يسر مجلة «المستقبل العربي» أن تقدم إلى قرائها هذا الحوار مع المفكر العربي الدكتور جورج قرم، وهو غني عن التعريف، بأطروحاته وأفكاره ومواقفه، وبالدور الذي أداه خلال السنوات الطويلة الماضية. يهمنا في مجلة المستقبل العربي أن نطل مع جورج قرم على قضايا عربية من منظار جريء وبنظرة نقدية، وبخاصة أن مستقبل المنطقة والوطن العربي غير مطمئن. ويهمنا في هذه المقابلة أن نتعرف أكثر إلى شخصية جورج قرم الفكرية، لا من منظور كيف ينظر الناس إليه، ولكن كيف ينظر هو إلى نفسه، وبخاصة بعد هذه الأعمال الفكرية المتنوعة في قضايا الاقتصاد السياسي والتخلف والتنمية والعلاقات الدولية والصراعات الإقليمية وحتى في موضوع الثقافة الأوروبية وغيرها.

* * * * * *

■ على مدى عقود أنتجْتَ عدة أعمال بحثية وفكرية في حقول معرفية متعددة، غطت قضايا الاقتصاد السياسي والتخلف والتنمية والعلاقات الدولية والصراعات الإقليمية والثقافة الأوروبية وغيرها. بعد كل هذا الغوص في موضوعات ذات حقول معرفية متنوعة هل هناك من خلاصات عامة تكرست لديك حول قضايا المنطقة والعالم، أم أن أسئلتك لا تزال قائمة حول هذه القضايا؟

□ لا شك أن المشهد السياسي في المنطقة قد تغيّر كثيراً في السنوات الأخيرة؛ فالعالم العربي يعاني تفككاً من حيث الروابط بين الدول العربية، ويعاني حروباً أهلية بين الكيانات العربية نفسها وداخل عدد منها، وإذا ما استعملنا تعبيراً أمريكياً فقد دبّت «الفوضى الخلاقة» في الساحة السياسية العربية. لكن، على الرغم من ذلك، لا أزال أنظر بإيجابية إلى الوضع العربي، وبخاصة أن الحياة العربية الثقافية والفكرية والفلسفية والشعرية لا تزال غنية جداً، ومهما فعلت القوى الاستعمارية الجديدة والقديمة لتفتيت العالم العربي فلن تتمكن من ذلك. فاللغة العربية لا تزال تربط العرب بعضهم ببعض، ويمكن العربي أن يتنقل من قطر إلى آخر دون أن يشعر أنه أجنبي. هنا تكمن أهمية الثقافة العربية المتميّزة بالشعر والبلاغة، أي إنها ثقافة لغة قبل أن تكون ثقافة دينية.

■ لكن في المرحلة الأخيرة نرى أن سياسات التعليم المعتمدة في بعض البلدان العربية (لبنان نموذجاً) أبعدت الطلاب من الثقافة العربية، هل يوجد في جيل اليوم طالب يحفظ 10 أبيات شعر – للأسف لا. إلى أي حد لا تزال الثقافة العربية الموروثة حاضرة في الجيل الجديد؟

□ هذا سؤال وجيه. لكن إذا ما فكرنا في أدونيس مثـلاً، فهو معروف من المحيط إلى الخليج، وهو جزء أساسي من الحياة الفكرية والبلاغية العربية، إضافة إلى محمود درويش وغيرهما، لذا لا أزال متمسكاً بطرحي بأنه مهما سعت القوى الصهيونية وقوى الاستعمار الغربي الجديد لتفتيت العرب، فهم لن يتمكنوا من تفكيك اللغة العربية. في الماضي كانت هناك محاولات لتوجيه العرب نحو اللهجات القطرية، وقد فشلت.

■ بعد هذه التجربة الطويلة المتنوعة على المستوى الاقتصادي والفكري والاجتماعي والسياسي، أين تجد نفسك بين المدارس الفكرية السائدة عالمياً؟

□ إنتاجي الفكري هو خليط من التأثيرات الفلسفية والسوسيولوجية. ليس هناك شك في أني وعيت على الكتاب الشهير لناصيف نصار طريق الاستقلال الفلسفي الذي فتح لي الأفق كي أستقل بفكري وفلسفتي أنا أيضاً. كما أعجبت بابن خلدون كذلك، وهو مدرسة بحد ذاته. وهناك سمير أمين، وهو علمٌ فكري وثقافي عربي مهم جداً؛ كما يوجد مفكرون متحررون في الغرب، مثل نعوم تشومسكي وبيير بورديو وغيرهما. التراث الذي استوعبته متعدد وغني. وعلى مستوى المرجعيات الغربية أكثر ما تأثرت به هو كتابات تشومسكي وكارل بوبر، الذي يُعد مفكك الأيديولوجيات. في كثير من الأحيان سمعت ممن يقرؤون كتاباتي أنهم يرون أنني أتبع منهجاً تفكيكياً مع أنني لم أقرأ كتابات المؤرخ الفرنسي دريدا. نعم أرى أني أعتمد منهجاً تفكيكياً في التعامل مع الأفكار النمطية، سواء أعربية إسلامية كانت أم مسيحية أم يهيودية أم غربية، فأنا لا أطيق الفكر النمطي ولا أحتمله.

■ ننتقل إلى موضوع التنمية، وبخاصة أن أوائل أعمالك الفكرية تناولت هذا الموضوع. في رأيك كيف ساهمت التطورات الأخيرة في الاقتصادات العالمية في عصر العولمة في زيادة فرص التنمية أو في تقليص هذه الفرص في بلدان العالم الثالث، وفي البلدان العربية خصوصاً التي يطغى النمط الريعي على اقتصاداتها؟

□ في عصر العولمة، البلدان التي نجحت في إرساء دعائم الثورة العلمية والتقانية لديها هي التي عرفت كيف تستفيد من العولمة (كوريا الجنوبية، تايوان، ماليزيا، سنغافورة…)، أما البلدان التي بقيت تتخبط بالنمو اللامتكافئ الآتي من السياسات الغربية على حساب هذه البلدان فقد تعمّق التخلف لديها.

لدي الكثير من الكتابات منذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات حول مساوئ الاقتصاد الريعي في البلدان العربية. اليوم هناك معادلة بسيطة لا تحتاج إلى تحليل في الدين الإسلامي للبحث عن أسباب فشل التنمية وصعود الفكر التكفيري، وهي أن نموذج الريع العربي أنتج فلولاً من العاطلين من العمل، الكثيرون منهم تركوا بلدانهم وهاجروا إلى أوروبا وأستراليا وأمريكا وكندا، ومن تبقّى منهم كان فريسة سهلة للحركات التكفيرية الإسلامية، حيث تؤدي هذه الحركات في البلدان العربية دور المطالبة بحصة أكبر من الريع النفطي أو الريوع الأخرى المتاحة أمامها (مثل ريع الفوسفات في المغرب… إلخ)، وبخاصة مع تزايد عدد السكان ودخول الآلاف من الشبان إلى سوق العمل من دون أن يجدوا أي فرصة للعمل أمامهم، ومع انتشار الجمعيات الخيرية الإسلامية الطابع، التي تذهب إلى العائلات الفقيرة المحتاجة وتدخلها في نمط الإسلام المتشدد الذي بتنا نشهده في العالم العربي.

■ من ردود الفعل في المجتمع العربي – الإسلامي تجاه الحركات السلفية ترى بعض القراءات أن هذه العودة إلى الدين هي رد فعل على فشل الحداثة.

□ هذا الرأي يستند إلى أطروحات مستشرقين مثل فرانسوا بورغا وجيل كيبيل، وهي أطروحات تمثل النظرة الاستعمارية التقليدية. فحوى هذه الأطروحات أن الحداثة اضطهدت العرب. حسناً، ألم تضطهد الحداثة الصين أو فييتنام؟ الحداثة اضطهدت كل الدول التي وقعت تحت الاستعمار، فلماذا إذاً يجب أن نخلق خصوصية خاصة بالإسلام والمسلمين والمنطقة العربية تجاه الحداثة!

■ نبقى في قضايا التنمية في ظل هيمنة النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، وهو ما يثير إشكالية العلاقة بين الداخل والخارج. هذه العلاقة الجدلية بين الداخل والخارج بالنسبة إلى مجتمعات العالم الثالث بوجه عام، كيف تؤثر في إعاقة التنمية أو في تعزيزها، وما هي مسؤوليات الحكومات في بلدان العالم الثالث في تجاوز هذه الإعاقة، وهل لا يزال هناك فرص لفك الارتباط بالنظام العالمي النيوليبرالي في ظل العولمة؟

□ علاقة الداخل بالخارج علاقة معقّدة. لكن العنصر الخارجي بطبيعة الحال، يُعدّ أهم كثيراً من العنصر الداخلي، مع العلم أن كلا العنصرين يقوم باستخدام العنصر الآخر ويستفيد من هذه العلاقة اللامتكافئة؛ مثـلاً الكيانات العربية الضعيفة تلجأ إلى الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي (في الماضي) أو روسيا (اليوم) للحماية، وتستفيد هذه القوى من الضعف العربي لزيادة نفوذها في المنطقة. وفي نهاية الأمر فإن العنصر الداخلي ليس له أهمية، بل الأهمية هي للعنصر الخارجي، لأن القوى الخارجية أقوى بآلاف المرات. طبعاً لو كان هناك أنظمة عربية تحررية مثل نظام جمال عبد الناصر سابقاً، لتغير الأمر. لذا عملت القوى الخارجية على ضرب تلك التجربة. الأمر نفسه حصل في الجزائر، فالتجربة الجزائرية كانت رائدة وتمّ صب كل الجهود لكسرها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العراق، أو بالنسبة إلى ليبيا القذافي الذي كان لاعباً رئيسياً في أفريقيا جنوب الصحراء.

■ المشكلة الرئيسية اليوم هي أن النيوليبرالية التي فرضت نفسها بقوة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى حد بعيد، باتت اليوم تفرض نفسها في أغلب برامج دول العالم. حتى الرأسمالية الأوروبية، التي كانت تحاول تمييز نفسها عن الرأسمالية الأمريكية لعقود، باتت اليوم تميل أكثر نحو النيوليبرالية؛ فكيف هي الحال بالنسبة إلى دول العالم الثالث؛ إلى أي حد لديها فرص لقيام أنظمة فيها تحرر نفسها من منطق أو علاقات النيوليبرالية العالمية؟

□ هذه ليست مسألة سهلة، فدول مثل فييتنام مثـلاً باتت في الفلك الأمريكي النيوليبرالي. قليلة هي الدول التي تصمد في وجه النيوليبرالية. الدول التي تصمد وتستفيد من النيوليبرالية هي تلك الدول التي تملّكت العلم والتقانة والتقنيات عموماً وتتبع سياسة دينامية جداً لإنتاج التقانة الحديثة. وهذا أمر ينطبق على الصين وكوريا الجنوبية وتايوان مثـلاً، وعلى الهند وماليزيا – وغيرهما – إلى حد ما. ولكن النيوليبرالية هي بدورها جزء من رد فعل كبير للعالم على قيم الستينيات والسبعينيات، وهو رد يميني متطرِّف مبني على عودة الدين. للفيلسوف الألماني ليو شتراوس عمل معروف تحت عنوان «أثينا أو القدس» (Jerusalem or Athens) يطرح فيه نموذجين للعالم، أثينا التي تمثل النظام العلماني، والقدس التي تمثل النظام الديني، وفي نهاية الأمر يصل تحليله إلى أن العلمانية أنتجت حروباً أكثر من الأنظمة الدينية. وهذا أمر مثير للجدل. الكثير من المثقفين العرب وقعوا في فخ فلسفة ليو شتراوس لأنهم أحبوا فكرة عودة الدين التي نشرها عدد من الغربيين الذين أصبحوا يقدمون أنفسهم على أنهم الوحيدون الذين يفهمون المسلمين مثل جيل كيبل أو أوليفيه روا أو فرانسوا بورغا.

■ لا نزال نعيش هاجس البحث عن مجتمع أكثر عدالة في توزيع الثروة والدخل وظروف الحياة، فهل في رأيك أن العالم اليوم أمام فرصة لخلق نظام اقتصادي عالمي يوفر مزيداً من العدالة سواء بين الدول أو بين الطبقات المختلفة داخل المجتعمات نفسها؟

□ على العكس، جميعنا نعرف مدى تركز الثروات في العالم، وقد أصدرت منظمة أوكسفام (Oxfam) مؤخراً إحصاءات نددت بهذا الوضع الذي يسوء سنة تلو الأخرى. حالياً هناك حركات ترفض هذا الواقع. والانتفاضات العربية – التي لا أُطلق عليها تعبير «الربيع العربي» – فتحت المجال أمام هذه الحركات، إذ إنها كانت قدوة بالنسبة إلى اليونان وإسبانيا وحركة Occupy Wall Street (احتلوا وول ستريت)؛ نحن كعرب ألهمنا العالم. مع العلم أنه يجب ألّا نستعمل عبارة «الربيع العربي» كما يفعل البعض، على نمط ما حصل في أوروبا الشرقية من انتفاضات كانت مبرمجة؛ فعلى العكس ما شهدته معظم البلدان العربية كانت انتفاضات شعبية عظيمة. وخلافاً لكثير من المحللين الأجانب والعرب بوجه خاص، أنا لا أتصور أن الولايات المتحدة كانت تستطيع تحريك كل هذه الجماهير بالملايين من سلطنة عُمان إلى موريتانيا. لكن للأسف ما حصل في الوطن العربي هو أن هذه الانتفاضات تم قمعها من خلال تحرك الإخوان المسلمين، فقد ورثوا أو وضعوا أيديهم على هذه الانتفاضات. فمصر مثـلاً أصبحت تحت حكم إخواني لمدة سنتين تقريباً، وكذلك الأمر في تونس. وفي نظري أن هذا لم يحدث من دون توجيه ودعم من الخارج، فكلنا نذكر أن السيدة كلينتون استقبلت وجلست مع قيادات الإخوان المسلمين. أعتقد أنه كان هناك توجيه قوي من الخارج لإبقائنا على المنهج الإسلامي.

■ هناك أزمة يسار، لماذا تراجعت أحزاب اليسار كافة في الحقبة الماضية، هل بسبب فشل اليسار فلجأت الشعوب إلى الإسلام كحل في الوطن العربي.

□ يجب ألّا ننسى أن التوظيف السياسي للدين الإسلامي، كما الدين المسيحي والدين اليهودي، في الحرب الباردة لمحاربة الاتحاد السوفياتي كانت من أهم وسائل القوى الناعمة. هناك اعترافات لعميلة سابقة في الـ CIA مذكورة في كتاب The Cultural Cold War: The CIA and the World of Arts and Letters للمؤلفة Frances Stonor Saunders، الذي يفيد بأنه إذا أراد أحد أن ينال جائزة مهمة عليه الانخراط مع الولايات المتحدة.

■ أمام كل ما حصل في مصر من سياسات اقتصادية في السنوات الأربع الماضية وما يحصل في الخليج منذ مدة، من انهيار للعملات مقابل تزايد الديون، وسياسات اقتصادية غير منتجة مبنية على الريع والديون والخدمات وتتجاهل الإنتاجية والتصنيع، كيف ستترتب هذه الآثار على الأجيال المقبلة؟

□ أود أن أشير إلى المرحوم يوسف الصايغ الذي وضع كتاباً حول الاقتصادات العربية عام 1978 وتطرق فيه إلى كل هذه التفاصيل. لكن للأسف عندما تتحدث مع أبناء جيل اليوم من الطلاب حول يوسف الصايغ، فلا تجد أحداً لديه أي معلومة عنه. هنا نجد أن هناك مشكلة تربوية، كما هناك مشكلة أخرى وهي مشكلة قطع الجذور، فالعرب المغتربون أو الأجانب من جذور عربية يميلون إلى قطع العلاقة بتراثهم أو إبقاء هذه العلاقة على الأقل ذات طابع تراثي ديني فقط أو في التمسك أيضاً ببعض المأكولات التقليدية. ربما يجب أن نطرح سؤالاً أكثر عملية للمستقبل، في الاقتصاد السياسي للتخلف نجد أن جميع الدول المتخلفة طبقت على نحو أعمى وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. ألا يجب أن نطرح على سبيل المثال سؤالاً حول تونس، كيف أنها قُدمت كنموذج للتنمية ومع ذلك انطلقت الانتفاضات العربية منها، هذا لأن تجربة تونس كنموذج للتنمية الناجحة قامت على التضليل وحرف الوقائع.

■ اليوم، أمام كل هذه الصعوبات، هل تراهن على أي مدرسة فكرية نقدية يمكن أن تقدم أجوبة تتجاوز أزمة النظام الاقتصادي العالمي الحالي.

□ هناك طبعاً مدرسة سمير أمين؛ فعندما أقدم إلى طلابي مقولات سمير أمين ألاحظ إعجابهم به. واليوم هناك ما يطرحه علي القادري.

■ يعني عملياً أنها المدرسة اليسارية العالمثالثية المنبثقة من الماركسية؟

□ هي ليست منبثقة من الماركسية فقط بل من المسيحية الاجتماعية أيضاً، كما يجب ألّا ننسى لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية. وإذا رجعنا إلى التراث الإسلامي نجد أنه كان إلى حد ما مهتماً ببعض الاتجاهات. اليوم إيران تسيطر على هذا الاتجاه.

■ هل تراهن على أن الصين قد تفرض نموذجاً ما أو أنها متهمة بطرح نموذج بديل؟

□ لا ليست مهتمة بطرح نموذج بديل، مع أنها مهتمة بإعادة إحياء طريق الحرير القديم.

■ لننتقل إلى الموضوع الأوروبي. في كتاباتك الأخيرة ركزت على التجربة الأوروبية. كيف تنظر اليوم إلى مستقبل أوروبا في ظل وجود أربعة تجاذبات على الأرض على الأقل (الأمركة النيوليبرالية – تفاقم الأزمات الاقتصادية – الإسلاموفوبيا – صعود اليمين)؟

□ أولاً، أوروبا اليوم خاضعة مئة في المئة لسياسات الحلف الأطلسي، وهو أمر مكرس في الدستور الأوروبي. السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي والدول المنتمية إليه خاضعة للحلف الأطلسي. ثانياً، أوروبا أكلتها الوحشية الرأسمالية بكل أشكالها، ونموذج دولة الرفاهية (الذي كان نموذج لدول العالم الثالث في الماضي، والذي اعتمد في حينه حتى في غياب متطلباته) اختفى تماماً من أوروبا.

■ هل أن الأحزاب اليسارية الأوروبية باتت شكلية فقط ومن دون دور فاعل؟

□ هي ليست من دون دور؛ لنأخذ مثـلاً الاحتجاجات القوية في أوروبا حول قضايا منها قضية المناخ والبيئة، ومنها ما اقتبس من الاحتجاجات والانتفاضات العربية. القوى اليسارية موجودة وتؤدي دورها؛ ولكن المشكلة تكمن في وسائل الإعلام، حيث أصبح هناك دكتاتورية إعلامية في العالم. فالنظام الفرنسي أرى أنه دكتاتوري، إذ إن الإعلام بيد رئيس الجمهورية ومن أتى به إلى الحكم. نعم اليمين المتطرّف في حالة احتجاج على السياسات النيوليبرالية التي تتبعها أوروبا. كما يجب أن نأخذ في الحسبان الأضرار التي سببها صمويل هنتنغتون في نظريته حول صدام الحضارات. هو وريث العنصرية الأوروبية التمركز وليس حصراً وريث الاستعمار، وكذلك صديقه برنارد لويس. وقد خصصت في أحد كتبي عن أوروبا فصـلاً حول التطورات اللافتة للنظر والمرعبة في أوروبا بين عهد العبقري موتزارت وعهد هتلر المجنون في شراسته.

■ تحدثت عن دكتاتورية الإعلام في أوروبا والسيطرة على الإعلام، هل تعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم كسرت إلى حد ما احتكار الأنظمة للإعلام النمطي، إذ إن الناس باتوا يتواصلون ويتناقلون المعلومات والمواقف خارج إطار الرواية أو الصورة النمطية التي تقدمها وسائل الإعلام المهيمنة الكبرى.

□ أرى أن وسائل التواصل الاجتماعي مخصصة لترداد الأفكار النمطية المتناقضة فيما بينها على شكل برنامج «الاتجاه المعاكس» الذي يعرض على قناة الجزيرة والمخصص للحوارات العنيفة الطابع والذي أسس لنمط عدم التفاهم ورفض التفاهم ورفض الحوار عملياً، وهكذا الأمر بالنسبة إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تردد استحالة التفكير المتوازن والرصين.

■ ألا تعتقد أن خطرها أكبر من خطر الإعلام التقليدي، إذ إن الملايين من المتابعين الذين لا يتوغلون ويدققون في الحقائق بمجرد أن يحصلوا على المعلومة يبدأون في نشرها وتعزيزها والدفاع عنها بحسب قناعاتهم بغض النظر عن الحقائق والوقائع. ربما صمويل هنتنغتون استغرق 10 أو 20 سنة حتى ترسخت فكرة صراع الحضارات في عقول من درسها، أما الآن بمجرد أن تكتب فقرة عن صراع الحضارات أو الأديان أو الطائفية، تكون غسلت أدمغة شبان وشابات كُثُر، نحن نتكلم على مناطق فيها أمية بعشرات الملايين الذين بمجرد أن يلتقطوا معلومة يبدؤون في تطبيقها.

□ للأسف وقع بعض كبار المثقفين والمفكرين العرب في فخ هذه اللعبة، مثل أنور عبد الملك الذي كانت لديه نظريته قبل هنتنغتون، وسعد الدين إبراهيم الذي نظّر حول الطوائف وفكر ابن خلدون، كما كان هناك مهدي المنجرة في المغرب أيضاً. حتى في كتاب إدوارد سعيد الذي يحمل بعض المبالغات رغم أهميته. هل يعقل أن كل المستشرقين يهتمون بتشويش صورة العرب والمسلمين؟ حتى صادق جلال العظم الذي انتقد إدوارد سعيد تحول في نهاية الأمر إلى شخص طائفي، حيث بات كل همه في موضوع سورية قائم على تحميل الطائفة العلوية كل مآسي سورية، على الرغم من كل ما قدم له النظام من حماية ومساعدة ومكانة.

■ بالعودة إلى موضوع أوروبا، في رأيك إلى أي حد ترى أن الفكر التنويري لا يزال مؤثراً في صوغ المشهد الثقافي والسياسي في الغرب اجمالاً؟

□ أرى أنه مهما عملت هذه القوى من ردود، تبقى أهمية الثورة الفرنسية قائمة، فهي التي غيَّرت وجه العالم بأكمله، فقد أسقطت عظمة الإمبراطوريات. كما لا يزال هناك بعض المفكرين في الغرب منسيين تماماً، مثل حنّة أرنت على سبيل المثال، التي نددت بالولايات المتحدة في كتابها الذي خصص للثورة الفرنسية ورأت فيه أن الولايات المتحدة خانت عملياً كل مبادئ الثورة الفرنسية والتنمية. حين ننظر إلى تاريخ أمريكا في حقيقته، نجد أنه أمر مرعب قائم على إبادة السكان الأصليين، وهم يمجّدون ويعظِّمون هذه الإبادة في أفلام الكاوبوي، مثل ما يحصل في فلسطين اليوم، ومن دون أي شعور بالذنب. حين كنت وزيراً للمالية حظيت بفرصة للعشاء مع جيمس بيكر الذي كان مشاركاً في الحملة ضد صدام حسين. سألته أنه رغم كل ما فعلوه بالعراق هل من إحساس صغير بتأنيب الضمير؟ فضحك وقال تأنيب ضمير؟ لماذا يؤنبنا ضميرنا؟ اللوم كله يقع على صدام حسين. فقلت له، أنتم من قاد الهجوم، هو لم يبدأ القتال. أعود وأذكِّر هنا بأن الولايات المتحدة هي تبنّت العهد القديم، فبعض من الثقافة البروتستانتية، وبخاصة الإنجيليون الجدد وليس جميعها، خلافاً للكاثوليكية والأرثوذكسية، مبنية على العهد القديم. أنا حين تعرفت إلى بروتستانت فرنسا، وجدت أن مرجعيتهم في كثير من الأحيان هي العهد القديم. لم أسمع منهم شيئاً عن المسيح أو تراثه. حتى إن بعض الكنائس البروتستانتية لا تعترف بقدسية العذراء، خلافاً للقرآن الذي يعدّ المسيح نبياً عظيماً؛ وهناك سورة خاصة بالعذراء «سورة مريم». المشكلة أن هناك قراءة انتقائية للقرآن سواء من جانب الغرب أو من جانب الإسلام الراديكالي.

■ يعني أن الإرث الاستعماري لا يزال قائماً؟

□ استعمار بوجه جديد أكثر خطورة من الاستعمار القديم.

■ أي مستقبل تراه للنظام العربي في ظل تراجع الدور المحوري لبلدان الثقل الحضاري والسكاني «مصر – العراق – سورية» مقابل صعود الدور المحوري لبلدان الثقل المالي والاقتصادي اليوم؟

□ هذا انقلاب اجتماعي وثقافي جديد، وهو أكبر انقلاب يحصل عند العرب بعد عهد النبي والقرآن. أن تصبح دول الصحراء تسيطر على الكيانات الحضارية الأخرى. حالياً نحن نعيش قمة الاستعمار الغربي في ظل تحالفات مع الأنظمة العربية الخليجية بوجه خاص، وهذا واضح من «صفقة القرن» المبنية على الخضوع. القارئ لأدبيات الصهيونية الإسرائيلية يدرك مدى كبر المؤامرات التي يتم تحضيرها لتحطيم الكيانات العربية التي انبثقت بعد الحرب العالمية الأولى. أكبر عدو لإسرائيل هو لبنان، كونه دولة تعددية يعيش فيها المسلمون والمسيحيون بمختلف طوائفهم، وفشلت الجهود الصهيونية كافة في تكسير هذا التعايش. واليوم نعيش في ظل صراع وجودي، لكن ليس هناك مكان في هذه البقعة الصغيرة من الوطن العربي لكيان مبني على التفرقة العنصرية، لهذا السبب في حواري مع بعض القوى اللبنانية حذَّرت من هذه الأمور وذكَّرتهم بميشال شيحا وكتاباته حول فلسطين. أتذكر أنه عندما انتهت الحرب الأهلية اللبنانية، أتيت من باريس، فرأيت الوضع منقلباً عند اللبنانيين، حيث إن المسيحيين الذين كانوا جزءاً من الحياة التقدمية أصبحوا متطرفين والقوى العلمانية الاتجاه أصبحت تميل الى الدين.

■ أي مستقبل للدولة الوطنية في ظل تردي الوضع العربي اليوم وفشل نماذج التنمية والحكم الرشيد فيها وفشل توفير الأمان الاجتماعي للناس، مقابل كل هذه الأزمة الاقتصادية ومظاهرها المختلفة من البطالة والأمية والهجرة والتفاوت الطبقي وصعود النزعة الدينية. هل من تصور ما للخروج من هذا المأزق؟

□ أعتقد أن دول المغرب العربي بحالة أفضل من دول المشرق، سواء تونس أو المغرب أو الجزائر. هناك وعي شعبي أنضج لديها، ولكنها تعاني من حيث التنمية، إذ إن العنصر الشاب العربي المتخرج من الجامعات، وبخاصة خلال السنوات العشرين الماضية، قد تربى على النيوليبرالية. ورغم ذلك، في الانتفاضات العربية، الشبان الذين نزلوا إلى الساحات لم يطرحوا إلا شعار يوسف صايغ «الخبز والكرامة»، ولم يطرحوا أي برنامج اقتصادي بديل للنيوليبرالية السائدة.

■ لكن عملياً حتى في ظل وجود صناديق الاقتراع في البلدان التي حصلت فيها الانتفاضات، لا يتوجه الناس لانتخاب البرامج التقدمية بل تنتخب الأكثرية القوى النيوليبرالية، على الرغم من أن نسبة البطالة والفقر آخذة في التزايد. وبالتالي نشهد تزايداً في النزعة الأصولية المتطرفة المتولدة من الجهل والأمية والفقر؛ فإلى أين سنتجه؟ هل سنظل في هذه الحلقة المفرغة من التفكك والتفكيك؟ حتى دول المغرب العربي، إلى متى ستظل صامدة كدول؟

□ ما دمنا سنظل نتحدث معلقين بالدين والتراث وندخل في جدالات ليس منها فائدة، مثل الأصالة والحداثة، وهي إشكالية مستوردة من الفلسفة الألمانية والروسية، فلن نشهد أي خروج من مآزقنا. في أوروبا بعد الحروب الدينية، وكون الناس تعبوا منها، توقف الحديث عنها، وقبل الناس بوجود بروتستانت وكاثوليك، وهو أمر لم يكن مقبولاً في الماضي. وتقدمت الأمور نحو اكتساب العلم والتقانة. العنصر الشاب العربي بات مسجوناً إما بالإسلامية وإما بالنظرة الغربية، أي أنه معلق ما بين العالم الغربي والعالم الإسلامي. نحن عندما نناقش طلبة الدكتوراه نقول لهم لا تقبلوا الموضوعات التي يحددها لكم أساتذتكم. لأنه دائماً ما يكون الموضوع محدداً بالديانة والطائفة ولا يكون عابراً للطوائف.

■ لا نزال في سياق البحث عن مخرج ما من أزماتنا. مسألة العروبة لا تزال من الهويات الجامعة التي تشكل حـلاً وبديـلاً. نحن من الجيل الذي وعى على مفهوم العروبة بالمعنى التحرري، أي بوصفها مشروعاً للتحرر، في زمن عبد الناصر. فالعروبة إذا كانت مجرد هوية ثقافية يمكن أخذها في اتجاهات مختلفة، فالسعودية تحاول مواجهة إيران تحت شعار العروبة الثقافية المرتبطة بالأمريكان وإسرائيل.

  من خلال التركيز على البعد الثقافي الذي سيظل جامعاً لنا. أود طرح مثال بسيط، عند التحدث عن مركز دراسات الوحدة كمركز معني بالتطرق للقضايا العربية، فإن تقبل الأجيال العربية الجديدة لهذه الفكرة سواء كانوا يعيشون داخل أو خارج الوطن العربي، ليس كنفس التقبل والاندماج الذي كان منذ 40 أو 50 سنة، على العكس هناك الكثير من الانتقادات لهذه الفكرة، هناك نزاعات في المشرق والمغرب والخليج، وما عاد أحد ينظر إلى المنطقة على أنها متكاملة، فإذا كان الموروث الثقافي فقط سيكون الجامع لنا، يمكن أن أعيش في أمريكا اللاتينية وأسمع فيروز وأقرأ محمود درويش أو أعيش في استراليا وأتابع الأخبار العربية، لكن الكيان العربي المتألف من 22 دولة، هل له امكانيات للبقاء، هل سيبقى الكيان الجامع لنا والذي يحدد هويتنا أم أننا نبقى في الشتات عرباً أينما كنا؟

□ المعركة في فلسطين ضد الصهيونية وضد التفرفة العنصرية، هذه معركة مصيرية، وهي ليست عربية فقط بل أصبحت عالمية اليوم. وهناك تقدم ملحوظ في هذا السياق في بعض الدول الأوروبية وحتى في الولايات المتحدة. أمريكا كي تُفرح العرب تروج لنفسها على أنها ضحية اللوبي الصهيوني؛ وهناك كتب تتحدث عن اللوبي الصهيوني وتروج كيف أن الحكومة الأمريكية وقعت ضحيته. ولكن فكرة وجود لوبي صهيوني يحرك كل شيء في العالم يعد أيضاً من المعاداة للسامية. ولكن من غير المعقول أن 6 ملايين يهودي في الولايات المتحدة يمكن ان يحركوا كل العالم؛ والقبول بفكرة كهذه يكون إما بسبب السذاجة أو بمعادات السامية. هذا كله متولد من الدبلوماسية البريطانية ومن ثم السياسة الأمريكية التي بقيت على الخطى البريطانية. الفكرة الصهيونية الحديثة متولدة من الاستخبارات الإنكليزية وهناك وثائق من عام 1840 حين راسل القنصل البريطاني في لبنان الخارجية البريطانية وطلب منها التيقظ بسرعة لأعمال فرنسا، التي استطاعت عبر الموارنة بناء نفوذها في المنطقة، أما بريطانيا فليس لديها أحد في المنطقة تستند إليه، لذا يجب أن تُقنع يهود بريطانيا بالتوجه إلى فلسطين لبسط نفوذها من خلالهم.

■ أين ترى مسار القضية الفلسطينية ومشروع الوطن الفلسطيني، في الوقت الذي يفتقد العرب موقفاً موحداً، وفي غياب تصور موحد عالمياً، فإلى أين تتوجه الأمور؟

□ ما يحصل اليوم في غزة أمر لافت للنظر؛ هذه التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني يومياً في غزة أمر لا يستهان به، هو أمر جديد وعظيم في حياة الفلسطينيين ويجب أن تستمر. كذلك القوى الخارجية المؤيدة للقضية الفلسطينية في حالة متنامية – في إنكلترا، أيرلندا، أمريكا الجنوبية، فحركة المقاطعة لإسرائيل تتزايد. أتصور أنه واجب كل إنسان واعٍ أن يقوم بما يمكنه تجاه هذا الأمر. وأنا أرى أن حركة المقاومة تتغذى بنفسها، فالمقاومة تتوسع، حيث إن موقف أيرلندا من الموضوع مشجع، وفي كامبريدج تم مؤخراً إنشاء مؤسسة لدعم قضية فلسطين.

■ عربياً ما هو دور المثقفين العرب؟

□ نحن نبالغ حين نتكلم على المثقفين العرب، في الماضي قمت بوضع تصنيف حول من يمكن عدُّه المثقف العربي، المثقف العربي هو من يزيد معارف الأمة وليس من يكتب مقالات دون جدوى ولا طائل. في نهاية الأمر، إذا ما اعتمدنا هذا التحليل للمثقف، نجد أنه ليس هناك الكثير من المثقفين العرب. يجب زيادة معارف الأمة وعدم الاكتفاء بنقل الكلام الصحافي.

■ لكن حتى في هذا المجال، من يزيدون من معارف الأمة أو من يكتبون عن القضية الفلسطينية وتاريخها والسياسات حولها باتوا محدودين.

□ مؤسسة الدراسات الفلسطينية لا تزال تواصل عملها. وهناك مراكز تهتم أكثر في هذا الموضوع. ولكن اليوم توجد هجمة استعمارية جديدة غريبة الشكل، والأنظمة العربية الموجودة كلها مصيرها بيد الولايات المتحدة وباتت جزءاً من منظومة الغرب. يجب عدم نسيان دور الكثير من الأنظمة العربية في الانصياع للرئيس الأمريكي وصفقة القرن الهادفة الى تصفية القضية الفلسطينية.

■ لكن من ينظر إلى المنطقة وأوضاعها الآن، يراها في حالة غليان مستمر، ويرى قطبٌ عربيٌ – غربيٌ (كمصر والخليج) أن عدوه يتمثل بإيران (من حيث النظرة الطائفية) وتركيا (شيطان الإخوان المسلمين)، وهذا ينعكس في أن العدو الأساسي وهو الصهيوني لم يعد هو الأساس، ويمكن الآن الجلوس معه والتفاوض والحوار والتحالف والتآمر على الجيران… هل ستقود هذه الأوضاع إلى انفجار حرب عسكرية كبيرة تستمر لعقود من الزمن؟

□ نحن نعيش زمناً مثقـلاً ومتفجراً، كل الاحتمالات مطروحة. الآن بين إسرائيل ولبنان هناك توازن رعب، كما أن القوة العسكرية الإيرانية كبيرة. أما بالنسبة إلى العنصر التركي، فهو يلعب لعبة متعددة الجوانب ومتناقضة. الحل الوحيد يكمن في علمانية المنطقة في إطار علماني إسلامي، وليس بنقل مفهوم العلمانية كما هي في فرنسا، لأن المسارات التاريخية مختلفة. فحوى العلمانية في الإطار الإسلامي هي حرية تفسير القرآن الكريم، والعودة إلى تفسيره وبذل المزيد من الجهود لفهمه، لأن فيه قراءات متعددة. لذلك فإن «أمّ الحريات» عندنا هي حرية تأويل القرآن الكريم، وما دام هذا الباب مقفـلاً فلا يمكن تأسيس الحريات الأخرى.

■ هذا يضعنا في خانة أخرى وهي فصل الدين عن الدولة. إلى متى ستظل الدول العربية تخصص الخانة الأولى في دستورها لـ «دين الدولة». الدين علاقة خاصة بين المرء وربه، ما حرر أوروبا من الحروب الدموية الدينية والطائفية هي العلمانية بمفهوم فصل الدين عن الدولة.

□ لكن حتى مفهوم «دين الدولة» مأخوذة من الدول الغربية، بعد توقيع معاهدة وستفاليا بات لكل دولة دين رسمي لها. في القرآن لا يوجد أي إشارة إلى أي نظام سياسي ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾. يجب أن نقرأ للشيخ علي عبد الرازق، ومحمد عبدو وخير الدين التونسي وغيرهم من الشخصيات المعاصرة للحداثية والنهضوية العربية. يجب إيقاف توظيف الدين في السياسة، وهذا الذي ضرب الحضارة الإسلامية.

■ إذا ما تم التوصل إلى هذا الحل القائم على العلمانية، وتحقيق قدر أكبر من التحرر، فهل سنصل إلى تناغم أكبر بين العرب وجيرانهم؟ وفي ظل تشكل عالم على قاعدة قطبيات كبيرة إلى حد ما (قارية أو شبه قارية)، هل هناك أفق لتكامل هذا المثلث (الفارسي – التركي – العربي) لمواجهة أو مواكبة التكتلات العالمية الكبرى.

□ هناك مشكلة تتمثل بأن الطرف التركي هو عضو أساسي في الحلف الأطلسي وله طموحات للسيطرة على المنطقة (على الأقل سورية)، وبالتالي فالحوار معه صعب وليس بالأمر السهل. كما لديه نظرة فوقية للجوار وبخاصة للعرب، الذين ينظر التركي إليهم على أنهم خانوه في الحرب العالمية الأولى. باختصار، إذا ما نظرنا إلى جغرافية الشرق الأوسط، نجد 3 كيانات كبيرة (إيران – تركيا – الوطن العربي)، واحد منها ضعيف جداً (الوطن العربي) والكيانان الآخران قويان (إيران وتركيا)، في السابق كانت مصر العمود الفقري للوطن العربي، ولكن للأسف مذ وقّعت مصر اتفاقية كامب دايفيد تلاشى كل شيء وأصبح الوطن العربي بحالة تنافر وتناهش. هناك ميل إلى ثقافة الفتنة. وهذا موجود قبل بعثة النبي محمد، ويتضح لنا من الخلاف الذي حصل بعد وفاة النبي، ثلاثة من أصل أربعة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتـلاً. لدي سؤال أود طرحه على الرغم من أنني لا أحبذ أن أطرح أنثروبولوجيا جوهرانية، ولكن هل لدى العرب ميل إلى الفتنة؟

■ دائماً ما تقول إن هاجسك الذي دفعك إلى العمل على مشاريعك البحثية هو بسبب أنك تربيت في ظل جو «أنا والآخر» – «أنا وهم»، هل لا يزال هذا هاجسك؟ وهل ترى أن هذا لم يعد محصوراً في جورج قرم بل لدى الكثيرين وسط الأجيال العربية الجديدة الصاعدة؟

□ الهويات الثانوية صارت أهم من الهويات الرئيسية، وهذه نتيجة كل الجهود التي بذلتها الأجهزة الثقافية للولايات المتحدة. فثقافة الولايات المتحدة مبنية على تفرقة المجموعات، كان لديها في الماضي ثقافة وأيديولوجيا وعاء الصَّهر (Melting Pot)، ولكنها لم تعد كذلك، وقد أتت مع الردة التي بدأها ليو ستراوس الذي يرى أن النموذج الديني أهدأ من النموذج العلماني. نحن لدينا فكر نمطي غربي أدخلناه إلى ثقافتنا على نحوٍ غريب، مثل القول إن البروتستانتية تقدمية والكاثوليكية رجعية، هذا فكر ماكس فيبر (Weber)، الذي ارتكب بدوره خطأً شنيعاً، فالمراكز الحضارية الكبرى كانت البندقية وغيرها من المراكز الكاثوليكية في جنوب المتوسط، ولم تكن إطلاقاً المناطق البروتستانية شمال أوروبا التي ازدهرت فقط عندما نشطت التجارة بين شمال أوروبا والقارة الأمريكية. ولماكس فيبر أيضاً كتابات تفيد بأن البوذيين لن يتمكنوا أبداً من بناء رأسمالية، ولكن أنظروا إلى هذه المجتمعات الآن. نحن العرب لا نعرف كيف نكسر أصنام الثقافة الغربية، لسبب أن العقل العربي مقيد بالعلوم الإنسانية الغربية ولا يعلم كيف يتعامل معها بالروح الانتقادية. وأنا بكتاباتي أريد تحرير العقل العربي من الفكر النمطي، فقد طرحت التساؤل حول ما حصل في أوروبا بين فترتي موتزارت وهتلر، الأول قمة في الرقي الفني والحضاري، والآخر مجنون جزار. مرة سمعت برنارد لويس في ندوة في نابولي، يقول إن الجهاد اختراع مسيحي. رفعت يدي قائـلاً له إن الجهاد اسمه الـ هِريم (Herem) في التوراة ثم جاءت المسيحية والإسلام بالفكرة نفسها مع تغيير في المصطلح وليس المضمون. لكن لا أحد كان يجرؤ على المواجهة.

■ للأسف كنا في مرحلة كان لدينا فيها منظرونا وفلاسفتنا (من العرب والمسلمين)، أما الآن ففي سياق العولمة والنيوليبرالية والارتباط بالغرب، أصبحت المدارس الفكرية الغربية هي المهيمنة على العقول، بينما مرجعيتنا منذ 100 أو 150 سنة كانت ابن رشد وابن خلدون، حيث كانت مرجعيات تدرس ويكتب عنها. هذا كله في سياق انجرارنا وراء الغرب.

□ لكن ناصيف نصار مثـلاً له حضور كبير في الوطن العربي، بما فيه المغرب. وهناك عبد الإله بلقزيز في المغرب وهو مثقف من الطراز الأول يزيد من معارف الأمة بكتاباته، وكذلك نبيل عبد الفتاح في مصر (وكتابه تجديد الفكر الديني).

■ ألا يوجد علاقة بين الانجرار نحو الفتنة والجهل والأمية؟ إذا كان الشعب غير متعلم وأمياً، فمن السهل سحبه للفتن والهويات الفرعية. كما أن التكنولوجيا والإعلام يؤديان دورهما.

□ في نهاية الأمر، بين البطالة التي تسيطر على البلدان العربية كافة وبين الغلو الديني الذي نعيشه منذ سنوات، إذا أردنا أن نمد خط من سراييفو إلى فلسطين، فإن شرق المتوسط منذ أيام اسكندر المقدوني وإلى الآن هو من أكثر المناطق الحساسة في العالم من الناحية الاستراتيجية والجيوسياسية.

■ هل أنت مطمئن للوضع في لبنان؟

□ هناك متاعب اقتصادية بدأ يعيشها لبنان سنة 2011 عندما دخلت سورية في القلاقل وبدأت الحرب الكونية في سورية، واليوم، لبنان يتدخل بسياساته العديد من الدول والمؤسسات الدولية، ومن يوجهه إلى حدّ كبير هي الأمم المتحدة وخصوصاً وكالة غوث اللاجئين في لبنان. فنصف لبنان مع إبقاء اللاجئين والنصف الآخر مع إعادتهم تدريجياً إلى بلدهم بالتنسيق مع الدولة السورية. هناك مشكلة إعادة الإعمار في سورية حيث يوجد حولها خلافات كبيرة جداً، فالدول الغربية والأمم المتحدة تريد إجراء الإعمار من دون النظام. لا يوجد واقعية في الموضوع. في التجربة اللبنانية، عندما أرى طريقة الدمار في سورية، بلدات ومدن ومناطق كاملة مدمرة، أتذكر ما حصل في وسط بيروت، ماذا حصل حينها، مشروع شركات عقارية وثروات وغيرها.. وهناك إشارات عديدة أن ما يحصل في سورية هو الأمر نفسه.

■ هذا مجال ضخم للاستثمارات. ومنذ أكثر من 4 سنين بدأ البنك الدولي بإعداد برنامج مشروع مخصوص لإعادة الإعمار بمئات الملايين من الدولارات، وهو جاهز للتنفيذ، الشركات الصينية جاهزة للتنفيذ، والمقاولين السوريين جاهزون للتنفيذ، ولكن الموضوع هو عرض مناقصات.

□ وفقاً لـنعومي كلاين هذا يسمى رأسمالية الكوارث (Disaster Capitalism) التي تنقض على مواضع الحروب.