المؤلف: حسين قاسم دياب

مراجعة: عدنان أحمد بدر(**)

الناشر: دار نلسن، بيروت

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 429

ISBN:9789953419695

 

– 1 –

قرأت في هذا الكتاب خاصيتين، تختصران وتوضحان مكنون الأزمات المالية العالمية ووعي الكاتب في تناول وربط الأزمات بطريقة سلسلة، من حيث إن النتيجة والسبب صفتان ملازمتان لكل أزمة.

ففي الخاصية الأولى، يقول الكاتب إنه ليس هناك من نقطة صفرية تشكِّل بدءاً لأزمة أو تعثراً لنظام اقتصادي ما. فكان له التوضيح التراكمي للأزمات المالية والأفكار الاقتصادية من سنة 1896 حتى سنة 2007.

وفي الخاصية الثانية، كان للزميل دياب حسن الربط بين تاريخ الأزمات والنظم الاقتصادية بأهدافها المُضمرة وبين الفكر الاقتصادي تزامناً مع تلك الأزمات والمدارس أو النظريات الاقتصادية الخارجة من رحم تلك الأفكار وذات الفاعلية في تلك النظم. إذ لا يمكن اعتبار أزمة 2007 المالية العالمية كسابقاتها من الأزمات المالية، أو حدثاً عارضاً يمر به النظام الرأسمالي ليعود ويستعيد عافيته ويستمر. إنما وبحسب الكاتب، يمكن لهذه الأزمة أن تشكِّل نقطة مفصلية في تغيير النظام المالي العالمي، أو أقله نقطة البداية التي تؤسس لمرحلة جديدة من مراحل تطور النظام الرأسمالي، بوصفها الحلقة الثالثة الأوسع والأكثر ضرراً على دول العالم كافة وعلى نظمها الاقتصادية.

ووفق عرضه للرأسمالية، والتي مرت على التوالي بمراحل الرأسمالية التجارية فالرأسمالية الصناعية ثم الرأسمالية المالية، فإنها تمر اليوم بمرحلة جديدة من مراحل تطورها بعد الثورة المعلوماتية التي جاءت لخدمة مشروعات هذه المرحلة. فما حدث في تشرين الأول/أكتوبر 1929، وتشرين الأول/أكتوبر 1987، في سوق الأسهم ظلّ محصوراً في سوق المال ولم يتعدّاه إلى المجالات الاقتصادية. أما الذي حصل سنة 2007 وتظهّر في تشرين الأول/أكتوبر 2008، كان مختلفاً تماماً، فلم تبدأ الأزمة في سوق الأسهم، بل بدأت بإعلان إفلاس أكبر المصارف وأكبر شركات التأمين.

وإذا كانت أزمة 2007 المالية تشكّل الحلقة الأخيرة من سلسلة الأزمات السابقة عليها، فلا بد من ربطها بما سبقها من أزمات من ناحية أولى، واعتبارها نقطة تحول في النظم المالية والاقتصادية العالمية من ناحية ثانية. وهذا ما تم الإضاءة عليه في القسم الأول، بالحديث عن النظام الرأسمالي وأزماته.

فتناول الباب الأول من هذا القسم: مراحل تطور النظام الرأسمالي وأزماته، حتى أزمة 2007 المالية. ويؤشر هذا الباب إلى المراحل التاريخية لأزمات الرأسمالية وحلقات ترابطها.

أما الباب الثاني من القسم الأول، فاختص بتشخيص وأسباب ونتائج أزمة 2007 المالية العالمية، إن لجهة منشئها أو لناحية العالمين المتقدم والنامي.

ويشير الكاتب إلى الأزمات المالية بأنها عبارة عن محطات تمر بها الاقتصادات في مسارها التاريخي، فهي تؤشر إلى هشاشة وسوء أداء النظام المالي. وإذا كانت الليبرالية بحلتها الجديدة، مرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالي، فالأزمات المالية في النظام الرأسمالي سابقة على أزمات النيوليبرالية. لذا توجد أزمات رأسمالية وأخرى نيوليبرالية. وبالتالي توجد أزمة مالية يمكن تداركها، وفقاعة مالية عصيّة على الإصلاح والتخطي. إلا أنه في كلتا الحالتين يمكن الاشتراك في عدة أنواع من الأزمات، منها: أزمات العملة، الأزمات المصرفية، عدم استعادة الثقة في الأسواق، مخاوف المستثمرين، وأهمها أزمة الأسواق المالية، التي عُرّفت حديثاً بالفقاعة المالية، وتتحدد بارتفاع سعر الأصول لتتجاوز قيمتها العادلة على نحوٍ غير مبرر وبهدف الربح، وليس بسبب قدرة هذا الأصل على توليد الدخل. في هذه الحالة يصبح انهيار سعر الأصل مسألة وقت، عندما يكون هناك اتجاه قوي لبيعه، تبدأ حالات الذعر في الأسواق وتنهار أسعار الأصول ذاتها وتمتد إلى الأصول الأخرى في باقي القطاعات. فالفقاعة المالية لسنة 2007 تختلف عن أزمتي 1929 و1987، اللتين سببهما انخفاض مؤشر السوق المالية لأكثر من 20 في المئة.

– 2 –

وفي أسباب ونتائج أزمة 2007 المالية العالمية: بداية يمكن تشخيص أزمة 2007 المالية، بنتيجة التحول والفوضى في الإنتاج، والتناقض بين الإنتاج والاستهلاك. فبعد أن كانت الأزمات تنتج من نمط الإنتاج وفروعه، أصبحت تنتج من ثقافة الهوس المالي والربح السريع، غير المستند إلى أي نمط إنتاجي، والمتفلت من الرقابة والضوابط، والذي أنتج حالة الفقاعة المالية تحت مُسمّى الأزمة المالية العالمية. فأزمة 2007 المالية هي نتيجة تراكمات وسيرورة، وتحوّل من الاستثمار المباشر إلى الاستثمار غير المباشر. ولنتائجها انعكاسات على دول العالم كافة. وفي الأسباب تم تسليط الضوء على البعض منها:

1 – إلغاء الضوابط التي تنظم نشاط أسواق المال: يعود ذلك إلى عهد الرئيس ريغان، بإلغائه القوانين التي تضع ضوابط تحد من حرية الأسواق، ومن ثم قانون تحديث الخدمات المالية لسنة 1997 في عهد الرئيس كلينتون، وهذا القانون يشجع التنافس والكفاءة، وعلى غرار ذلك رفعت المؤسسات المالية كل الضوابط التي تنظم عملها وأصدرت أدوات مبتكرة سُميت المشتقات.

2 – أزمة الرهن العقاري: بعد ازدهار سوق العقارات بين عامي 2001 و2006، مُنحت القروض العقارية المرتفعة المخاطر من قبل البنوك وشركات الإقراض لأصحاب سجلّ ائتماني ضعيف أو غير موجود. وبتغير أسعار الفائدة انخفضت أسعار الأصول، وهو ما قلص من حجم ضمانات البنوك.

3 – توريق القروض الرهنية: عرفت أسواق المال مبتكرات مالية جديدة، عُرفت بالمشتقات المالية، ومن أبرز هذه الابتكارات، عمليات التوريق، حيث يتم بيع الدين إلى شركات متخصصة، لتتداوله في السوق الثانوية بعد تحويل هذه القروض إلى أوراق قابلة للتداول، وتُصدر هذه الشركات سندات اسمية بقيمة هذه الديون وتطرحها (بعلاوة أو خصم إصدار) وتحصل مقابلها على سيولة. وبتكرار هذه العملية تنتقل الملكية إلى عديدين داخل البلد وخارجه لأصل واحد ويصبح لعدد من الأفراد والمؤسسات حقوق على العقار نفسه، وتصبح قيمة الأوراق المالية المصدرة أكبر كثيراً من قيمة العقار نفسه، فيزيد العرض وينخفض السعر. لذا تضاعفت عمليات التوريق هذه بنسبة 300 بالمئة خلال عشر سنوات، فوصلت سنة 2007 إلى 10,000 مليار دولار ومثّلت 40 بالمئة من سوق السندات.

4 – الاقتصاد الرمزي، الذي زاد 40 مرة على الاقتصاد الحقيقي، فتحولت النقود من وظائفها التقليدية إلى سلعة في الأسواق، حيث يدور في الأسواق العالمية ما يزيد على 100 تريليون دولار ضمن ما يزيد على 800 صندوق استثمار. ويتم التعامل يومياً في ما يقرب 1500 مليار دولار، أي أكثر من 2,5 مرة الناتج القومي العربي.

5 – بطاقات الائتمان وتنوعها وتوسع انتشارها، من دون وضع سقوف لها، والاستمرار في الإنفاق بما يفوق الإنتاج، فسهولة التسليف ووفرته ساهما في خلق جو استثماري مفرط وغير واقعي. واستمر هذا لعقد من الزمن لتظهر نتائجه مع أزمة 2007 المالية العالمية.

هناك أسباب فكرية ونظرية تعود إلى مناهضة نظريات اقتصاديات الطلب من قبل أصحاب النظرية النقدية ونظريات اقتصادات العرض. وهكذا نجد أن أحد أهم أسباب أزمة 2007 يعود إلى الفقه الاقتصادي المنحاز ضد تدخل الدولة مع هيمنة الأسواق مقابل غياب تام للرقابة والضبط.

ومن الأسباب، فك ارتباط الدولار بالذهب، والانتقال من سعر الصرف المُثبت إلى سعر الصرف المُعوّم. وهذا ما أطاح أهم الركائز التي قام عليها صندوق النقد الدولي، ما دفع أيضاً إلى التقصير الرقابي والتنظيمي وانعدام الشفافية. أضف إلى ذلك السياسة النقدية والتسليفية الانفلاشية التي اتبعها الفدرالي المركزي الأمريكي.

– 3 –

بعد هذا العرض يطرح الكاتب سؤالاً ومن ثم يجيب: هل أن أزمة 2007 هي أزمة مالية ناتجة من سوء إدارة أم أنها أزمة نظام اقتصادي متعثّر؟ في المعالجة، ومع العودة إلى تاريخ الأزمات المالية وتواترها، تبين للكاتب أن هذه الأزمة هي أزمة نظام رأسمالي متعثّر لا تصح فيه مقولة «الأيدي الخفية»، وكذلك أزمة فقاعة مالية خرجت عن تأطير الإدارة؛ فوصلت الرأسمالية بمراحل تطورها وتفلُّتها من القيود إلى: التدهور ما إن غابت الأطر الرأسمالية، والاختناق ما إن زاد التأطير. وفي النتائج قال: إن انعكاسات الأزمة لم تأتِ أُكُلها بعد. وكون الأزمة مالية بامتياز يمكن تناول نتائجها للجهة المالية كما للجهة الاقتصادية على مستوى كل الدول:

1 – على مستوى الاقتصاد العالمي، تباطؤ وكساد اقتصادي، نقص ائتمان، تقليص نفقات، انخفاض حجم الاستهلاك، إفلاس مؤسسات مالية عملاقة، انخفاض المؤشر العام في أهم البورصات العالمية، تسونامي في أسواق المال.

2 – وعلى مستوى الاقتصاد الأمريكي، ركود اقتصادي أدى إلى انخفاض الاستهلاك، خفض الدرجة الائتمانية الممنوحة للسندات المغطاة بأصول عقارية، ظهور بدائل حقيقية للدولار، تقهقر السيطرة الأحادية، ملامح سقوط أو انحراف مسار النموذج الرأسمالي بتدخل الدولة عليه لإنقاذه.

3 – أما على مستوى اقتصادات الدول النامية، فهناك تباطؤ اقتصادي سابق على حدوث الأزمة، تراجع حجم الاستثمارات، تراجع أهم مصادر التمويل وهي التحويلات من الخارج. إلا أن هناك نتائج إيجابية في هذه الدول، نجدها في: إمكان ازدهار بعض القطاعات الراكدة بوصفها ملاذاً آمناً، تَحوُّل بعض دول العالم الثالث إلى مناطق استقطاب وبخاصة التي توفّر ضمانات مالية وفرص استثمارية لرؤوس الأموال الهاربة، العودة إلى الاستثمارات التقليدية وزيادة الاهتمام بالاستثمارات المباشرة على حساب الاستثمار بالأوراق المالية (استثمار غير مباشر).

4 – أما الدول المتقدمة، فتواجه مرحلة انكماش عام بعد أن أصبحت مصادر الاقتراض من البنك الدولي بحالة نضوب. وبالنسبة إلى البلدان العربية التي تعاني تشويهاً هيكلياً ناجماً عن تزايد تسرّب أو نزوح رأس المال إلى الخارج، وهذا لا يقتصر على البلدان المصدرة للنفط.

يتضح من كل ما سبق أن أزمة 2007 هي أزمة مالية اقتصادية لم يُشهد لها مثيل. والأموال في سوق المال والأسهم ليست أموالاً حقيقية، وسعر السهم لم يكن أبداً مالاً نقدياً، إنما مجرد قيم افتراضية. والانهيار الاقتصادي محمّل بجرثومة فنائه منذ البداية. وما خسارة بنك «ليمان» إلا «النقطة التي أفاضت الكوب». فتراكم الأخطاء أصبح جزءاً من حلقات التداعي في السياسات الاقتصادية التي تتبعها الأنظمة الرأسمالية، وهذا ما يخلق جواً للتفكير في نظام اقتصادي ومالي جديدين، بعد أن جاءت النيوليبرالية خافية ما هو جوهري ومبلورة حقبة ثالثة للعولمة، لكن بأسياد غير تقليديين، وإن بقوا مشاركين.

فأزمة 2007 المالية تدق جرس التغيير للنظام السائد، مع أنها ما زالت في بدايتها لكنها كشفت أبعاداً غير معهودة عبر ثورة الاتصال والتكنولوجيا التي خلقت اقتصاداً وهمياً نشأ عنه هندسة معقدة من المشتقات المالية لتسريع وتيرة حجم الربح. فالغلو في الاستثمار المالي لم يعد من الممكن الاستمرار به إلى الأبد، مقابل نموّ قاعدة إنتاجية ضعيفة، لذا يمكن أن نُعيد أصل أزمة 2007 التي استوفت بعضاً من نتائجها اليوم، إلى تحرير الفضاء المالي من خلال حركتين أساسيتين:

الأولى، عام 1971 وتحرير سعر الصرف، تبعها مع نهاية التسعينيات تحويل قروض الرهن العقاري إلى أسهم قابلة للتداول في أسواق البورصات والسوق الثانوية.

والثانية، عام 2004، عند دخول هيئات خاصة للمتاجرة في أسهم السوق العقارية لما شكّلته من مجالٍ لكسب الأرباح الطائلة لكونها عرضة للمخاطر. والمشكلة تكمن في إدراج هذه الأسهم في ميزانياتهم، وسرعان ما امتزجت هذه الأسهم بمشتقات وبأسهم أخرى وتعقّد تخليصها من بعضها. وعندما فقدت الرهون قيمتها سنة 2006 بسبب ارتفاع نسبة سعر الفائدة، أصبحت الرهون والأسهم سامة وأصابت بدورها المشتقات المتصلة؛ تلك هي العمليات الموبؤة، التي شكّلت أهم أسباب حجم الأزمة وضخامتها وانتشارها لعدم تطهير مقتنيات البنوك والشركات.

لذا يمكن القول بأن أزمة 2007 المالية ليست على الإطلاق أزمة عابرة، لا بل إنها أزمة بنيوية بكل ما للكلمة من معنى. وأصابت النظام الرأسمالي من أحد أهم مؤسسيه (آدم سميث)، إلى منظّرها (فريدمان)، فإلى أسياد النيوليبرالية اليوم (الشركات والصناديق الخاصة الهاربة من القوننة).

– 4 –

وللبنان خاصية تختلف عن معظم الدول في التعاطي وفي تلقف ارتدادات تلك الأزمة، وهذا ما أشار إليه الكاتب في القسم الثاني الذي يحتوي على بابين. فيعالج الباب الأول انعكاسات أزمة 2007 مالياً واقتصادياً على لبنان؛ ويتولى الباب الثاني أمر الانعكاسات الاجتماعية المباشرة وغير المباشرة عليه.

انطلاقاً من أن لبنان ومنذ استقلاله، هو بلد خدماتي تحكمه الحرية الفردية بأوسع مجالاتها، والاقتصاد الحر مُعطى طبيعي لنظامه الاقتصادي، والدولة مجرّد تعبير عن التعددية الطائفية. فالتشوهات والاختلالات على الصعيد الاجتماعي في لبنان ظاهرة واضحة منذ الاستقلال، لأن النظام الحرّ اقتصادياً والطائفي سياسياً، يعجز عن إطلاق عملية تنمية اقتصادية اجتماعية حقيقية، إنما يمكن أن يولّد نموّاً اقتصادياً مشوَّهاً ومشوِّهاً للبنية الاجتماعية.

جاءت أزمة 2007 المالية، والحكومة اللبنانية بمواجهة تحديات اجتماعية كبرى، وبخاصة لجهة الأمية الوظيفية وتوسع البطالة داخلياً، وما زاد نسب البطالة الهجرة المعاكسة (ولا سيَّما من دول الخليج)، وقد فاقم المشكلة الاجتماعية ضعف التحويلات بسبب التباطؤ الاقتصادي العالمي الناتج من الأزمة المالية.

فقسّم الكاتب المتأثرين بالأزمة في لبنان إلى قسمين: الدولة والمواطنين؛ فكان لتراجع التحويلات المترافق مع انخفاض النموّ الاقتصادي انعكاسات سلبية على المواطنين، لكن الدولة لم تتأثر أبداً بماليتها العامة وبقي ميزان المدفوعات إيجابياً رغم توسع الأزمة، لأن هذا الانكماش ترافق مع محافظ مالية هاربة إلى لبنان، مركز الثقة والأمان. لكن هذا يستدعي التفكير بالانعكاسات غير المباشرة في حال استمرار تباطؤ النموّ الاقتصادي العالمي وتوسع البطالة وانتشار الأمية الوظيفية، وانعكاساها على المواطن اللبناني من ناحية أولى، وتفاقم خدمة الدين إذا ما استمر التخفيف من نسبة الفوائد عالمياً وما لم تؤخذ عائدات المحافظ المالية إلى طريقها الاستثماري، وانعكاساها على مالية الدولة اللبنانية من ناحية ثانية.

وهكذا نجد لبنان مع تبلور أزمة 2007 المالية العالمية، يتمتع بقطاع مصرفي أقوى من الأزمة، وصناعة مصرفية بمرتبة الأولوية عالمياً، وقطاع عقاري استطاع أن يحقق التوازن بين العرض والطلب، خلافاً لما جرى في معظم بلدان العالم. وقطاع اقتصادي عاجز عن مواجهة أي أزمة بسبب مشاكل هذا القطاع البنيوية والسابقة على تداعيات أزمة 2007 المالية؛ وواقع اجتماعي فاقد أسس تنميته عبر السياسات المُتبعة، وأكملته تشظيات الأزمة وانعكاساتها على نسب البطالة والأمية الوظيفية والضائقة المعيشية.

لذا يمكن القول، إن التشظيات التي أصابت معظم بلدان العالم من جراء أزمة 2007 المالية العالمية، لم تُصب لبنان إلا بالشيء الممكن تداركه، واستطاع لبنان التفلّت من انعكاسات الأزمة أكثر من تأثره بتداعياتها. ولا يمكن القول بأنه لا يستطيع الخروج من انعكاساتها، لا بل يمكنه الإفادة من تأثّر باقي الدول إذا أحسن التدبير المالي وتوأمته مع باقي القطاعات الإنتاجية.

– 5 –

وينتهي الكاتب إلى أن مشكلة العالم تكمن في أمرين: الفقر و«الدوت كوم»؛ إذ أسفرت الأولى عن تنامي الفروق بين الدول وداخل كل دولة، وأدخلت الثانية العالم في أتون الأزمة المالية العالمية (الفقاعة المالية). وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، تؤكد النظرة السريعة وقوع أمريكا في مشكلات كبيرة تخرجها من أُحادية الحكم، إلا أن القراءة المتأنية من حيث السيطرة التكنولوجية واقتصاد المعرفة ونوعية التعلم ومراكز البحث العلمي، نجدها ما زالت تحتل مرتبة الصدارة عالمياً. ويضيف الكاتب أن تراكم الأخطاء أصبح جزءاً حقيقياً من حلقات التداعي في السياسات الاقتصادية التي تتبعها الأنظمة الرأسمالية، وجوهر الأزمات حتى الفقاعة المالية تتمثّل بعدم التوازن بين العرض والطلب، وعجز الفرد عن دفع أقساط وفوائد ديونه، وعجز المجتمع عن شراء ما أنتج، وصناعة مصرفية متفلّتة لتصبح البنوك ليست أكبر من أن تنهار بل أكبر من أن تنقذ، وإعلان فشل الدولة في عدم تدخلها بل أصبح عليها ذلك لزاماً. وإن دلت أزمة 2007 على شيء فإنها تدل على فشل النموذج الرأسمالي المتَّبَع وأقصد النيوليبرالية المفرطة والمتفلتة من أي ضابط.

وبالنسبة إلى لبنان: فالقوانين المصرفية المتشددة في ما خص الرقابة المالية والملاءة والالتزام والتيقظ لإدارة المخاطر، والسياسات المالية غير السليمة في ما خص نسب الفوائد المرتفعة وسندات الخزينة السابقة بأكثر من عقد من الزمن على الأزمة، وضعف لبنان الاقتصادي، والأوضاع الاجتماعية التي تعاني في الأصل مشاكل بنيوية، شكّلت جميعاً النقطة المحورية لتخطي لبنان أزمة 2007 المالية العالمية بأقل نسبة ضرر وتأثر من الدول المتأثرة كافة. فالخروج بالصفة الأولية من انعكاسات أزمة 2007 ليس لأسباب اقتصادية أو عسكرية كما مصدر الأزمة، إنما هو خلل بنيوي في قوائمه الاقتصادية والاجتماعية والمالية. فالنظام الاقتصادي اللبناني أكذوبة، والواقع الاجتماعي هش ومشوِّه للبيئة الاقتصادية – الاجتماعية، والصناعة المصرفية وصمودها بمواجهة الأزمة ناتج من خطئها أكثر من حكمة الحاكمية. ولبنان لم يدخل لعبة الكازينو لأنه لم يخبرها ولم يرقَ حجمه لمستوياتها بعد.

خرج الكاتب بتوضيح لقراءة الأزمة، بعد الإشارة إلى الكتابات التي ركّزت على جانب واحد وأغفلت الجوانب الأخرى، وهو ما ضيّع المفهوم الرئيسي لأسباب ونتائج الأزمة. إلا أن دراسته خرجت بنتيجة مترابطة، من أسباب تاريخية واقتصادية ومالية وحتى عسكرية، وائتمانية ومؤسسية وتوسعية استعمارية، إضافة إلى لحظ الأسباب الفكرية والنظرية والفقه الاقتصادي، من نظريات الطلب إلى نظريات العرض، إلى السياسات القائمة، فإلى المؤسسات الخاصة والتفلُّت المالي عبر الصناديق الخاصة المنتشرة في العالم. هذا الربط الجامع بين نظامين (ولكلٍ أفكاره المفتاحية)، بين نظام لأكبر وأقوى دولة «أثبت عقمه» ونظام آخر لأصغر وأضعف دولة «أثبت مناعته»، لا يمكن العبور بينهما إلا من خلال علاقة النشاط الاقتصادي بدوائر السوق.