مقدمة
دخل العالم مرحلة جديدة من الحوكمة على مختلف المستويات الداخلية والدولية. وهذا يعني، بطبيعة الحال أن هناك بروزًا لعوامل متعددة ومؤثرة، منها دخول لاعبين جدد على الساحة الدولية، كالشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية وجماعات الضغط. كما لا يمكن إغفال التحوُّلات الهائلة على مستوى المفاهيم، التي تمثلت بظهور مفهوم الحرب الهجينة، والهجوم السيبراني، والفضاء الرقمي، والفجوة الغذائية. أما مفهوم العولمة بأبعاده الاقتصادية والثقافية والسياسية والتقنية، الذي ألقى بظلاله على آفاق المجتمع الإنساني وإبداعاته الفكرية، فلا يزال يسرع في مواضع جمة في تكوين هويات ثقافية جديدة.
تمحورت آثار التغيرات المناخية حول تمدد الاستيطان السكاني إلى مناطق جديدة لم تُستغل مكنونات ثرواتها بعد، حيث لم يعد في الإمكان إغفال أثر الاحتباس الحراري، وانعكاساته على السياسة الخارجية للدول. كما أن عامل الهجرة يترك آثارًا سلبية في إعادة التوزيع الإيجابي للثروة في الدول المضيفة. وبالانتقال إلى مصادر الطاقة البديلة، المتمثلة بالتحول إلى استخدام الهيدروجين في العقود القادمة، كمصدر أساسي للطاقة النظيفة التي لا تنضب، سيعيد ترتيب مكانة الدول على سلّم الجغرافيا السياسية. هذا المسار التطوري من التغيُّرات والتحولات، لكي يكون أكثر تعبيرًا، يفترض أن تؤخذ في الحسبان التطورات الحاصلة في حقل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وآثارها في كل من السياسات الحكومية والنظام الدولي. فبقدر ما تمثل هذه التطورات التكنولوجية فرصًا لبعض الدول، التي تعمل على دمج هذه التكنولوجيا وبآليات الحوكمة الداخلية وبقدراتها الصناعية، تشكل تحديات ومخاطر لدول أخرى، لم تستطع أن تواكب هذه التكنولوجيا بسبب موقعها كدول أطراف في بنية النظام الدولي.
إن الدول اليوم، وفي غياب سلطة مركزية عالمية، تناضل من أجل البقاء. يرتبط هذا الأخير إلى حد بعيد بتحقيق القوة. قبل الثورة الصناعية الخامسة كانت الدول تفترض أن القوة العسكرية هي العامل الأساس الذي يحدِّد ثقل الدولة في ميزان القوى. ومن أجل الحصول على القوة العسكرية، لا بد من تعزيز القدرة الاقتصادية. فانقلب هذا المفهوم رأسًا على عقب، وأصبحت القاعدة أن العلوم والتكنولوجيا الحديثة والمعقدة شروط ضرورية لتحقيق القوة ببعديها العسكري والاقتصادي. وبذلك يصبح من الصعب نسخ المعرفة التكنولوجية المطلوب تحقيقها من الدول الأخرى نظرًا إلى تعقيدها المتزايد بمرور الزمن. إن ضغوط المنافسة الدولية وتسارع وتيرة التقدم العلمي، تجبر الدول على توسيع نظامها البيئي العلمي. وفي هذا السياق، يصبح الذكاء الاصطناعي بعدًا من أبعاد القوة[1].
يتماهى هذا المنطق التحليلي مع أطروحات المدرسة الواقعية الجديدة. هذه الأخيرة، تعُدّ قوة الدولة وقدراتها شروطًا أساسية لتحديد موقعها ودورها في بنية النظام الدولي، من خلال دينامية التفاعل عبر إطار السياسة الدولية. لقد رأى برونو تيرتراز (Bruno Tertrais) أن التكنولوجيا هي بطبيعتها محايدة، وبوجه عام لا تفضل المهاجم أو تؤيد المدافع، كما أنها لا تفضل الاستقرار أو تؤيد عدم الاستقرار. لذلك تأثير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الاستقرار الاستراتيجي ليس تطورًا خطيًا ناتجًا من الذكاء الاصطناعي نفسه أو خصائصه، إنما هذا التأثير يتكون من خلال كيفية تفاعل الدول وقراراتها في استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي[2]. لذلك أصبحت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ظاهرة عالمية.
ومن باب الإيضاح، تعتمد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على التعلم الآلي من البيانات الضخمة وشبكات الابتكار. كما تميَّز من التكنولوجيا النووية التي تعدّ تكنولوجيا مغلقة ونخبوية. فتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يمكن الاستفادة منها، ضمن إطار الخدمة العامة وأهدافها. هذا ما يوضح أن الدول التي تعمل على خلق بيئة مواتية لتطوير هذه التكنولوجيا، ودمجها مع أبعاد القوة التقليدية من اقتصادية وعسكرية، ستعزّز موقعها أو ربما تحجز موقعًا جديدًا لها في منطقة بلدان المركز. وبالتالي سيعاد ترتيب توزيع القوة وتعميق الفجوة بين بلدان المركز وبلدان الأطراف.
ومن دون الإسراف في المبالغة، يمكن القول بأن الصراع بين الدول، الذي يمكن أن يضفي إلى تأليف نظام دولي جديد مفترض، تتمحور أدواته حول من يسبق في مهمة إنجاز التطوير وتفعيل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ودمجها مع باقي المهام بالغة التنوع.
تكمن أهمية هذا الموضوع في أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أصبحت تمثل موردًا استراتيجيًا، تسعى الدول لامتلاكه في سبيل تحقيق ميزة تنافسية، تعزّز من قدرتها وحضورها في السوق الاقتصادية الرأسمالية العالمية. كما أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، تعكس جانبًا مهمًّا من حقيقة الصراع الدولي، بين اللاعبين الجيوستراتيجيين، المتمثّل بتحقيق الهيمنة من خلال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، عبر تطوير أدواته الثلاث الرئيسية (الثالوث المقدس) البيانات والخوارزميات والحوسبة. من هنا تأتي أهمية هذا الموضوع لتسليط الضوء على دور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في المساهمة بتكوين بنية النظام الدولي الجديد.
بناء على ما ورد أعلاه، يمكن طرح إشكالية تتمحور حول مدى قدرة الدول على الاستجابة للتحديات التي تثيرها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. ولمعالجة هذه الإشكالية، ينبغي طرح مجموعة من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها من خلال هذا البحث وهي: هل كل الدول لديها القدرة الاستيعابية لمواجهة هذه التحديات؟ ومن هي أبرز الدول التي دخلت على حلبة الصراع الدولي في هذا المجال؟ وما النتائج المترتبة على هذا الصراع؟ وهل هناك بوادر تلوح في الأفق باقتراب انهيار بنية النظام الدولي الحالي وبداية نظام دولي جديد بموازين قوى جديدة؟
تنطلق فرضية البحث من محاولة معالجة الإشكالية التي تذهب إلى أن ليس كل الدول على الدرجة نفسها من الأهمية في مواجهة التحدي الذي تثيره تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وهو ما سيضاعف التصورات الممكنة حول كيفية تكوُّن بنية النظام الدولي.
تم اعتماد منهجين من المناهج العلمية المعروفة، وهما المنهج الوصفي والمنهج التحليلي. فالمنهج الوصفي يعتمد أسلوبًا من أساليب التحليل المرتكز على معلومات كافية وصحيحة ودقيقة عن ظاهرة معينة، من أجل الحصول على حقائق موضوعية، على نحو ينسجم مع طبيعة المعطيات الفعلية للظاهرة. استخدم هذا المنهج في هذا البحث من خلال جمع الحقائق عن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وذلك عبر تحديد ماهيتها ومفهومها وكيفية استخدامها من جانب الدولة، لاكتشاف المدى الذي يمكن أن يؤسس هذه الظاهرة كحقيقة موضوعية، يمكن أن يبنى عليها ديناميات التغيير.
أما المنهج التحليلي الذي يهدف إلى تحليل العناصر للتمعّن والتدقيق في المعرفة، فاستُخدم من خلال تحليل أبعاد الصراع الدولي المرتكز على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كمورد أساسي جديد. كما استُخدم أيضًا في تحليل العلاقات البينية بين اللاعبين الجيوستراتيجيين.
لقراءة الورقة كاملة يمكنكم اقتناء العدد 562 (ورقي او الكتروني) عبر هذا الرابط:
المصادر:
نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 562 في كانون الأول/ديسمبر 2025.
محمود سويد: باحث في العلاقات الدولية – لبنان.
[1] Oscar M. Granados and Nicolas De la Peñe, «Artificial Intelligence and International System Structure,» Revista Brasileira de Politica Internacional (RBPI), vol. 64, no. 1 (2021), p. 4.
[2] Anna Nadibaidze and Nicolo Miotto, «The Impact of AI on Strategic Stability is What States Make of it: Comparing US and Russian Discourses,» Journal for Peace and Nuclear Disarmament, vol. 6, Issue 1 (2023), p. 7.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.



