أولاً: في امتناع السؤال ودواعيه:

يواجه كثيرون فكرةَ الإصلاح الديني بكثير من الريبة والتحسُّس؛ كلـما انطلقت الدعوة إليه فـي هذا النصّ أو ذاك، فـي هذه الـمناسبة أو تلك من مناسبات التفكير – والحديث – فـي الشأن الديني (والاجتماعي) فـي البلاد العربية الـمعاصرة. هذا ما يفسّر لـماذا يُخْمَد النقاش فـي الـمسألة فـي الـمهد؛ لـماذا تخبو جرأة الـمتحدثين فـيه فـيولّوا عنه الأدبار؛ و – بالتالي – لـماذا يستمرّ الـموضوع معلَّقاً ومحاطاً بسياجات من الحظْر، ليدخل فـي دائرة ما يسميه محمد أركون غير القابل للتفكير فـيه‏[1] (L’impensable)! والحقّ أنّ الإعراض عن بحث هذا الـموضوع – تحت وطأة قمعٍ أيديولوجي من هذه السلطة أو تلك، من هذه الجماعة أو تلك – وإحاطتَه بالحُرْم، والنكير على من يجرّب انتهاكَه، لا يبدِّد فرصاً لإعادة التفكير فـي مسألةٍ تَرَاكَم عليها غبارُ الصمت والتجاهُل، لآمادٍ مديدة، ولا التفكير فـي سبُلٍ رشيدة إلى إعادةِ هيكلة الـمجال الديني هيكلةً تُناسِب مستويات التطور الاجتماعي والـمعرفـي، وتُناسِب مكانةَ الدين فـي الاجتماع العربي والإسلامي فحسب، وإنما هو – فوق ذلك – يزيد من ترسيخ حال التأزُّم فـي علاقات السياسيِّ والاجتماعيِّ بالدينيِّ، ويكرّس سلطان التقليد وقواهُ، فـي الـمجتمعات العربية والإسلامية، ناهيك بأنه يُخْرج الإسلام، نصوصاً ومؤسسات، من دائرة التفكير التجديدي الهادف إلى مناسبته مع مقتضيات التطوّر وأسئلة ذلك التطور، وتمكين الوعي الإسلامي من الأدوات الكفـيلة بإجابته عن ضغوط الحياة وتحديات العصر. والنتيجة – الناجمة من مثل هذا التعطيل القمعي – أنّ الـمسلـمين يستمرون فـي العيش ممزَّقين بين انفتاحٍ صاخب على صعيد البنى والفضاءات الـمادية – الاقتصادية والاجتماعية والحياتية والتكنولوجية – و(بين) انغلاقٍ حادّ على صعيد البُنى الذهنية، على نحوٍ دراماتيكي شديدِ الوطأة على توازن الفكر والسلوك!

ومَأْتى ذلك الرفض العُصابي لأيّ حديثٍ فـي الإصلاح الديني، أو فتح موضوعه أمام تفكيرٍ علـميّ، من عاملَين: معرفـيّ ومصلحيّ؛ فالذين يحتجّون – بصخب – على فكرةِ الإصلاح الديني يعانون نقصاً معرفـياً فـي إدراك الـمعنى الـمقصود من هذا الإصلاح، إذ يذهب بهم الظنّ (بل اليقين) إلى أن الـمقصود به إعادةُ النظر فـي نصوص الدين (= كتاباً وحديثاً) والتصرُّف فـيها بترخيص مفتوح! ولعلّ هذا النوع من الاعتقاد تَعَاظَم، فـي الآونة الأخيرة، منذ أحداث أيلول/سبتمبر 2001 – فـي نيويورك وواشنطن – وانطلاق الدعوة الأمريكية الخرقاء إلى وجوب إصلاح منظومة برامج التعليم الديني من طريق حذف الآيات القرآنية التي تحضّ على الجهاد وتُعلّـم الناشئة كراهية الآخر. وهكذا فالجِيل الراهن من رافضي فكرة الإصلاح إنما ينهل معناهُ من هذه الرؤية الأمريكية الـمحافظة، الـمبتَذلة والرثّة، إليه. ولكنّ هؤلاء الذين يحتجّون على الفكرة، إنما يفعلون (ذلك) دفاعاً عن مواقع لهم يقتاتون منها، ومصالح يحرصون عليها أشدَّ الحرص، هي مواقع: سدانة الـمقدّس! هؤلاء يفترضون أنفسهم «حراساً للدين»؛ وتمنحهم السلطة الانتهازية‏[2] شعوراً بأنهم ينهضون بتلك الوظيفة. وليس لـمثل هؤلاء مصلحة فـي إصلاحٍ يعيد النظر فـي دورٍ وهمي يقومون به.

فـي أفضل أحوال الرفض لفكرة إصلاح الـمجال الديني، يذهب البعض إلى تبرير رفضه بالقول إن الفكرةَ مأتاها من اتّباعيةٍ، فـي الوعي والنموذج، لدى الداعين إليها ساقطةِ الـمشروعية لاختلاف الأحوال. إنّ دعاة إصلاح الـمجال الديني، فـي نظر أصحاب هذه الـمقالة، ليسوا أكثر من مقتاتين من الثقافة الغربية، ومتعيِّشين من النموذج التاريخي للتطوُّر الأوروبي منظوراً إليه، من قبلهم، بوصفه نموذجاً كونياً. إن دعوتهم صدى لدعوات سابقيهم (= النهضويين العرب) إلى الاقتداء بذلك النموذج الأوروبي بما هو مثال الـمدنية الحديثة. ولـمّا كانت هذه الـمدنية شهدت حركة إصلاحٍ ديني فـي القرن السادس عشر، فإن الاقتداء بها يستلزم، حكماً، استدخال فقرة الإصلاح الديني فـي برنامج عمل النهضة والتقدم، من دون مراعاة الفارق بين أحوال أوروبا والغرب وأحوالنا. ولا مِرْية فـي أنّ مقالةَ هذا البعضِ من رافضة فكرة الإصلاح الديني (هي) ما يستحق النقاش من سائر مقالات أولئك الرافضة؛ فلدى البعضِ ذاك – على الأقل – حُجَج يُجادَل فـيها، وهو يملك قدراً من الإدراك لـمعنى الإصلاح الديني يجافـي ذلك الفهم الـمبسَّط، لدى الأكثرين من أولئك الرافضة، الذي (= أي الفهم) يَقْرن الإصلاح بالإتيان على نصوص الدين بالتحريف!

لكنّ مشكلة هذا الفريق من مناهضي فكرة إصلاح الـمجال الديني، باسم نقد الاتّباع والتّغرْبُن، تكمُن في أنه لا يكتفـي بالطعن على ما يعتبره سوء قياسٍ فـي آلةِ النظر عند دعاة الإصلاح، وعدم مراعاة أحوال الفارق بين وضع الدين فـي مجتمعات أوروبا ووضعه فـي الـمجتمعات الإسلامية، بل يذهب إلى الإفصاح عن مخافتين متلازمتيْن، يَحْمِل عليهما التأمُّل فـي تاريخ الإصلاح الديني فـي أوروبا وما نجم عنه من نتائج: أولاهما أن يُحْدِث أيُّ إصلاحٍ دينيّ انشقاقاً جديداً فـي الإسلام – شبيهاً بالانشقاق الذي حصل فـي الـمسيحية اللاتينية والكنيسة – ينضاف إلى انشقاقات كثيرة حصلت فـي تاريخ الإسلام، منذ نهاية النصف الأول من القرن الهجري الأول. وهذا إن حَصَل، لن يكون إصلاحاً للدين بل إفساداً له؛ وهو – عندهم – سيحصل لا محالة لأنّ الإصلاح الديني لن يكون موضعَ إجماع الـمسلـمين وعلـمائهم كافة، بل سيسير فـيه بعضٌ منهم دون آخر. والأدعى إلى الخشية، عندهم – فـي هذه الـمخافة – أن يقع لذلك الإصلاح الديني ما وقَع له فـي أوروبا؛ حيث خرج من رحم حروب ومآسٍ امتدت لـمئة عام؛ وهو ما سيعني إضافة الفتنة إلى حالة الانقسام، أو التعبير عن هذا الانقسام فـي صورة فتن جديدة. وثانيهما أن يقود إصلاح الـمجال الديني – مثلـما قاد فـي أوروبا – إلى العلـمنة؛ وهذه، فـي عُرفهم، مجافـيةٌ لروح الإسلام وطبيعته من حيث هو، فـي الوقت عينه، نظامٌ للدين ونظام للدنيا، لا تنفصل فـيه الثانية عن الأول، كما لا تنفصل فـيه الدولة عن الدين‏[3]. والاعتقاد الرائج عند ذلك البعض أن فكّ الارتباط بين الدولة والدين ممكن فـي عقيدةٍ يقول مؤسِّسها «اعطِ ما لله لِله وما لقيصر لقيصر»، فـيما هو غيرُ ممكن فـي عقيدةٍ تشدّد على وجوب الحكم «بما أنزل الله».

والحقُّ أنّ الـمخافةَ الأولى من أن يؤدّيَ أيُّ إصلاح إلى انشقاقٍ جديد غيرُ ذات معنى، لأنها تتجاهل حقيقةً فـي تاريخ الأديان كافة؛ هي أن تاريخَها تاريخ انشقاقات‏[4]، وأن هذه لـم تعرِّض وحدةَ الدين الواحد إلى انقسامٍ، بل عرَّضتِ الـمذاهب الـمُنْشَقِّ بعضُها عن بعض، هي الأخرى، إلى انشقاقات داخلية تولّدت منها مذاهب جديدة. ولكن أكثر ما يتجاهله مَن يُفصحون عن هذه الـمخافة أن السعي فـي استعادة وحدة الدين من طريق «إبقاء دار لقمان على حالها»، ضربٌ من الـمحال، ولن تكون نتيجتُه سوى الـمزيد من تفسيخ الـمذاهب الدينية القائمة نفسها، ذلك أن الجمود والانسداد وهيمنة الإيمانية النصّية، وازدياد الفجوة بين وعيٍ ديني منغلقٍ وراكد وواقعٍ اجتماعي وقيمي ومادي وتكنولوجي متحوّلٍ وعاصف، لن يكون من نتائجه سوى زرع بذور الشرخ داخل «وحدة» الـمذهب الديني الواحد. مَن يستطيع، اليوم، أن يزعم أن «مذهب آل البيت» موحَّد؛ فشيعتُه (= الإمامية نفسها) موزَّعة بين أتباع نظرية «ولاية الفقيه»، وأتباع ولاية الأمّة على نفسها، وأتباع الفكرة القائلة بالولاية الجزئية، الـمتعلقة بالأحوال الشخصية، وترك أمور السياسة لـمن يتصدى لها فـي انتظار الفرج (= انتهاء «الغيبة الكبرى» وعودة الإمام الغائب)؟ بل من يستطيع، اليوم، أن يتحدث عن وحدة مذهب «أهل السنّة والجماعة» بعد أن تكوّنت، فـي أحشائه، تيارات الـمكفِّرة والغلاة الـمتطرفـين؛ التي تكفّر علـماء السنّة وجمهورها، وتعلن «الجهاد» على رجالاتهم ومؤسساتهم، ناهيك بما لا عَدَّ له ولا حصر من الخلافات الفقهية والكلامية بين مذاهبهم الفرعية؟ وهكذا لا يقود الجمود والانغلاق إلّا إلى مثل هذه الأحوال من التهرّؤ والتفسخ.

وربما لا يقود إصلاح الـمجال الديني إلى إعادة بناء وحدةِ دينٍ من الأديان، ولكنه – قطعاً – يبعث فـيه دينامية التطوّر الداخلي. هذا، بالذات، ما حصل فـي أوروبا؛ لـم يُفْضِ الإصلاح الديني إلى توحيد الفهم وتوحيد الكنائس، لكنه أعاد الدين إلى أهله (= الـمؤمنين) بعد أن صادره رجال الدين طويـلاً لترسيخ سلطانهم، وضخّ فـيه روح الاجتهاد والتجديد. ولـم تكن البروتستانتية وحدها مَن استفاد من هذه الدينامية التطويرية، وإنما لحقت بها، فـي ذلك، الكنيسة الكاثوليكية ولو متأخرة. لـم تتوحد الـمسيحية بالإصلاح الديني، لكنها تطورت من الداخل به، وباتت قادرة على إجابة تحديات العصر الحديث الراهن وأسئلته.

أما ـمخافة فك الارتباط بين نظام الدنيا ونظام الدين فلا معنى لها؛ لأنّ الـمؤمن بعقيدة الإسلام يكيّف سلوكه وأفعاله الشخصية مع تعاليم الدين ومنظومة القيم الأخلاقية التي يحثّ عليها وليس لأحدٍ حقّ التدخل فـي اعتقاده. لكن ذلك يقع، حصراً، فـي نطاق الإيمان والسلوك الفرديَّيْن، أما فـي الحياة العامة، حيث الولاية للدولة لا للفرد، فالأمر يختلف؛ لأن نظام الدولة غير نظام الدين: نظامها نسبي متغيّر، وبشريّ، قائم على الـمصالح الجامعة، فـيما نظام الدين مطلقٌ، ثابت، قائم على الإيمان. الدولةُ دولةُ الـمواطنين، والدين دينُ الـمؤمنين. وقوانين الدولة تعبير عن الإرادة العامة للـمواطنين، الذين قد يكونون من أتباع أديان ومذاهب مختلفة داخل الوطن الواحد، أما تعاليم الدين فتعبير عن إرادةٍ متعالية لا دخل لتوافقات الناس فـيها.

باستثناء تجربة الدولة النبوية، كما يسمّيها هشام جعيط‏[5]، أو الحكومة الثيوقراطية، كما يسميها يوليوس فلهاوزن‏[6]، لـم يشهد تاريخ الإسلام تماهياً بين الدين والدولة، كما حصل فـي أوروبا الـمسيحية الوسطى، وإنما عرف أشكالاً من الانفصال والتمايز. حَكَم الخلفاء والسلاطين والأمراء والـملوك ولـم يحكم الفقهاء ورجال الدين. وهُم إذا كانوا قد احتاجوا إلى الشرعية الدينية، فالفارق كبير – بحيث لا يخطئه عاقل – بين شرعية دينية لحاكم مدني و(بين) إقامة ذلك الحاكم الدولةَ والسلطةَ على أساس تعاليم الدين وتشريعاته.

ثانياً: فـي الـمجال الديني ومسوِّغاتِ إصلاحه

ما الذي نعنيه بالـمجال الديني الذي ندعو إلى إصلاحه؟

نطلق هذا الإسم على ميدانٍ واسع من الـمعطيات الدينية أو الـمرتبطة بالسياسات الدينية فـي مجتمعٍ أو مجتمعات بعينها (= الـمجتمعات العربية والإسلامية فـي حالتنا)؛ وهي مزيج من معطيات فكرية؛ تتعلق بنوع الصلة التي ينسجها الوعي بالدين (= الفهم الديني أو فهم النصوص الدينية)، ومن معطيات اجتماعية – سياسية؛ تتعلق بنوع السياسات التي تنهجها الدولة فـي إدارة الشؤون الدينية. والعلاقة بين الأمرين مفتوحة على نتيجتين مختلفتين: تتقدم السياسات الدينية فـي مجتمع ٍودولة كلـما تطورت مستويات الصلة بين الوعي والنصّ الديني؛ وتطوُّر هذه الصّلة يتولّد – أو تتولَّد ممكنات لها – من النجاحات الإيجابية التي قد تحرزها تلك السياسات الدينية. والعكس صحيح: كلـما انحطّ مستوى صلة الوعي – الفردي والجماعي – بالدين، عَسُر على السياسات الدينية أن تأخذ مساراً إصلاحياً، وعُسْرُ هذه يعيد إنتاج الصلة غير الصحّية عينها بين الوعي والنصّ، بين الفكر الديني والدين.

من الواضح، هنا، أننا لا نُدمِج، تحت عنوان الـمجال الديني، الـمسائل التي تتعلق بالإيمان، الفردي والجماعي، بمطلقات الدين وكلياته، ممّا يدخل فـي نطاق الدراسات الثيولوجية؛ أو الـمسائل الـمتعلقة بالتعبُّديات وشعائرها وفروضها الشرعية (والفقهية)، ممّا يهتم به الفقه، على الرغم من حاجتنا الـماسة إلى علـم كلام جديد يدشِّن تفكيراً عميقاً فـي مسألة الإيمان، انطلاقاً من مكتسبات الـمعرفة الفلسفـية الحديثة والـمعاصرة؛ ومن حاجتنا إلى فهمٍ جديد لنصوص الشريعة فـي ضوء أحكام التطور الإنساني، وإلى تفكيرٍ جديد فـي النظام الشعائري الديني ودلالاته الفردية والجماعية… إلخ. إنّ الذي ينصرف إليه حديثُنا فـي الـمجال الديني، هو تلك الجوانب التي تتولّد منها تصورات – فردية وجماعية – حول الدين، أو تتولّد منها أفعال فـي مجال تنظيم شؤونه داخل الـمجتمع؛ وبكلـمة، ينصرف إلى التفكير فـي: الوعي والـمسؤولية.

نميّز فـي الـمستوى الأوّل، مستوى الصلة بين الوعي والنصّ، بين حالتين من العلاقة بين الـمؤمنين والنصّ الديني؛ حالة فردية، فكرية هي حالة الفهم؛ وأخرى مؤسَّسية، هي حالة التوسُّط الفقهي أو العُلَـمائي بين الـمؤمنين والنصّ. الحالة الأولى طبيعية، وتكمَن فـي أساس كل علاقة بين الناس والنصّ الديني الذي يعتنقون تعاليمه؛ وهي توجد فـي الأديان كافة: التوحيدية وغير التوحيدية، بما فـيها الأديان التي لا كتاب فـيها؛ وإنما تعاليم أخلاقية كمعظم الأديان الآسيوية‏[7]. أما الثانية فكهنوتية ليست من تعاليم الإسلام، لكنها من حقائق تاريخه الديني التي فرضت نفسها على يوميات الـمسلـمين، حتى باتت – عند أكثرهم – من أصول الدين!

1 – وعيُ النصّ ومستوياتُه

تصنيف مستويات الوعي الديني، أو وعي التعليم (= من التعاليم) الديني، هو مما دَرَجَ مفكرو الإسلام على الاعتناء به: إمّا تعييناً لوجوه النظر إلى الدين، قَصْد رسم خريطة إيبيستيمية – بلغة اليوم – لجهات الفهم، أو مفاضَلةً بين نوعٍ من النظر وآخر إلى نصوص الدين. نكتفـي، هنا، بمثالٍ واحد هو التصنيف الرشدي للـمعرفة الدينية ومراتبها‏[8]؛ فهذه عنده، إما خطابية، يحملها جمهور الـمسلـمين قاطبة، وتتميّز بقيامها على معطيات ظاهر النصّ ؛ أو جدلية، تنحصر فـي أوساط الـمتكلـمين، وتقوم على آلية التأويل الكلامي للنصّ؛ أو برهانية خاصة بالفلاسفة، ومدماكُها التأويل البرهاني. للوهلة الأولى يبدو التصنيف الرشدي تفاضلياً، معيارياً، من حيث ترجيحُه يقينيةَ الـمعرفةِ البرهانية قياساً بالـمعرفة الجدلية، نظيرَ ترجيحه يقينيةَ القياس العقلي (الأرسطي) على القياس الفقهي‏[9]، فـيوحي أن بين الأصناف الثلاثة من الـمعرفة تراتباً، وتفاوتاً، فـي القيمة يعلو كلـما صعدنا من الـمعرفة الخطابية، ويدنو كلـما نزلنا من الـمعرفة البرهانية. وهذا صحيحٌ وإنْ صحَّةً مضمرَةَ التعبير عنها. ولكنّ الصحيح، أيضاً، أنّ النقد الرشدي لـم ينصرف إلى الـمعرفة الخطابية، كما تفترض معياريتُه التفاضلية، وإنما إلى الـمعرفة الجدلية التي لا لون لها، عنده، ولا طعم، ولا مكان‏[10]، والتي مضارُّها على الدين أكثر من منافعها‏[11]. والأصحّ من الـملاحظتين السابقتين أن ابن رشد يلتمس الـمشروعيةَ للـمعرفة الخطابية، وينافح عن نصابها فـي فهم الدين، ويشتدّ على الـمتكلّمين فـي موقفهم منها. هكذا سينتهي ابن رشد إلى ما انتهى إليه بعده، بخمسمئة عام، الفـيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا فـي قراءته «العهد القديم»‏[12] وما كتبه عنه الثيولوجيون اليهود، خاصة متأوّلة النصّ الديني عقلانياً مثل ابن ميمون.

ينتظم موقفُنا فـي الـمسألة؛ مسألة علاقة الـمسلـم بالنصّ أو التعليم القرآني، فـي النطاق الذي رسمه ابن رشد قبل خمسين وثمانمئة عام، والذي يقضي بالاعتراف بمشروعية الفهم العام الـمباشر للنصّ من قِبَل عامّة الـمسلـمين، وعدم جواز التدخّل لتغييره من فوق، أو بالقسر، أو باسم سلطة الحقيقة والفهم «القويم» للدين، للأسبابِ عينِها التي ألحَّ عليها ابن رشد – وسبينوزا من بعده – ومنها، خاصةً؛ أنّ الوحيَ يخاطب العموم لا الخصوص، الجمهورَ لا النخبة (= الخاصّة فـي لغتنا)، وهو – بالتالي – يتوسَّل التمثيل، والتشبيه، والقصص، والـمجاز ويؤدي ظاهرُهُ إلى معانيَ يسيرةَ الوصول إلى الجمهور الـمتلقي؛ ومنها أنّ التدخل فـي هذا الفهم العامّ بالتأويل يُبْطِل، فـي وعي الناس، معنى الظاهر من غير أن يثبت فـيه الـمعنى الـمؤوَّل لتعذُّر فهمه عند الجمهور؛ وهو ما يفضي إلى زعزعة إيمان ذلك الجمهور. وليس ضرورياً، هنا، أن يشاطر الـمرءُ ابنَ رشدٍ فـي قسمته النصّ (القرآني) إلى ظاهر وباطن حتى يوافقَه الرأيَ فـي ما ذهب إليه من دفاعٍ عن مشروعية الفهم العمومي لنصوص الدين (أو ما ندعوه، نحن، بالحقّ فـي الصلة العمومية الـمباشرة بالنصّ الديني)؛ فالـمشروعيةُ تلك ليس مأتاها من النصّ (أو من تنزُّلِهِ ظاهراً وباطناً)، وإنما من تفاوتِ درجات الفهم لدى الـمتلقين. سوف نرى قيمة هذه الأطروحة (الحق فـي فهم الدين لدى الجميع من غير تدخُّل) حين نأتي إلى بحث مسألة الـمؤسسة.

ليس الـمقصود بجمهور الـمؤمنين، فـي خطابنا، جمهور العوام الأمّيين وإنما سائر مَن يقيمون علاقَتهم بالنصّ على الإيمان والتصديق، ويدخل فـي جملتهم الـمتعلّـمون من غير الـمختصّين بالدراسات الدينية (الإسلامية)؛ فهؤلاء (الـمتعلـمون) ليسوا مجبَرين – حكماً – على أن يحتازوا ثقافة دينية أو ثقافة فـي الدين على مثال احتياز الـمختصّين لها. وإلى ذلك نضيف أن الثقافة الإيمانية مشتَركٌ جامع بين فئات الناس جميعاً: جاهِلِها وعالِـمِها، وليست تنحصر فـي فئةٍ منهم بعينها، وقد لا يتجاوز الـمعلومُ منها عند علـماء الطبيعة، مثـلاً، ما هو معلومٌ عند عامّة الـمؤمنين؛ وقد انتبه ابن رشد نفسه إلى أن الـمعرفة الخطابية معرفة عامة يشترك فـيها العموم. وعليه، حين نستخدم مفهوم النخبة أو النخب، ففـي معنًى محدودٍ جدّاً؛ حيث نقصِد بها النخبة الدينية – الفكرية، أو النخبة التي مدارُ تفكيرها على مسائل الدين. وهذه نميّز فـيها بين نخبة تقليدية؛ تتوسل معارفَ وأدواتٍ تقليدية، ونخبة حديثة؛ متشبّعة برؤًى حديثة إلى مسائل الدين، ومالكة لـمناهج حديثة فـي تحليل النصّ الديني، والخطاب الديني، والظاهرة الدينية. تتألف الأولى من اللاهوتيين (الكلاميين) والفقهاء، والـمتصوفة؛ وتتألف الثانية من الباحثين فـي تاريخ الفكر الإسلامي، وتاريخ الأديان الـمقارِن، وعلـم الاجتماعي الديني، وسوى ذلك من تخصصات فـي ميدان الإسلاميات (Islamologie).

حين نشدّد على مشروعية هذا الفهم الأوَّلي العامّ للنصّ الديني وتعاليمه، فلأنّ الدين لا يطلب أكثر من الإيمان؛ أي من التسليم بكلّيات الوحي وأساساته العَقَدية واستبطانها فـي الشعور الفردي. وليس الإيمان سوى التصديق بالتعليم الـموحَى به. وليس من إيمانٍ دينيّ يُبْنى على العقل إلّا إذا كان الـمقصود أن يُستَدلّ برهانياً على صدق الـمقدمات بما هي مسلّمات. إن وجود الله والـملائكة واليوم الآخر ليس مما يهتدي إليها العقل بالتلقاء، وإنما ممّا يُخْبِر عنه الوحي. ولذلك تستوي الأفهام، على تفاوُتها، أمام الـمعطى الديني الإيماني. غير أن ما يجوز لعموم الناس، لا يصْدُق على مَن يقيم صلةً علـمية بالشأن الديني: نصّاً، وجماعةً، وتاريخاً، ومؤسسات، وفكراً… إلخ، أعني اللاهوتيين والفقهاء والدارسين فـي ميدانيْ تاريخ الفكر والإسلاميات؛ هؤلاء الذين عليهم أن يجدّدوا فـي فكرهم ومناهجهم لإنتاج نظرة جديدة إلى التاريخ الإسلامي، وإلى مكانة الدين فـي الحياة الفكرية والثقافـية والاجتماعية، ماضياً وحاضراً، وإلى الصلات الفردية والجمعية بالنصّ؛ مثلـما عليهم أن يجدّدوا، منهجياً، النظر إلى النصّ فـي تاريخيته، وفـي سياقات التحولات التي تعيشها الـمجتمعات العربية والإسلامية تحت ضغط الحداثة، ووطأة أسئلتها الحادة وتحدياتها.

نحن، هنا، أمام الحاجة الـمعرفـية إلى فهم جديد للدين، يناسب مستوى تطوّر الفكر الإنساني، وما حصل فـي مجراه من ثوْرات معرفـية ومنهجية من جهة، ويناسب – من جهة أخرى – مستوى التغيُّر الطارئ فـي الاجتماع الإسلامي: سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وثقافـياً، والـمعضلات الجديدة التي يخلقُها ذلك التغيُّر. لا يستجاب لـمثل هذه الحاجة الـمعرفـية من دون إنتاج استراتيجية علـمية متكاملة لإعادة قراءة تراث الإسلام فـي ضوءٍ منهجيّ جديد، ولبناء إشكاليات جديدة للبحث غير مطروقة. والعمليتان معاً مترابطتان، من الناحية الإيبيستيمية، ومتكاملتان، ويمثل التقدُّم فـي إنجازهما تقدُّماً فـي إحداث «ثورة كوپرنيكية»فـي الفكر الإسلامي؛ تُخرِجه من عوائقه الـمعرفـية، وتفتحه على التحوُّل إلى فكرٍ نقديٍّ وتاريخي.

تفترض إجابةُ هذه الحاجة وتحقيقها العملَ الـمتوازي على جبهات فكرية مختلفة نرصد منها، هنا، ثلاث جبْهات:

أوَّلها تأهيل العلوم الدينية التقليدية من فقهٍ، وكلامٍ، وتفسيرٍ… بالـمناهج الحديثة: التاريخية، والنقدية، والتأويلية (= الهيرومينوطيقية)، واللسانية…، لإعادة إعمارها علـمياً، وتحريرها من قيودها العقلية الكابحة، وإخراجها من حال الجمود التي أوقعها فـيها تمسُّكها، غيرُ الـمبرّر بمناهج القدماء وأصولهم فـي تقرير الـمسائل، وطرائقهم فـي العرض والاستدلال. إنّ ثورةً كبيرةً حصلت، وتحصل، فـي دائرة الفكر الديني الـمسيحي واليهودي منذ القرن الثامن عشر، بتأثيرٍ من الثورة الفكرية الفلسفـية فـي القرنين السابع عشر والثامن عشر، ومن ميلاد العلوم الإنسانية والاجتماعية وثوراتها الـمنهجية منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولقد أدخلت ثورةُ الفكر الديني فـي أوروبا – البروتستانتية ابتداءً ثم الكاثوليكية تالياً – علـماء اللاهوت وتفسير الكتاب الـمقدّس فـي قلب هذه التحوّلات الـمعرفـية كشركاء فـيها، حتى إن بعض مناهجهم فـي تأويل النصّ انتقلت من مجال دراسات العهد القديم والأناجيل إلى مجال النقد الأدبي، إلى تحليل الخطاب، إلى التاريخ الـمقارن. لا يُعْقل، بعد كل هذا التقدم الهائل الذي أُحرِزَ فـي مجال الفكر الديني اليهودي والـمسيحي، أن يظل الفكر الإسلامي فـي دوائره التقليدية الـمحافظة – وهي الغالبة عليه – يجتر يقينيات فقهية جامدة، ويعيد إنتاج مناهج محنَّطة بشكلٍ مكرور، ولا يخرج «التفكير» فـيه عن نطاق تلخيص «الأصول» وشرح الشروح، وكأن الحقيقة الـمطلقة قيلت بلسان زيدٍ أو عمرو من أئمة مذاهب الفقه والكلام أو من الـمفسّرين، ولـم يعد لأحدٍ بعدهم إلّا الخرس! وكأن ما قالوه ليس رأياً رأوه أو اجتهاداً انتهوا إليه، بل وحيٌ منزَّل! إنّ التعالي بنصوص الأئمة إلى مستوى الـمقدس خطأ فادحٌ فـي حقّ الفكر الإسلامي، بل فـي حقّ الإسلام، وتخليطٌ غير مشروع بين البشريّ النسبيّ وبين الدينيّ الـمتعالي.

يتساءل الـمتابعون للشأن العام، اليوم، عن تفسيرٍ مُقنِع لظاهرة التطرف الديني، فـي العالـمين العربي والإسلامي، ولظاهرة «الجهاديات» الإسلامية وتحجُّر فكرها وانغلاقه فـي نصية جامدة. ليس في سؤالهم ما يبعث على الاستغراب؛ إذْ من أين خرج هؤلاء سوى من الـمدارس والجامعات التي تُلقِّن الأطفال والشباب ذلك النوع من الـمعرفة الدينية الـمنغلقة، القائمة على العنعنة والفَنْقَلَة‏[13] واجترار النصوص منزوعةً من سياقاتها، وترديد يقينيات لا تعدو أن تكون أفكاراً قَلَّد فـيها الـمقلِّدون قائليها فتحوَّلت، مع الزمن، إلى عقائد! إنّ هذا النوع من «الثقافة الدينية»، السائدة فـي الأوساط الـمحافظة والـمدارس والجامعات، التي ترفع رأي إمامٍ من أئمة الفقه أو الكلام، وتفسيرَ مفسِّرٍ، إلى مستوى النصّ النهائي الـمقدّس، وتجعل الحديث مرادفاً للقرآن فـي الـمكانة أو يعلو عليه، وتعلِّم تلامذتَها وطلّاَبَها الاستظهار والاجترار والنّصوصية، وتنمية روح التعصُّب والحَدِّيةِ فـي الـموقف فـيهم…، هي الثقافة الـمسؤولة عن هذا الانحطاط الـمروِّع فـي العقل الإسلامي الجمْعي؛ الذي يترجم نفسَه فـي أفعال وسلوكيات خرقاء وانتحارية داخل الـمجتمعات العربية والإسلامية. وما لـم تقع إعادة نظرٍ شاملة فـي هذا الانسداد الحادّ فـي العقل الإسلامي، فسيكون على الـمجتمع والثقافة أن يدفعا – لأجيال أخرى قادمة – أفدح الأثمان وأقساها.

وثانيها اقتحام البحث العلـمي، فـي ميدان الإسلاميات، مناطقَ غيرَ مطروقة من قِبَل الدارسين العرب والـمسلـمين الـمهتمين بتاريخ الفكر، ومحاطٌ التفكير فـي قضاياها بكلّ أنواع الحظر: الثقافـي والاجتماعي والسياسي والذاتي؛ وإنتاج إشكاليات جديدة ليس فـي قراءة الـموروث فقط، بل فـي تحليل ظواهر الدين والـمجتمع والسياسة والأخلاق والـمعنى فـي عالـم اليوم؛ واستخدام منهجيات حديثة فـي قراءة النصوص تتوسل مكتسبات اللسانيات، والسيميائيات، والتأويليات الحديثة (= الهرمينوطيقا)، وأدوات تحليل الخطاب، الـمطبَّقة على النصّ الأدبي والفلسفـي والديني فـي الدراسات الحديثة؛ كما واستخدام منهج النقد التاريخي للنصوص، الذي أضاء عدّة حقائق تاريخية كانت فـي حكم الإبهام. وإلى ذلك فإن تأسيس إسلاميات نقدية حديثة يمتنع من دون الانفتاح على مكتسبات العلوم الاجتماعية والإنسانية ومناهجها الحديثة، خاصة علـم الاجتماع الديني، والأنثروﭙولوجيا الدينية، وأركيولوجيا الـمعرفة، وعلـم النفس الاجتماعي، والتاريخ الاقتصادي، وعلـم الأديان الـمقارِن… إلخ. فـي وسع أيّ حيازةٍ علـمية لهذه العُدّة الفكرية والـمنهجية أن تفتح، أمام الباحثين الـمتسلحين بها، آفاقاً للبحث العلـمي فـي ميدان الإسلاميات مجهولة؛ فـي وسعها أن تجعل من اللامفكَّر فـيه مفكَّراً فـيه، ومن غير القابل للتفكير فـيه (Impensable) قابـلاً للتفكير فـيه (إن نحن استعرنا مفاهيم محمد أركون)، على أن يتمتع البحث العلـمي بالقدر الضروري من الحرية، وأن يُحَاط بالحماية من قِبَل الدولة.

ليست هذه الـمهمات ممّا على علـماء اللاهوت والفقهاء أن ينهضوا بها، وإنما هي مما هو مطلوب من الباحثين الـمتخصصين فـي الدراسات الإسلامية، من ذوي الـمنابت العلـمية الاجتماعية والإنسانية والفلسفـية، على الرغم من أن الاستفادة من الـمناهج الحديثة، واستدخالها فـي التفكير الديني هُمَا ممّا هو مطلوب من علـماء الكلام والفقه. انصرمت الحقبة التي كان فـيها الـمستشرقون مَن يوفّرون التجديد والتأهيل الـمنهجي لـميدان الدراسات الإسلامية، بسبب ما كان يعانيه هذا الـميدان من فراغٍ حادّ؛ لقد نشأت أجيال من الباحثين العرب فـي التراث والدراسات الإسلامية منذ عشرينيات القرن العشرين، وقدّم رموزُها مساهماتٍ علـميةً مشهودة. ومع ذلك، ثمة الكثير ممّا لـم يُنْجَز بعد فـي هذا الباب، وينتظر كفاءات جديدةً ترفع من مستوى الـمعرفة بالشأن الديني، من طريق حيازة أجهزةِ مفاهيم ومناهج حديثة، وإنتاج إشكاليات للبحث جديدة فـي مجالات مهمَلة من التراث أو من الحاضر الديني. إن هذه التخمة فـي الدراسات السياسية والسوسيولوجية حول الحركات الإسلامية والأصولية ليست دليل عافـيةٍ علـمية، أو تراكُم فكري، بل هي – على العكس من ذلك – تُفصح عن مقدارٍ هائل من السطحية فـي النظر إلى الـمسألة الدينية؛ باختزالها الدين فـي حركات «الإسلام الحزبي»؛ وعزل الحركات تلك عن سيرورة ثقافـية تمتد، فـي تاريخ الإسلام، منذ البدايات والاكتفاء – بدلاً من العودة إلى الأصول الفكرية البعيدة – بقراءة كتيّبات «أمراء» الجماعات الإسلامية وفقهائها؛ ثم بمنهجها الوصفـي والتقريري فـي تناول موضوعاتها. وليس مثل هذه التقارير الأمنية من البحث العلـمي فـي هذا الـموضوع، ولا – قطعاً – من البحث العلـمي فـي الـمسألة الدينية.

وثالثها إصلاح الـمنظومة التربوية والتعليمية، إجمالاً، وبرامج التكوين الديني فـيها، تحديداً، بما يوفّر للـمتكوّنين التأهيلَ الضروري فـي هذا الـمجال: الـمتناسبَ مع مكانة الدينيّ فـي الحياة الإنسانية، والـمتناسب مع مستوى الـمعارف التي يتلقاها هؤلاء الـمتكوّنون فـي مجالات أخرى (علوم الطبيعة، علوم الـمجتمع والإنسان…). والإصلاح هذا ينبغي أن يمسّ قطاعين فـي هذه الـمنظومة: قطاع التعليم الديني أو الشرعي، وقطاع التعليم العصري على السواء. والانطباع السائد أن نوعية برامج التكوين فـي القطاع الأول أشدّ تردّياً وانغلاقاً وجموداً من مثيلتها فـي القطاع الثاني. وهذا انطباع خاطئ تماماً؛ فالـمضمون التقليدي والـمنغلق لبرامج التكوين الديني فـي التعليم العصري – الرسمي والخاص – لا يقلّ رداءة وتسطيحاً للعقول عن ذاك الذي يقدّمه التعليم الشرعي. الفارق الوحيد أنّ هذا القطاع الأخير لا يقدّم للـمتعلـمين الأدوات والـمفاهيم العقلانية والنقدية، التي يستخدمونها فـي تعديل الـموازين، أو فـي تحقيق الحدّ الأدنى الضروري من التوازن فـي الوعي، لأنه – بكل بساطة – يُخرج من برامجه علوم الطبيعة والفلسفة والـمنطق والعلوم الاجتماعية وعلوم الإنسان و، بالتالي، يَحْرُم جمهورَه الـمتعلـم من فرصة تنمية مصادر الحسّ النقدي لديه، ناهيك بأن كثافة التكوين الديني فـي ذلك القطاع، وشمولَه الـمعظم من العلوم الدينية، يوحي بأنه أَدْعى إلى التجهيل من القطاع العصري. وليستِ العبرةُ، هنا، بكَمِّ ما يُلَقَّن من مادةٍ دينية فـي هذا القطاع وفـي ذاك، وإنّما بنوعها؛ حيث الـمضمون واحد، والـمنهج واحد، والـمآلُ «العلـميّ» واحد: تعطيل الحاسّة النقدية والتاريخية، وتنمية آليات تلقّي متخلّفة (= الحفظ والاستظهار، والاجترار، والنظرة النصّية إلى التعاليم وإلى العالـم، والإيمانية الوثوقية، والتعصب، والفقر إلى التسامح، والـمطلقية فـي التفكير…). ولقد يكون من أدلّة استواء مناهج التعليم الديني فـي الرداءة، فـي القطاعين معاً، أنّ آلافاً – إن لـم نقل عشرات الألوف أو مئات الألوف – من الـمتعصبين دينياً، والـمحافظين فـي تفكيرهم الديني، والحركيين الإسلاميين – هُم من خريجي الـمدارس الثانوية العصرية والكليات العلـمية ككليات العلوم والطب والصيدلة!

ولأن الثقافة الدينية للـمواطنين معلومةُ الـمصادر (التربية الأسْرية، والـمدرسة، والـمسجد والحسينية، والزاوية، والجامعة، والإعلام، والـمنشورات من كتب ومجلّات وصحف…)؛ ولأن فرص الاستثمار السياسي والإيديولوجي والتجاري فـي هذه الـمصادر واسعة؛ ولأنّ التحكّم فـيها خليق بتنشئة جِيلٍ على هذه الثقافة أو تلك، وَجَبَ رفع درجة الانتباه لـمخاطر تَرْك هذه الـمؤسسات على حالها: تُنتج ما تشاء وبالكيفـية التي تشاء، وإعادة إخضاعها لـمنظورٍ ثقافـي وطني جديد بحسبان الدين ملْكيةً جماعية للشعب والأمَّة لا يجوز تفويتُها لفريقٍ من الـمجتمع من دون آخر. ويُهِمُّنا من هذه الـمصادر، فـي هذه الفِقرة بالذات، التكوين والتعليم بما هو الـمصنع الذي تتولَّد منه أجيال من الـمتعلـمين. على الدولة أن تستفـيد من أخطائها الكثيرة التي ارتكبتها، سابقاً، فـي هذا الشأن؛ إمّا بتركها التعليم الديني، فـي الـمدارس والـمعاهد الشرعية وكليات الشريعة وأصول الدين، مهمَلاً يَغُطُّ فـي تخلُّفه ويزداد تردِّياً؛ أو بتركها موادَّه، فـي التعليم الحديث، على حالها من الانغلاق والتحجُّر، مع إسناد تدريسها إلى مدرِّسين تقليديين يعيدون، فـي الـمدارس العصرية، إنتاج نفس البضاعة السائدة فـي الـمدارس التقليدية؛ وإمّا بدافع حاجتها – فـي مراحل سابقة – إلى نشوء جمهورٍ من التقليديين الـمحافظين يواجه اليسار الـمتَّسع انتشاراً ونفوذاً؛ أو تملُّقاً لـمشاعر الشعب الدينية أو للقوى الـمحافظة التي حالفتْها النخبُ الحاكمة. ينبغي لهذا الـموقف الانتهازي الرسمي أن ينتهي، وأن تُقْدِم الدولة على برنامجٍ إصلاحي شامل لقطاع التعليم الديني (وسنترك الحديث فـيه إلى حين)، ولبرنامج التعليم الديني فـي التعليم العصري. وفـي النطاق هذا، على هذا الإصلاح أن يُخضع التكوين الديني فـي الـمدارس العصرية لـمثل ما يَخضع له التكوين فـي العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية: على صعيد الـمضمون التربوي، كما على صعيد مناهج التدريس، قصد ردم الفجوة الرهيبة بين التكوينين، وإخراج الـمتعلـمين من حال التمزُّق فـي الوعي بين الثقافتين التقليدية والعصرية. إنّ أيَّ طموح إلى رفع مستوى صلة الوعي – الفردي والجماعي – بالدين: نصّاً وتعاليم، لا مهْرب له من النهوض بأوضاع التكوين الديني فـي الـمؤسسات التربوية والدينية؛ فهذه لا يتخرّج منها متعلـمون فحسب، بل آباء وأمّهات، وأئمّة مساجد، وإعلاميون وكتّاب يتناولون الشأن الديني. وهؤلاء جميعاً إما أن يُترَكوا فريسة تكوينٍ رديء منغلق ومنتج للتعصب والتطرف، أو أن يُزوَّدوا بتكوين علـمي مناسب يؤهِّلهم لأن يكونوا إيجابيين فـي بيئاتهم الـمحيطة، وفـي الـمحيط الاجتماعي العام.

2 – نقد الوساطة والكَهْنَتَة

كان يحلو لـمحمد أركون أن يصف الإسلام بأنه بروتستانتي فـي تعاليمه، كاثوليكي فـي تجربته التاريخية‏[14]. والتمييز هذا فـي التعريف يَرُدُّ إلى حقيقة الفجوة بين النصّ والتاريخ‏[15]، أو بين الإسلام الـمعياري والإسلام التاريخي بعبارة عليّ أومليل‏[16]؛ وبيان ذلك أن النصّ القرآني يخلو من أيّ إشارةٍ إلى وجود جسمٍ وسيط بين الله والـمؤمنين، غير الرسول، أو بين الـمؤمنين والنصّ الديني، بحيث يعود إلى هذا الجسم أن يكون طريقاً وحيداً لفهم النصّ الديني، أو أن يكون وصيّاً على إيمان الـمسلـم، رقيباً عليه. دينُ الإسلام دين الفطرة، كما يقال: بسيطُ التعاليم وقابلةٌ أوامرُهُ ونواهيه وأحكامُه للفهم العام، ولا حاجة فـيه، بالتالي، إلى وسطاء يتنزّلون منزلة الأوصياء والرُّقباء على مَن يَدينون به. حتى النبيّ، فـي النصّ القرآني، مجرّد مبلِّغ، وما أُعْطِيَ من السلطان على الناس غيرَ البلاغ. وحين كان الـمسلـمون يسألونه الحكمَ فـي مسألةٍ لـم يَرِد فـيها نصٌّ، لـم يكن يقدّم لهم رأياً باسم الدين، أو يتأوّل نصّاً سابقاً يستنبط منه حكماً للـمسألة الجديدة؛ كان – على العكس من هذا كلِّه – يستمهلهم إلى أن ينزل فـي شأنها حكم قرآني. وليس من معنًى لسلوكه سوى أنه يتأبّى التنزُّل منزلة الوسيط بين الله والعبد، لأنه واحد من عباد الله، والحُكْمَ فـي الـمسألة الـمرفوعة إليه حكمٌ إلهيّ للناس وله على السواء، وهو لا يمكنه أن يقوم مقام الله فـي إصدار أحكام الدين.

أ – فـي نقد السرديات السلفـية

هذا ما خصَّ النصّ والتعاليم، ولكن التاريخ جرى مجرًى آخر، فأنجب وجهة أخرى للإسلام هي وجهة الإسلام التاريخي (إسلام التاريخ فـي مقابل إسلام النصّ). القراءة السلفـية لتاريخ الإسلام – وقد بدأت مع تقي الدين ابن تيمية وتلامذته، وتكرّست مع محمد ابن عبد الوهاب فـي القرن الثامن عشر، وطوّرها إصلاحيو القرن التاسع عشر، مثل محمد عبده، والقرن العشرين مثل عبد الحميد بن باديس والطاهر بن عاشور ومحمود شلتوت وعلّال الفاسي – وحدها القراءة التي تحاول مَحْوَ ذلك الإسلام التاريخي؛ أي الإسلام كما فُهِم وعيشَ تاريخيّاً من قِبَل الـمسلـمين، أو تحاول ردّ التاريخ إلى النصّ، أو الإسلام التاريخي إلى الإسلام الـمعياري؛ وفـي هذه القراءة منتهى الطوبوية. ويعلّمنا تاريخ الأديان أنه ما من دينٍ – من الأديان الكتابية – تطوّر فـي التاريخ طبقاً للنصّ الـمقدّس وتناسباً مع تعاليمه، وإنما تحكّمت فـيه عموماً، وبدرجات متفاوتة ومختلفة، عوامل متعددة: اجتماعية، وسياسية، وأنثروبولوجية، وثقافـية، ونفسية… إلخ كيّفت – دائماً – رؤية الناس إلى نصوص الدين مع حاجاتهم الـموضوعية، وتكيفت مع أشكال السلطة والسيطرة التي قامت فـي اجتماعهم. وهو أمرٌ طبيعي لأنّ الدين (= المتعالي) يدخل في التاريخ، ويصبح – بالتالي – تاريخياً يُقْرأ في تجلّياته، فتبدو هذه للمتمسكين بالنصّ وكأنها تحريفٌ للدين. ولذلك قامت فـي كل دين سلفـيات، أو أصوليات تدعي التمسك بـ«جوهر» الدين ونبْذ القشور، وتدّعي السَّيْر على خطّ «الدين القويم» أو «صحيح الدين»؛ فتبدِّع مخالفـيها، أو تُخَطِّئهم، و – أحياناً – تكفِّرهم وتُخْرِجهم من الـملّة وتحرِّض عليهم. وما جميعُ السلفـيات يفعل ذلك فـي الأحوال كافة؛ فـيها ما يكتفـي بالتنبيه إلى «الدين القويم» والتنبيه على البدع والضلالات، وفـيها ما يتعدى ذلك القولَ إلى الفعل فـيقوم بما يعتقد أنه الأمر بالـمعروف والنهي عن الـمنكر فـي صوره التاريخية العُنْفـية.

يُنْظَر إلى هذا الإسلام التاريخي نظرة قدحية من منطلقٍ نصّيٍّ معياريّ فـي الـمقالة السلفـية؛ فـيُوصَم بأنه انحرافٌ عن جادّة الشرع، وتزييفٌ لِـ «جوهرِهِ»، وإحداثٌ بِدْعَويّ (أو ابتداعي) فـيه، ثم يُلاَذ بالأصول بوصفها الـمعتَصَم والـمرجع. وهذه، فـي ما نحسب، نظرة لا تاريخية إلى تاريخ الإسلام، لأنها – بكل بساطة – تلغي التاريخ من التاريخ، وتخترع للـمسلـمين تاريخاً متَخَيَّلاً ومثالياً غيرَ موجود. وهو – كذلك – غيرُ موجود حتى فـي حقبة الصدر الأول من الإسلام (وهي من الأصول)؛ حيث تجارب الإفناء الـمتبادَل فـي الصراع على السلطة والثروة‏[17] بين الصحابة – بعد وفاة الرسول – تنال من تلك الصور الـمثالية الـمتَخَيَّلة لتاريخٍ «مرجعي» عاشته الجماعة الإسلامية الأولى. ومن الـمفهوم أنّ النظرة السلفـية إلى الإسلام، الـمنتصرة للتعاليم على حساب التاريخ، ولتاريخ الصدر الأول على حساب التاريخ اللاحق الـمديد، إنما كانت تتغيّا إعادة بناء وحدة الجماعة الإسلامية على مستوى الذهن والـمرجع، بعد انقسامها الطويل فـي اجتماعها الديني والسياسي، لكنها فعلت ذلك – أو تطلعت إلى بلوغه – بثمنٍ كبيرٍ: مَحْوِ التاريخ الفعلي (= التاريخ التاريخي) وإنشاءِ تاريخ افتراضي: مثاليّ ومتخيَّل، والحكمِ على ماضي الـمسلـمين حكماً معيارياً لا حكماً واقعياً.

مع ذلك، حملتِ الدعوةُ السلفـية الحديثة والـمعاصرة – فـي صيغتها الإصلاحية النهضوية مع محمد عبده وتلامذته – نظرةً رصينةً إلى مسألة الإصلاح الديني‏[18]، لا مجال لإنكارها. ولقد تمحورت حول فكرتين رئيستين: نقد الوساطة بين النصّ والـمؤمنين، والتشديد على العلاقة الـمباشرة بين العبد والله، بين الـمسلـم وتعاليم الدين، ثم نقد السلطة الدينية بما هي بدعة غريبة عن تعاليم الإسلام. ونافل، هنا، أن يقال إنّ محمد عبده هو أوّل من دشَّن القول‏[19] فـي هذا الإصلاح الديني، وتابَعَهُ فـيه عليّ عبد الرّازق فـي نقده نظامَ الخلافة‏[20]، فـي الوقتِ عينِه الذي كان فـيه محمد رشيد رضا – تلـميذ محمد عبده – ينقلب على فكر أستاذه، وعلى تراث الإصلاحية الإسلامية‏[21] – فـيعيد إحياء القول بها‏[22]! وليس يُسْتَبْعد أن تكون الفكرةُ تلك قد تبلورت، فـي وعي الإصلاحية الإسلامية، تحت تأثير أفكار الإصلاح الديني فـي أوروبا، وتردُّد أصدائها فـي البلاد العربية، فـي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطالع العشرين؛ الفترة التي بَلَغَ فـيها تفاعُل الوعي العربي بالوعي الأوروبي ذُراه. وهذه الفرضية – التي ينبغي أن يُبْحَث فيها بحثاً متأنّياً – غيرُ مستبعَدة عندنا؛ فلدينا عليها، على الأقل، قرينة هي اجتماع فكرتَي الإصلاح البروتستانتية والإسلامية النهضوية على مسلّمة «العودة إلى الأصول» بما هي تجديدٌ للدين، وتنقيةٌ له من الشوائب، واستعادته في نقائه.

سنسجّل لهذه الإصلاحية الإسلامية مأثرتها الفكرية فـي الدعوة إلى إصلاح دينيّ، وجرأتَها فـي القول بذلك فـي محيطٍ تقليديٍّ محافظٍ ونابذ، من دون مشاطرتها مقدِّماتها «الفكرية»، التي أسَّست لتلك الدعوة فـي خطابها، وبالذات لتلك القراءة غير التاريخية لتاريخ الإسلام التي عليها مَبْنَى سلفـيتها. سننطلق، بدلاً من ذلك، من الاعتراف بأنّ تاريخ الإسلام كان ما كانَهُ، بفعل العوامل التي صنعَتْهُ، وما كان له إلّا أن يكون ما كان لأنّه محكوم بعوامل الاجتماع الإنساني – التي أدركها ابن خلدون بنباهةٍ – لا بعوامل الدين حصراً، ولا بمفعولية النصّ الديني تخصيصاً. وكما لا نملك أن نستعير تاريخاً آخر، أو نخترعه أيديولوجياً وتخييلياً، كذلك لا نملك أن نَمْحُوَ ذلك التاريخ محواً لـمجرَّد أنه لا يطابق نموذجاً معيارياً فـي أذهاننا.

ما الذي يعنيه هذا النقد للرواية السلفـية لتاريخ الإسلام، والتشديد على وجوب قراءته قراءة تاريخية ووضعانية لا قراءةً معيارية؟

إنه لا يعني، بحال، الـمصالحة مع ذلك التاريخ والنظر إليه بعين الاعتراف والقبول، بل يعني نَقْده، أو قراءته بمنهج التأريخ النقدي. وإذا ما ترجمنا هذا الـمسعى الـمعرفـي فـي الـمسألة التي نحن بصدد مقاربتها: الوساطة الـمؤسَّسيّة والكَهْنَتَة، قلنا إنّ ذلك التاريخ (هو) تاريخُ إسلام تَكَثْلَكَ، عملياً، من دون أن يكون لبنيته الإكليروسية أساسٌ فـي الدين‏[23]. ولكن علينا، مع هذا الإقرار، أن ندقّق النظر فـي هذه الـموضوعة لئلّا نُماهي، مماهاة لا تاريخيةً، بين حركة التطور فـي تاريخ الإسلام ومثيلتها فـي تاريخ الـمسيحية، ولئلّا نُسقط نموذج العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ فـي التجربة الـمسيحية (الكاثوليكية) على التجربة الإسلامية؛ التي لـم تَقُم فـيها كنيسة، بالـمعنى الحرفـي، لكن بعض الفعل الديني فـيها، أو – للدقة – بعض التصرّف الدنيوي فـي الدين، قاربَ أن يكون على مثالٍ كَنَسي فـي النتائج التي أفضى إليها. ولدينا شواهدُ عدّة، من تاريخ الإسلام، على نشوء كيانات مؤسسية وسيطة – وذات طابع كهنوتي – بين الـمؤمنين والتعاليم الدينية. سنترك، جانباً، نظام الخلافة الذي قام فـي العهد الراشدي، لنعود إليه فـي فقرة لاحقة، مركّزين على مؤسسات «دينية» أخرى كانت لها أدوارٌ كبرى فـي كَهْنَتَةِ الإسلام ورهْبَنَتِهِ.

ب – فـي الـمأسَسَة الدينية وأنماطها

لا بدّ، لفهم الـمأسسة الدينية فـي الإسلام، من الانطلاق – ابتداءً – من قاعدة نظرية، أثبتَتْها الدراسات العلـمية لتاريخ الأديان وتشكُّلات مجالاتها ومؤسساتها، تقول إنه ما من دين – توحيدي وغير توحيدي – لـم تَقُم فـيه، بدرجات متفاوتة، عملية انتقال من التعاليم إلى النصّ الرسمي، ومن النصّ الرسمي إلى سلطةٍ للتأويل، ومن سلطةٍ التأويل إلى مؤسَّسة وصيّة على الـمعنى الرسمي «الـمجَمْع عليه». يَختلف شكل هذه السيرورة من الانتقال من نموذج ديني وتاريخي إلى آخر؛ قد تكون الدولة مَن يضع ذلك النصّ الرسمي، ويفرضه بما هو النصّ الـمعتَمد، وقد تكون طبقة رجال اللاهوت والشريعة من يُقِرّه ويفرضه. وقد تعود سلطة التأويل والتفسير إلى أفراد مجتهدين مستقلين عن السلطة، وقد تعود إلى جسم عُلَـمائي مأذون (= من السلطة)، كما قد تعود إلى الحاكم الجامع بين السلطتين الزمنية والدينية. وأخيراً قد تكون الطبقة الوصية على الفهم الرسمي للنصّ طبقة دينية مستقلة عن السلطة، أو طبقة دينية مرتبطة بها، وقد تكون طبقة دينية حاكمة سياسيّاً أو تحكُم السلطة السياسية باسمها. إن تاريخ الأديان التوحيدية الثلاثة (اليهودية، والـمسيحية، والإسلام) حافل بالاختلافات والتمايزات فـي عناوين مَن تولوا أدواراً فـي عملية الانتقال تلك، لكنّ الـمشتَرَك فـي ذلك التاريخ – على تبايناته الكثيرة – هو ذلك الانتقال الذي أشرنا إليه.

فـي حالة الإسلام، كانت السلطة السياسية – التي هي نفسُها، آنذاك، السلطة الدينية – مَنْ عاد إليه إقرار النصّ الرسمي للوحي، أو للقرآن، فـي مصحف معتمد من قبل الجماعة الـمسلـمة كافة. لـم يكن ثمة، حينها، فقهاء؛ كان الفقهاء هُم الصحابة. وهؤلاء – كما تشهد بذلك مصادر التاريخ – تداولوا أكثر من نصٍّ للقرآن، واختلفوا فـي الـمحتويات والترتيب، والدولة (= سلطة الخليفة عثمان بن عفان) هي التي تدخلت لحسم الخلاف، وإخراج نص رسمي عهدت بأمره إلى مجموعة – ترأسها زيد بن ثابت – لجمع القرآن وإقرار نصه النهائي.

ولـم تكن السلطة، فـي حالة الإسلام، بعيدة من عملية التفسير والتأويل. صحيحٌ أنّ هذه أتت متأخرةً فـي الزمان بنحوِ قرنٍ من جمْع القرآن، أي بعْد جِيلَي الصحابة والتابعين؛ وصحيح أنّ الـمفسّرين، مثل علـماء الحديث، كانوا أفراداً مجتهدين أدَّاهم اجتهادُهُم إلى ما أدَّاهم إليه، غير أنهم ما كانوا بعيدين من السلطة، ولا وَجَدت فـيهم هذه ما تخشاه. لذلك، ما كان صدفةً أنّ الدول (السلطات) الـمتعاقبة تبنّت مذاهب، بعينها، فـي الفقه والكلام، وسلَّـمت بسلطة التفسير التي فرضت نفسَها (= تفسير الطبري)، واعتمدت – على نحو شبه رسمي – كتب الصحاح الستة أو، على الأقل، صحيحَي البخاري ومسلـم. وهكذا كان الاعتراض على النصوص الـمعتَمَدة من السلطة، بوصفها النصوص الـمرجعية، اعتراضاً على السلطة وعلى الدين على السواء! وآيُ ذلك أن مَنِ اتّخذ غيرها مرجعاً، مثل اتخاذ فقه جعفر الصادق أو كتب الكليني مرجعاً، عُدَّ من الرافضة والباطنية، واستُريب فـي طويته، وحوصرت أفكاره، ونُظر إليه بوصفه مُحْدِثاً فـي الدين ومناهضاً للخلافة…

وأخيراً، لـم تنشأ طبقة دينية فـي الإسلام مستقلة عن الدولة، ووصية على الدين وصاية حصرية‏[24] على مثال ما حصل فـي الـمسيحية الأوروبية الوسطى. ولكن، مع ذلك، قامت تلك الطبقة داخل الدولة، وكنصاب «بيروقراطي» فـيها؛ فكانت تنهض بأدوار إدارة الشأن الديني تحت سقف السلطة وعمـلاً بأمرها. لـم يبلغ الفقهاء (= وهُم طبقة رجال الدين فـي الإسلام) مبلغَ ما كانه رجال الدين فـي الكنيسة، لأن «سلطتهم الدينية» ظلت محدودة – حتى لا نقول شكليةً – ولـم تكن تُستمد من النصّ (= الديني) بقدر ما تُستَمدّ من السلطة التي كانوا فـيها موظفـين (فـي الجوامع، والـمدارس، ومؤسسات القضاء، والوقف، والبلاطات…)، ويكفـي بياناً لذلك أن الفقهاء لـم يَحيدوا – فـي الـمعظم من تاريخ الإسلام – عن القول إن سلطة الشرع تعود إلى الخليفة أو الإمام بمقتضى نظرية الخلافة، أو السياسة الشرعية. ولـم يخالفهم، فـي ذلك، فقهاء الإمامية (= الشيعة)؛ بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك: إلى القول بلزوم الإمامة للدين، ناقلينها من الفقهيات إلى العقائد.

لم يَشُذّ الإسلام، إذاً، عن قاعدة الانتقال تلك – التي عرفتها الأديان كافة كما قلنا – وإن كانت شروط ذلك الانتقال، فيه، وكيفياتُه، وأدوار القوى الـمختلفة فيه، متميزة ومتمايزة. نتأدى من هذه الـمقدمة إلى بحث الـمَأْسسة الدينية التي حصلت في تاريخ الإسلام، وكانت في أساس نقد السلفيات – التقليدية والحديثة – له بوصفه انحرافاً عن جادّة الشرع وتعاليمه.

نعني بالـمَأْسَسَة (Institutionalisation) صيرورة فكرةٍ ما – فردية الـمنشأ – فكرةً جمعيةً محاطةً لا بالتأييد فقط، من قِبَل منِ اعتنقوها أو أخذوا بها، وإنما بأدواتٍ مادية (= اجتماعية، سياسية) وأطرٍ تنظيمية تحوِّل الفكرةَ تلك إلى عقيدةٍ رسمية داخل جماعةٍ ما. الـمَأْسَسَة، بهذا الـمعنى، هي التمكين الـمادي (= الاجتماعي، السياسي) للفكرة، أو توفير الأسباب الـمادية لصيرورتها فكرةً متحققة، أو مهيمنةً في وسطٍ اجتماعي ما. ولكنَّ للـمَأْسسة الدينية معنًى آخر يرتبط بهذا الوجه الأول منها الذي عرَّفناه؛ هو إنتاج الجماعة الـموحَّدة أو الـمتضامنة على مبدإ جامع، وتمايُزها من جماعات أخرى لا تقاسمها الاشتراك في الإيمان بالـمبدإ عينه. والجماعة، في هذه الحال، لا تكون جماعة عضوية لمجرد اشتراكها في اعتناق فكرة جامعة، بل تكون كذلك – أي جماعة – حين يتولَّد في داخلها روابط وأطر مؤسَّسية. على أن هذه إذا كانت شرطاً لصيرورتها جماعة عضوية، فهي ليست شرطاً لتكوُّنها كجماعة.

يفيدنا هذا التعريف في تبديد الاعتقاد الشائع بأنّ الـمأسسة الدينية فِعْلٌ من أفعال السلطة السياسية فحسب – على الأقل في حالة الإسلام – مثلما يفيدنا في التمييز بين أنواع مختلفة من الـمأسسة، وبين ما كان بينها من تناقضات وصدامات في تاريخ مجتمعات الإسلام. لِنميّزْ، هنا، بين أنواع ثلاثة من تلك الـمأسسة التي تتحوّل بها فكرةٌ (رأْي) إلى منظومة عقائد لجماعةٍ تتميّز من غيرها وتتمايز، وتصير حارساً جماعياً للفكرة والكيان العضوي الـمشترك القائم عليها:

أوّل تلك الأنواع من الـمأسسة قيام مذهب فكري على فكرة تأسيسية جامعة. هذا هو الغالب على تاريخ الإسلام الفكري الذي ازدحم بالـمذاهب والـمقالات والـمدارس؛ إنْ كان في العقيدة (= الكلام) أو في الشريعة (= الفقه). تنشأ مسألةٌ ما من مناظرةٍ، أو من تأليفٍ، فيبدي فيها كلاميٌّ أو فقيه أو أصوليّ (= أصول الفقه) رأياً؛ فلا يلبث الرأي أن يخرُج من حيِّزه الفردي الاجتهادي إلى حيث يصبح رأيَ جمهرةٍ من علماء الكلام أو الفقهاء، ثم يتحّول – مع الزمن – إلى رأي جماعة كبيرة (مذهب) تتمذهب به. لم يكن الحسن البصري، وجهم بن صفوان، وواصل بن عطاء، وأبو الحسن الأشعري، وأبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، وجعفر الصادق، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل، والجنيد…، سوى أصحاب أفكار تأسيسية في مسائل الكلام والتشريع والعرفان، تحولت إلى مقالات، وتحوّل القائلون بها إلى أصحاب مقالات، بلغةِ أبي الفتح الشهرستاني‏[25]، ثم لم تلبث أن صارت إلى مذاهب يخالف بعضها بعضاً. هذا مسارٌ قطعهُ الفكر الإسلامي، كما قطعه أيُّ فكرٍ ديني آخر في التاريخ. على أنَّ ما ميَّز هذا النوع الأوّل من التمأسُس أنه أتى في صورة تَمَذْهبٍ فكري؛ مدرسةٍ في الرأي مغلقة على أصولها، متميزة من غيرها. ولم يكن التمذهبُ الفكري هذا سيّئاً كلُّه، كما لم يكن إيجابياً دائماً؛ فَتَحَ باباً أمام الاجتهاد والاختلاف في الرأي، وأمام الـمناظرة والجدل، لكنه – في الوقتِ عينِه – أفضى إلى نتيجتين سيئتين: نمَّى مشاعر التعصب لرأي الـمذهب، لدى أتباعه، ومعها نمَّى الاعتقاد بصحّته الـمطلقة وبضلال من قال بغير رأيه؛ وكان ذلك توطئةً لإنتاج سيْلٍ من أدبياتِ – وأفعال – التبديع والتفسيق والتكفير؛ ثم كرّس، ثانياً، وَهْم التطابق بين حقيقة الدين وفهم الـمذهب لها على نحو لا يكون فيه الانتماء إلى الدين، وفهم تعاليمه الفهمَ الصحيح، إلّا من طريق الإيمان بالـمذهب أو التمذهب له وبه! وهكذا شكّل التمذهب (= الفقهي، الكلامي، الصوفي…) نوعاً من الكَهْنَتَة يجعل الناقل (Transmetteur) (للحقيقة الدينية) سلطةً وسيطة بين النصّ والـمؤمنين.

وثاني أنواع تلك الـمأسسة ما ندعوه التمذهب السياسي؛ وهو يبدأ، في العادة، تمذهباً لفكرةٍ – كالتمذهب الأول – سرعان ما يقع الانتقال إلى التعبير عنها سياسياً: من خلال جماعةٍ مذهبية سياسية. إذا كانت الـمرجئة والـمعتزلة والأشعريةُ والطرقُ الصوفية تدخل تحت تعريف التمذهب الفكري، فإن الخوارج والراوندية والعثمانية وبعض الشيعة (الإسماعيلية مثـلاً) تدخل تحت تعريف التمذهب السياسي. وليس معنى ذلك أنّ الـمُتَمَذْهِبةَ سياسيّاً غيرُ ذواتِ فكر، وأن الـمتذهبةَ فكرياً غيرُ ذَوات تعبيرٍ سياسي؛ فلقد كان للخوارج – والإباضية خاصة – فقهٌ وإنتاج فكري، نظيرَ ما كان للإسماعيلية من فقهٍ وفلسفة، وللزيدية من فقه وكلام (= معتزلي)؛ كما أن بعضَ الكلام القدري والاعتزالي وجد له تطبيقاً سياسياً (= محنة خلق القرآن في الصدر الأوّل للدولة العباسية)، نظيرَ التطبيق السياسي للفكرة الشافعية – وخاصةً الحنبلية – عن السّنّة والجماعة منذ نهاية القرن الهجري الثاني، وخاصة في النصّف الثاني من القرن الهجري الثالث، أو نظيرَ ما كان لآراء بعض الصوفية من تطبيقٍ سياسي بعد صيرورتها زوايا ومؤسسات سياسية تبسُط السلطان على مناطق. ولقد كان لهذا التمذهب السياسي آثارُهُ الكبيرة في ترسيخ الكَهْنَتَة؛ سواء حين كان يمارسُها مادياً – وقهرياً – باسم إنفاذ مبدأ الأمر بالـمعروف والنهي عن الـمنكر، أو حين أصبح سلطةً سياسيةً حاكمة (البويهيون والفاطميون والـموحدون… إلخ) تفرض التأويل والتشريع بقوة جهاز الدولة.

أمّا ثالث أنواع الـمأسسة تلك فهي التي نهضت بأمرها السلطة السياسية من طريق تمكينها الجسم الفقهي من أدوار في مضمار فرض التأويل الرسمي للعقيدة والشريعة. لم يشكِّل الفقهاء في تاريخ الإسلام – كما سبقت الإشارة إلى ذلك – جسماً دينياً مستقلّاً عن السلطة بحيث ينتزع لنفسه السلطة الدينية، نظير ما كان للكنيسة في أوروبا الـمسيحية الوسطى، وإنّما مُنح قدراً من تلك السلطة الدينية مارسها من خلال الدولة، ومن طريق التسليم بأنها سلطة تعود إلى الإمام، لا إلى الفقهاء، وهو (= الإمام) يمارسها متوسّلاً إيَّاهم أدواتٍ وألسنةً. بعد تجاذبات طويلة، يطول الحديث فيها‏[26]، استقر الأمر على مواطأة بين الأمراء والفقهاء؛ لا يتطلع الأخيرون إلى انتزاع السلطان الديني للأوّلين مقابل أن يُشْرَكوا فيه، ولا يُقصي الأوّلون الثانين من أيّ سلطة مقابل أن يَدخل الفقهاء في سلك الدولة، ويُسبغون الشرعيةَ الدينية على السلطان السياسي. استقامتِ العلاقةُ، منذ ذلك الحين، على هذا الـمقتضى؛ تمأسست الـممارسة السياسية للدين من طريق تنزيل الـمؤسسة الفقهية الرسمية منزلة الناطق الرسمي باسم الدين كما تراه السلطة السياسية؛ التي أصبح الفقهاء جزءاً لا يتجزأ من كيانها. لكنّ ذلك أنتج عدّة تبعات: فُرِض هناك تأويل رسمي للنصوص والتعاليم، وبات – منذ ذلك الحين – التفسير القويم الوحيد الذي يُرجَم غيرُهُ بالضلال والابتداع؛ وفُرِض على الناس في المساجد والـمدارس كعقيدةٍ رسمية؛ والنتيجة إقفال الاجتهاد، وقمع الرأي الـمخالف، ووأد الـمناظرة، وحمْل الناس/الـمؤمنين – بقوة التشريع – على فهِم النصّ من خلال الوسيط الذي نزّلتْهُ السلطةُ كذلك (أي وسيطاً)! ومن نافلة القول إنّ هذا النوع الثالث من الـمأسسة كان أشدَّها – جميعاً – في الوطأة؛ ففيه انتقل فهمٌ بعينه للدين – بقوة السلطة وأدواتها وتشريعاتها – إلى حيث حقَّق لنفسه هيمنةً، ليتحوّل إلى ثقافة دينية جمعية؛ الأمر الذي لم يكن في حوزةِ شكليْ التمأسُس الـمومأ إليهما: التمذهُب الفكري والتمذهب الديني – السياسي، الذيْن بقي تأثيرهما محدوداً.

ج – من الـمأسَسة التقليدية إلى الـمأسسة الـمعاصرة

حاولنا أن نَصِف، فـي الفِقْرات السابقة، عملية الانتقال من النصّ إلى الكَهْنَتَة؛ وهي عملية طويلة ومعقّدة فـي تاريخ الإسلام، أسفرت، فـي مطافها الأخير، عن ظاهرة الاستحواذ على الدين من قِبَل مؤسسات (سياسية، دينية) تصارعت طويـلاً عليه، وتطلعت – بدرجات متفاوتة وبنسبٍ من القوة متفاوتة – إلى الاستيلاء عليه؛ على الـمعنى أوّلاً، وعلى الـمتلقين له من الـمؤمنين من طريق الاستيلاء على فهمهم له ثانياً. وقد يقال – حتى مع التسليم بما بَسَطْنا فـيه الحديث – إنّ هذا من التاريخ الـماضي؛ حيث العلاقةُ بين السياسيّ والدينيّ متشابكة لـم تستقم، بعد، على قواعد التحديد والتمييز؛ وحيث للدين السلطانُ الأكبر على الأفراد والجماعات، على النفوس وعلاقات الاجتماع، بحيث يتأتَّى من الاستحواذ عليه أو احتكاره عائداتٌ ماديةٌ ومعنويةٌ جزيلة؛ وحيث علاقات الأمس لا تملك التأثير عينَه – الذي كان لها – فـي يوميات حاضرٍ متغيّرٍ أنجزت فـيه «مجتمعات الإسلام» قدراً من التنظيم لـمجالها الداخلي – بما فـيه مجال العلاقة بين السياسة والدين – غيرَ قابلٍ للإنكار. والاستدراك الاعتراضي هذا غيرُ ذي موضوع؛ لأنه لا يَلْحَظ الاستخدامات السياسية، الجديدة والـمعاصرة، للدين ولا ما يقترن بها من أشكالٍ من الـمأسَسة الدينية جديدة تفوق فـي حدّتها – وفـي خطورتها أحياناً – الـمأْسَسَات التقليدية التي عرفناها فـي تاريخ الإسلام.

تردُّنا هذه الـملاحظة إلى الظاهرة الحديثة للـمأسسة الدينية، التي ستشهدها «مجتمعات الإسلام» فـي الأعوام الـمائة الأخيرة، والتي لـم تكن لها نظائر فـي تاريخه الكلاسيكي؛ ونقصد بها الـمأسسة الحزبية – الدينية. ونحن فـي حديثنا الـمقتضَب عنها، لن نُخرج من التحليل كيانَ السلطة والدولة وما ارتبط بهما من سياسات حول الدين‏[27]، أو من مؤسسات دينية تابعة، وإنما سنستبعد الحديث – أيضاً – عن نموذج العلاقة بين الحزبية الإسلامية التقليدية (الخوارج، القرامطة، الإسماعيلية….) والدين، لاختلاف نموذج «الحزبية الدينية» اليوم عنها.

من الـمعلوم، لدى أيّ دارسٍ لتاريخ «الدولة الوطنية الحديثة» فـي البلاد العربية، أنّ علاقة الدولة – والسياسة – بالدين لـم تنقطع فـي الـمجال السياسي العربي منذ قيام الدولة تلك عقب «استقلالها» السياسي. نقول ذلك على الرغم من أن القواعد التي عليها مبْنى الدولة هذه مدنيةٌ ووضعيةٌ، فـي أعمّها الأغلب، وأنّ أكثرها موروث من الحقبة الكولونيالية وإدارتها الاستعمارية، فـيما قسمٌ آخر منها منحدرٌ من مواريث الدولة السلطانية التقليدية نفسها. تتعدَّد أنماط العلاقة التي نشأت بين الدولة والدين، واستتبَّت، فـي الدولة العربية الحديثة، بين نمطٍ استتباعي – إلحاقي، ونمط استبعادي – إقصائي، وتتعدَّد بتعدُّد تلك الأنماط نصابات الدينيّ ومكانته من الدولة‏[28]. ولكن من الثابت أنّ الجامع الـمشترك بين نموذج الدولة من النمط الأول (السعودي – الـمغربي مثـلاً) ونموذجها من النمط الثاني (البورقيبي – الناصري – البعثي مثـلاً) أنّ كليهما يُفْرِدُ للدين مساحةً ما، حتى وإنِ اختلفت جغرافـيتُها، فـي النظام التشريعي والسياسي. تُسلِّـم، الدولة، فـي معظم الدساتير العربية، بأن الإسلام دينها. ويجري تنزيل هذا الـمبدإ على صعيد الـمنظومة القانونية والتشريعية؛ من إقرار قانونٍ خاص للأحوال الشخصية يتناول قضايا الأسرة والأنكحة والـمواريث وسواها من منطلق الـمنظومة – أو الـمنظومات – الفقهية السائدة فـي ذلك البلد العربي؛ إلى تكريس مؤسّسةٍ رسمية للفُتيا تصدر الفتوى الشرعية الرسمية باسم الدولة؛ إلى إفراد جهاز حكومي خاص (= وزارة) بالشؤون الدينية والأوقاف؛ إلى إقرار نظام للتعليم الديني مستقلٍ عن – وموازٍ لِـ – التعليم الرسمي، والصرف على مؤسساته الابتدائية والثانوية والجامعية من الـمالية العامة؛ إلى إقرار حرية العبادة على الـمذهب أو الـمذاهب السائدة فـي الـمصْر؛ إلى التجريم القانوني لأفعال النّيل من الـمشاعر الدينية أو من الرموز الدينية؛ إلى إدخال الـمواد التعليمية الدينية فـي البرنامج الـمدرسي العصري؛ إلى الترخيص القانوني بنشر منشورات تتعلق بالشؤون الدينية وبالتأليف في أغراضها المختلفة؛ إلى تكريس مساحات فـي الإعلام الرسمي، السمعي – البصري – للبرامج الدينية…، وما فـي معنى ذلك.

القرائن الـمشار إليها، فـي الفقرة السابقة، هي الحد الأدنى الـمشترك – بين النموذجين – فـي مضمار إدخال الدينيّ فـي نسيج السياسات العامّة للدولة. أمّا الحدّ الأعلى فـيتراوح بين الجمع الإسمي بين السلطتين الزمنية ولروحية فـي شخص رئيس الدولة (= أمير الـمؤمنين فـي الـمغرب مثـلاً)‏[29] و(بين) فرض أحكام الشريعة الإسلامية كما فـي السعودية والسودان وقطر. ويُطلِعنا ذلك الحدُّ الأدنى على أنَّ شكـلاً ما من أشكال الـمأْسَسَة الدينية جرى فـي البلاد العربية الـمعاصرة، وفـي نطاق الدولة الوطنية التي طُعِنَ على إسلاميتها من قِبل التيارات الأصولية، وأنّ الـمأسَسة تلك وفّرت عاملَ تشجيعٍ على مزيدٍ من الـمطالبات بتوْسعةِ نطاق استدماج الدين فـي الدولة والشؤون العامة من قِبل مَن حَرِصوا على الحدّ من سلطانها الزمني. أما فـي نموذج الحدّ الأعلى للـمماهاة بين الدولة والدين فبلغت الـمأسسة مبلغاً أطلق أيدي رجال الدين ومؤسساتهم فـي الدولة والـمجتمع، مستفـيدين من حال الطفرة فـي أسعار النِّفط والغاز، فبات لنفوذهم سلطانٌ وشأن فـي بلدانهم ومحيطها وفـي العالـم كلِّه!

سقنا هذه الـمقدّمة لبيان السياقات التاريخية والسياسية التي ستجري فـيها عمليةٌ موازية من الـمأسسة الدينية الحزبية، منذ عقودٍ تسعة من يومنا، كانت نتائجُها أشدَّ سوءاً من أيِّ ضربٍ آخر من ضروب الـمأسسة التي سلكتها السلطةُ ماضياً وحاضراً. وللـمقدمة تلك وظيفةٌ هي بيان ما كان لإقحام العامل الديني فـي تكوين نظام السلطة، فـي الدولة الوطنية الحديثة، من آثار فـي توليد ثقافةٍ سياسية – لدى جمهورٍ من الـمجتمع – تُجاري السلطةَ فـي الجمع والتخليط بين السياسيِّ والدينيّ، وتتفوَّق عليها فـي ذلك مُحصيةً وجوهَ التردّد فـي توسُّلها الدين وتنزيله من الدولة والقانون والتشريع منزلةَ القلب، ومتأدِّيةً من ذلك إلى ادّعاء «مظلومية» الدين فـي الاجتماع السياسي، والزعم بحاكمية قوانين مجافـية لاجتماع الـمسلـمين، وتحريض الجمهور عليها بدعوى ما ينبغي أن تكون عليه أنظمةُ الدنيا والدين – فـي اجتماع الـمسلـمين – من مطابقةٍ! وحجَّتنا، فـي القول بمسؤولية السلطة فـي التمكين للـمأسسة الدينية الحزبية، ليست فـي أنّ السلطة تلك توسَّلتِ الدين فـي السياسة، وبالتالي شرعت الأبواب أمام غيرها يزاحِمُها فـي توسُّله؛ ذلك أننا لسنا على يقينٍ من أنّ إحجامها عن ذلك – فـي ما لو هي أحجمتْ – كان سيرفع عن اجتماعنا السياسي احتمال قيام ظاهرة الصراع على الرأسمال الديني، ومعه ظاهرة الـمأسسة الحزبية الدينية‏[30]، كرديف للـمأسسة الدينية الرسمية وتجاوُزٍ لها فـي الآن عينه،… وإنما حجتنا – فـي ما ذهبنا إليه من إلقاء التّبعةِ عليها – أنّ السلطات الرسمية العربية لـم تُحسِن التصرُّف فـي الرأسمال الديني الذي ابتغت تسخيره لشرعنة نفسها، أمام جمهورٍ مسلـم، أو لإنجاز هندسةٍ سياسيةٍ ما للـمجتمع والتنظيم الاجتماعي، حتى لا نقول إنها أساءت ذلك التصرف الإساءةَ الشديدة. ومصداقُ ذلك فـي أمرًيْن متلازمَيْن:

أولهما أنها لـم تنجح – وهي تسعى فـي احتكار الرأسمال الديني – فـي إنجاز ما على أي دولة إنجازه وهو: تأميم الدين، أيّ تحويله إلى ملكية جماعية للأمّة لا تقبل التفويت أو الاستثمار الخاص، مثلها مثل أيّ ثروة وطنية عمومية تعود إلى الأمّة جمعاء. إنّ الاحتكار الذي أنجزته لـم يكن تأميماً، بل كان استحواذاً على الدين من قِبَل النخب الحاكمة. وما أغنانا عن القول إنّ الاستحواذ عليه والاستيلاء الاحتكاري (الفئوي) إنما هو شكل آخر من أشكال التفويت الخاص (الاستخصاص أو الخصخصة Privatisation) للدين! والحال إنّ على الدولة الـمدنية الحديثة، كما يفـيدنا سبينوزا‏[31]، أن تبسُط سيادتها‏[32] على الدين حتى تمنع أيّ شكل من أشكال السطو عليه من قِبَل جماعةٍ ما أو فريقٍ بعينه فـي الـمجتمع؛ لأنّ فـي سلطان الدولة على الدين حماية مزدوجة: لوحدة الدولة وللدين نفسه‏[33].

وثانيهما، ويرتبط بالأوّل، أنّ سياسات السلطة والنخب الحاكمة تجاه الدين لـم تقدِّر خطورة توسُّلِه وتسخيره كأداةٍ من الأدوات الإيديولوجية، فوجدت نفسها منخرطة فـي مسلسل من التلاعبات السياسية بالدين: لـممالأة الجمهور وتملُّقه أحياناً، ولكسب الـمحافظين من رجال الدين أحياناً، ولتسخير حركات «الإسلام الحزبي» ضدّ الـمعارضة واليسار فـي أحايين أخرى. وما كانت تعرف أنها إنما بذلك تفتح هذا الـمجال (= الديني) أمام تلاعُب الـمتلاعبين جميعاً، وأنّ كعبها فـي هذا الباب أقصر من كعب الـمحافظين والسلفـيين والحزبيين، وأنّ الدائرة قد تدور عليها يوماً. وليتها دارت عليها وحدها، بل هي تدور على الدولة نفسها وعلى الـمجتمعِ قبلَها وبعدها! وإلى ذلك، فقد طبّقتْ سياساتها الانتهازية تجاه الدين فـي الـمدرسة والبرامج التعليمية؛ تركت قطاع التعليم الديني يتضخّم ويغرق فـي تخلّفه وفقره واجتراريته التقليدية؛ وحوّلت الـمواد الدينية فـي التعليم العصري إلى مواد ضحلة ومهملة ولا تشجّع سوى على الاستظهار والاجترار والوثوقية؛ وكرّست ثقافة التحجر، ولـم تشجّع على الاجتهاد وعلى السؤال وقيم النقد والعقل. وكانت النتيجة أن أنتجت جمهوريْن من الـمتعلـمين يتفوّقان على بعضهما فـي السلبية: جمهورٌ لا يعرف من الدين شيئاً، وجمهورٌ لا يعرف منه ما يعرفه إلّا بعقلٍ متحجّرٍ مغلق ما أنزل الله به من سلطان! وليس من الـمستغرب أن جماعات «الإسلام الحزبي» جندت قواعدها من الجمهورَيْن معاً.

* *

الـمأسَسةُ الدينيةُ الحزبية هي، فـي ما نحسب، الدرجة الأعلى والأسوأ فـي أنواع الـمأسَسة الدينية كافة: فـي التاريخ الـماضي كما فـي الحاضر والراهن. وهي آذنت، منذ ميلاد ظاهرة «الإسلام الحزبي»، وتُؤْذِن اليوم، بنقل أزمة العلاقة بين السياسيّ والدينيّ فـي الاجتماع العربي الإسلامي إلى طورٍ من الاستفحال خطيرٍ فـي النتائج وغيرِ مسبوق. تكفـينا فِتنُ اليوم وحروبُه الأهلية الجارية، باسم الدين، لِتُطْلِعَنا على أيّ منحدَرٍ إليه سائرون فـي هذا الطور من استفحال التأزم بين السياسيّ والدينيّ. وتكفـينا حالُ التردّي فـي ممارسة السياسة من طريق التلاعُب بالدين، أو توسُّل الطائفة والـمذهب، والتعبير عن السياسة والـمصالح لا بمفردات السياسة وإنما بمفردات الفرق الكلامية، والـمذاهب الفقهية، وشقشقات مشايخ الطرق الصوفـية، لنعرف نوع الـمستقبل الذي يقترحه علينا حلفُ قوى العولـمة والأصولية! قلنا إنّ هذه الطبعة الحزبية من الـمأسسة الدينية هي الأكثر سوءاً فـي تاريخ الـمأسسة تلك. ولنا على ذلك خمسُ قرائن على الأقل:

أوّلها أن الـمأسسة الدينية من النمط السلطوي – السلطاني القديم والدولتي الحديث – لـم تبلغ، فـي البلاد العربية والإسلامية، مبلغاً ثيوقراطياً تاماً تتماهى فـيه السياسةُ والدين، وتقوم فـيه قواعد الأولى على أحكام الدين (ما خلا فـي الأحوال الشخصية)، وإنما وَقَع فـيها توسُّل الدين لغرض شرعنة السلطة، فـيما ظلت مساحات واسعة من التشريع (هي الأوسع فـيه) تدخل ضمن أحكار القانون الوضعي. وحتى فـي البلدان التي ادعت أنظمتُها أن حكمها يقوم على تطبيق الشريعة، لا نعدَم أن نجد فـيها تلك الـمسحات التشريعية غير الدينية فـي الـميادين الـمدنية كافة: الاقتصادية، والـمالية، والإدارية، والخِدْمية، والاجتماعية. والأهمّ من هذا كلِّه أنّ الأنظمة السلطانية والحديثة، التي توسَّلتِ الدين فـي الإدارة السياسية، لـم تدَّع يوماً أنها تقيم دولةً أو سلطةً دينية، ولـم يكن على رأس السلطة فـيها فقهاء أو إكليروس ديني. وليست هذه حال الـمأسسة الدينية من النمط الحزبيّ الإسلامي؛ فهذه تُجاهِر بأن هدفها إقامة «الدولة الإسلامية»، والحكم طبقاً لأحكام الشريعة، ومَحْو آثار التشريع الوضعي (الذي « لا يناسب» «الـمجتمع الـمسلم» لأنه – فـي زعمها – خاصّ بالـمجتمعات «الكافرة» و«الجاهلية»)، بما فـيه ما يتصل بحقوق الـمواطنة: حيث الجزية على «أهل الذمة» بدلاً من الـمساواة بين الـمواطنين، وحيث حقوق الـمرأة مقرَّرة حسب الشريعة (مُؤَوَّلة طبعاً) لا وفقاً لـمبدإ الـمساواة… إلخ! وهكذا تنحو الهندسة السياسية – الدينية لِـ «الإسلام الحزبي» و«الإسلام الجهادي» منحى إعادة النظر فـي كلّ الـمعمار السياسي الذي قام منذ ميلاد الدولة الحديثة، فـي البلاد العربية، بل على امتداد تاريخ الدولة فـي الإسلام منذ عهدها الأموي!

وثانيها أن القوى التي تنهض بعملية الـمأسسة الحزبية للدين ليست فـي جملة القوى الدينية، أي ليس قادتُها ونشطاؤُها من علـماء الدين، شأن تلك الفئة الـمرتبطة بالسلطة والعاملة فـي الـمؤسسات الدينية الرسمية. ولذلك تُرَتِّب أفعالُهم تبعات مزدوجة: على الـمؤمنين وعلى الدين نفسه؛ فإذْ هُم يسلكون للظهور والغلبة مَسْلَكَ تنمية السلوك الجمْعي للـمسلـمين فـي نموذجٍ مرجعيّ ترسُمُه لهم كتابات أئمتهم القدماء والـمحدثين، وبوصفه – فـي عقيدتهم – السلوكَ الإيمانيَّ الصحيح والقويم الذي عليه مبنى الـمجتمع الـمسلـم، وإذْ هُم يُكْرِهون الناس عليه ويفرضونه بالقوّة فرضاً – على مَن يقع تحت سلطانهم – يُنَمِّطون الدين بالتَّبِعة، ويُفْقِرُونه من الـمعنى الروحي والإنساني السامي، ومن مضمونه الرحيم، ليحوّلوه إلى محض طقوسٍ ومظاهرَ تمتدّ أحكامُها إلى شكل الفرد وملبسه وهيئته. ويعبّر الفقرُ العلـمي الحادّ (= العلـم بالدين) لدى قوى الـمأسسة الحزبية الدينية عن نفسه فـي الـمعارف السطحية بالدين والفكر الإسلامي، واللّوذ بنصوصٍ ثوانٍ من الدرجة العاشرة، وأكثرُها أُلِّف فـي عهود الانحطاط وتوقُّف عملية الاجتهاد والتأصيل العلمي؛ مثلـما يعبّر عن نفسه فـي الـمستوى العلـمي الـمدرسي لقادة جماعات «الإسلام الحزبي» وأمرائها، ومستوى فتاوى شيوخها! وللـمرء أن يتخيَّل أيَّ نوعيةٍ من الهندسة ستكون للـمجال الديني على أيدي هذه القوى الفقيرة إلى أبسط موارد العلـم الديني!

وثالثها أنّ قوى الـمأْسسة الحزبية للدين تزعُم لنفسها الحقّ فـي النطق الرسمي باسم الدين (الإسلام)، وتَعُدُّ ما عداها كافراً خارج الـملة؛ وهو ما لـم تفعله قوى الـمأسسة السلطوية للدين. وإلى ذلك، فإنها تحِّول الإسلام من عقيدةٍ جمْعية للأمّة كافة إلى إيديولوجيا سياسية‏[34] فـي يدِ فريقٍ واحدٍ فـي الـمجتمع؛ وتُدْخِلُه إلى ميدان الـمنازعات السياسية على السلطة والثروة والـمغانم، أي تَنْزِل به من الإيمانيِّ والروحي إلى الدنيوي والـمصلحي بدعوى أنّ الإسلام دينٌ ودنيا فـي الوقتِ عينه! وهكذا تستحوذ قوى هذه الـمأسسة الحزبية للدين على الإسلام، وتحتكر الكلام باسمه على قاعدةِ وعيها بأن الاستيلاء على الرأسمال الديني أقصر طريق للاستيلاء على الـمجتمع والسلطة! لتؤسِّس بذلك للحرب الأهلية.

ورابعها أنّ الاستيلاءَ على الدين، واحتكارَ النطق باسمه، وزجَّه فـي الصراعات السياسية، والرشقَ بمفرداته (الكفر، الإيمان، البدعة، الجاهلية، الضّلال، الردّة، الحدّ الشرعي، الجهاد… إلخ)، إنما أيلولتها بالـمجتمع إلى الانقسام والتباغض فالاقتتال. يصبح ما كان يجمع ويوحِّد (= الدين) سبباً للفُرقة والشّقاق والنزاع. وليست نتيجة ذلك أنّ معنى الدين ورسالتَه يتعرَّضان، فـي هذا التلاعب السياسي به، إلى التزوير فحسب، وإنما نتيجته أيضاً – وهذا هو الأخطر – أخْذ الـمجتمع إلى الفتنة والحرب الأهلية. ولقد صحَّ ما قال القدماء‏[35] من أنه ما من سيفٍ سُلَّ فـي تاريخ الإسلام إلّا لغرضٍ دنيوي: السلطة! ومحازبو الإسلاميةِ و«الجهادية» السياسية والـميليشياوية، اليوم، لا يفعلون إلّا ما فَعَلَهُ الغُلاَةُ أمس. وكما مزّق هؤلاء وحدةَ الجماعة الإسلامية أمس، بغلُوّهم وتكفـيرهم وسيوفهم، يمزّق الأخيرون وحدةَ الجماعةِ الوطنية بالأفعال عينِها!

أمّا خامسها فـيكمَن فـي أنّ الـمأسَسَة الحزبية للدين ليست – كما تقدِّم نفسَها – مأسسةً إسلامية، بل هي مأسسةٌ مذهبية بامتياز. إن قواها إذ تزعم لنفسها صفة تمثيل الدين الجامع، إنما هي تتحرك على أرضيةٍ مذهبيةٍ صريحة؛ فلا ترى إلى الدين إلّا من قناة مذهبها، بل لا تحسبه شيئاً آخر غيرَ مذهبها أو ما يقرّرُه مذهبُها؛ وما ليس فـي مذهبها ليس فـي الدين، ومَن ليس من مذهبها ليس من الـملّة. وهذا هو ما يقف خلف منزع التكفـير والتبديع والتفسيق عند أغلبها؛ فكُلٌّ يحسب نفسَه «الفرقة الناجية»، وغيره على ضلال. إنها الهندسة الـمثلى للانقسام والاقتتال؛ الهندسة الغالبة على زمن الفتنة والحرب الأهلية.

* *

يَسَعُنا، إذاً، أن ننظُر إلى الـمأسَسة الحزبية الأصولية للدين بوصفها كَهْنَتَةً جديدة تتنزَّل فـيها مؤسّسات «الإسلام الحزبي» و«الإسلام الجهادي» بمنزلة كهنوتٍ وصيٍّ على الدين، ومتحكّم فـي عقائد الـمؤمنين. والفارقُ وسيعٌ – سعَةً نوعية – بين هذا الضرب من الكَهْنَتة الحزبية وسابقِهِ فـي نموذج الـمأسسة السلطوية – الفقهية للدين، فـي النمطين السلطاني والدولتي الحديث. إذا استعرنا مفاهيم علـم السياسة الـمستخدمة فـي التمييز بين أنماط الدولة والحكم – كما عند حنة أرندت‏[36] – وتوسلناها فـي تحليل وجوه الفرق بين الـمأسَسَتين الـمومأ إليهما، أمكننا العثور فـي مفهومي الديكتاتورية والكُلّانية (= التوتاليتارية) على مفتاح نظري – مفهومي لفتح مستَغْلَقِ الفارق بين الـمأسستين. إذا كان يُشار بمفهوم الديكتاتورية إلى نظام سياسيّ قهري يفرض سلطتنه ورأيه على الـمجتمع بالعنف والقوّة، متوسِّلاً فـي استخدامهما أدواتهما الـمادية والرمزية كافة، قصد احتكار السلطة السياسية، ومنْع أيّ شكل من أشكال الـمشاركة، فإن مفهوم الكلّانية يشار به إلى النظام السياسي الذي لا يتوقف عند تحقيق الهيمنة السياسية الـمطلقة، واحتكار السياسة والسلطة، بل يذهب إلى هدفٍ أبعد هو: إنجاز هندسةٍ اجتماعية للـمجتمع يتدخّل فـيها فـي التفاصيل، قصد تنميط الـمجتمع ذاك فـي نمط حياتيّ كلّاني واحد: سلوكاً وكلاماً وملبساً واستهلاكاً وطريقةَ تفكير! إنّه النمط الذي يحاول صوْغ الأفراد فـي قالب واحدٍ نموذجي متكرّر، وليس حمْلهم على القبول بسلطته الـمطلقة فحسب.

إنْ نَقَلْنا الـمفهومين من مجالهما الأصل، إلى مجال تحليل الحقل الديني وعلاقات قواه، قلنا إن نمط الـمأسسة الدينية السلطوية – الفقهية، الذي ساد فـي تاريخ الإسلام ويسود اليوم فـي معظم دياره، هو نمط الـمأسسة الدينية التسلّطية أو الدكتاتورية، أي تلك التي تبغي قواها فرض منظورها الديني والفقهي، وهندستها الدينية، بقوّة التشريع والقهر، على غيرها ممن يخالفها الرأي؛ أما نمط الـمأسسة الدينية الحزبية الراهن فنمطٌ كُلّاني، لأنّ قواهُ لا تبغي فرض رأيها وتأويلها من خلال السلطة السياسية وتشريعاتها فحسب، بل تتدخّل فـي تفاصيل الحياة الشخصية للناس لتفرض الوصاية عليهم: ماذا يأكلون، وماذا يلبسون، وكيف يتكلـمون، وكيف يتصرفون، وماذا يقرأون، وكيف يصلّون …إلخ! إنها تبغي صوغ «الـمجتمع الـمسلـم» والفرد الـمسلـم فـي قالب يَتَخَيَّل أنه قالبُ الـمسلـم النموذجي، لا فقط صوغ الدولة فـي قالب إسلامي. وهكذا، كما أن الديكتاتورية تبغي السيطرة على العامّ من دون الخاص، عكس الكلّانية، فإنّ الكلّانية الحزبية الدينية تصادر حتى ذلك الخاصّ، مُدخِلةً إياهُ فـي حوزة هندستها!

وبالجملة، تجتمع أزمة العلاقة بالنصّ الديني – بما فـيها تنزيل الوسيط الكهنوتي بين الـمؤمنين والنصّ، وفرض التفسير الرسمي من لدن مَن يُنصّب نفسَه ممثِّلاً بوصفه التفسير الصحيح والوحيد والـمطابق – بمشكلة مَأْسَسَة الدين وكَهْنَتَتِه والاستيلاء السياسيّ عليه: فرقاً وفقهاء وسلطات وحركات حزبيةً، لتُنْتِج هذه الحال الـمأزقية، التي تعيشها الـمجتمعات العربية والإسلامية الـمعاصرة، ممثَّلَةً فـي التزايد الـمتنامي لأدوار القوى الـمستولية على الدين فـي الحياة العامة، وفـي سياسة الدولة والتحكم بالهندسة الاجتماعية وهي حالٌ تبلغ ذُراها، اليوم، فـي فرض الوصاية على إيمان الناس، واستثمار الـمقدس فـي الصراعات السياسية، والتنازع على رأسماله بين قوًى ترغب فـي بسط سلطة الاحتكار عليه؛ مثلـما تبلغ ذراها فـي حرف السياسة عن مجراها السلـمي التنافسي، وفـي نزع مضمونها الـمدني وإكسابها طابعاً عَقَديّاً، والتراجع عن كثير من مكتسبات الدولة الوطنية والـمجال السياسي الحديث. والنتيجة أنّ ذلك كلّه يدفع بمجتمعاتنا نحو طورٍ جديدٍ من التأزّم السياسي غير الـمسبوق، ويفتح التطور فـيها على احتمال حدوث هزّات انفجارية؛ كتلك التي لفحتنا نيرانها فـي «الربيع العربي»، وكهذه الحروب التي تجري فـي سورية والعراق وليبيا واليمن فتهدد بإطاحة البقية الباقية من الدولة والـمجتمع.

إنّ استفحال الأوضاع هذه ينبِّهنا إلى الحاجة الـملحّة إلى التقدّم الحثيث على طريق إنجاز حَلْقَةٍ رئيسٍ من الحلْقات النهضوية الـمعلّقة منذ زمن: إصلاح الـمجال الديني، بوصفه شرطاً لازباً من شروط إنجاز هدف بناء الدولة الوطنية الحديثة، وتجديد الفكر الديني وتمكينه من الأدوات والـموارد التي تجعله قادراً على جبه معضلات التطور والتغير، وتقديم الأجوبة الـمناسبة عن أسئلتها وإشكالياتها.

ثالثاً: مَن يُصْلِح ماذا؟ مداخل إلى إصلاح الـمجال الديني

ما الذي ينبغي أن يكون موضوع إصلاح فـي هذا الشأن؟

مسألتان اثنتان تفرضان نفسيهما على جدول أعمال أيّ مشروع من هذا النوع – تناولناهما فوق – هما: العلاقة بالنصّ الديني، والهندسة الاجتماعية والسياسية للشأن الديني. لن نكرِّر ما أسلفنا القول فـيه، وإنما نكتفـي بالتنبيه إلى الـملاحظات والـمبادئ التالية؛ عسى أن تُبنى عليها أفكار وخيارات فـي الـمسألة:

1 – العلاقةُ بالنصّ الديني، بالتعريف، علاقةٌ فردية: يكون الفردُ طرفاً فـيها – كمُتَلَقٍّ – مع طرفها الأول (= النصّ). ليس من شيءٍ يدعو إلى الغرابة فـي أن تكون العلاقة تلك فردية؛ فهي – بالـمعنى هذا – تتناسب وطبيعة الخطاب الديني (= الوحي) الذي يخاطب وجدان الفرد لحمله على الإيمان بالتعاليم الـمبلَّغة إليه. وهي، بمقتضى هذا التعريف، علاقة بين سلطتين: سلطة النصّ الديني وتعاليمه (أوامره، نواهيه) على الـمخَاطَب (= الـمتلقّي)، وسلطة الأخير على نفسه فـي فهم النصّ والعمل بأحكامه. ومأتى هذه السلطة الأخيرة، فـي الإسلام، من أنّ الـمتلقّي مكلَّف (عاقل، بالغ…)؛ ففـي التكليف تسليمٌ بحيازة مَلَكَةَ التمييز، مَلَكَة عَقْل الأشياء. وللـمؤمن أن يقرأ التعاليم فـي النصّ بما مَلَك من ممكنات الـمعرفة، بما فـيها اللغة والنحو، ولا جُناح عليه – فـي الإسلام – إنْ كان علـمه متواضعاً؛ فالدين للناس كافة: جاهِلهم وعالِـمِهم.

2 – إنّ العلاقة هذه (بالنصّ الديني) ليست واحدة بالنسبة إلى الـمؤمنين جميعاً، وإنما هي متعدّدة ومتفاوتة فـي نسبة التفاعل بتعدُّد طرفٍ فـيها (= الـمؤمنون) وتفاوُتِ مستويات الإدراك والتلقّي لديه. ومعنى ذلك، أيضاً، أنّ النصّ لا يكون واحداً عند الـمتلقين جميعاً، وإنما تتعدّد معانيه وتختلف بتعدُّد الفهوم واختلافها. وتطويرُ العلاقة تلك، من الداخل، إنّما يكون من طريق تطوير ملكة الفهم بشحذها، وتغذيتها بالـمعرفة، وتأهيلها بحيث يكون فـي وسعها رفع مستوى إدراك الخطاب الديني الذي تتلقاه. وبتنمية مهارات الفهم الـمعرفـية، يكون النصّ نفسه قد اكتسب قدرة متجددة على البيان أو الإبانة أكثر ممّا كانتْهُ حالُه مع مستوًى متدنٍّ من التلقي لدى متلقّيه؛ فوضوحُهُ يحرَّك صعوداً وهبوطاً تبعاً لـمستوى الوعي به. وهذه مسألةٌ تردُّنا إلى الدور التعليمي للـمدارس، وإلى الحاجة إلى تفعيل الدور ذاك بتطوير مناهج التدريس وطرق التلقين، قصد تحسين فرص التلقي، وخاصة فـي العلوم الدينية.

3 – إنّ إخفاق الـمتلقي فـي تطوير مَلَكة الفهم والإدراك، واستمرار النصّ – كُلّاً أو أبعاضاً – مستغلقاً عليه لهذا السبب أو لذلك، لا ينتقص من إيمانه كمؤمن؛ إذ ليس شرطَ إسلام الـمسلـم أن يُبْنَى إيمانُه على الحجّة العقلية، وإنما أن يؤمن، وأن يُسَـلِّم ويصدّق بما بين يديه. وهذا ليس شأن الإسلام، حصراً، وإنما هو شأنُ كلّ دين: لا يطلب غير الإيمان؛ والإيمانُ، ابتداءً، شعورٌ داخلي فـي الوجدان، وقد يصير تعقُّلاً أو إدراكاً عقلياً، ولكن من دون أن يكون هذا فـي جملة شروطه. أما التخصُّص فـي العلوم الدينية (علوم القرآن، تفسير، حديث، فقه، كلام…) فهو شأن خاصّ وليس شأناً عاماً، وليس من تعلُّقٍ للإيمان به.

4 – إنّ الإسلام، كأيّ دين آخر، لا يغتني بواحديةِ الرأي والتفسير، بدعوى الْتماس وحدة الجماعة والأمّة وإجماعها، وإنما يغتني بحرية التفكير وبالاجتهاد؛ فوحدةُ الجماعة مزعومة، لأنّ الاختلاف فـيها بَيِّنٌ ناطق بين ذوي الـمذاهب والآراء الـمختلفة، والإجماع قاعدةٌ تعذّرت فـي التاريخ، وهي من الفقه لا من الدين، والاختلافُ غيرُ الخلاف، بل كم خلافٍ دبَّ إلى جماعةٍ تحسب نفسَها موحَّدة، وكم جماعاتٍ أخرى أصابت حظاً من الوحدة والتماسك، بينما داخلُها مزدحم بالآراء والاجتهادات الـمختلفة… إلخ. وعليه، فإنّ إعادة تأهيل الفكر الإسلامي لاكتساب القدرة على استيعاب مكتسبات الـمعارف والعلوم، وعلى جبْه تحديات عصره إنّما تكون من طريق تجديده وتوطين الـمكتسبات العلـمية الجديدة فـيه، وإقرار حرية الفكر والاجتهاد، والخروج من شرانق الـمعرفة التقليدية وثقافة الاجترار والشروح والعنعنة والفَنْقَلَة وما فـي معناها: ممّا ورثناه عن عهود الانحطاط؛ بعد توقف حركة الإبداع والاجتهاد في الثقافة العربية الإسلامية.

5 – إنّ الفصل بين الإسلام والفكر الإسلامي غيرُ ذي موضوع، والاعتقاد أنّ الدين فـي غير حاجةٍ إلى الفكر لأنّ نصوصَهُ ناطقةٌ بذاتها اعتقاد باطل؛ فالنصّ – أيُّ نصّ – لا يُدْرَك إلّا من خلال شبكة تأويلية‏[37]، وهذه تختلف من فرد إلى آخر ومن مدرسةٍ إلى أخرى. ولو كانت النُّصوص واضحةً بذاتها، وفـي غيرِ ما حاجة إلى تأويل، لـما اختلف الـمسلـمون فـيها فصاروا فـي الفقه مذاهب، وفـي الكلام فرقاً، وفـي التفسير والحديث مدارسَ، وفـي السياسة أحزاباً وشيعاً. إن التأويل والنصّ يدخلان فـي بنية واحدة فـي شكل تعالُقٍ. وحتى من نفترض أنهم نصِّيّون، أو ملتزمون بقراءةٍ حرفـيةٍ للنصّ، هُم أنفُسهم متأوِّلة؛ أي يلوذون بطريقة فـي القراءة تتأوّل اللفظ الذي يُحْمَل لسانياً (معجمياً) على معانٍ متعدّدة بتعدُّد العلاقة السياقية التي تخضع لها الألفاظ. وإذا كانت هذه القاعدة تكرِّس شرعية التأويل، وبالتالي شرعية تاريخه فـي الإسلام، كما فـي غيره من الأديان، فإن الشرعيةَ هذه لا يكتمل وينتظم لها أمرٌ من دون التسليم بأنّ التأويل ليس واحداً وحيداً عند الناس جميعاً، وإنما هو متعدّد، وبالتالي لا مشروعية لفرض تأويلٍ واحدٍ على الجميع بدعوى أنه وحده الصحيح والقويم، لأنّ فـي هذا مجافاةً لـمعنى التأويل، بقياسٍ معرفـي، وفـيه مصادرة لتأويلات أخرى أو لحقِّ كلِّ ذي فهمٍ ورأيٍ فـي تأويلٍ مختلف. ونحن نعرف، من سوابق التاريخ، أنه ما من تأويلٍ فُرِض قسراً، أو أقصيَ، إلّا بتوسُّل العنف الـمؤسَّسي، وفرض الوساطة الكهنوتية.

6 – إنّ دخول طرفٍ ثالث على العلاقة بين النصّ الديني والـمتلقي، فـي الإسلام، تزيُّدٌ لا مبرِّر له من الدين؛ إذ لا كهانة أو رهبانية فـي الإسلام، ولا من وسيطٍ بين الـمؤمن وربّه. ولذلك يرفض الإسلام الوسطاء والشفعاء والأوصياء على الـمكلَّفـين؛ والتدخّلُ بين الـمؤمن والنصّ وساطة، ورهبنة، أياًّ يكن مبرِّر ذلك التدخل: الإفهام، الشرح، البيان، التفقيه فـي الدين… إلخ. وأسوأ أنواعها حسبانها أنها من شروط الدين، وأن لا إيمان يكون من غير طريقها، حيث تستحيل – حينها – إلى وصاية على مؤمنين تُسْقِط عنهم صفةَ الـمكلَّفـين، وتأخذهم كمحجورين! والأنكى من ذلك أن التدخّل بين النصّ والـمؤمن غالباً ما قاد الأديان إلى الـمذهبية والتمذهب، أي إلى انشقاق الجماعة الاعتقادية الواحدة، على حدود تمايزات الآراء والـمقالات فـيها، إلى مذاهبَ وشِيَع وأحزاب! بل غالباً ما أسَّس الانشقاقُ فـيها لانقساماتٍ جنَّدتْها السياسةُ والأغراضُ الدنيوية فـي مشاريع فتنٍ وحروبٍ أهلية!

7 – إنّ للرهبانية والكَهْنَتَة مُدخلاً معلوماً هو التنزُّل بمنزلة الوسيط بين الله والبشر، بين الوحي والإيمان. وهو تنزُّلٌ يتمأسس مع الزمن، وتُصبح له مفعولية مادية لأنه يتوسّل السياسة والسلطة والدولة. وأكثر مشكلات الـمسلـمين فـي تاريخهم إنما كانت مع التمأسس ذاك، لأنه فرض عليهم أن يتحملوا ما تحمّلوه باسم الدين والحكم الشرعي؛ فكان أن فُرِض مذهب على مذاهب، وحُمِلَ الـمخالِفون بالقوة الـمادية، أو بقوة التشريع، على اعتناق الرأي الرسمي الغالب، أو على الانكفاء السلبي إلى عالـمٍ سرّي انتظاراً لقَوْمةٍ تثأر فـيها الجهة الـمغلوبة من غالبها!

8 – مَن يتصدّرون لدور الوساطة ليسوا مكلَّفـين من السماء بذلك، لأنهم ليسوا رسـلاً ولا أنبياء، وإنما هُم أهل رأيٍ فـي الدين يبغون لرأيهم أن يكون الوحيد والـمأذون من بين آراء الـمذاهب والتيارات والـمدارس كافة! والحال أنه ليس لرأيٍ على رأيٍ سلطانٌ إلّا من الفكر، أو من قِبل مَن اعتنقوه من الناس طواعيةً، أمّا توسُّل النفوذ والرجحان من طريق الـمؤسسة فلا يدخل فـي الفكر، بل هو إلى العدوان على الفكر وحرية الفكر أقرب. وإِخَال أنّ ذلك ما تواترت حوادثُه فـي تاريخ الإسلام؛ فما كانت فكرةٌ تسْلُك لنفسها سبيل الحجّة والإقناع لكسب الحُجّية والنفوذ إلّا لِماماً، بل الغالب عليها أنها ترْكب لنفوذها مرْكباً غيرَ فكري: سياسي، سلطوي، اعتصابي. لذلك اندثرت أفكار هي الأقوى حجّةً ووجاهةً لأنها اضطُهدت ولوحِق القائلون بها، و«كُتِبَتِ» الحياة لأخرى – متحجّرةً ومتَخلّفةً وفقيرة – فقط لأنها رُفعت على أسِنّة الرماح أو على صهوة السلطة!

9 – إنّ الـمأسسة الدينية الوحيدة الـمقبولة والـمطلوبة، التي لا يتولَّد منها انشقاقٌ فـي الـمجتمع أو انقسام فـي الدولة، هي تلك التي تكرّس مبدأ الـملْكية الجماعية للدين داخل الـمجتمع والدولة فـي سياسات وتشريعات رسمية ملزِمة؛ أي الـمأسسة التي تحمي الدين من غائلة التلاعبات السياسية به وما يتولّد منها من نزاعاتٍ اجتماعية ومن زعزعةٍ للاستقرار ومَسٍّ بالسِّلـم الـمدنية؛ وهي التي تمنع – بقوة التشريع القانوني – الاستثمار السياسي للدين فـي الصراعات على السلطة والثروة لأنه انتهاك لـمبدإ تأميم الدين؛ ثم إنها الـمأسسة التي تضمن للناس الحقّ فـي التديُّن وممارسة الشعائر الدينية بكلّ حرية وبما لا يعرِّض وحدة الـمجتمع والدولة للخطر، وتضمن الحرية فـي التفكير والاجتهاد الديني، وتجرِّم أشكال التمييز الديني كافة، بحسبانها نقضاً لـمبدإ الـمواطنة، وألوانَ التحريض الطائفـي والـمذهبي بما هي انتهاكٌ صارخ لوحدة الجماعة الوطنية وللسلـم الـمدنية. إنّ الـمأسسة التي نعني، هنا، هي الـمأسسة الدولتية لا الـمأسسة السلطوية للنخبة السياسية الحاكمة، لأنّ نسبةَ هذه إلى الاستثمار الخاص لا إلى الـملكية الجماعية. وإذا كان وضعُ الحدّ الفاصل بين الدولة، كنصابٍ عامٍّ وجمْعيّ متعال، والسلطة – كميدانِ منافسة سياسيةٍ سلـمية مشروعةٍ – يتوقّف على التوافق على عقد اجتماعي، فإنّ الـمأسسة الدولتية للدين تمتنع عن التحقّق الفعلي والكامل إلّا متى حصل مثل ذلك التوافق على العقد الاجتماعي. ومن هنا نتبيّن كيف أنّ حلّ معضلة العلاقة بين السياسيّ والدينيّ فـي الاجتماع العربي والإسلامي مرتبط بالتقدُّم فـي تكوين الدولة الوطنية وبنائها؛ وفـي الظنّ أنّ إصلاح الـمجال الديني ليس سوى فقرة – وإنْ كانت صعبة – من نصٍّ أشمل هو: بناء الدولة الوطنية الحديثة.

* *

مَن ينهض بأداء الدور الأساس فـي إنجاز هدفٍ نهضوي كبير بحجم إصلاح الـمجال الديني؟

لا يمكن الاعتبار، كثيراً، بدرس الإصلاح الديني فـي أوروبا القرن السادس عشر لاختلاف الحالتين ومعطياتهما. لِنُشِرْ ابتداءً – ولكن سريعاً – إلى بعض وجوه ذلك الاختلاف بين الحالتين، الذي لا يبرّر اقتداءَ نموذج الإصلاح الديني الأوروبي فـي أيّ مسعًى إلى إصلاح الـمجال الديني فـي الاجتماع العربي والإسلامي. نقف على خمسةٍ من وجوه الفرق والاختلاف تلك:

أولها أن الإصلاح الديني (البروتستانتي) فـي أوروبا قام فـي مواجهةِ كنيسةٍ جمعت بين احتكار الدين والوصاية على السلطة السياسية، فـي الآن عينِه، وفـي نطاقٍ ساد فـيه نموذج الدولة الثيوقراطية. وليست تلك حال الدين والـمؤسسات الدينية فـي الـمجال العربي الإسلامي؛ فلا وجود لكنيسةٍ، بالـمعنى الكاثوليكي البابوي السائد آنئذ؛ ولا وجود لدولةٍ ثيوقراطية تدّعي تطبيق الحق الإلهي (Le Droit divin) (ما خلا فـي مشاريع قوى «الإسلام الحزبي»). ومع أنّ الثيوقراطية ليست حكم رجال الدين فقط – كما يقول سمير أمين‏[38] بحقّ – وإنما هي كلّ سعيٍ فـي إقامة نظام السياسة والدولة على نظام الدين؛ ومع أنّ شبهة الثيوقراطية قامت فـي الإسلام الـمعاصر فـي «نظريات» سياسية – دينية مثل «الحاكمية» و«ولاية الفقيه»‏[39]…، إلا أن الاختلاف، فـي السياق والـمعطيات، بَيِّنٌ بما يكفـي بين النموذجين الـمسيحي والإسلامي، بما يفرض رؤيةً أخرى إلى مسألة إصلاح الـمجال الديني.

وثانيها أنّ الإصلاح الديني الأوروبي جرى من داخل الجسم الإكليريكي الكنسي؛ حيث نهض به رجال دين ناقمون على الـمؤسسة البابوية ونظامها الـمغلق، ووصايتها على الإيمان، وتنزيلها الكنيسة منزلة الوسيط بين الـمسيحيين والنصّ الـمقدَّس، ناهيك باطّراحها الأسفار الأولى من الكتاب الـمقدّس وفصلها بين العهدين الجديد والقديم. والأهمّ فـي الـموضوع أن حركة الإصلاح الديني، التي قام بها اللاهوتيون البروتستانت أولئك، قادت إلى انشقاقٍ فـي الكنيسة و، بالتالي، إلى انقسامٍ دينيّ جديد داخل الجماعة الـمسيحية. وفـي هذا تختلف حال الإصلاح الـمنشود للـمجال الديني فـي الـمجتمعات العربية والإسلامية؛ فالإصلاح هذا ليس من أحكار «رجال الدين» أو مهمّةً تخُصُّهم حصراً؛ وينبغي له أن لا يقود إلى أيّ انشقاقٍ جديد فـي الإسلام والـمسلـمين، بل أن يفضيَ بهم – على العكس من ذلك – إلى تمتين عرى وحدة اجتماعهم الديني واجتماعهم السياسي على السواء.

وثالثها أنّ واحداً من اهداف التمرُّد على الكنيسة الكاثوليكية والصّرح البابوي ضرب استئثار الكنيسة بالثروة، وحيازتها الامتيازات باسم الدين والوصاية عليه. وليس ذلك ممّا يقوم فـي أساس هدف إصلاح الـمجال الديني عندنا إلّا فـي أجزاء منه هي، فـي النهاية، لصيقة الصلة بإدخال الدين فـي لعبة السياسة والـمصالح.

ورابعها فـي أنّ البروتستانتية، التي تمرّدت على الكنيسة الكاثوليكية وعلاقاتها بالـملوك والأمراء فـي أوروبا، انتهت إلى التحالف مع الدول الوطنية القائمة لحماية نفسها، فكان أن نشأت كنائس وطنية بروتستانتية فـي هولندا وإنكلترا والـمانيا وسواها من بلدان البروتستانتية، فكان ذلك نموذجاً بُنِيَ عليه فـي أوروبا لقيام كنائس وطنية‏[40]. وليس الهدف من إصلاح الـمجال الديني عندنا نقل الدين من وظيفة سياسية إلى أخرى، ولا وضع مصير الإسلام تحت وصاية وصيٍّ سياسي.

أمّا خامسها ففـي أنّ البروتستانتية تولَّدت من رحم الحروب الدينية، وانتهى بها الـمطاف الأخير من الإصلاح الديني إلى التمذهب، أي إلى الصيرورة مذهباً جديداً والسقوط فـي فخّ ما كافحت ضدّه. وليس ذلك ما نبغيه لإصلاح الـمجال الديني عندنا؛ فنحن نريده لِنَجْنُبَ مجتمعاتنا تجربةَ الحروب الدينية التي أطلّت علينا نُذُرُها، منذ مطلع هذا القرن الحادي والعشرين؛ ونحن نريدُه مُدخـلاً إلى الحدّ من الـمفاعيل الـمدمِّرة للـمذهبية والتمذهب، ومناسبةً لوضع قواعدَ متوافَق عليها لئلّا ينزلق الاختلاف الديني والفقهي والكلامي إلى خلافٍ سياسي يتعصّى على الاستيعاب، أو يقود إلى الاشتجار.

تلك جميعُها فروقٌ بين نموذجيْن للإصلاح مشدوديْن، معاً، إلى سياقات التاريخ الاجتماعي والسياسي والديني الخاصّ بكلٍّ منهما؛ وهي فروق لا تقْبَل الإغضاء عنها بدعوى «كونية» نموذج الإصلاح الديني الأوروبي. وإلى ذلك فإن الـمدخل إلى الـموضوع مختلف؛ كان الهدف فـي أوروبا القرن التاسع عشر إصلاح الدين، أو إحداث حركة إصلاحية داخل الـمسيحية، أمّا عندنا فالهدف إصلاح الـمجال الديني، أي جملة البنى والـمؤسسات والعلاقات والتشريعات السياسية الـمتعلقة بالدين، لا الدين نفسه. لذلك قلنا إنّ الإصلاح الـمنشود عندنا لن يقوم به «رجال الدين» حصراً، كما فـي البروتستانتية، وإنما سينهض بأمره كثيرون، وفـي جملة هؤلاء علـماء الدين، ولكن فـي حيِّزٍ مخصوص، هو (الحيّز) الـمتعلّق بقراءة نصوص الدين، علـماً أنّ هذا الحيّز – على محدوديته فـي مسألة إصلاح الـمجال الديني – ليس قصراً على علـماء الدين وحدهم، وإنما يشاركهم فـيه دارسو الإسلام وتراثه الديني من الباحثين الآخرين ممّن يملكون ان يقدّموا معرفةً بالدين والـمسألة الدينية. ويمكننا الآن، فـي ضوء الـمقدمات التي بسطناها أعلاه حول مبادئ إصلاح الـمجال الديني، أن نحدد من هي القوى والهيئات الاجتماعية والثقافـية التي سيكون عليها أن تنهض بدورٍ ما فـي عملية إصلاح ذلك الـمجال. وسنختصرها فـي اثنتين: النخب العلـمية والدولة.

نعني بالنخب العلـمية جماعات الدارسين للفكر الديني، والفكر الإسلامي عموماً، والباحثين فـي الشأن الديني العامّ. والجماعات هذه متعددة الـمنابت والـمواقع، متباينة الرؤى والـمنطلقات؛ ففـي جملتها علـماء تقليديون فـي العلوم الشرعية يتداولون الـمعرفة الشرعية التقليدية فـي مجالاتها الـمختلفة (تفسير، حديث، أصول الفقه، أصول الدين…)، بالـمناهج القديمة التي تعتمد العرض والشرح والاختصار؛ وفـي جملتها باحثون مختصون فـي الدراسات الدينية والإسلامية، متوسّلون مناهج حديثة فـي التحليل وقراءة النصّوص مستقاة من العلوم الاجتماعية والإنسانية، ومطبَّقة فـي ميدان تاريخ الأديان الـمقارِن، وعلـم الاجتماع الديني، وفلسفة الدين، وتاريخ الفكر. وإلى هذه التباينات فـي الرؤى والـمناهج، تختلف جماعات الدارسين بين جماعات مرتبطة بالسلطة والـمؤسسات الدينية الرسمية، وأخرى عاملة فـي مؤسساتٍ للبحث أو الدعوة خاصّة وتابعة لحركات إسلامية، وثالثة مستقلة عن هذه وتلك ومشدودة إلى برنامج عمل أكاديمي. كما أنها جميعَها تتقسَّمها الجامعات والـمعاهد ومراكز البحث الخاصة بالفكر الديني والإسلامي؛ يعمل الـمنتمون إلى الأولى فـي كليات وجامعات شرعية، فـيما يعمل الـمنتمون إلى الثانية فـي كليات وجامعات حديثة.

ربما لا يكون لهذه التباينات بين الدارسين – رؤًى ومنطلقات ومناهج وانحيازات – الأثر الكبير فـي نجاح أو إخفاق هؤلاء وأولئك فـي التصدي لِـما هُم مطالبون به إلّا فـي حدودٍ ضيّقة تتعلق – أساساً – بمناهج الدراسة ودرجة الإلـمام بها وحُسْن استخدامها. ما دون ذلك تبقى حظوظ الأوّلين والأخيرين متكافئة فـي تقديم الخدمة العلـمية الـمطلوبة، لأنهم يشتركون فـي حيازة مقادير مختلفة من الـمعرفة بالشأن الديني لا يلغي بعضُها بعضاً وإنْ تباينت وتباعدت‏[41]. على أنه مثلـما على العلـماء التقليديين أن يتحرروا من مناهجهم العتيقة وينفتحوا على الـمناهج الحديثة، على الباحثين العصريين أن يتعمقوا الـمعرفة بتراث الإسلام الديني والثقافـي فـيقرؤوا النصّوص لا أن يكتتفوا بالظواهر والتجليات واختصار الإسلام فـيها.

تستطيع النخب العلـمية أن تنهض بدورٍ كبير فـي إعادة بناء صلة الوعي (الفردي والجمعي) بالنصّ الديني من طريق تطوير أدوات قراءته. الأعباء هنا، أيضاً، متفاوتة؛ ليس مطلوباً من مالكي الـمعرفة التقليدية من الدارسين الإسلاميين سوى جسْر الفجْوات الرهيبة بينهم و(بين) لحظات الاجتهاد الكبرى فـي تاريخ الفكر الإسلامي، ويكون ذلك من خلال اطِّرَاح التقليد، ونبذ تراث الشروح والـمختصرات، الذي ساد منذ ما يزيد على تسعمائة عام، والعودة إلى الاندفاعة الكبرى للعقل والإبداع بين القرنين الثالث والخامس للهجرة (التاسع والحادي عشر للـميلاد). ولكنّ العودة هذه لا تكون مفـيدة أو منتجة إلّا متى استُؤنِفت حركةُ الاجتهاد من جديد، وغذّت نفسَها بالانفتاح على ثمرات الـمعرفة الإنسانية الـمعاصرة؛ تماماً مثلـما فعل الـمجتهدون الأُوّل الذين انفتحوا على الثقافات السابقة والثقافات الـمحيطة. أمّا من يملكون معارف حديثة، من الـمشتغلين فـي ميدان دراسات الإسلام، فالعبء عليهم قد يكون أثقل؛ إذ هم مطالبون بالـمساهمة الحاسمة فـي إعادة تأسيس رؤيةٍ جديدة إلى التراث الديني، من طريق تقديم قراءةٍ جديدة له تتوسّل الـمفاهيم والـمناهج الحديثة، وتعيد النصّوص إلى سياقاتها التاريخية واللغوية والدلالية، لفهم أحكامها ضمن شروطها، وتمييز ما هو فـي حكم الـمبادئ العليا الدينية الـمؤسِّسة وما هو فـي حكم الاجتهادات البشرية. إنّ قراءةً جديدة من هذا النوع لا يمكن أن تكون إلّا نقدية؛ تفكِّك منظومة الوصاية الفقهية والكلامية على النصّ الديني، وترفع عنها التعالي الـمزيَّف الذي خُلِعَ عليها لعصورٍ مديدة، فتعيدها إلى حيّزها البشري، بما هي منظومة آراء واجتهادات قابلة للتعديل وحتى للتجاوز، قصد تحرير الدين من الوصاية التي تصادره باسم التفسير «القويم» و«الـمطابق». والـمدخل إلى ذلك يكمَن فـي نقد النظرة التبجيلية السائدة إلى التراث، وإلى أئمة الـمذاهب، لفتح أفقٍ أمام رؤية تاريخية موضوعية إليه بعيدة من نزعتين بغيضتين: التبجيل أو التحقير!

لا مهْرب لـمشروع إصلاح الـمجال الديني من إطلاق هذه الورشة الفكرية التجديدية داخل الفكر الإسلامي، لأنها وحدها تَفْتح الكُوى فـي جدار الانغلاق والتحجّر، وتتيح للـموروث الديني والفكري أن يتنفّس هواءً نقيّاً، وللإشكاليات والرؤى والقراءات أن تتجدّد، ووحدها تعيد إلى الاجتهاد والعقل مكانتهما كقيمتين ثمينتين من قيم الـمعرفة. ومن شأن ذلك، قطعاً، أن يوسّع مساحة النظرة الرشيدة إلى الإسلام فـي مقابل ثقافة الانغلاق والجمود والتعصب والتطرف، وأن يوسّع نطاق تأثير الفكر التاريخي والنقدي فـي مواجهة طغيان النزعات النصّية – الإيمانية اللاتاريخية. وما أغنانا عن القول إنه كلـما حصل تقدُّمٌ على جبهة قراءة التراث الإسلامي، ونقد الرؤى التبجيلية والأسطورية اللاتاريخية إليه، وبيان الفارق بين الدينيِّ الـمتعال (الوحي) والبشريّ (اجتهادات الأئمة)، ونقد الـمواطآت التاريخية بين الـمؤسسة الفقهية والسلطة السياسية…، حَصَل تقدُّمٌ – بالتَّبِعَة – فـي مجال تفكيك الكَهْنَتَة، والوساطة الوصائية، فـي أفق تحطيم الأسوار الـمنصوبة بين الـمؤمنين وكتابهم، وتحرير العلاقة الـمباشرة بين الـمسلـمين والقرآن من السلطات الـمزعومة الـمتنزِّلة منها منزلة الوساطة والسّدانة و، بالتالي، احترام إيمانهم وطرق فهمهم لتعاليم الدين من دون تنميطٍ ومَذْهَبَةٍ إكراهية لذلك الفهم. لا يحتاج الناس إلى من يفسّر لهم دينهم؛ يحتاجون إلى اكتساب الأدوات التي تسمح لهم هُمْ بتفسير تعاليمه؛ لأنهم – فـي تعريف الدين – مكلَّفون، والتكليف يُسقِط الحجْر والوصاية.

على أنّ أيّ جَهْدٍ تبذُله نخب العلـماء والدارسين فـي مضمار تقدُّم الـمعرفة بالإسلام لن يساويَ شيئاً، فـي حساب الأشياء، إنْ لـم يَجد له الحامل السياسي الذي يُنْفِذُ أمرَه، ويحقّق له السلطان الـماديّ؛ وليس الحامل ذاك سوى الدولة. إنّ ما تستطيعه الدولة فـي إطار إصلاح الـمجال الديني يعادل أضعافَ أضعافِ ما تستطيعه النخب. ولا يتعلق الأمر فـي هذا بكَمِّ ما تقْوى الدولة على إنجازه من خلال التشريعات والـمؤسسات، وإنما يتعلّق بالـمَدَيات الزمنية التي تملك فـيها أن تُنْجز ما قد تنجزه من إصلاحات؛ فما قد يأخذ من النخب عقوداً من الجَهْد والإنتاج يأخذ من الدولة سنوات. وإلى ذلك لإجراءات الدولة من الامتياز ما ليس لاجتهادات العلـماء والدارسين؛ إنّ ما فـي وسع الأخيرين إنجازه هو، على أهميته، غير ذي سلطةٍ إلزامية على أحد، خلافاً للدولة التي تفرض ما تفرضه بقوّة الإلزام القانوني. ويَرُدُّ الفارقُ بين السلطتين العلـمية والسياسية، الـمعنوية والـمادية، إلى أن الأولى سلطة فردية، يأتيها صاحبُ فكرةٍ أو رأي، لا يكون لها نفوذٌ فـي الناس إلّا من طريق علاقة الإقناع/الاقتناع. ولا يغيِّر من الحجم الـمتواضع لهذه السلطة أنّ الفكرة تلك قد تصبح فكرةَ جماعةٍ (من العلـماء) لا فكرة فردٍ واحد، فتتحوّل – بالتّبِعة – إلى تيّار أو مدرسة، ولكنّ صيرورتها إلى ذلك‏[42] لا تمنحها طابعاً إلزامياً، ولا تغيّر من حقيقة أنّ القول بها يُلزِم القائلين بها حصراً، أو بصورةٍ رئيس. أمّا السلطة الثانية (= سلطة الدولة) فهي سلطة إلزامية، ومأتى إلزاميتها من أنّ الدولة تمثّل الأمّة وتعبر عنها وعن الإدارة العامّة، وهو ما يجعل السلطة هذه سلطة عامة لا سلطة فردٍ أو نخبة حتى وإن هي تجسّدت فـي فردٍ أو نخبة.

على أنّ قدرة الدولة على فرض إصلاحات بقوّة التشريعات والقوانين – وتلك سيرةُ أيّ إصلاحات حصلت فـي أيّ بلدٍ فـي العالـم فـي أيّ زمن من الأزمنة – لا تعني، بحال، أن الحاجة إلى عمل النخب العلـمية فـي مضمار الاجتهاد الديني عديمة، أو أنّ الدولة فـي غَنَاءٍ عنه؛ إذِ الدولة لا تملك أن تقدّم رؤيةً فـي مسألة إصلاح الـمجال الديني بمعزلٍ عن تلك الاجتهادات والأفكار التي تنتجها النخب العالِمة الـمتخصصة، حتى أنّه يسعنا القول إنها، فـيما تنهض به من تشريعٍ وتنظيمٍ فـي هذا الباب، إنما تطبّق رؤى النخب تلك متوسِّلةً قوَّتها الإلزامية. وهي لا تفعل ذلك، طبعاً، إلا حينما تصبُّ الرؤى تلك فـي مصلحة استقرار الدولة، والسّلـم الاجتماعية، وسلامة الدين، والحق العمومي فـيه وفقاً لـمبدإ الحرية الدينية الذي تقضي به قوانينُها. ولكنّ الرؤى والأفكار التي تقدّمها النخب العالِـمة لن تستطيع – أيّاً تكن قيمتُها وفائدتُها العمومية – أن تفرض نفسَها على الكافّة من دون الحامل السياسي الذي يُصَيِّرها كذلك، وإلّا ظلت محدودة فـي بيئات ضيقة. وهذا ما يطرح السؤال عن مدى قدرة الدولة على الوفاء بدورها فـي خدمة الـمصلحة العامّة من وراء سياستها الدينَ، أو سياساتها فـي الـمسألة الدينية. ما الذي يضمن أن لا تدير الإصلاحات على النحو الذي يخدم، حقّاً، الـمصلحة العامة تلك، أو أن تديرها على نحو يجيب عن مصالح فئات بعينها من دون أخرى، أو فريقٍ من الـمجتمع من دون آخرين؟

يعيدنا السؤال إلى مفهوم الدولة والفارق بينه ومفهوم السلطة والنظام السياسي. وليس هذا موضوعنا‏[43]، وإنْ كان التفكير فـيه ضرورياً وتحمل عليه سوابقُ من مصادرة النظام السياسي للدولة، ولكنَّ أكثر ما يُهِمُّنا فـيه أن نشدّد على مبدإ سبقت الإشارة إليه هو أنّ على الدولة أن تبسُط سلطانَها على الـمجال الديني حين يَكون بَسْطُها السلطان ذاك معبِّراً عن إرادة عامة، ثم حين يكون الناجم منه تحييد الدين من النزاعات الاجتماعية والسياسية، والحفاظ له على نصابه الروحي ووظيفته التوحيدية التضامنية، من جهة، وضمان وحدة الدولة واستقرارها، من جهة ثانية، من خلال الـمُمَايَزة القاطعة بين الـمجالين الخاصّ والعامّ، بين مجال الإيمان ومجال الـمواطنة، بين الروابط الروحية (العمودية) والروابط القومية أو الوطنية (الأفقية). والدولة إذْ تبْسُط سلطانها على الدين، لا تتدخّل فـيه – كما نوَّهنا قبْلاً – أو تفرض على مواطنيها مِلَّةً بعينها أو مذهباً بعينه (على مثال ما كانت تفعله الدول السلطانية التقليدية فـي العصور الوسطى، أو على مثال ما تفعل أنظمة عربية وإسلامية تزعُم الحكمَ بمقتضى الشريعة)، وإنما تتدخّل: 1 – لحماية الاعتقاد وممارسة الشعائر؛ 2 – لـمنع استخدام الدين فـي الـمنازعات الاجتماعية والسياسية بما قد يهدّد وحدة الجماعة الوطنية (= الشعب) ووحدة الدولة؛ 3 – منع مصادرة الدين من الـمجتمع، من قبل فئة أو جماعة، واحتكار النطق باسمه، والوصاية على الناس بدعوى حيازة «صحيح الدين» انطلاقاً من مبدإٍ قررناه أعلاه هو أن الدين ملْكية عامّة للأمّة جمعاء لا يجوز تفويتُها لفريقٍ فـي الـمجتمع على حساب آخرين؛ 4 – ثم الإشراف الرسمي على مؤسساته وهيئاته، والإنفاق عليها – من الـمال العام – وعلى أماكن العبادة ومؤسسات التكوين الديني والـمال الـموقوف عليها وعلى غيرها.

والدولةُ ليست مخيَّرة بين أن تنهض بهذه الأدوار، تجاه الدين، أو أن تعْزِف عن ذلك وتُحجم؛ ذلك أنّ أيَّ استنكافٍ منها عن أداء الأدوار تلك آيِلٌ بها وبالـمجتمع إلى ما لا عَدّ له ولا حَصْر من الـمشكلات. وهل أتَتْنَا الـمصائب والنّكبات إلّا من ذلك الاستنكاف، أو من التراخي فـي أداء الدور ذاك؟ ليس من مصلحةٍ لأحدٍ فـي انسحاب الدولة من الشأن الديني – كما كان يقول بذلك بعض الخطاب اليساري الغِرّ بدعوى كفِّ يدها عن استغلال الدين فـي السياسة – لأنّ الانسحابَ إيّاه هو، بعينه، التسويغُ الرسمي للاستخدامات والتلاعبات السياسية بالدين، من طريق إنشاء مقاولات سياسية – دينية بأسماء مختلفة (جمعيات دعوية، أحزاب إسلامية، روابط دينية، مؤسسات خاصة للتعليم الديني…). وهل آفاتُنا اليوم، ومنذ عقود، إلّا من هذه الـموجة من الاستخصاص (الخصخصة، الخوصصة) (Privatisation) السياسي للدين؟ لسنا، هنا، أمام برنامج للعلـمنة فوريٍّ لأنّ دون العلـمانية فـي بلادنا صعاباً كثيرة، ولأن العلـمنة نفَسَها ثمرةُ تاريخٍ تراكمي‏[44] من الإنجازات فـي مضماريْن مترابطيْن: فـي مضمار بناء الدولة الوطنية الحديثة، حيث لا علـمانية إلّا فـي إطارها، وفـي مضمار إصلاح الـمجال الديني، حيث العلـمنة لاحقةٌ عليه لا سابقة له أو مساوِقة فـي الزمان.

ما الذي على الدولة أن تنجزه فـي مضمار إصلاح الـمجال الديني؟

مهمّات كثيرة تفرض نفسها عليها فـي هذا الـميدان؛ إنْْ على صعيد الـمنظومة التشريعية والقانونية الخاصة بالـمجال الديني، أو على صعيد طرق إدارة مؤسساته العلـمية والعبادية والوقفـية والإفتائية والقضائية (الشرعية)، أو على صعيد برامج التكوين الـمدرسي والجامعي الديني: سواء فـي الـمدارس الأصيلة والـمعاهد الشرعية والكليات الخاصة بالعلوم الدينية، أو على صعيد الـمدارس والجامعات العصرية حيث لبعض الـمواد الدينية حصّة فـيها، أو على صعيد مدارس ومعاهد تكوين الدُّعاة وخطباء الجوامع والـمعلّـمين فـي الـمدارس القرآنية والدينية. وليس مما يدخل فـي صلب مهمّاتنا، هنا، أن نضع برنامجاً لعمل الدولة فـي مجال إصلاح الحقل الديني وإعادة هيكلته، فذلك من مشمولات عملها وعمل الفرق الـمتخصّصة التي تُنْشِئُها لهذا الغرض، وإنما يعنينا، فـي الـمقام الأول، أن ننبّه إلى أنّ أيَّ مشروع للإصلاح وإعادةِ الهيكلة، فـي هذا الباب، لا يمكنه أن يتجاهل الـمبادئ الكبرى الأساس التي لا مهرب له من الاستناد إليها فـي أيِّ تشريعٍ، أو إجراءٍ أو قرار؛ ونحن نسوقها، فـي إيجازٍ شديد، فـي عناوينَ:

1 – النَّصُّ القانوني والتشريعي على الـمسؤولية الحصرية للدولة وأجهزتها الـمختصة (الـمجالس العليا أو الهيآت العليا للعلـماء، دُور الإفتاء) فـي الإشراف على الشأن الديني، منعاً لتعدُّد الـمرجعيات والتلاعبات السياسية بالدين. على أن تُمَثَّل فـي أجهزة الإشراف تلك القوى الفقهية والكلامية كافة، وتُتْرَك مساحات أمام احترام اجتهادات كلّ مدرسةٍ من مدارس الفقه فـي الـمسائل الـمتصلة بالأحوال الشخصية، والتسامح فـي تطبيقها إن لـم يكن لـمثل ذلك التطبيق أن يمس بحقوق ذوي الاجتهاد الـمختلِف. على أنّ إشراف الدولة على الـمجال الديني لا يختصّ إلّا بما هو عامّ فـي الدين، وما لَهُ علاقة بالشأن الاجتماعي والسياسي العامّ، وما دون ذلك لا يَحقّ للدولة أن تتدخَّل فـي الاعتقادات والعبادات؛ لأنّ هذه فـي جملة الحقوق الخاصة للـمؤمنين ومواطني الدولة، ولأنّ التدخّل فـيها ينال من مبدإ وجوب صوْن الدولةِ حقوقَ الـمواطنين الخاصة وحرياتهم.

2 – ينبغي لإشراف الدولة على الـمجال الديني أن لا يتعارض مع التزاماتها بمبدإ الـمواطنة، حيث الـمساواة القانونية بين الجنسين، وبين أفراد الـمجتمع كافة، وحيث الحقوق مكفولة للجميع بصرف النظر عن «الأصول» العرقية والدينية والـمذهبية، وحيث القانون مشتقٌّ من مبدإ الـمصلحة العامّة ومعبِّرٌ عن سيادة الأمّة.

3 – ينبغي لأيِّ مشروعٍ لإصلاح مؤسّسات الحقل الديني أن يلحظ الحاجات الأربع التالية:

أ – الحاجة إلى احتكار سلطة الإفتاء من قِبل هيئة شرعية خاصة مأذونة من الدولة (دُور الإفتاء فـي البلاد العربية أو مؤسَّسة إمارة الـمؤمنين فـي الـمغرب)، وحسبانِ أيّ «فتوى» غير رسمية رأياً فـي الشأن الديني تحت سلطة القانون، ولا يُلْزِم أحداً.

ب – إعادة تأهيل الـمجالس والهيئات العليا للعلـماء – الـمخوَّلَة بإنتاج الرأي الرسمي فـي الشؤون الدينية – من خلال تمثيل ذوي الكفاءات العلـمية فـيها من جمهور العلـماء غيرِ التقليدي؛ وتطوير أدائها وطرق تناولها الـمسائل الشرعية؛ وتمكينها من التدخّل لـمعالجة الـمعضِلات التي تطرأ فـي الـمجتمع نتيجة الخلاف على شأنٍ ما يتَّصل بالدين، وذلك بإخراجها من هامشيتها الـمديدة وتمكينها من الـمخاطبة العمومية للجمهور‏[45].

ج – تطوير منظومة القضاء الشرعي بتجديد تشريعاته وتكييف أحكامها مع منظومة الحقوق الـمدنية ومبدإ الـمواطنة والـمساواة القانونية لئلّا يقع التعارض في تعدُّد المرجعيات القانونية للدولة. ولا يكون ذلك، فقط، عن طريق الاجتهاد الفقهي وإنما من خلال إعادة تأهيل قضاة الـمحاكم الشرعية علـميّاً؛ فـي مراحل التكوين، وحيث يستلزم ذلك تمكينهم من مصادر الـمعرفة الحديثة فـي ميدان علـم القانون، جنباً إلى جنب مع تلقُّنهم الـمعرفة بنصوص مدارس الفقه الإسلامي كافة، ولحظات الاجتهاد فـيها خاصة؛ وفـي مرحلة التكوين الـمستمر التي تعقب تخرّجهم وتقلّدهم مناصب القضاء، وحيث يكون عليهم أن يتأقلـموا مع موجبات تكييف القضاء الشرعي مع قوانين الدولة الوطنية، وجَسْر الفجوات بينهما.

د – إعادة هيكلة قطاع التعليم عامة، والتعليم الديني خاصة، وإحداث التغييرات الضرورية فـي برامجه بحيث يتأقلـم مع موجبات التطوّر، ويؤمِّن فرصاً للتكوين الحديث والعقلاني لجمهور الـمتعلـمين فـي ميادين العلوم الدينية، وفرصاً لاتصالهم بمصادر الـمعرفة الحديثة، بما فـيها مجالات الدراسات الدينية فـي العالـم الـمعاصر. ولا نضيف جديداً حين نقول إنّ الإصلاح على هذه الجبهة مقَدَّمٌ على أيّ إصلاح، لأنه يقع منه بمنزلة الأساس، أو قُل هو منه في «موضع المُحَّةِ من البَيْضة» كما يقول القدماء؛ إذْ لا مجال لتزويد دولةٍ بالأطر والكفاءات العلـمية التي تضطلع بمسؤولياتٍ رسمية فـي مجالس العلـماء والإفتاء، وفـي مؤسسات القضاء الشرعي، وفـي التدريس الـمدرسي والجامعي، وفق منظور إصلاحي متفتّحٍ ومستنير، متصالح مع عصره ومكتسبات عصره، من دون تعليمٍ عصريّ عقلاني وإيجابي يؤهّل الـمتلقي لاكتساب أفصل الـمعارف بدينه وتراثه وتاريخه وحاجات حاضره ومستقبله، وبالثقافات الإنسانية جمعاء.