي للإخوان من نظام مبارك.
ثانياً: رعاية إخوان اليمن
في ستينيات القرن المنصرم، قامت شخصيات يمنية ببناء علاقة مع التنظيم الدولي للإخوان، وإنشاء خلايا للإخوان داخل اليمن. لكن الإخوان أصبحوا فاعلين في المشهد اليمني، منذ إنشاء نظام المعاهد العلمية في منتصف السبعينيات، تحت رعاية حكومية، وهو نظام موازٍ للنظام التعليمي العام، يركز على تدريس العلوم الشرعية. وشكلت هذه المعاهد أهم منبر لنشر أفكار الإخوان، واستقطاب الكوادر. ومنذ أن تسلم الرئيس علي عبد الله صالح الحكم في صنعاء، عام 1978، تحالف مع الإخوان، ضد «المد الشيوعي»، خاصة مع تأسيس الحزب الاشتراكي في عدن في العام نفسه، وتعزز التحالف من خلال وقوف الإخوان مع صالح في ما سُمِّي حرب المناطق الوسطى (1978 – 1982)، حيث كان لقتال الإخوان المسلمين مع صالح ضد الجبهة الوطنية الديمقراطية، أثرٌ كبير في إفشال هجوم الجبهة في الحرب، على المناطق الوسطى[9].
عزز الرئيس صالح دعم الدولة للمعاهد العلمية، لمواجهة الأفكار الشيوعية، وكان آل الاحمر هم الواجهة القبلية للإخوان المسلمين، وهم شركاء صالح في السلطة، وكان الشيخ عبد الله الأحمر، واللواء علي محسن الأحمر، أبرز واجهتين لنفوذ الإخوان المسلمين داخل منظومة الحكم اليمنية. كان صالح يريد مواجهة الحزب الاشتراكي من خلال التحالف مع الإخوان، وقد ثبت له أن الحالة الإخوانية قادرة على تقوية موقعه في مواجهة الاشتراكيين.
بعد الوحدة اليمنية، تم إنشاء التجمع الوطني للإصلاح، بواجهة قبلية هي الشيخ عبد الله الأحمر، وبآلية تنظيمية إخوانية، حيث الإخوان المسلمون يتنظمون تحت مظلة هذا الحزب، ويروي الشيخ عبد الله الأحمر في مذكراته، كيف وُلِدت فكرة حزب الإصلاح، بطلبٍ من الرئيس صالح:
«وبالنسبة لنا، المشائخ والعلماء، كان توقعنا أن الحزب الاشتراكي دخل الوحدة وسيضم إليه الأحزاب اليسارية في الشمال من ناصريين وبعثيين وتلك المسميات الأخرى، حزب عمر الجاوي مثلاً، وسيشكلون كتلة واحدة، وكنا جميعاً في المؤتمر الشعبي العام. ولهذا لا بد لنا من إنشاء أحزاب تكون رديفة للمؤتمر، وطلب الرئيس منا بالذات مجموعة الاتجاه الإسلامي وأنا معهم أن نكون حزباً في الوقت الذي كنا لا نزال في المؤتمر. قال لنا: كونوا حزباً يكون رديفاً للمؤتمر ونحن وإياكم لن نفترق وسنكون كتلة واحدة، ولن نختلف عليكم وسندعمكم مثلما المؤتمر، إضافة إلى أنه قال: إن الاتفاقية تمت بيني وبين الحزب الاشتراكي وهم يمثلون الحزب الاشتراكي والدولة التي كانت في الجنوب، وأنا أمثل المؤتمر الشعبي والدولة التي في الشمال، وبيننا اتفاقيات لا أستطيع أتململ منها، وفي ظل وجودكم كتنظيم قوي سوف ننسق معكم بحيث تتبنون مواقف معارضة ضد بعض النقاط أو الأمور التي اتفقنا عليها مع الحزب الاشتراكي وهي غير صائبة ونعرقل تنفيذها، وعلى هذا الأساس أنشأنا التجمع اليمني للإصلاح في حين كان هناك فعلاً تنظيم وهو تنظيم الإخوان المسلمين الذي جعلناه كنواة داخلية في التجمع لديه التنظيم الدقيق والنظرة السياسية والأيديولوجية والتربية الفكرية»[10].
هكذا، وُلد حزب الإصلاح بطلب من رئيس النظام، ولغرض مشاكسة خصومه، وقد انتهت مشاكسة الإخوان للاشتراكيين أيام الوحدة، إلى المشاركة مع النظام في الحرب ضدهم عام 1994، وبقيت علاقة الرئيس صالح بالإخوان مميزة، إلى أن اتخذ قراره عام 2001، بإغلاق المعاهد العلمية، ما دفع إلى مواجهة بينه وبين الإخوان، بل وتأسيس اللقاء المشترك عام 2003، مع خصوم صالح وخصومهم من الاشتراكيين والناصريين، وصولاً إلى المشاركة الإخوانية في الثورة على صالح عام 2011، وانحياز أبناء الراحل عبد الله الأحمر، وعلي محسن الأحمر، إلى الثوار في ساحة التغيير.
رغم المعارضة خلال السنوات الأخيرة قبل الثورة، كان للإخوان علاقة مهمة بعلي محسن الأحمر، الرجل الثاني في نظام صالح. وبعد المبادرة الخليجية، قام الإخوان مع بقية النظام السابق، بالانقضاض على مواقع قيادية، ومحاولة التغلغل في مفاصل الدولة، دون اعتبار لشركائهم في الثورة، الذين توترت علاقتهم بالإخوان، بسبب ما وجدوه من اندفاع إخواني لتعيين أعضائهم في مناصب معينة (وقد نجحوا في التغلغل بعد الثورة عكس أقرانهم في مصر، بسبب تفاهمهم مع بقايا النظام القديم، وتحديداً تحالفهم مع علي محسن الأحمر)، مثل استصدار قرار جمهوري بتعيين مدير تربوي في تعز على غير رغبة المحافظ، وبتجاوز اختبار الكفاءة الذي فاز فيه شخص آخر[11]. قبل الإخوان بالعمل تحت سقف المبادرة الخليجية، التي رفضها الثوريون في الساحات، وقبلوا بالشراكة مع جزء أساسي من النظام القديم، وهم كانوا شركاء للنظام قبل ذلك، ولا يدل سلوكهم قبل الثورة وبعدها، على نهج ثوري. ورغم مشاركتهم في ثورة التغيير عام 2011، إلا أنهم فضلوا المساومات وعقد التحالفات مع القوى القديمة في النظام.
ثالثاً: إخوان الأردن والكويت
تختلف علاقة الإخوان بالسلطة باختلاف البلد، وتتغير الحالة أيضاً في البلد نفسه، كما رأينا في مصر واليمن، فمن التحالف إلى المواجهة، مروراً بمراحل شد وجذب، ومحاولة الوصول إلى صيغ تعايش وتسويات، وهذا الأمر ينطبق بشكل كبير على كثير من الحركات الإخوانية في البلدان العربية. في حالة الأردن مثلاً، كانت الجماعة منذ تأسيسها على علاقة وطيدة بالحكم الأردني، بل إن الملك عبد الله الأول بن الحسين، هو من قام بافتتاح المركز العام للجماعة في الأردن، وقد أثنى على الجماعة، وقال إنه ينتظر الخير للأمة الإسلامية على أيديهم[12].
كانت جماعة الإخوان في الأردن تحظى برعاية الدولة، وتمارس أنشطتها بحرية، وفي الخمسينيات تقدمت الجماعة بطلب اعتبارها هيئة إسلامية عامة شاملة وليس جمعية خيرية، ووافقت الحكومة على طلبها، وفي ظل صعود المد القومي واليساري، التصقت الجماعة بالنظام، خاصة مع اصطدام الجماعة الأم في مصر بنظام عبد الناصر، وكان الإخوان يواجهون في الشارع الأحزاب القومية واليسارية، ووصل الأمر إلى حمل السلاح دعماً للنظام في وجه ما وُصِف بأنه محاولة انقلابية من «الضباط الأحرار» ضد الملك حسين[13]. ووصل امتنان الملك للجماعة إلى حد عرض تشكيل الحكومة على المراقب العام للجماعة آنذاك عبد الرحمن خليفة، الذي اعتذر بسبب عدم قدرة الجماعة على تكوين فريق وزاري، بسبب قلة التجربة[14].
رغم كل هذا الود، كان للإخوان نقدهم أيضاً لبعض القرارات الحكومية، وبعض المظاهر التي يعتبرونها مخالفة للشريعة، لكنهم في الخط العام، كانوا مؤيدين للملك ونظامه، ومدافعين بشراسة عنه، ضد الخصوم القوميين واليساريين، ومع انحسار المد القومي واليساري في السبعينيات، وخروج الفصائل الفلسطينية من الأردن، للعمل بحرية أكبر داخل المخيمات الفلسطينية، لملء فراغ الفصائل الفلسطينية هناك[15]، وتوسع الإخوان في تلك الفترة في العمل العام، واستفادوا من الطفرة المالية في الخليج والأموال المتدفقة منه لتعزيز موقعهم.
في التسعينيات، بدأ التوتر يشوب العلاقة بين الإخوان والنظام، بعد أن شارك الإخوان في محطات انتخابية مهمة وحققوا نجاحات كبيرة، وشاركوا في حكومة مضر بدران عام 1991 بخمس حقائب وزارية. ويعود التوتر في جزء أساسي منه إلى شعور النظام بقوة الجماعة وخطرها، لكن هذا لم يمنع من إيجاد تسويات معينة، وحدود للمعارضة التي ينتهجها الإخوان، ضمن سقف النظام.
في الكويت، تكونت النواة الأولى لحركة الإخوان، نهاية الأربعينيات من القرن المنصرم، وانقسمت الحركة لاحقاً لخلافات داخلية، ثم أعاد بعض المنتسبين للإخوان جمع أنفسهم، وشكلوا جمعية الإصلاح الاجتماعي عام 1963، لمواجهة حركة القوميين العرب، المتوهجة في ذلك الوقت، وأصبح عبد الله العلي المطوع، واجهة الإسلاميين في تلك المرحلة، وهو تاجر معروف بعلاقاته المميزة بالأسرة الحاكمة، وهو ما أسهم بتقوية علاقة الإخوان بالحكومة، للتصدي للقوميين[16].
حصل تفاهم في قضايا عديدة، ودعمت الحكومة أنشطة الإخوان، وتحالفت معهم في الحياة البرلمانية، وسكت الإخوان عن تزوير الانتخابات عام 1967، والحل غير الدستوري لمجلس الأمة عام 1976، وأقرت الحكومة عدداً من القوانين «المتوافقة مع الشريعة» التي قدمها نواب الإخوان في المجلس[17]. ورغم مشاركة الإخوان في حراك المعارضة نهاية الثمانينيات، إلا أن رئيس جمعية الإصلاح عبدالله العلي المطوع لم يوقع على العرائض الشعبية للمعارضة، رغبة منه في المحافظة على العلاقة المميزة بالأسرة الحاكمة، ما دفع عدداً من أعضاء المعارضة إلى اتهام الإخوان بالازدواجية[18].
بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت، عادت الحياة السياسية، ومعها تم تأسيس الحركة الدستورية الإسلامية «حدس»، لتكون واجهة سياسية للإخوان المسلمين. ولم يصبح الإخوان في مواجهة حقيقية مع السلطة، إلا بعد مشاركتهم في حملة «نبيها خمس» الرامية إلى تقليص عدد الدوائر الانتخابية من 25 إلى 5، للتضييق على استخدام المال السياسي في شراء الأصوات. ولاحقاً انضم الإخوان لمعارضة رئيس الحكومة ناصر المحمد، والحراك في الشارع ضده، والذي استمر بعد الربيع العربي.
رابعاً: الإخوان في الربيع العربي
صعد الإخوان بقوة إلى الواجهة بعد الثورات العربية، لأنهم القوة المنظمة الأكبر في أغلب البلدان العربية، وقد انضموا بالفعل إلى هذه الثورات، لكنهم لم يصنعوها، وفي حالة مصر، لم تكن جماعة الإخوان من القوى الداعية إلى تظاهرة 25 يناير، لكن أفراداً منها – وخاصة الشباب – شاركوا بصفتهم الفردية لا التنظيمية، وشابَ موقف الإخوان من الثورة التردد، ولم تنزل الجماعة بثقلها إلا يوم 28 يناير في جمعة الغضب، لكنها استمرت في التردد على مستوى الخطاب، ونلحظ في بيان الجماعة يوم 30 يناير وجود مطالب إصلاحية من نوعية إلغاء قانون الطوارئ، وحل مجلسي الشعب والشورى، وتشكيل حكومة وحدة وطنية[19]، في الوقت الذي كانت فيه التظاهرات تطالب بإسقاط النظام ورئيسه.
وكان القبول بالتفاوض مع عمر سليمان حول الانسحاب من اعتصام ميدان التحرير، مقابل الاعتراف بشرعية الجماعة القانونية، مؤشراً آخر على حالة الارتباك إزاء المسألة الثورية، وما إن تنحى مبارك حتى توالت الانشقاقات، من قيادات مهمة في مكتب الإرشاد مثل عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب، إلى مجموعة من الشباب الذين شاركوا في بداية الثورة، وشكلوا فيما بعد «التيار المصري». يقول محمد القصاص، أحد المشاركين في بداية الثورة، أنه وبعض زملائه قدموا رؤية للتغيير لتتبناها الجماعة، قبل الثورة، ويصف التباعد بين عقلية بعض شباب الإخوان، ومكتب الإرشاد، من خلال ردة فعل الأخير على رؤية التغيير:
«قدمنا رؤية واضحة ومكتوبة، ورؤية متكاملة للتحرك على مستوى الجمهورية، وذكرنا تعبيرات كالعصيان المدني، والإضرابات، والثورة، وقلنا إن التغيير بيد مبارك، وإن التغيير الحقيقي سيتطلب مواجهة مباشرة مع النظام، وأنه لن تنفع أية مواجهات غير مباشرة مع النظام، ولكن مكتب الإرشاد رفض الرؤية، وأكد على ضرورة أن نهتم بالدعوة والتربية، وليس المواجهة، لأن النظام المصري قمعي، ولن ينفع معه الصدام»[20].
يكشف كلام القصاص مدى تقليدية القيادة الإخوانية، وعدم ثوريتها، لكن سلوك هذه القيادة بعد إطاحة مبارك، من خلال محاولة التفاهم مع المجلس العسكري، ورفض الهجوم الثوري عليه، وهو الذي يعتبر العمود الفقري للنظام المصري الذي ثار عليه الناس، يكشف تمسك الإخوان بفكرة المساومات وعقد الصفقات مع الأنظمة، وعدم فهم طبيعة الحالة الثورية وما تستدعيه، فبعد الإطاحة بمبارك، أراد الإخوان إيجاد موطئ قدم لهم في السلطة، عبر التفاهم مع المؤسسة العسكرية، لتثبيت أقدامهم، غير أن دفاعهم عن المجلس العسكري، ورفضهم الهتاف ضده[21]، جعلهم يخسرون الثوريين، ولم يكسبوا العسكر في المقابل، إذ إن الثقة لم تُبنَ بين الطرفين، ولم يتمكن الإخوان أثناء فترة حكمهم القصيرة، من الحصول على سلطة حقيقية، وعلى عكس ما يروِّجه خصوم الإخوان، حول «أخونة الدولة»، فإن الإخوان لم يتمكنوا من الحكم فعلياً، وإذا كان عندهم نوايا للتغلغل في مفاصل الدولة، فإنها لم تتظهر، بسبب وجود قوى النظام القديم، التي ارتضى الإخوان التفاهم معها على آلية للحكم، وتقديم تنازلات كثيرة لها، انتهت إلى الانقلاب على الرئيس مرسي.
خاتمة
يمكن سرد الكثير من التفاصيل حول علاقة الإخوان بالأنظمة العربية، وغياب الحس الثوري لديهم، لكن الحديث في المجمل، حول الإخوان وثوريتهم، يقود إلى استخلاص ما يلي:
أولاً: بنت الجماعة جماهيريتها الكاسحة، تحت رعاية أنظمة عربية عديدة، وتشجيعها، لمواجهة خصوم هذه الأنظمة، وعليه، فإن قوة الجماعة، تعود في جزء أساسي منها، إلى استفادتها من موارد ومنابر عدد من البلدان العربية، حيث امتد التحالف مع عدد من الأنظمة العربية لعقود، ولم يبدأ الفتور أو الصدام، إلا في التسعينيات الميلادية، على الأغلب.
ثانياً: الإخوان ليسوا ثوريين، لا قبل الربيع العربي، ولا بعده، ورغم الدعاية التي تتحدث عن رفعهم راية الثورات العربية، فإن أي تدقيق في الأحداث، وفي الخلفيات التاريخية الهامة أيضاً، لا يكشف فقط ارتباك الإخوان تجاه الحالة الثورية، بل استمرار نهج المساومات والتسويات، مع بقايا الأنظمة، وهو ما يُحمّل الإخوان مسؤولية أكبر حتى من غيرهم من الفصائل، عن إفشال الثورات، لجنوحهم للمساومات، وعدم استغلالهم اللحظة الثورية، في إنهاء وجود النظام السابق وتثبيت نظام جديد من جهة، وإيجاد توافق وطني على قواعد حياة سياسية سليمة من جهة أخرى، وتحمل المسؤولية الأكبر يعود إلى كون الإخوان التشكيل الأكبر في المعادلة السياسية.
ثالثاً: الحديث عن غياب الثورية عند الإخوان، أو استفادتهم من التحالف مع أنظمة عربية، في إيجاد قواعد اجتماعية واسعة لهم، لا ينفي تضررهم من قمع بعض الأنظمة في فترات معينة، وبالذات في آخر عقدين، لكنه يوضح سلوك الجماعة تجاه هذا القمع، والقدرة البراغماتية على إيجاد صيغ تعايش مع هذه الأنظمة.
قد يهمكم أيضاً الإسلاميون في السلطة: تجربة الإخوان المسلمين في مصر
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الإخوان #الإخوان_المسلمين #إخوان_مصر #الربيع_العربي #الثورات_العربية #إخوان_الأردن #إخوان_الكويت #إخوان_اليمن #وجهة_نظر
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 439 في أيلول/ سبتمبر 2015.
(**) بدر الإبراهيم: كاتب سعودي.
[1] هشام العوضي، صراع على الشرعية.. الإخوان المسلمون ومبارك، 1982-2007، سلسلة أطروحات الدكتوراه؛ 74 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2009)، ص 76 – 77.
[2] محمد حسنين هيكل، خريف الغضب: قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1988)، ص 228.
[3] انظر: وثيقة ويكيليكس، <https://wikileaks.org/plusd/cables/1976CAIRO04727_b.html>.
[4] «الحلقة الأولى من مراسلات كيسنجر: «الإخوان».. عصا «السادات» لضرب الناصريين،» المصري اليوم، 7/4/2013.
[5] العوضي، صراع على الشرعية.. الإخوان المسلمون ومبارك، 1982 – 2007، ص 81 – 85.
[6] المصدر نفسه، ص 125 – 126.
[7] المصدر نفسه، ص 173.
[8] انظر تصريح مرشد الإخوان عن أبوية مبارك لكل المصريين في: <https://www.youtube.com/watch?v=ngD2GLANJG0>.
[9] ناصر الطويل، الحركة الإسلامية والنظام السياسي في اليمن: من التحالف إلى التنافس (صنعاء: مكتبة خالد بن الوليد للطباعة والنشر والتوزيع، 2009).
[10] مذكرات الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر: قضايا ومواقف (صنعاء: دار الآفاق للطباعة والنشر، 2007)، ص 256 – 257.
[11] فارع المسلمي، «إخوان اليمن: خسائر مبكرة ومستقبل بلا ملامح،» موقع المونيتور (25 أيلول/سبتمبر 2013).
[12] محمد أبو رمان وحسن أبو هنية، الحل الإسلامي في الأردن: الإسلاميون والدولة ورهانات الديمقراطية والأمن (عمّان: مؤسسة فريدريش إيبرت، 2012)، ص 67.
[13] المصدر نفسه، ص 68.
[14] المصدر نفسه.
[15] المصدر نفسه، ص 71.
[16] علي الكندري، «الإخوان المسلمون بالكويت: منافع التحالف مع السلطة وضريبة المعارضة،» مركز الجزيرة للدراسات (5 حزيران/يونيو 2014)، ص 3، <http://studies.aljazeera.net/issues/2014/06/201465111237315369.htm>.
[17] المصدر نفسه، ص 4.
[18] المصدر نفسه.
[19] بيان من الإخوان المسلمين بشأن الانتفاضة المباركة المستمرة للشعب المصري حتى يوم الأحد 30 حزيران/يونيو 2011، <http://www.ikhwanwiki.com/index.php?title=>.
[20] هشام العوضي، «الإسلاميون في السلطة: حالة مصر،» المستقبل العربي، السنة 36، العدد 413 (تموز/يوليو 2013)، ص 30 – 31.
[21] انظر تصريحات عصام العريان رفضاً للهتاف ضدّ المجلس العسكري في: <https://www.youtube.com/watch?v=4jbiqvAL5eM>.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.