تتطلب التنمية منحىً فكريًا مختلفًا في ظروف اقتصادية متداعية وأنظمة مترهلة وقطاع عام بلا جدوى. منذ قامت الدولة اللبنانية وهي تعمل على نحو غير مخطط وغير ممنهج، فالقافلة تسير في طرقات لا يُعرف أين تنتهي. وقد أصبح الانهيار الاقتصادي شبه محتوم في ظل بيئة غير محمية وبنى تحتية مهملة وخدمات اجتماعية لغير من يستحقها وإرث ثقافي وتراثي معرّض للتدمير وفساد لا يمكن استئصاله، كل ذلك نتاج بناء دولة من دون أسس علمية وإنسانية تمكنها من الاستمرارية. يتغيّر كل شيء عند الأزمات باتجاه حلول يتداعى المجتمع والدولة إلى تحقيقها، إلا في لبنان، فالأزمة تأتي بثانية أكثر تعقيدًا وشدة.

بعد الانهيار الاقتصادي المتسارع الذي يضرب لبنان وقطاعاته منذ 2019، وبعد أزمة انتشار وباء كورونا، وبعد انفجار المرفأ، تُطرح قضية أولى، فالناس تخسر أدنى مقومات العيش في البلد الذي دفعت كثيرًا لبنائه، والتي من حقها أن تطالب بعيش كريم مستدام وبيئة مصانة وفرص عمل للأجيال القادمة.

ما لا شك فيه أن عدم الاستجابة لهواجس الناس ومطالبهم سوف يعظّم المأزق ولا يكاد يبقى وطن.

تتطلب الأزمة الاقتصادية تفكيرًا مغايرًا ومنهجًا اقتصاديًا مختلفًا عن سابقه، وذلك يعود لفشل الأخير في تحقيق الحد الأدنى من العيش الكريم للشعب والحد الأدنى من الاستمرارية للدولة.

هل نحن بحاجة إلى إصلاح اقتصادي أم إلى منهجية جديدة تتوافق مع الواقع وتكون مرنة يُعاد تحديثها مع كل طارئ وكل تطور؟ إننا بحاجة إلى منهجية جديدة من النشاط الاقتصادي يكون فيها للقطاع العام دور أساسي يعيد الحيوية لهذا القطاع بعد أن أصبح عديم الجدوى.

هذه المنهجية يجب أن تتمتع بخصائص تتلاءم مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها لبنان، وهذه الخصائص يجب أن تكون محلية وطنية، وهذه الخصائص يجب أن تكون محلية وطنية لكنها تتكامل مع محيطها الطبيعي العربي، تتجاوز الدور الخدماتي والوسيط للاقتصاد اللبناني التابع نحو دور اقتصادي وطني منتج ومستقل يمثّل مصالح مختلف الفئات الاجتماعية وبخاصة الفئات والطبقات الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود الذين يمثلون الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني، بحيث نخطط لجغرافيا اقتصادية واجتماعية وسياسية توفر الأمن والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للبنان وتجذب الاستثمار الأجنبي على غرار التجربة الصينية بعد مرحلة دينغ شياو بينغ عام 1978.

ترتبط الأزمة الاقتصادية في لبنان بتعقيدات النظام السياسي الطائفي، وكذلك بالمنهجية المتبعة في إدارة التنمية، وبخيارات الفئات السياسية والطائفية التي تحكم البلد منذ قيامه. لذا، فإن الإشكالية البحثية تتركز في تقنية تحليل البنى السياسية وتأثيرها في المسار الاقتصادي والتنموي للبنان، الأمر الذي يستدعي فرضية تتلاءم مع طبيعة البحث المتنوعة، حيث تعتمد تارة على المنحى التحليلي السوسيولوجي للأحداث الاقتصادية وليس على الأرقام لعدم صدقية هذه الأخيرة، وتارة أخرى على الحقائق المترتبة على المسار السياسي للنظام الطائفي، الذي انعكس بدوره على الصعد الاقتصادية كافة، حيث استبدل في آن واحد الاقتصاد السياسي بالاقتصاد السياسي الطائفي، كأدلجة الاتجاه الاقتصادي في أطر منهجية سبق اعتمادها في هذا المجال كتلك التي تبلورت في آراء ماكس فيبر.

يساعد المنحى التحليلي على فهم تأثير البنى الاقتصادية والسياسية والسلطوية في بناء الدولة، كما يساعد هذا المنحى على فهم الأزمات المختلفة، فضلًا عمّا يترتب على هذا الفهم من قدرة على اجتراح الحلول واستشراف المستقبل. وعلى ذلك تتمظهر الفرضية كبناء يبرز فيه تأثير الطائفية السياسية ومصالحها بالمنحى الاقتصادي؛ فبدل المحافظة على الطائفة ككيان ثقافي يتعزز مع تطور بناء الدولة الاقتصادي والاجتماعي، أصبح لبنان كله بجميع طوائفه وطنًا مهددًا بالاضمحلال بفعل المنهج السياسي – الطائفي الضيق (تقديم مصلحة الطائفة على مصلحة الوطن). تدفع هذه الفرضية باتجاه التحري عن نظام السوق بوصفه نظامًا قائدًا لمسيرة التنمية، أو أنه النظام المرن الذي استطاعت البنى الطائفية من اختراقه وتطويعه بحسب مصالحها، الأمر الذي أدى إلى ما يشهده لبنان 2020 من انهيارات متتالية تصيب الصعد كافة.

أولًا: مرحلة ظهور الدولة

ترعرع لبنان منذ نشأته في أحضان الليبرالية واقتصاد السوق، وذلك يعود إلى سياسة المستعمر ومصالحه، في حين «أن الليبرالية الاقتصادية هي في الأصل برنامج أخلاقي، والسوق هي أداتها، فالليبرالية الاقتصادية، هي نتاج عصر التنوير، صُوّرت كوسيلة لتفعيل الإمكانية البشرية الكامنة من خلال استعادة نظام طبيعي لا تعوقه القيود الحكومية».

هنا الفرق بين البرنامج الأخلاقي والاتجاهات السياسية الحكومية التي ربما لا تتصل بالبرنامج الأخلاقي للنظام الاقتصادي.

كانت في لبنان ومنذ البداية الأخلاقيات الاقتصادية احتكارية بامتياز بالنظر إلى ما صنعه المستعمر من جماعات روحية تكرس له التبعية وتكرس لذاتها السيطرة والنفوذ الاقتصادي والسياسي. وقد يؤشر ذلك إلى الواقع اللبناني من خلال سيطرة واضحة وصريحة على الميكانزمات الاقتصادية من قبل الإدارات الحكومية المتعاقبة منذ عقود خلت، وقد يعود ذلك إلى البدايات الأولى لنشوء الدولة.

ترجع الجذور التاريخية للنظام الاقتصادي الحر في لبنان إلى ما بعد ثورة طانيوس شاهين في عام 1858، التي عُدَّت الثورة الأولى في نوعها في المنطقة، والتي أدت إلى إنهاء الامتياز الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للإقطاع، وبالتالي إلى تزعزع النظام الإقطاعي، وهو «ما أدى إلى بروز نوع من الليبرالية السياسية التي ساهمت بدورها في تغلغل الليبرالية الاقتصادية أو الرأسمالية.

فالليبرالية الاقتصادية، كفكر، تركّز على الفرد الذي يتمتع بالحرية للقيام بالنشاط الاقتصادي، إلا أن الدور الحكومي هو من يضع حدودًا لهذه الحرية أو يرفعها، وذلك بالعودة إلى المنطلقات الأساسية والأيديولوجية والسياسية لهذه الحكومة. «وعلى الرغم من تسجيل نجاح اقتصادي للسياسات الحكومية في لبنان، فإنها كانت قاصرة اجتماعيًا، إذ كرست خللًا في الدخل والثروة، وفوارق اجتماعية وطبقية كبيرة، وكان ذلك من الأسباب التي قامت عليها الخلافات السياسية والصدامات العسكرية». وعلى ذلك، فإن السياسات الاقتصادية التي اعتمدت في لبنان تباعًا كرّست واقعًا مريرًا، فقد ظهرت الطبقات بصورة حادة وارتفعت معدلات الفقر.

لم تكن المرحلة الأولى لشبه قيام الدولة في لبنان منذ عام 1920 بمنأىً من الأحداث الدولية، تلك التي تضمنت أزمة وول ستريت أو أزمة الكساد الكبير في عام 1929، التي ضربت الأسواق المالية في الولايات المتحدة الأمريكية وانعكست بدورها على المنظومة الاقتصادية الرأسمالية برمتها، وقد تبع ذلك الحرب العالمية الثانية وما لهذه الأخيرة من تأثير في بنية الدولة اللبنانية حديثة الولادة، وفي عام 1943 نال لبنان استقلاله وبدأت حينها الدولة تأخذ شكلًا مختلفًا عن السابق، لكن سرعان ما تأثرت هذه الدولة بنكبة عام 1948، التي كانت تداعياتها على لبنان كبيرة جدًا، وقد تلا ذلك ثورة الضباط الأحرار في مصر في عام 1952 وما تبعها من عدوان ثلاثي مدمّر عليها، عندها أرْخت الأزمة بظلالها على لبنان، فاختلف اللبنانيون بحسب انتمائهم الطائفي وليس الوطني ما بين مؤيد للغرب ومؤيد لحركة جمال عبد الناصر القومية، تلك الخلافات تمظهرت بشبه ثورة في عام 1958، أدت بدورها إلى تسوية كان أبرز معالمها تَسلُّم الجنرال فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية اللبنانية.

ثانيًا: المرحلة الشهابية

كانت مرحلة الرئيس شهاب مرحلة انتقالية في طريقة الحكم والسيطرة وكيفية بناء الدولة وسط صراع طائفي حاد، «أخذت الأزمة حينها منحى المواجهة بين المسيحيين والمسلمين، إنما ليس بشكل علني».

عرف الرئيس شهاب المنتخب كيف يدير الأزمة، فقد وحّد الدولة ومكوناتها وسعى إلى بناء المؤسسات التي تضمن استدامة الدولة واستقرارها. واستقدم شهاب بعثة إيرفد من فرنسا لدراسة واقع الأرياف وكانت برئاسة الأب لويس لوبريه، «وقد أدرك كل من فؤاد شهاب ولوبريه سريعًا أن مشكلة لبنان ناجمة عن أنانية النخبة الحاكمة «أكلة الجبنة»، وعن حصر النشاط الاقتصادي في بيروت وبعض أجزاء جبل لبنان، الأمر الذي أدى إلى إفقار أغلبية المناطق الطرفية».

استحدث عهد شهاب وزارة التصميم، فضلًا عن الضمان الاجتماعي ومجلس الخدمة المدنية والمشروع الأخضر والكثير من المؤسسات الكبيرة التي من شأنها بناء دولة المؤسسات لا دولة الأشخاص، فقد عمل على استحداث سياسات اجتماعية لمحاربة الفقر والعوز، كما عمل على استصلاح الأراضي، وقد كان هناك تناقض كبير بين المركز والأطراف، حيث تركز النشاط الاقتصادي في المركز وعانت الأطراف من بُعدها عن مختلف السياسات التنموية، وتمتع لبنان حينذاك بطابع قروي وطابع مدني ملخصًا بذلك الفوارق بين الريف والمدينة على الرغم من المسافة الجغرافية القصيرة التي تفصل بينهما. لذا، تركز همّ شهاب في إحياء الريف والأطراف من خلال العمل على استنهاض القطاعات الاقتصادية الثلاثة.

ولكن، على الرغم من الجهد الكبير المبذول، واجه فؤاد شهاب جماعة «أكلة الجبنة» المتنفذين والمستفيدين من الدولة. فهو إن حقق تقدمًا اقتصاديًا ملحوظًا ولافتًا، فإنه عجز عن تحقيق هذا التقدم على المستوى السياسي، حيث تصدّت له هذه الجماعة التي كانت تحتمي بلونها الطائفي، ولم يستطع فؤاد شهاب فصل المنظومة الطائفية عن الدولة ومؤسساتها، فتسلح هؤلاء بحقوق الطائفة وتصدوا لكل نشاط تقدمي باتجاه الدولة المدنية، وهو الأمر الذي يؤشر إيجابًا على صحة فرضية البحث التي تمظهر فيها تأثر المنحى الاقتصادي بالمصالح الطائفية، الأمر الذي انعكس ضمورًا لفكرة بناء الدولة ونموًا للفساد والعبثية.

لقد كان الواقع الطائفي في لبنان مقوننًا بحسب المراسيم التي صدرت تباعًا، «في العام 1951، صدر مرسوم يرسخ صلاحيات واسعة للهيئات الروحية لكل من الطائفتين المسيحية والإسرائيلية، وفي عام 1955 صدر مرسوم حصلت بموجبه الطائفة السنية على الاستقلالية الذاتية، وفي عام 1967 صدر مرسوم منحت فيه الطائفة الشيعية صلاحيات واسعة». لقد حصلت الطوائف على مراسيم خاصة بهيئات تتصدى لمصالحها وكانت هذه الهيئات ستارًا وغطاءً للنفوذ السياسي الطائفي المسيطر والمهيمن على المنحى الاقتصادي والسياسي في البلاد.

لم يستمر الاستقرار في لبنان كثيرًا، فقد تم توقيع اتفاقية القاهرة عام 1969، تلك التي منحت بموجبها المقاومة الفلسطينية حق الوجود في لبنان. من هنا كانت الشرارة الأولى إذا صح التعبير لانطلاق الحرب الداخلية في عام 1975. وهكذا لم تعرف المرحلة الإصلاحية التي خاضها فؤاد شهاب الاستقرار لمدة طويلة، فقد انشغلت الدولة عن استكمال بناء ذاتها بفعل النفوذ الكبير «لأكلة الجبنة» الذين كان لهم الدور الكبير في الانقلاب على عهد فؤاد شهاب وإنجازاته.

استمرت الحرب في لبنان خمسة عشر عامًا تخللها الاجتياح الإسرائيلي الأول في عام 1978 والثاني في عام 1982، الذي وصل إلى بيروت، أول عاصمة عربية يطؤها جيش الاحتلال. وفي النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين بدأ سعر صرف الليرة اللبنانية يتراجع مقابل الدولار الأمريكي بسبب تداعي مؤسسات الدولة وفقدانها سيطرتها على الموارد. وقد انتهت هذه المرحلة مع اتفاق الطائف في عام 1989، وهو عقد اجتماعي – سياسي جديد يعيد بمضمونه بناء لبنان بوجه آخر وطريقة حكم مختلفة مع تعاظم قوة الأحزاب الطائفية التي قادت الحرب الداخلية طوال خمسة عشر عامًا.

ثالثًا: مرحلة الطائف

وضع اتفاق الطائف، أو وثيقة الوفاق الوطني، في عام 1989 حدًا للحرب الداخلية في لبنان، وقد تضمن تصوّرًا لحل الأزمة اللبنانية على مرحلتين: «الجمهورية الثانية التي أسست لها الوثيقة هي مرحلة انتقالية إلى جمهورية ثالثة تُلغى فيها الطائفية السياسية». إلاّ أنه لم يتم الانتقال إلى الجمهورية الثالثة ولم تُلغَ الطائفية السياسية، وهكذا قونن اتفاق الطائف فساد النظام وكرّس السلطة الطائفية والتوزيع الطائفي للمراكز الإدارية معيدًا إنتاج أسباب الأزمة التي أتى بها دستور عام 1926، مع فارق في توزيع الصلاحيات ما بين السلطات. وعليه مهّد اتفاق الطائف لمرحلة جديدة كانت سببًا لما يشهده لبنان منذ أواخر عام 2019 من انهيارات وأزمات كنتاج طبيعي لإلغاء دور المؤسسات والمحاصصة.

لقد أنهى اتفاق الطائف النزاعات العسكرية التي أدت إلى خسائر فادحة في اقتصاد الدولة والناس والبنى التحتية. وقد «تراوحت هذه الخسائر التي تخص فقط البنى التحتية العامة، بين 25 و30 مليار دولار، أي ما يوازي بين 10 و12 مرة الناتج المحلي الإجمالي اللبناني لعام 1990 سنة انتهاء الحرب». وعلى ذلك فإن لبنان قد خرج من الحرب الداخلية منهكًا وما عليه إلا ترتيب وضعه الداخلي وتنظيم مؤسساته لكي يتسنى له وضع خطة تنموية تستهدف إعادة النمو إلى ما كان عليه قبل الحرب.

بدأت هذه المرحلة مع تشكيل أول حكومة للراحل الرئيس رفيق الحريري في إثر انتخابات عام 1992، الأمر الذي انعكس إيجابًا على لبنان وفتح نافذة التفاؤل بإعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي. إلا أن لبنان في هذه المرحلة ذهب إلى اعتماد سياسة العجز المالي بعد اعتماده، ومنذ نشأته، سياسة التوازن الحسابي.

أصبح لبنان منذ عام 1992 معتمدًا على سياسات العجز (الاستدانة) لتمويل المشاريع الكبرى، بموجب قرارات صادرة عن الدولة: «وكما أن هذا العجز كان يُموّل من المصارف التجارية، راحت معدلات الفائدة ترتفع بشكل جنوني، مساهمة في إحباط الاستثمار، وبالتالي، في الأزمة الاقتصادية التي لا تزال مستمرة منذ العام 1996».

يُشير هشام صفي الدين، إلى أن «النظام المالي اللبناني الذي تأسس بعد انتهاء الحرب الأهلية وتسلّم رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري للحكم، هو مبنيّ أساسًا على التثبيت المطلق لسعر الصرف، أي التزام البنك المركزي بسعر محدد للّيرة مقابل عملة أخرى (الدولار)، مهما كلّف الثمن من تداعيات على الوضع الاقتصادي للبلاد أو على القطاعات المنتجة». وهي سياسة تتركز على اقتراض المصرف المركزي العملة الأجنبية من المصارف التجارية للحفاظ على الاحتياطي اللازم لحماية سعر الصرف، ما يؤدي إلى شلّ قدرة المصرف المركزي على التحكم في السياسة النقدية بشكل مستدام، وتاليًا أثّر ذلك في ارتفاع سعر الفائدة الذي أدى بدوره إلى ارتفاع التكلفة الإنتاجية، فضلًا عن التحوّل الخطير في النمط الإنتاجي من اقتصاد قائم على استثمار منتج إلى اقتصاد يتركّز على الريعية وسعر الفائدة. لقد نتج من جرّاء ذلك مضاربات وممارسات ريعية على حساب الاقتصاد الوطني، كالاقتراض بالدولار بفائدة منخفضة وإعادة استثمار القروض بسندات خزينة بالليرة بفائدة مرتفعة، مع ضمان تحويل الربح إلى الدولار بفضل تثبيت سعر الصرف، الأمر الذي أنهك آليات الإنتاج الصناعي والزراعي وعمّق السلوك الريعي والخدماتي للاقتصاد اللبناني، وهو مما يؤشر إلى حقيقة البنية الاقتصادية اللبنانية على أنها لم تكن يومًا انعكاسًا لمقتضيات الواقع.

تكون الاستدانة ضرورية إذا كانت وفق خطة استثمارية تستهدف تكوين كتلة ادخارية من أجل تنفيذ مشاريع تنموية تعود بالفائدة على الوطن وأبنائه. إلا أننا لم نشهد منذ بداية هذه المرحلة خطة تنموية متكاملة تلحظ عملية التمويل وآليات الاستثمار، فقد كان الدين مسارًا مفتوحًا تشوبه مشكلات انعدام التخطيط الاستراتيجي، الأمر الذي يفسر بصورة واضحة جزءًا كبيرًا من أجزاء الانهيار الذي يشهده لبنان 2020. لقد أصبح الدين ماردًا لا يمكن التغلب عليه، لا بل، لا يمكن القيام بخدمته، نظرًا إلى التحول الكبير الذي أحدثه في الاقتصاد اللبناني. إن ارتفاع سعر الفائدة من دون استثمار منتج جعل من لبنان يأكل نفسه، فهو تارة يلجأ لرفع الضرائب وتارة أخرى يلجأ إلى قروض جديدة، وكأنه يمعن في تكرار أسباب السقوط. لقد أدى اعتماد الدولة على القروض إلى ارتفاع أسعار الفائدة نظرًا إلى حاجتها للودائع الموجودة في المصارف التجارية، وبذلك نكون بصدد تغير جذري ومخيف في الاقتصاد الوطني، إذ يفضّل الكثيرون من المودعين الحصول على الفوائد من دون الدخول في مخاطر الاستثمار. لذا، اتجه لبنان منذ ذلك الوقت إلى الاقتصاد الريعي محبطًا القطاعات الإنتاجية الأساسية الصناعية والزراعية. وعلى ذلك نكون بصدد مرحلة جديدة ومسار اقتصادي وتنموي جديد، وهما مرحلة ومسار لا يتصلان بالاقتصاد وبالتأكيد لا يتصلان بالتنمية.

في هذه المرحلة ظل الوضع الإداري والوظيفي في لبنان عبارة عن إرث المراحل السابقة، في حين أن هذه المرحلة تتطلب نوعًا وكمًا جديدين لإعادة إعمار لبنان وإعادة تنظيم مؤسساته، فضلًا عن ضرورة تنظيم مالية هذا البلد. «وفي هذه الظروف يجب ألّا نتعجب كيف أن الدولة وجهازها الإداري المكتظ في عدد من مؤسساتها والذي أصبح غير فعّال بعد خمس عشرة سنة من الهمجية (الحرب) التي أصابت البلاد، قد أصبحت مشكلة تواجه النخب الجديدة، إذ يتوجب عليها أن تعطي الانطباع بأنها تعيد بناء الدولة أيضًا. لذا، فقد جرى تأليف لجان لوضع خطة لإدخال وتطوير كبيرين في الإدارة، وكانت النتيجة، أن أجري تطهير إداري لم ينل بالطبع إلا صغار الموظفين، دون المسّ بدوائر الفساد العليا التي تشكلت منذ بداية الحرب، تلك المراكز التي تعشش فيها النخبة السياسية الجديدة».

وعلى ذلك نجد اختبارًا جديدًا لفرضية البحث، بأن السلوك السياسي لا يزال كما هو في الإطار التوظيفي والإداري، فالمنحى الاقتصادي لا يزال يتأثر بمصالح الطوائف والقوى السياسية الجديدة «أكلة الجبنة» الجدد. وعلى ذلك ظل التوظيف في لبنان كسبًا انتخابيًا للبعض أو فوزًا بجائزة كلها انصياع وتقديم ولاء أو جائزة على تخريب هنا أو قرصنة هناك، وكل ذلك يأتي ملونًا بألوان الطائفية وأحزابها.

وعلى ذلك نحن أمام استدانة غير مخطط لها وإدارة غير مؤهلة ومصير البلاد معلق بينهما، كالعدو من أمامنا والبحر من خلفنا فأين المفر؟

لذا، بدأت قدرة لبنان على الإنتاج بالاضمحلال أمام اقتصاد ريعي أطاح بالمهمة الاستثمارية للمنتج اللبناني، وتباعًا «بدأ الميزان التجاري يشكو من عجز سنوي كبير وخصوصًا بعد ارتفاع الاسعار العالمية للنفط خلال النصف الأول من عام 2008، يصل إلى 7.6 مليارات دولار، ويترجم حالًا اقتصادية صعبة». لقد بدأ العجز ما بـ 7.6 مليار دولار وإذ به يصل في عام 2019 إلى 17 مليار دولار. ففي كل القطاعات نجد أن لبنان يستورد بكم يفوق قدرته التصديرية، بمعنى آخر إن تسربات الدخل تفوق الإضافات وسط مديونية عالية نعجز عن خدمتها، لنكون أمام عجز يغطي المشاريع الكبرى، استدانة متلاحقة لسد الفجوات التي تحدثها السياسات الاقتصادية في البلد، عمالة غير ماهرة وغير مؤهلة لقيادة المرحلة، وبذلك نكون حتمًا متجهين نحو الانهيار، ولا عجب في ذلك، فإن غياب الراعي سيؤدي حتمًا إلى غياب القطيع.

يرى إيلي يشوعي أن لبنان مثلًا يستورد في قطاع صناعي معدّ للكماليات بـ 5.8 مليار دولار ويصدر بنحو 1.5 مليار دولار، ويستورد في قطاع زراعي خاص بالدواجن بنحو 1.5 مليار دولار ويصدر بنحو 300 مليون دولار. هي أمثلة من عام 2008 وما قبل، فكيف مع التطور الديمغرافي الكبير الذي عرفه لبنان خصوصًا بعد الحرب السورية وأزمة المهجرين.

ثم إن مشكلة الاستيراد هي مشكلة كبيرة، وخصوصًا إن لم تكن مبنية على خطة، لأن الاستيراد يستنزف الكتلة النقدية، ولا سيما الدولارية منها، الأمر الذي سيؤدي مع الوقت إلى فقدان هذه الكتلة وهو حال ما يشهده لبنان منذ أواخر عام 2019.

عودًا إلى الفرضية البحثية، وبعد العرض، نجد أن السلوك المصلحي الطائفي مذنب في القضاء على الدولة كبناء اقتصادي اجتماعي وسياسي، إذ نشهد ولغاية 2020، بروزًا لا يزال واضحًا للمتغير الطائفي في مختلف الاتجاهات، وقد ثبت ذلك في المسار السياسي لحكومة دياب 2019 – 2020، التي لم تستطع الصمود والمواجهة نظرًا إلى فقدانها العمق الطائفي وضعف التمثيل، فالموظف أو الإداري أو أيّ ملحق بوزارة أو مؤسسة، وإن كان مختصًا فإنه لن يحقق نجاحات من دون العمق الطائفي والدعامة الطائفية السياسية. وهذا ما غلب لبنان الدولة ولبنان الاقتصاد، فإن أكلة الجبنة إبان العهد الشهابي كانوا قد جددوا أنفسهم في العهود التي تلت وإن تغيرت الأسماء أو العائلات الروحية والطائفية.

ولأن الأهلية والمهارات قضيتان مهمتان في أي عملية إنتاجية، فقد عدينا ذلك من المدخلات الأساسية، «يمكن اعتبار التقويم المعتمد حتى الآن لأداء الاقتصاد اللبناني بمثابة تقويم إنتاجية عملية ما من وجهة نظر الناتج، حيث الناتج هو العامل أو العمل بخصائصه الرئيسية كالدخل والمهارات. أما الآن فسوف نعتبر أن العمل هو من المدخلات وليس المخرجات، لا بل نتبنّى النظرة القائلة بأن الإنماء يعني أساسًا جلب العمل إلى النشاط الإنتاجي».

وعليه يكون العمل والمهارة والأهلية شروطًا أساسية في العملية الإنتاجية، ولهذا يجب أخذ هذه القضية بناءً على معايير ذات صلة وليس بالاعتماد على المحسوبية أو الانتماء الطائفي والحزبي. ولقد أثرت كثيرًا الأزمات السياسية في الواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، فضلًا عن الحروب المتتالية وغياب سياسات اقتصادية مناسبة وانعدام الخطط التنموية الفعالة.

ويعدّ من أهم عوامل القصور في الاقتصاد اللبناني المسببة للأزمة بصورة لافتة ما يلي:

– «اعتماد لبنان على الاقتراض الداخلي والخارجي لتمويل إعادة الإعمار.

– بناء الاقتصاد بالدرجة الأولى على قطاع الخدمات (83 بالمئة من الناتج الاجتماعي)، وسياسة تدفق الرساميل.

– تراجع في القطاعات المنتجة كالزراعة والصناعة.

– تحول لبنان إلى دولة استهلاكية نموذجية تمولها البنوك.

– عدم إصلاح الإدارة بشكل بنيوي، حيث بقيت خاضعة للمحاصصة والمحسوبية.

– تراكم الدين الداخلي والخارجي مع خدمة دين بفوائد مرتفعة.

– استهلاك قطاع الكهرباء، نحو نصف الدين الخارجي، وفق تقديرات البنك الدولي.

– زيادة العجز في ميزان المدفوعات بشكل سنوي».

وإن توقفنا قليلًا عند تحليل النقاط المذكورة، لوجدنا أن هناك مشاكل أساسية في السياسات الاقتصادية.

إن اعتماد لبنان على الدَّين من دون خطة سيضر باقتصاده لا محالة، فإن لم يوّجه الدين لأجل القيام بالمشاريع المجزية يصبح ثقلًا على الدولة، وبدورها لن تستطيع القيام بخدمته، وبما أن أكثر المشاريع التي أُنجزت في لبنان هي مشاريع غير مجزية في المدى القصير، فإن لبنان سيكون عاجزًا عن سداد ديونه وبالتالي خدمتها.

وفي ما خص بناء قطاع الخدمات، فهو يرتبط بمصالح الاستعمار الفرنسي والبريطاني للمنطقة، حيث كانت أوروبا آنذاك في طور التصنيع تبحث عن أسواق خارجية لإنتاجها الصناعي في عدة مناطق من العالم، وكان لبنان من أكثر المناطق أهلية لتسويق الإنتاج الصناعي في الشرق الأوسط، لأسباب رئيسية ثلاثة:

– موقعه الجغرافي على ملتقى ثلاث قارات.

– وجود فئة من التجار اللبنانيين تملك شبكات تسويق في منطقة الشرق الأوسط منذ أوائل القرن الثامن عشر.

– معرفة اللبنانيين للغات بفضل الإرساليات الأجنبية.

ولأجل ذلك لا بد من تجهيز البلد ببنية تحتية مناسبة تسهل عمليات التسويق. لذا، تم تأهيل وتوسيع مرفأ بيروت، فضلًا عن فتح شبكة طرقات تربط بيروت بسائر البلدان المحيطة، وكذلك مد سكك الحديد لنقل البضائع إضافة إلى بناء قطاع مصرفي وفنادق لتسهيل العمليات التجارية، وعلى ذلك، كان قطاع الخدمات من أوائل القطاعات التي بنيت على نحو قوي ومخطط، الأمر الذي أدى إلى غلبة هذا القطاع على قطاعَي الصناعة والزراعة، وهو ما أدى إلى إسهامه بـ 83 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي ليكون قطاع الخدمات قطاعًا رائدًا في مقابل ضمور للقطاعات الأخرى، الأمر الذي يُبعد التوازن القطاعي ويؤدي إلى خلل كبير في البنى الاقتصادية الوطنية.

تنعكس السياسة القطاعية غير المتوازنة على الواقع الاقتصادي المحلي، فيتحول البلد بموجب الاعتماد على التجارة والمنتجات الوافدة إلى بلد استهلاكي بعيدًا من الإنتاجية. كما أن الإدارة اللبنانية ومنذ قيام الدولة هي إدارة قائمة على المحسوبية وعلى التوزيع الطائفي، ولم تكن يومًا تعتمد الأهلية والكفاءة كشروط أساسية للتوظيف، بل كان العامل الطائفي والسياسي مسيطرًا على هذه الإدارة من خلال التوظيف الرضائي للأفراد والأطراف بعيدًا من حاجة الدولة وبعيدًا من مستوى أهلية وكفاءة هؤلاء الموظفين. وهو ما يؤكد فرضية البحث عن تأثر المنحى الاقتصادي بالمتغير الطائفي الذي يعتمد المصالح الخاصة للأفراد والجماعات، فقد كان التوظيف الرضائي سببًا مباشرًا من أسباب أزمة لبنان الأخيرة الممتدة منذ أواخر 2019، والتي لم يشهد لبنان مثلها من قبل.

وإذا ما تم تحليل هذا المنحى، فإننا بالتالي سنجد نتاجًا سلبيًا لكل السلوكات الإدارية على مدى مئة عام، من عام 1920 إلى عام 2020، تارة ديون داخلية وخارجية أكبر من الحجم الاقتصادي للبلد، وتارة قطاعات غير منتجة على الرغم من تكلفتها الكبيرة مثل قطاع الكهرباء، والحقيقة الواضحة هي العجز في ميزان المدفوعات الذي بلغ في عام 2020 قرابة 17 مليار دولار.

رابعًا: مرحلة جائحة كورونا

ما لا شكّ فيه أن جائحة كورونا قد أرخت على العالم كله بظلّها، فانعكست تداعياتها على قضايا العالم الاقتصادية والصحية والاجتماعية، وقد أظهرت تمايزًا في التحكم بمفاصل الأزمات التي أحدثتها، وذلك بالنظر إلى الاختلاف في طبيعة النظام المتّبع. لقد كان مصدر الوباء الصين التي تتبع النظام المختلط وتتميّز بالتدخل في الشأن الاقتصادي نظرًا إلى أيديولوجيا الحزب الحاكم، وعندما لم يُعمل على إقفال الصين انتشر الوباء في سائر دول العالم وخلق هذا الانتشار أزمات اقتصادية وصحية، الأمر الذي أظهر فشلًا كبيرًا في المنظومة الرأسمالية التي تستهدف بناء دولة الرفاهية، حيث لم يكن هناك من حضور لدولة الحماية لجهة الاستراتيجيات المفترض وجودها عند أي أزمة. وعلى ذلك تنبني الفرضية التي ستختبرها الأحداث المقبلة بأن جائحة كورونا أحدثت الكساد الكبير في اقتصادات دول العالم وأظهرت فشل دعوة دولة الحماية ودفعت بالرأسمالية إلى التخلي عن شعار الدولة الحارسة والعودة إلى سياسات وممارسات السيطرة للتحكم بالموارد الأولية وتدعيم اقتصاداتها.

يشهد الاقتصاد اللبناني تدهورًا لافتًا منذ عام 2017، «حيث يظهر بعض هذا الانكماش في بيانات توزيع الاستهلاك لعام 2018 لشبكة بوفكال نت. لكن أهم التطورات حدثت منذ أيلول/سبتمبر 2019. ففي هذا الشهر، بدأ سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار بالانحراف عن سعر الربط الرسمي البالغ 1500 ليرة لبنانية للدولار. ووصل سعر الصرف في السوق إلى 2200 ليرة في كانون الثاني/يناير 2020، وإلى 8500 ليرة لبنانية في حزيران/يونيو 2020».

في تشرين الأول/أكتوبر 2019 شهد لبنان أحداثًا سياسية واضطرابات أمنية نتيجة التظاهرات المطلبية التي حدثت ولا تزال تتفاعل من مرحلة إلى أخرى، وقد أسفرت هذه الأحداث عن إغلاق الكثير من الشركات والمصانع بالتزامن مع انهيار سعر صرف العملة، وما زاد الطين بلة هو التداعيات السلبية لجائحة كورونا على النشاط الاقتصادي، حيث اتخذت الحكومة الجديدة في شباط/فبراير 2020 تدابير خاصة لمكافحة الوباء تقتضي الإقفال لغاية الأسبوع الأول من حزيران/يونيو 2020، وهو أمر في غاية التعقيد، نظرًا إلى عدم قدرة أكثرية المواطنين على الصمود من دون عمل وعدم قدرة الدولة أيضًا على التدخل بسبب الأزمة الاقتصادية.

لقد قيدت حركة التنقل، فضلًا عن إقفال المطار والمدارس والجامعات والمصانع وجزءٍ كبيرٍ من القطاع السياحي، الأمر الذي زاد الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد حدة، وهو ما انعكس سلبًا على معدلات الفقر والبطالة التي أخذت تتزايد، وهو الأمر الطبيعي في بلد لا يمتلك أدنى مقومات الصمود مقابل الأزمة، فكيف إذا كان هناك أكثر من أزمة.

«وبناءً على ذلك، توقعت إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للفرد بمعدل القوة الشرائية للدولار بنسبة 1.2 بالمئة في عام 2019 و12.8 بالمئة في عام 2020. وبناءً على تقديرات النمو هذه، تصبح نسبة عدد الفقراء المقدرة على أساس خط الفقر الأدنى، البالغ 8.5 دولار في اليوم، 12.7 بالمئة في عام 2020، أي ما يزيد على 50 بالمئة على نسبة الفقراء المرجعية لعام 2019 البالغة 8 بالمئة. وضمن سيناريو النمو هذا، ترتفع نسبة الفقراء، المحسوبة باستخدام خط الفقر الوطني الأعلى البالغ 14 دولارًا في اليوم، إلى 35 بالمئة في عام 2020، بعدما سجلت 27 بالمئة كنسبة مرجعية عام 2019 .

وهكذا نجد أن نسبة الفقراء تزداد بسبب الأزمة الاقتصادية وأزمة كورونا والأزمة السياسية التي لا تزال تعصف بالبلاد منذ تحرك 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019. فلبنان اليوم يعاني آثار الصدمات المتداخلة والمتتالية التي أصابت النمو الذي يعاني ركودًا منذ أمد طويل نتاج انفجار الفقاعة العقارية والأزمات الأمنية المحيطة به والتراجع الواضح في عائدات القطاع السياحي والزراعي والصناعي وغياب الاستثمار العربي وفقدان السيولة المطلوبة للحركة الاقتصادية. وقد أصبحت الدورة المالية من جراء ذلك في حال تناقص استمر حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من الضمور والاضمحلال صيف 2020.

لقد شهد معظم اللبنانيين، وخصوصًا أثناء الأزمات المتتالية ولا سيما كورونا، انخفاضًا في أجورهم؛ وفقد البعض منهم مقومات العيش بسبب التخلي عنهم أثناء الإغلاق المنظم لمكافحة الوباء. وخسر الموظفون والعمال الذين يتقاضون أجورًا بالعملة المحلية قدراتهم الشرائية على نحوٍ فاق مقداره خمسة أضعاف بسبب انهيار سعر الصرف مقابل الدولار الأمريكي. في حين أن العمال والموظفين الذين يتقاضون راتبًا دولاريًا زادت قدرتهم الشرائية أكثر فأكثر. وقد كشفت هذه الزيادة عن الهامش الربحي للتجار، حيث أصبحت السلع الاستهلاكية أرخص مما كانت عليه إذا ما قورن سعرها بسعرها بالدولار سابقًا، فالسلعة التي كان سعرها ثلاثة آلاف ليرة أي دولارين على سعر الصرف القديم أصبحت مع ارتفاع سعر صرف الدولار بعشرة آلاف ليرة أي قرابة دولار وربع الدولار كسعر أوقية البن مثلًا. إن ما يحدث هو عبارة عن فوضى أسعار بلا حسيب أو رقيب، وذلك في ظل انشغال الدولة بالتناحر السياسي وترك السوق على سجيته ومزاج التجار.

لقد أثّرت أزمة كورونا في الاقتصاد اللبناني واقتصاد الناس في ظل أزمة مصرفية ضربت المودع اللبناني وشلّت حركته وساهمت في انهيار سعر الصرف بسبب الحجر على العملات الأجنبية الخاصة بالمودعين، تجارًا وصناعيين وغيرهم من المترسملين.

وقد أسهمت هذه الأزمات ولا سيَّما أزمة كورونا، في تراجع كبير في نسبة الفئة المتوسطة الدخل، وبحسب الإسكوا، فقد تقلّصت الفئات المتوسطة الدخل من أكثر من 57 بالمئة من السكان في عام 2019 إلى أقل من 40 بالمئة في عام 2020، وهو أمر خطير جدًا، حيث تعد الطبقة المتوسطة الرافعة الاقتصادية والاجتماعية للبنان.

الحصيلة

مرت المئوية الأولى لنشأة لبنان الكبير منذ الأول من أيلول/سبتمبر 2020، وإذا ما تتبعنا السياق التاريخي للمنهج التنموي المتبع في لبنان منذ قيامه، نجد أنه لا يوجد منهج تنموي مخطط أو معروف، بل هناك ردود فعل عند كل أزمة وعند كل عقدة، ولم تأتِ هذه الردود بنتاج أفضل، بل كانت تخلق من الأزمة عقدة ومن العقدة أزمة في حلقة دائرية نهايتها عند نقطة البداية.

على ذلك، كان لا بد من تحليل المسار الاقتصادي والتنموي في لبنان من منطلق سوسيولوجي للوقوف على فعالية المنظومة أو عدم فعاليتها. ولعل من الواضح والبيّن أنه منذ قيام الدولة اللبنانية نجدها منعزلة عن واقعها، وهذا الأخير مركّب من إثنيات وقوميات ومذاهب وطوائف عدة تفتقر إلى علاقة جدية فيما بينها، فضلًا عن افتقارها أيضًا إلى علاقة جدية مع الدولة.

وعليه، لا بد من مقاربة تصيب هذا التشرذم، هل يمكننا الإصلاح بالجملة أو الإصلاح بالمفرّق، بالمنظومة أو بالسلوكات المتنوعة والمختلفة؟ نجد أنه لا بد من وضع مزيج يكون مفهومًا لمرة واحدة ليصبح مزمنًا، حاله حال الأزمات التي تعصف بالبلاد.

يتزايد الحديث في بلدان العالم الثالث عن النمو والتنمية، وهو حديث دائمًا ما يكون تقليدًا وتماهيًا مع الغرب الرأسمالي، في حين ننسى أن لكل جسم قياسًا، ولكل واقع أرضية وفضاء، ولكل معقد عقد ساهمت في غموضه، ولا بد للتوضيح والتفسير من أن نلجأ إلى المتغيرات والسلوكات التي أدت إلى المأزق، فالمركب يكون من أجزائه وليس من أجزاء غريبة عنه. وعلى ذلك فإن لكل واقع خطة ولكل دولة استراتيجية يجب أن تتلاءم مع طبيعة تركيبها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

ولأن لبنان بلد التعدد والتنوع في آن واحد، فإنه يتطلب مقاربة متعددة ومتنوعة لكي يجتاز المأزق، ويجب أن تتسم هذه المقاربة بالمرونة معتمدة على فكرة مبتكرة تتبلور من خلال سلوك جماعي على مستوى الوطن وهي ضرورة إنشاء، ولمرة واحدة، ما أسميه بنك الأفكار، وهو علاقة مستحبة بين الدولة وناسها بأن تطلب إليهم وضع حلول للمشكلة عبر آلية محددة مسبقًا وتأتي هذه الحلول كأفكار ترسل عبر هذه الآلية، فتوفر حلولًا متشابهة حينًا ومتناقضة ومتعارضة أحيانًا، عندها لا بد أن نجد من خلال هذا التشبيك عددًا من الأفكار التي تصلح لأن تكون نواة خطة أو استراتيجية تنموية، بحيث تكون هذه الخطوة المطلع من الانتخاب الموجّه للطبقة ذاتها الممنوعة من الصرف.

تاليًا، لقد ثبت أن دور الدولة الحارسة لا يقود إلى تحقيق تنمية مستدامة، فالقطاع الخاص لا يمكن ضبطه بقوانين وحدود معينة، ولا سيما أننا ننتمي إلى منظومة دول امتازت كثرة منها بعدم الجدية في التعامل مع القوانين والضوابط. لذا، فالدولة الحارسة في بيئة غير محضرة مسبقًا وبيئة غير ملائمة هي فكرة غير مجدية، وهنا نجد أنه لا بد من تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، تدخلًا يتلاءم مع صيانة وحفظ حرية القطاع الخاص، وصيانة وحفظ ممتلكات الدولة وحسن إدارتها.

يفيد هذا التدخل بأنه سيضيف مهمات إلى القطاع العام تجعل منه أكثر جدية وإنتاجية من خلال إعداده جيدًا لمعالجة المرحلة، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الدولة يجب أن تتحول إلى منتج ولا تقوم فقط على دعامة الخدمات والضرائب.

يتطلب التدخل المجدي إنشاء وزارة للموارد البشرية ترعى شؤون القوى العاملة والباحثة عن عمل، على أن تتضمن مهماتها توجيه الاختصاصات الجامعية والمهنية ورعاية الخريجين من خلال خلق فرص عمل جديدة عبر التشبيك مع القطاع الخاص، وهو ما يوفر حيّزًا مهمًا من الأمن الاقتصادي والاجتماعي.

لذا، إن آلية التدخل يجب أن تكون مراعية لمصالح القطاع الخاص أيضًا وفي الوقت نفسه آخذة في الحسبان تحويل وجهة الدولة من دولة حارسة إلى دولة منتجة في مختلف القطاعات، ولا غرو من ذكر ممكنات ذلك، حيث يمكن لهذه الدولة أن تستثمر المشاعات والأملاك البحرية والمياه الجوفية وغير ذلك من الموارد الطبيعية في سبيل تحويل الوجه الضريبي للدولة إلى وجه آخر أكثر إنتاجية وأكثر جدية. ويكون من أولى مهمات هذه الدولة حصر دائرة الاستيراد ضمن سلّم أولويات تستفيد منه القطاعات المنتجة، فضلًا عن وجوب توفير المنتجات الأساسية غير المتوافرة محليًا.

كما أنه لا بد من التخلي المؤقت عن فكرة اللامركزية إلا في القضاء الذي يجب أن يكون مستقلًا بقراره وتمويله. ففي مجتمع تسيطر على مؤسساته الأحزاب الطائفية لا يمكن أن يترك لها القيام بمهمات التنمية، حيث أثبتت التجارب، أن كل المؤسسات التي تخضع إدارتها لتلك الأحزاب إنما تكون في خدمة هذه الأحزاب وخدمة بيئتها وقد تكون ممرًا انتخابيًا يستثمر في الاستحقاقات السياسية.

حتى إن البلديات ومنذ نشأتها قد تحولت عن الهدف الأساسي لهذه النشأة، فبعد أن كانت تستهدف التنمية المحلية أصبحت تحمل مهمات أخرى لا تتصل بطبيعة عملها.

وفي لبنان «تواجه اللامركزية تحديات كبيرة، ففي الدول التي أثمرت فيها اللامركزية تنمية محلية، توفر عدد من العوامل الضرورية التي ساهمت مجتمعة في نجاح هذه العلاقة، وشملت هذه العوامل أولًا مستوى التزام الدولة اللامركزية بالتنمية، وثانيًا استقلالية السلطات المحلية ومساءلتها وقدرتها على حشد موارد محلية إضافية لتعزيز التنمية المناطقية، وثالثًا تدعيم الإصلاحات المرجوّة باستراتيجية وطنية للتنمية الإقليمية والتي من شأنها تمكين السلطات المحلية». وإن لم تتم الإصلاحات تكون اللامركزية أشبه بفدرالية مصغّرة على قياس الأحزاب الطائفية المسيطرة.

على ذلك تتأكد فرضية البحث من خلال المسار الطائفي السياسي العبثي الذي يحوّل مؤسسات الدولة إلى دكاكين لتمويل المصالح الخاصة، فلا بد إذًا من التحول من أعلى، أي تعديل المنظومة من خلال عقد اجتماعي جديد يتفق الجميع على أنه أصبح ضرورة لقيام الدولة وإنقاذ ما تبقى من وطن.

إن إعادة النظر في المنظومة والنهج الاقتصاديين سينعكس إيجابًا على تقويم اعوجاج القطاع العام من خلال مهمات جديدة وتوظيف موارد بشرية مؤاتية، الأمر الذي يقلل من معدلات البطالة، فضلًا عن ضرورة إعادة تأهيل نظام التعليم العام ونظام التعليم المهني بما يتناسب مع حاجات السوق. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى ضرورة تدعيم الجامعة اللبنانية ورفدها بكل ما يلزم، وعلى الجامعة تعديل برامجها البحثية، بحيث يتم توجيه الباحثين إلى القضايا الشائكة، وهو ما يسهم في تذليل العقبات وإزالة الحواجز من المسار التنموي.

كما لا بد من الإصلاح من أسفل أيضًا وهو الإصلاح في السلوكيات الاقتصادية بعد أن شابتها عيوب كان من شأنها إسقاط المنظومة برمتها، يجب تصحيح الخلل في الموازنة من خلال خفض الإنفاق وتعزيز الإيرادات والعودة تدريجًا إلى سياسات التوازن الحسابي، والابتعاد من سياسات العجز. ولا بد، من أجل ذلك، من ضرورة إصلاح القطاعات الأكثر هدرًا مثل قطاع الكهرباء والمياه والطرق والصرف الصحي والفاتورة الصحية.

كما يجب تصحيح الخلل الذي يشوب عمل القطاع المصرفي، بحيث يجب دمج المصارف وتقليل عددها وتغيير سياستها، ليصبح الإيداع مقابل دفع عمولة على تأمينها أو تحويل الودائع إلى أسهم تستنهض القطاعات الإنتاجية ليكون المودع من جراء ذلك شريكًا ومستثمرًا لا مودعًا يتقاضى الفوائد. وتاليًا يجب توضيح العلاقة بين المصرف المركزي والحكومة وتحديد الأطر والصلاحيات لكل منهما، بحيث لا يكون هناك من سياسات اقتصادية، مالية ونقدية مختلفة ومتعددة بعضها يعود للحكومة وبعضها الآخر للمصرف المذكور، فضلًا عن ضرورة وضع سياسات ائتمانية جديدة تستهدف الاستثمار في القطاعات الإنتاجية عكس السياسات السائدة التي يذهب جزء كبير منها لمصلحة الكماليات والرفاهية المزيّفة.

وبدلًا من ابتكار ضرائب ورسوم يجب اتباع طرائق أخرى أكثر إنتاجية تؤدي إلى الابتعاد من زيادة الضرائب وتساعد على رفع الإنتاجية من خلال الانفتاح على العالم بهدف جلب الاستثمار والتصدي لاستثمار واعد ومدورس للأملاك البحرية والمشاعات. كما يجب تشجيع الاستثمار في الصناعات الصغيرة، ولا سيَّما الحرفية منها كونها تكتسب الميزة التنافسية في سوق مفتوحة على المنافسة، والابتعاد من الصناعات ذات التكلفة الباهظة، لأنها لن تستطيع الصمود في مواجهة السلع البديلة الوافدة ولن تقدر على مقاومتها في الأسواق الخارجية، نظرًا إلى التكلفة العالية للإنتاجية في لبنان.

كذلك يجب الابتعاد من السياسات القطاعية، فالاقتصاد لا يسير على ساقين عرجاوين، بحيث يُعدّ أساسًا متينًا وجوب تدعيم القطاعات كافة لتكون بقوة دفع متوازنة يتحقق من خلالها الدخل المرتفع. كما لا بد من وضع سياسة ادخارية متعددة المصادر تستهدف تحفيز الاستثمار بالقطاعات الاقتصادية الثلاثة، فيغذي كل منها الآخر في سياق مرسوم يكون رافعة إنتاجية في فترة زمنية محددة.

وإذا بقيت الحال تقليدًا لما سبق، يلخص ما تقدّم أن الدولة القوية ممنوعة من القيام، بحيث يؤدي قيامها إلى إنهاء دور المستفيدين، وأن تجدد طبقة «أكلة الجبنة» سينتج حتمًا أزمات متتالية. والدولة القوية تُضعف سلطة الأحزاب، ولهذا لا يُظهر أيّ من أحزاب السلطة نيّة جديّة لبناء دولة قويّة مدنية وعصرية.

وفي الحصيلة عود إلى البداية، فإن التنمية مسيرة تبدأ ولا تنتهي كالعطر الذي ينتشر في حدود معينة، والمقاربة تبدأ من التشبيك بين الدولة وشعبها، فتكون هذه الدولة انعكاسًا لطموح هذا الأخير، وعلى ذلك نكون بدأنا مسارًا مخططًا تُعرف نهايته، وهي نهاية تتسم بحسن البدايات، تنمية بشرية مستدامة لا تنمية ممنوعة.

 

قد يهمكم أيضاً  أخيراً، لبنان ينتفض.. على الفقر والفساد

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #لبنان #التنمية #الأزمة_الاقتصادية_في_لبنان #انهيار_العملة_اللبناني #الوضع_الاقتصادي_في_لبنان #لبنان_2020 #الدولة_في_لبنان #الأوضاع_الاجتماعية_في_لبنان #الفساد_في_لبنان #أزمات_لبنان