… وتمر الأيام؛ 25 يناير؛ 11 فبراير؛ للمرة الثالثة بعد ثورة الشعب في 2011، وتعيش مصر أجواء غامضة في ميادين الثورة وخارجها.

ويخرج الإخوان بعد عامٍ كبيسٍ من رأس السلطة التي حلموا بها وواتتهم الفرصة فانتزعوها، وخلقوا التفجيرات والسيارات المفخخة التي تحمل ملامحهم في الشوارع والحارات، وتتولد عن هذه الأجواء المشحونة بالخوف والقلق أسئلتها الضرورية: أين نحن الآن؟ وماذا جرى؟ هل حقاً عاشت مصر حلم الثورة أم كابوسها وشبحها؟ أين المأزق؟ ولماذا لا نصل ـ بعد ـ إلى بر الأمان؟ إلى متى يظل المصريون يطرحون الأسئلة، ويشخصون النظر فيرتد إليهم البصر خاسئاً وهو حسير بلا إجابات؟

وخشيت وأنا أشاهد أعراض حالة الشكّ التي نعيشها ويتسرب اليأس إلى المصريين في قدرتهم على التغيير والنهوض إلى المستقبل الذي يستحقونه، رغم طوفان فوراتهم وتعدد موجاتها الهادرة في درب الحرية.

ما هي الحقيقة بعد كلّ ما جرى خلال ثلاث سنوات من تداعيات ثورتهم، ومتى ومن أين يبزغ الأمل؟

وجدتني أحمل أوراقي وأسئلتي إلى رجل أكسبته تجارب السنين، ومعايشة أزمات السياسة ومعرفته بمفاتيح مصر، قدرة على توصيف الحالة وتشخيص العلة، ورسم الطريق في ظلمة الأجواء.

إنه الأستاذ محمّد حسنين هيكل؛ في حوار الصراحة مع «الأهرام» عن الثورة وأين نحن منها، وما هي الحقيقة؟ وهل بقيت في عتمة الأفق مسارات للأمل؟

كيف يرى الأستاذ هيكل حصاد ثلاثة أعوام من خروج المصريين في ثورة على حكامهم وحكوماتهم. ما هو تفسيرك لتلك الحالة الدائمة من «الفوران» بعد عقود من الكمون واستبعاد الثورة ؟ وهل نحن إزاء حالة سوف تستمر طويلاً، أم مرهونة بوصول من يثق فيه المصريون في صناعة طريق الأمل؟

في كلّ ما سمعت منك حتّى الآن كثير عن قضية الثورة، ذكرت مرة «ذلك يوم من الثورة»، وتحدثت عن «نجاح الثورة»، وأشرت إلى «إحباط الثورة»، ثمّ تكررت كلمة «الثورة» عدة مرات. وجهة نظري مركّبة بعض الشيء، ولعلّي أتمكّن من شرحها. لعلّك لاحظت ومنذ 25 يناير 2011 أنّني اقتصدت في ما كتبته أو تحدثت به في استعمال كلمة «الثورة»، وآثرت أن أستعمل «حالة ثورة».

على نحو ما، كان شعوري أن هناك شيئاً ما تغير في هذه القضية. الثورة في ما عرفنا من سوابق التاريخ دورة كاملة متصلة:

ـ شعب غاضب لا يستطيع احتمال ما هو فيه، وينتفض لتغييره.

ـ فكرة أو تصوّر يبشِّر بقدرته على وعد المستقبل.

ـ قيادة مُعتَرف بها تقود الجماهير في طلب الفكرة أو التصوّر.

ـ النظام القديم يسقط.

ـ والأفكار والمشروعات الجديدة تحت قيادة النُخَب الجديدة تضع نظاماً يحلّ محل نظام.

دورة كاملة مثل قصة مكتملة:

قصة تدور على مشهد (وطن)، لها بطل (على مستوى شعب)، ولها ذروة (سقوط نظام قديم)، ولها عقدة تنفك وينزل الستار (بعد مجيء نظام جديد يحلّ محل نظام قديم!).

ذلك حدث في الثورات التي نستطيع رصدها في الزمن القريب، سواء تلك التي نجحت في بلوغ هدفها، أو التي فشلت. الثورة البلشفية كانت كذلك. أمة مستعبدة لقيصر مستبد، وفكرة الشيوعية تطرح نفسها، ثمّ حلم موعود. وهناك حزب منظم يقوده «لينين»، وطلائع ثورية معه، وهم يستولون على السلطة، والقيصر يسقط ومعه كلّ أسرته (أسرة «رومانوف»)، والنخبة القائدة (الحزب الشيوعي) تدخل بأفكارها ونظرياتها لكي تحكم.

ذلك أيضاً وقع في الثورة الإسلامية في «إيران». الشعب الإيراني غاضب من نظام «الشاه»، و«آية الله الخميني» يقود ثورة تطيح بأسرة «بهلوي»، و«الخميني» يتقدم للسلطة بمرجعيّة الإمام الغائب، وتقوم الجمهورية الثورية الإسلامية على أنقاض عرش الشاهنشاه (ملك الملوك!).

عندنا في مصر مثال قريب من هذا النوع، هو ثورة 23 يوليو 1952. شعب غاضب؛ شباب من الجيش يقودون حركة عصيان؛ الملك «فاروق» يخرج ومعه أسرة «محمّد علي»؛ روح الثورة تصنع زعامة وطنية ضدّ قوى الاحتلال حتّى تفرض عليها الجلاء؛ وبقرار «جمال عبد الناصر» تأميم قناة السويس تكتمل دائرة الثورة.

الدورة كاملة، وهي طبيعية حتّى في أحوال تسارع حركتها أو تصاعدها إلى درجة العنف، تبقى الدائرة موصولة: لها بداية؛ لها ذروة؛ لها نهاية!

إذن في إطار «الدورة الكاملة» التي تتحدثون عنها، ما هو موقع المشهد في مصر من تلك الدورة؟

تعال الآن إلى «حالة الثورة». «حالة الثورة» نفس النوع، ولكن فصيلة مستجدة جاءت بها تطورات العصور!

«حالة الثورة»؛ رفض وتمرد على وضع قائم وغير قابل للاستمرار، وحركة متدافعة، وسلطة قديمة تسقط، لكنه برغم الحركة الجارفة للجماهير وهديرها، فإنه ليست هناك فكرة جامعة تحشد للمستقبل، وليست هناك قيادة مُعترف بها تقود الحشد وتوجهه، وإنما هناك فراغ يمنع الدائرة من أن تكتمل.

الفراغ في بعض اللحظات يدعو جماعات وتنظيمات ـ وحتّى أفراداً ـ إلى الساحة أو اقتحامها أو التسلل إليها؛ لكنهم ليسوا من معدن الحدث، ولا من طبيعته، وكذلك تبقى الدائرة مفتوحة ولا تتصل، لأن الحركة انفجرت قبل أن تجد فكرتها، وقبل أن تجد قيادة تعبِّر عن سلطتها وتقيم نظامها. وذلك بالضبط ما جرى في مصر؛ الثورة طلب للتغيير بلا تصوّر يجسد طموحه، وبلا قيادة تمثل شرعيته.

الأحزاب القديمة الموجودة على الساحة لا تملك فرصة ملء الفراغ، لأن الزمن تجاوزها وابتعد. وهناك تيار إسلامي لا يستطيع هو الآخر ملء الفراغ، لأنه بالطبيعة تيار محافظ، وتناقضات التاريخ البعيد بما فيها صراع المذاهب تسكنه، والثورة بالضرورة حدث جديد آن أوانه، وحركة مستقبل لم يعد قابلاً للحل إلا بوسائط العلم، وكذلك تبقى الإشكالية دون حلّ.

في ظرف «الثورة»: هناك سؤال وهناك جواب. وفي ظرف «حالة الثورة»: هناك أسئلة، وليست هناك إجابات، وهناك حركة ولكن هدفها يتعثر وهو حتّى الآن لا يحقق وعده. هي إذن بدايات لا تلحقها نهايات.

وكذلك فإن «حالة ثورة»؛ تواصل حركتها بالقلق وبالعصبية، وتكاد تُقارب الفوضى، أو تتحول بالفعل إلى فوضى، لأنها تدفق تلقائي، ليس لديه مسار معلوم، وليس في آخره مصبّ معيّن!

لو كان التدفق تلقائياً ومسار المستقبل غير معلوم، نحن إذن أمام مأزق أو حالة من السيولة التي تحمل مخاطر جمة؟!

أنت تسأل وأنا معك أسأل: أين المأزق؟! ولماذا لا نصل؟! ولماذا نطرح السؤال ولا نجد الجواب؟! وهل هناك خطأ؟!

والرد: أنه ليس هناك خطأ، وإنما هي طبائع أشياء، أو بالتحديد طبائع عالم وعصر. متغيرات الزمن والعصر غيَّرت أشياء كثيرة مما عرفناه وألِفناه. في أزمنة مضت كان العالم دولاً لها حدود سياسية معروفة، ولها سيادة على إقليم محدد، لكن هذا الوضع ـ سواء اعترفنا أو أنكرنا ـ لم يعد موجوداً. الأمر الواقع الآن أن العالم كلّه حاضر ونافذ في كلّ بلد. داخله. في قلبه. فاعل مؤثر فيه ومن داخله!

العصر كذلك قادر على اكتساح الخطوط والحدود بوسائل لم تكن تخطر على بال، كنا دائماً نتحدث عن ثورة الاتصالات، لكننا لم نتصور أن ثورة الاتصالات سوف تنفذ إلى عمق حياتنا، بل وإلى عمق العمق من حياتنا. وسائل الاتصال الاجتماعي جعلت قضية الرفض والتمرد حركة عالمية عابرة للقارات، فهناك أجيال من الشباب في العالم ترفض أن تقودها رموز مراحل سبقت من بقايا الحرب الباردة، ومن بقايا المذاهب المتعددة التي شاركت في صراعات الحرب الباردة، أو حتّى ممّا تلا الحرب الباردة من انتفاضات مثل ربيع براغ، وربيع وارسو، فكلّ تلك المراحل في رأي أجيال الشباب أشباح من الماضي، لكنهم أمام حاضر مليء بالاحتمالات، ومستقبل مفتوح على الآفاق، وهم جميعاً يطلبون حلماً لم يتحقق بعد، ولكنهم يطلبون وبمثالية تصل إلى حدّ العدمية أحياناً!

الفراغ إذن مستمر، والدوامات الداخلة إليه تلف به إلى درجة تدعو للدوار، والفراغ مفتوح كذلك على الخارج، والخارج على استعداد لأن يدخل إلى العمق داخله؛ إلى عمق الأوطان، والفراغ يتسع أو يضيق بمقدار درجة التقدّم في أي بلد؛ فمع حركة التقدّم يضيق الفراغ، ومع جمود التخلّف تزيد الفجوة!

ماذا عن التداخلات والضغوط، وذلك العالم المعقّد الذي يحيط بالثورات في عالم اليوم؛ والحالة المصرية ماثلة أمامنا؟

كانت هناك ـ في ما عرفنا من تجارب ـ احتمالات معروفة لما تستطيع قوى العالم فعله إزاء أي أوضاع لا ترضى بها في بلد من البلدان، أو إذا وقع نزاع وصراع مع هذا البلد. كانت هناك إمكانية تدخل في شؤون ذلك البلد بالدعاية والتشويه والتشهير أو غيرها من ضروب الحرب النفسية. وكانت هناك احتمالات ضغوط اقتصادية وسياسية يمكن أن تصل إلى حدّ المقاطعة والملاحقة! وكانت هناك ظلال تهديدات عسكرية تلوِّح بالسلاح ضده وبالغزو.

ذلك ما عرفناه من إمكانية تدخل وتداخل العالم والعصر في الشأن الداخلي لأي بلد سواء مكشوف بفراغ. التدخل وإمكانياته واحتمالاته وظلاله، تجرى من الخارج؛ من خارج حدود هذا البلد. لكن التدخُّل الآن نافذ وعميق، يدخل بهما العالم والعصر إلى قلب أي بلد تظهر فيه ثغرة فراغ؛ يدخل إلى أهله في غرف نومهم. يؤثر على طعامهم وشرابهم، واصل إلى عقولهم وعقول أبنائهم والمحيطين بهم. نافذ إلى الرأي العام في هذا البلد وعلى اتساع رقعته.

في المواجهات السابقة كانت الضغوط كلها من الخارج، ابتداءً من الضغوط النفسية، إلى الضغوط الاقتصادية، إلى التهديد بالسلاح. والآن اختلفت الوسائل، وفي الوسائل الجديدة فإن الضغوط تتولد من الداخل، وتتركز على مواقع التأثير، وتبحث عن عناصر تتلاقى مع وسائلها، والضغوط لها فعل الزلازل ترج وتهز وتكسر، وتؤجج التناقضات الداخلية حتّى وإن وصلت إلى حدّ الحرب الأهلية.

إذن… نحن أمام منظومة معقّدة تسمَّى «ثورة»؟!

هناك معضلة تتصل بعلم الثورة في حدّ ذاته، وقد أصبح بالفعل علماً مستقلاً ضمن منظومة العلوم السياسية. هناك متغيرات كبرى لحقت بقضية الثورة في حدّ ذاتها. في ما مضى كانت للثورة أوصاف ومواصفات معروفة. الثورة الفرنسية أم الثورات الحديثة كانت ضدّ الملك وأمراء الإقطاع وسطوة الكنيسة، عبَّر عنها الزعيم الثوري الأكبر «روبسبير» بقوله: «إن الثورة لا تحقق مطلبها إلا إذا شنقنا آخر قسيس بأمعاء آخر أمير!».

الفكر الماركسي وهو دليل الثورات الحديثة كان يتحدث عن فائض القيمة، واستغلال البشر للبشر، ودكتاتورية الطبقة العاملة باعتبارها دكتاتورية الأغلبية، والقطيعة الكاملة بين دولة الثورة وما بعدها، وضرورة تحطيم النظام السابق عليها، وملكية وسائل الإنتاج بتأميمها من الأرض إلى الصناعة إلى التجارة.

هناك مستجدات كثيرة تغيرت، وقد زادت كمية المتغيرات على المستجدات، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وكذلك بعد تجربة نمو الصين الأسطوري. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ـ وحتّى من قبل سقوطه ـ سقطت دكتاتورية البروليتاريا لأربعة أسباب رئيسيّة:

ـ أولاً: دكتاتورية الطبقة العاملة أصبحت في الواقع دكتاتورية بيروقراطية الحزب الشيوعي.

ـ وثانياً: ملكية الدولة لوسائل الإنتاج عن طريق التأميم لم تثبت نجاحها، وإن ظلت مشاركة الدولة في قيادة عملية الإنتاج لأزمة، خصوصاً في العالم الثالث.

ـ وثالثاً: فإن فكرة الدكتاتورية نفسها سواء لطبقة أو لحزب لم تعد مقبولة، وحتّى في الدول الشيوعية السابقة فإن الاتجاه كاسح نحو التعددية الديمقراطية، وذلك نفي صريح لدكتاتورية الطبقة العاملة.

ـ وأخيراً: فإن فكرة فائض القيمة وهي الأساس في فكرة استغلال الإنسان للإنسان، أصابها نوع من الشرخ بسبب اختراقات تكنولوجيا العلوم، لأن التمكّن من التكنولوجيا بالمعرفة، كما حدث مثلاً مع أغنى أغنياء العالم وهو «بيل غيتس» في شركة «مايكروسوفت» حقق ثروة طائلة دون استغلال الطبقة العاملة، و«بيل غيتس» مجرد نموذج وغيره آلاف، فالفكرة الجديدة الآن لدى رجل يمكن أن تكون مصدر ثروة خرافية له.

هناك مشكلة أخرى كبيرة في قضية الثورة، وهي أن وسائل الإعلام الحديثة ألغت تقريباً دور الأحزاب السياسية المعبِّرة عن الطبقات الاجتماعية كما كان الحال سابقاً. ثمّ إن القادة الجُدد لم يعودوا نفس العقائديين الكبار، وإنما هم النجوم اللامعة في سماء الحياة العامة. الرئيس «كنيدي» في أمريكا مثال؛ كانت «الصورة» هي التي صنعته وليس الحزب الديمقراطي الذي اختاره مرشحاً له من خارج السياق الحزبي.

أكثر من ذلك فإن السياق الحزبي لم يفرز من القادة الناجحين إلا من استطاعوا أن يصلوا إلى درجة النجوم؛ «مرغريت ثاتشر» في» إنكلترا» نموذج! «رونالد ريغان» نفس الشيء، نجم قام بدور الرئيس. «باراك أوباما» نفس الشيء أيضاً، رجل من خارج السياق ليقنع العالم أن أمريكا تغيرت!

حتّى الديمقراطية التعددية التي حلت محل دكتاتورية الطبقة العاملة، وعمادها المعارك الانتخابية أصبحت تحتاج إلى أموال طائلة، والأموال الطائلة عدو طبيعي للثورة من الأصل والأساس. لاحظ إلى جانب ذلك أن الصين وهي بلد ما زال يحكمه حتّى الآن حزب شيوعي قوي ـ هو نفسه البلد الذي يضم أكبر عدد من أصحاب البلايين في العالم! ـ أليست هذه بالمقاييس الطبيعية للثورة الشيوعية ظاهرة متناقضة بالكامل مع «ماركس» و«لينين» و«ماوتسي تونغ»؟!

ما أريد قوله باختصار أن قضية الثورة في حدّ ذاتها لم تعد تلك التصورات المعروفة والمحددة في الأدبيات الشائعة، وإنما هناك مستجدات أتت بها أحوال جديدة ما زالت تفور. ما زالت تتفاعل. ما زالت تغلي في الدنيا كلها، كما عندنا!

هذه المستجدات مما عرضته كلّه من إشكاليات الثورة وقضاياها ـ أضاعت قدرة أي بلد مستهدف على إدارة شأنه الداخلي، وأصابت استقلال قراره، وعطلت دولته بمصاعب تزيد وطأتها، والمجتمع مهدد بالانفراط في غيبة دولة تحمي تماسكه. وهذا البلد المكشوف يواجه حالة سيولة تصبح قابلة للاستمرار دون حسم، فهي لا تتحول إلى دورة كاملة متصلة لها بداية ولها ذروة ولها نهاية. وفي حلقة لا تكتمل، فإن الدائرة تظل مفتوحة لثغرة أو ثغرات.

وإذن نحن هنا أمام لحظات خطر في حياة الأمم؛ تتبدى فيها مخاطر حياة بلا سقف، ولا أرض، ولفترة قد تطول.

هل وصلنا إلى منحنى خطر؟!

أريد أن أضيف أن «حالة الثورة» كما عرضت لظروفها ومخاطرها ليست عقيمة إلى الدرجة التي تخطر على البال لأول وهلة. هي لحظة انكشاف وخطر؛ صحيح، لكنّها أيضاً وحتّى في ظروف ما قد نعتبره انفلاتاً وفوضى؛ تحقق في وسط الزحام والتدافع والقيام والوقوع ما يمكن اعتباره عملية فرز واختيار، وقبول وعدول، واختبار وامتحان. خذ ما حدث في الحالة الثورية التي عاشتها مصر من 25 يناير 2011، وما نحاول النظر إليه بأكثر مما يبدو على السطح فيه. ما جرى هو أن الشعب المصري من خلال القلق في البحث عن المستقبل، أجرى ـ حتّى دون قصد ـ عملية فحص ودرس شديدة الأهمية، وهذه العملية أظهرت لديه أشياء، وأنكرت أشياء غيرها:

ـ مناخ الفوران في «مصر» أظهر مثلاً أن قوى الجماهير عنصر أساسي في المعادلة الوطنية، وفعلها مؤثر، وتجاهله خطر، لأن هذا الحضور لهذه القوى في المشهد العام أحدث فارقاً يدعو الجميع إلى الحذر في التصرفات، ويمهِّد لمشاركة من نوع ما، وذلك في حدّ ذاته إيجابي.

ـ مناخ الفوران أظهر أن البلد لا يريد حكماً تسلطياً، وهذا ظاهر لا يحتمل الالتباس.

ـ مناخ الفوران أظهر أن الادعاء بالدين لا يكفي غطاءً لحقائق دنيوية، اقتصادية اجتماعية وفكرية.

ـ مناخ الفوران أظهر أن الأزمة أكبر من الحلول السريعة المسكِّنة.

ـ مناخ الفوران أظهر أيضاً أن ما يجري في أي بلد أعقد من اعتباره شأناً محلياً يخصه وحده، أو يمكن التغطية عليه بأي وسيلة، مهما تنوعت الأساليب، وذلك في حدّ ذاته وبصرف النظر عن تعقيداته ـ تنبيه قوي بأن تظل التصرفات في إطار ما يمكن شرحه للجميع والدفاع عنه.

وتلك كلها إيجابيات أُضيفت إلى الحياة السياسية المصرية خلال فترة صعبة من البحث والتفتيش عن بداية جديدة لمستقبل مختلف في مصر. وهكذا فإن ما يتصوره بعضنا فوضى مطلقة أظهر أن له إيجابيات أكيدة، تساعد ـ كما قلت بالفرز ـ على سلامة الاختيار! بالفعل هناك سؤال بلا جواب، لكن الحركة الهادرة تركت على الأرض شواهد إيجابية تدعو إلى النظر؛ تدعو إلى البحث؛ تدعو إلى اليقظة، وهي تطرح المقاصد وتؤكدها من خلال عرض أحوالها!

الفوران في تلك الحالة يبعث طاقة إيجابية في شرايين الثورة، ولا يعني المشهد بالضرورة الاستسلام لحالة نفسية قاتمة!

لكي أشرح لك ما أتصوره في «حالة الثورة» من منظور مختلف؛ دعني ألفت نظرك إلى أن المسألة ذاتها جرت وبنفس مستجدات العصور في الأدب والفنّ، كما في قضايا السياسة، وضمنها قضية الثورة. نهايات تظل عالقة لبعض الوقت، أعمال أدبية وفنية بغير نهايات تقليدية، تترك الدوائر مفتوحة ولا تقفل الدائرة عليها. في الأدب والفنّ خذ الرواية المسرحية مثلاً. أنت تذكر مسرحية في «انتظار غودو» لـ «صمويل بيكيت» ـ أليس صحيحاً أنها بلا بداية، بلا ذروة، بلا نهاية. المسرحية من لحظة رفع الستار حتّى نزولها، رجل واحد جالس على مقعد، يفكر في شيء ينتظره، وهذا الشيء لا يجيء، والرجل يحاور نفسه بصوت عالٍ يرتفع بالصياح، وينخفض بالهمس في بعض المواضع، وهو بمفرده على المسرح، مربوط إلى مقعده.

هذه ليست مسرحية ولا قصة على النحو الذي كنا نعرفه من «فلوبير» إلى «تشيكوف» ومن «هيكل» (باشا) إلى «نجيب محفوظ». عند هؤلاء جميعاً كانت القصة خطاً متصلاً، سياق له بداية وله ذروة أو عقدة أو حبكة؛ وله نهاية وله خاتمة، أو لحظة نزول ستار. الآن اختلف الوضع. ما رأيناه ونحن نشاهد رواية «في انتظار غودو» هو بطل في «حالة شكّ».

في الموسم المسرحي الأخير في لندن شاهدت مسرحيتين، مسرحية «الملكة» التي قدمتها الفنانة الرائعة «هيلين ميرين»، يلفت النظر أن المسرحية كلها عرض لعشر مقابلات بين ملكة «إنكلترا»، وبين كلّ رؤساء الوزارات في عهدها من «ونستون تشرشل» (رئيس وزرائها الأسطوري) إلى «دافيد كاميرون» (رئيس الوزراء الحالي دون أساطير). حوارات الملكة مع رؤساء وزاراتها تمس شواغل «بريطانيا» السياسية على اتصال أكثر من ستين سنة. هي ليست قصة، وليست مسرحية. وإنما هي «حالة». «حالة سياسة». بلا بداية، بلا ذروة، بلا نهاية. «حالة». مثل «حالة الثورة» تماماً.

المسرحية الثانية التي شاهدتها في الموسم الأخير اسمها «تشيمريكا» وهو لفظ يجمع بين اسم «الصين»، واسم «أمريكا»، والمسرحية عن قضية العلاقات المتشابكة بين «الولايات المتحدة الأمريكية» وبين «الصين». والمسرحية استعراض للعلاقات بينهما. بلدان في مجال القوة، أحدهما يبدو نازلاً عن عرشه، والآخر يبدو متردداً أمام العرش، ويخشى أن يصعد إليه، على فرض أنه في هذه اللحظة يقدر. هذه أيضاً ليست قصة ولا مسرحية بالمعنى المتعارف عليه تقليدياً. هذه «حالة بحث عن الآخر» وليست مسرحية لها فكرة، ولها بطل، ولها عقدة أو حبكة، أو نهاية.

هناك شيء جديد طارئ. علينا أن نضعه في فكرنا، ونحن نبحث عن حقيقة ما جرى في مصر، ويدعونا إلى القلق لأننا لا نرى نهايات نتوقعها، لبدايات رأيناها. لنا أن نسأل: ما الذي جرى؟! كان هناك سخط يتنامى إلى درجة الغضب من نظام «مبارك». وكان هناك رفض لفساد واستغلال تفشى في زمانه. وكان هناك ترهل إزاء التدخل الأجنبي، وصل بمصر إلى درجة الأمر والإملاء، خصوصاً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. وكان هناك انعزال عن الإقليم، وفي نفس الوقت توظيف للدور المصري في الإقليم أفقدت هذا الدور جاذبيته. وغَضِبَ الناس وكان لا بُدَّ أن يغضبوا، وتَمرَّد الناس وكان لا بُدَّ أن يتمردوا. لكن الحكم المتسلط لم يترك للقوى السياسية فرصة أن تتجمع، وبقيت هذه القوى شظايا متناثرة. وفي نفس الوقت فإن التنظيمات السياسية التقليدية عجزت لأنها ـ بالحصار من حولها، وبالقصور عن فهم متغيرات العصور ـ لم تعد قادرة على طرح يقنع الناس لا بفكرها ولا بفعلها.

وفي نفس الوقت فإن وسائل العصر تحولت إلى عملية اجتياح بظهور الإنترنت ومشتقاتها من الرسائل الإلكترونية، والصور والأفلام التي لا تحفظ سراً، ولا تنتظر تدقيقاً أو تحليلاً، وإنما كلّه موجات غاضبة متلاحقة، «تسونامي» يجرف كلّ شيء أمامه.

في وقت من الأوقات كانت الأحزاب تتحدث إلى طبقات: طبقة عاملة تخاطبها الأحزاب الشيوعية، أو طبقة متوسطة تخاطبها الأحزاب الليبرالية، أو طبقة تقليدية تخاطبها الأحزاب اليمينية. والآن تغير كلّ شيء، فقد نزل الطوفان على الجميع وبوسائل مستجدة، إلى جانب وسائل سبقت مثل الصحافة والإذاعة والتليفزيون. أصبح الخطاب السياسي وحتّى الدعوي والأخلاقي والتحريضي والقتالي، واصلاً إلى كلّ عقل وفكر وأعصاب، في نفس اللحظة.

كيف إذن توصّف مشهد ما بعد 25 يناير في ظلّ كلّ الاعتبارات والمسارات السابقة؟

ظروف 25 يناير نموذج حيّ لـ «حالة الثورة». انفجار مستحق على حكم ضاع منه الصلاح والصلاحية، وطلب التغيير الثوري دائم، والنتائج غير محددة، لأن العالم اتسع، والحركة تتسع مع اتساعه، والحلول ليست عقدة نفكها ثمّ ينزل الستار، ويذهب كلّ واحد إلى بيته: الأبطال والمتفرجون وعُمال المسرح؛ هذا لم يعد صحيحاً ولا دقيقاً ولا كافياً. وذلك هو ما غاب عن كلّ الأطراف التي كان عليها تصريف الأمور بعد يناير 2011.

لا أعرف إذا كنت قد استطعت أن أشرح لك ما أفكر فيه، ولكن ما أقوله باختصار أن التفكير بالأساليب القديمة لم ينفع ولن ينفع. نحن أمام سؤال عن المستقبل غير محدد، والسائلون هم الشعب بأكمله، بل وأتجاوز وأقول أمة بأسرها. وليس هناك جواب قاطع بالضرورة، لأنه ليس هناك سؤال محدد، ولا مسؤول معروف!

ما هو الممكن في هذه الأحوال؟!

الممكن في ظني هو أولاً محاولة تفهم «حالة الثورة»، وساحتها الواسعة، وطبيعتها المختلفة. والخطوة التالية نحو الحلّ؛ نحو إمكانية الحلّ؛ هي تحديد مجالات ومسارات وملفات على رقعتها، تصب فيها روافد السيل الثوري الذي لا يتوقف عن الزحف. والخطوة الثالثة تتبُّع كلّ مجال ومسار وملف، وملاحقته، والتصرف حياله. هناك مسار اجتماعي في بلد تردت أحواله وزادت فيه فوارق الثروة (وهذه ظاهرة واقعة في «أمريكا» و«إنكلترا»، لكنّها في مصر تصل إلى حدّ البذاءة). وهناك مسار اقتصادي لبلد تعرَّض للنهب بأكثر مما علا فيه العمران. وهناك مسار علمي وتعليمي في بلد خرجت جامعاته من قوائم التصنيف العالمي للعالم المتقدم. وهناك مسار فكري وثقافي، ديني وإنساني، شاع فيه الخلط والتبست القيم، وضاعت الحدود بين الأصول والفروع، وبين الدنيا والآخرة، وبين الفوضى والأمل!

ولولا أن القوات المسلّحة المصرية تحملت مسؤولية حماية حركة الجماهير، حتّى وإن لم تستطع توصيفها بدقة، لوصلت الأمور في مصر إلى ما وصلت إليه في بلدان عربية حولها، وما يمكن أن تصل إليه في أي مكان في العالم العربي دون استثناء!

ومن الغريب أن جماهير الشعب في مصر ـ وبحماسة التجربة التاريخية الطويلة ـ راحت تطالب وتسعى في طلب سلطة قوية، سلطة تستوعب ضرورات التغيير، وتفهم دواعي «حالة الثورة»، وتقدر أن تحمي المسيرة، وتقدر أن تفتح المسارات إلى المستقبل، واعية بأن الحركة إلى وراء مستحيلة، وأن الوقوف في المكان هو الآخر مستحيل!

وربما أن جماهير الشعب المصري أدركت بالحِس قبل الفكر أن الطوفان لا يمكن صده في هذا الزمن الحديث، وإنما يمكن تنظيمه وفتح مسارات ومسالك أمامه تستوعب تدفقه وتستفيد منه، تماماً كما كان المصري القديم يفعل مع الفيضان، يفتح له الضفاف حتّى يدخل إلى الأرض المحروثة، التي تناثرت عليها بذور الخصب، ثمّ يتناقص طوفان الفيضان وتتشرب الأرض الطيبة بفيضه، وحين يجف الماء تظهر الخضرة الجديدة تتلقى ضوء الشمس.

إنّني أطلت في محاولة شرح «حالة الثورة» في الزمن الحديث، لكنّي تصورت أن أفتح باب الاجتهاد في أحوال عالمية وإقليمية ووطنية مختلفة في كلّ ما نرى، وهي حالة تفرض علينا أن نعرف أكثر أن القصة ليست لها خاتمة سريعة وسعيدة، كما كان الحال في ما نسميه أحياناً: «الزمن الجميل»! إنّني تكلَّمت في مجال الأفكار أكثر مما هو لازم، وربما بأكثر مما هو ضروري، ولكني حاولت شرح أحوال، حاولت أن أشرح بالتحديد أنها «حالة ثورة»؛ فصيلة جديدة من نوع الثورة! دعنا الآن أن نعود إلى الواقع إذا أردت! دعنا ننزل من سماء الأفكار التي أثقلنا بها على الناس؛ إلى تضاريس الأرض، تضاريس السياسة في مصر هذه اللحظة!

أستاذ هيكل، في نقاشنا السابق، قلت دعنا ننزل من سماء الأفكار إلى تضاريس الأرض. تضاريس السياسة في مصر هذه اللحظة. في رأيكم، ما هي القراءة المبتسرة للمشهد التي تقودنا إلى تلك الدوائر المفرغة أو المضطربة وتبعدنا عن التقدير السليم للواقع؟

دعنا نحاول استرجاع عناصر الموقف كما تطور حتّى الآن على أرض الواقع، حتّى وإن تورطنا في محظور التكرار بعض الشيء؛ لعله ينفع في التأكيد. أولاً: نحن بعد 25 يناير 2011 واجهنا واقعاً أسوأ بكثير مما نتصور، لأن الأزمة التي أمسكت بخناق مصر كانت مثل عائمات الجليد، القليل منها ظاهر فوق السطح، والكثير غاطس تحت الماء. وما كان فوق السطح ودعا كلّ قوى هذا البلد إلى الرفض والغضب والثورة، كان في حدود ما استطعنا أن نراه من أسباب القصور في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن ظواهر الفساد المالي والسياسي، ومن تآكل هيبة مصر في محيطها العربي وفي عالم الدول، حتّى زادت فوق ذلك مهزلة التوريث التي كانت حائرة بين عاملين لدى «مبارك»:

ـ أولاً: هو يميل للتوريث ربما ليغطي على ما جرى في فترة رئاسته.

ـ وثانياً: هو لا يميل للتوريث، لأنه يشفق على ابنه أن يتحمل تبعات ما وصلت إليه أحوال مصر، وقد وصفها «مبارك» بنفسه في حديث مع أحد أمراء السعودية عندما سُئل عنها قائلاً: «أنه لا يريد أن يورِّث ابنه خرابة». هو لم يقل متى أصبحت مصر خرابة، وهل كانت كذلك قبله؟! وماذا فعل فيها إذن لمدّة ثلاثين سنة حكم فيها وتحكَّم؛ مع العلم أن ثلاثين سنة هي نفس الفترة التي استغرقها صعود الصين، والتي استغرقها غياب الاتحاد السوفياتي في زمن «بريجنيف»، وعودة روسيا المتعافية في زمن «بوتين»، وغير ذلك من نماذج ما يمكن أن يقع في أي بلد يحكمه أي قدر من الرُشد طوال ثلاثين سنة، ولك أن تلقي نظرة إلى ما فعله الآخرون من الهند إلى المكسيك إلى البرازيل.

الغطاء انكشف عن فداحة ما جرى قبل 25 يناير 2011، فقد ظهر أن مصر أصبحت بلداً يعيش على الدين الداخلي الذي راح يزحف إلى الخطّ الأحمر عند رقم تريليون جنيه مصري، ودين خارجي قارب الأربعين مليار دولار، لكن الحقائق كانت تائهة غائبة في الأوهام، أو ألعاب خداع النظر!

ظهر ـ كذلك ـ أن قطاعات بأسرها في الاقتصاد المصري كانت خارج الإطار العام، لا أحد يعرف عنها شيئاً محدداً، ومنها وربما أهمها قطاع البترول والغاز، فقد كان التصرف في هذا القطاع مخصصاً وفي أيدي قلة محدودة تقرر في كلّ شيء من الإنتاج إلى الاستهلاك، ومن اتفاقيات التصدير إلى تحصيل العوائد، والقطاع يتصرف كما يُطلب منه، وهو في النهاية يورد فائض ما عنده للميزانية العامة حسب ما يقدَّر أو حسب ما يتيسر، ويجري الإعلان عن تصدير كميات، ثمّ يحدث استيراد لتعويض التصدير بأسعار أعلى، والمحصلة أن هذا القطاع أصبح مديناً وليس دائناً، ثمّ اكتشفنا أن التصدير تمّ بخديعة أن مصر لديها فوائض هائلة من موارد الطاقة، ثمّ إن الحقائق محجوبة حتّى ظهر في النتيجة النهائية أن مصر بلد مستورد للطاقة.

وكانت الذريعة الأخيرة للنظام أنه حقق الاستقرار، ثمّ تبين أن ما حدث ـ إذا افترضنا حسن النية ـ أن مصر في ذلك الزمن وُضعت داخل ثلاجة للتبريد العميق، ثمّ اكتشفنا بعد كسر باب الثلاجة في 25 يناير أن الذي أغلقها نسي توصيلها بالكهرباء، فإذا ما فيها يفسد ويتلف بالعفن. وأن الثلاجة تحولت إلى مخزن ضاع على البلد ما فيه، لأنه تجاوز عمره الافتراضي داخل صندوق من الصفيح لم يتصل بمصدر كهرباء يجعله قادراً على الحفظ والصون، إذا كان ذلك ممكناً لثلاثين سنة!

مسيرة السنوات الثلاث الماضية كانت شارحة لأشياء كثيرة، مواقف سياسية مضطربة في الداخل وانكشاف لجماعات دينية أرادت خطف وتأميم السياسة ومواقف لقوى إقليمية لعبت أدواراً لمصلحة الكبار. ما هي من وجهة نظركم المقدمات التي أفضت إلى الخروج الشعبي الكبير في 30 يونيو؟

بعد 25 يناير، ولأن السياسة في مصر كانت قد تحللت بعد ذوبان الجمود، ولأن الحقائق التي تكشَّفت كانت مخيفة، ولأن العالم الخارجي أصبح متداخلاً ومتدخلاً في كلّ بقعة، ولأن قضية الثورة في حدّ ذاتها أصبحت مطروحة للبحث؛ فإن «حالة الثورة» طرحت السؤال ولم تطرح الجواب، وكانت الحالة الثورية مكشوفة، وعندما وقفت القوات المسلّحة إلى جانب شعبها، فإنها حققت في نفس الوقت انتقالاً سلمياً وهادئاً للشرعية.

على قمة القوات المسلّحة كان هناك المجلس الأعلى للقوات المسلّحة الذي رأسه المشير طنطاوي، وكان لدى هذا المجلس كثير من حسن النية، وقليل من الخبرة السياسية وهذا طبيعي، وقد احتار في ما يفعل، وتكاثرت عليه الضغوط، وأهمها ضغوط الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكانت المشكلة أن هذا المجلس لم يكن مؤهلاً للحكم، ولم يكن يرغب أن يشاركه في السلطة طرف آخر، لأنه من ناحية لا يعرف الأطراف ولا يعرف الوزن الحقيقي لكلّ منهم، ثمّ إن ما رآه معهم دفعه إلى الشكّ في الجميع، وفي نفس الوقت فهو من ناحيته تجنب مسؤولية أي قرار؛ بأي حلّ. وقد طمأن نفسه بأنه مجرد وسيط للانتقال، لا يرسم سياسة، ولا يبحث عن حلول، لأن ذلك اختصاص الوضع الدائم القادم وليس اختصاصه. وفي نفس الوقت فإن ذلك المجلس العسكري تصوّر أنه إذا كان غير مسؤول عن الحلّ، فمن الأفضل له أن يتجنب الحسم في أي قضية، أو مواجهة أي طرف، لأنه لا يريد المشاكل من أي ناحية أو مع أي طرف أياً كان، وهو ليس مكلفاً بالحلّ على أي حال، والأفضل ترك أمره لمن يجيء بعده!

وفي هذه الظروف من «اللاقرار» و«اللاحسم» ـ لمدّة عام ونصف العام، فإن الساحة العامة في مصر أصبحت خلاء يتحرك فيه من يشاء كما يشاء، وفي هذا الخلاء وصل الإخوان المسلمون إلى الحكم، بدعوى أن لديهم الحلّ بل أنّهم هم أنفسهم ذلك الحلّ! وقصة الإخوان المسلمين في الإمساك بالسلطة معروفة، وأولها قرار دولي يخص المنطقة بمشروع للشرق الأوسط الكبير يقوده الأتراك، هدفه عندهم استعادة حلم خلافة موالية للغرب، تستعمل وتوظِّف قوة الدين، متمثلة ـ كما يتصورون ـ في الإسلام السياسي، لإغراق المنطقة في خضم يتوه الناس فيه بحثاً عن ملكوت السماء حتّى يخلص ملك الأرض للهيمنة، ويلتحق الشرق الأوسط الكبير بحلف الأطلنطي عمقاً خلفياً أو ذيلاً. وكذلك فإن مشاكل البلد زادت تعقيداً، فقد بدا أن سلطتهم موجَّهة للتمكين من السلطة وليست لتحقيق أهداف الثورة، وأخذ التردي في كلّ مجال حده وزاد! وتخبَّط حكم الإخوان بين ادّعاء الدين وتطويع الدولة، وبين الإمساك بمفاتيح الحكم، وبين مصالح الناس، وبين مطالب المجتمع وأوهام الجماعة، وبين القوى السياسية الدولية والإقليمية.

وتعقدت مشاكل مصر أكثر وأكثر فقد أضيفت مخلفات زمن «مبارك»، إلى آثار الفترة الانتقالية للمجلس العسكري، إلى فشل تجربة الإخوان. وأصبح الوضع في جملته شديد الخطر داخل مصر وحولها. وجاء 30 يونيو 2013 تصحيحاً وإنقاذاً.

عبء ما بعد 30 يونيو، حمل تبعات جمّة للمؤسسة العسكرية. كيف تقرأ تلك المسؤولية التاريخية وتوقيتها ومخاطرها؟

وعندما جرى وضع خريطة الطريق بعد 30 يونيو، كان جدول التوقيتات متلاحقاً، ولكن الحركة ذاتها في إطار هذه التوقيتات كانت بطيئة، لأن انتظار المواقيت المحددة لا يكون أياماً تحصى، وفواصل يجلس الناس في انتظارها حتّى تجيء وتذهب.

هكذا فإن ستة شهور من الانتظار، وإحصاء الأيام يمضي، والجهد أقل من التحدي، والفكر لا يسابق الميعاد؛ زادت الأثقال واتسع الرتق على الراتق كما يقولون في الأمثال العربية. واستحكمت التعقيدات لأن العبء أضيفت إليه أعباء فوقها أعباء، وفوق الأعباء أعباء، كلّ ذلك و«حالة الثورة» مستمرة، والطوفان يتدفق، وزاد عليه أن الإخوان المسلمين ـ لسوء الحظ ـ أثبتوا داخل الحكم ـ وخارج الحكم أكثر ـ أن وعدهم ووعيدهم أسوأ مما كان في زمن «مبارك».

كان هو يقول «أنا» أو حكم الإخوان. ثمّ جاءوا هم يقولون «نحن» أو الإرهاب دماً وناراً في سيناء وفي كلّ مكان وأي مكان في مصر! قُل لي من يقبل أو يرضى بأن يتحمل المسؤولية في مثل هذه الظروف؟!

ترك المشاكل الكبرى دون مواجهة حقيقية ضاعف من خطرها، وذلك متفق مع قوانين الجاذبية! وفي الواقع فإن الحمولات الثقيلة زادت في تسارع النزول؛ بأكثر مما يمكن أن تمسك به الرافعات. والآن من يقبل أن يمدّ يده ليمنع الارتطام بالقاع؟! من يقبل بالمسؤولية؟! ـ وأهم من ذلك من يقدر؟! ـ ثمّ ما العمل، خصوصاً وأن خريطة الطريق وصلت إلى النقطة الحرجة، وهي نقطة الرئاسة؟

كان ذلك هو السؤال المعلق على مصر كلها، والرد على السؤال جاء بواقع تؤدي إليه حقائق الأشياء، لأن اليد التي تمتد للصد غالباً سوف تمتد من القوات المسلّحة، خصوصاً إذا كانت هي التي حمت «حالة الثورة» مرتين، ولو أن غيرها كان قادراً لمَّا طرأت الحاجة إليها، فقد فُرِضَ عليها أن تتقدّم للحماية لأنها كانت وحدها القادرة على مسؤوليتها، على أن المعضلة هي كيف يتم ذلك دون أن يؤسس لحكم عسكري، وهذه قضية كبرى هي الآن موضع اهتمام عالمي، تنشغل به أرقى الجامعات وبالذات جامعات أمريكا، عنوانها: هل تقدر يد تمتد من المؤسسة العسكرية أن تمهِّد لانتقال ديمقراطي تصل به «حالة الثورة» إلى مسارات أمل ـ أمل في إنجاز سياسي، اقتصادي، اجتماعي، ثقافي ـ يقترب من أبواب المستقبل، ويطرق هذه الأبواب ويدخل؟! كيف؟! ـ وبمقتضى أي شروط؟! ـ ومتى نصل إلى باب المستقبل أو أبواب المستقبل نطرقها وندخل على جسور قادرة وواصلة؟!

في كلّ تلك المسارات المتعرجة والمنحنيات الخطرة، جرّبنا أشكالاً متنوعة للسلطة والحكم الانتقالي حتّى وصلنا إلى المراحل الأخيرة من فترة انتقالية حاسمة. مما أشرت إليه عن «باب المستقبل» و«الجسور القادرة»، ما هي المحددات التي تضعها للرئيس القادم؟

ملابسات هذه القضية استدعت مبكراً كافة الاجتهادات، وأتذكر أنّني طرحت في عديد من المناسبات ـ حتّى قبل سقوط نظام «مبارك» ـ فكرة مجلس لأمناء الدولة والدستور تكون القوات المسلّحة حاضرة فيه، ويكون هذا المجلس جسراً للانتقال الآمن من «مبارك» إلى ما بعده، وكنت أقدر أن هذا الاقتراح يصعب قبوله من نظام غارق في وهم السلطة وقتها، لأن قبوله يكلف الأشياء فوق طباعها، إلى أن حلّ يوم 25 يناير وتوالت مشاهده الرائعة، ثمّ تكشف ما تكشف من غياب الفكرة وغياب القيادة وغياب الجسر أو الجسور إلى المستقبل، ثمّ ظهرت أعراض «حالة الثورة» دون تشخيص لطبيعتها، وتوالت المراحل: المجلس العسكري ـ ثمّ الإخوان ـ ثمّ خارطة الطريق!

وفي أجواء امتزجت فيها الحماسة والإحباط ـ واليقين مع الشكّ، والتناقض بين الموجود والمفقود، والمطلوب والواقع، والتشوق إلى الأمن، والتخوف من التسلط ـ شاع في البلد تيار غضب يرفض كلّ شيء. رفض الحاضر في ظاهره مفهوم لأنه لأول وهلة نوع من تسليم إرادة الشعب لسياق الحوادث. كانت أمامنا ثلاثة احتمالات:

هناك الممكن؛ إذا اتسعت دائرة الاختيار المدعوم بالإرادة. وهناك المحتمل؛ إذا كان يستحق أن نبحث عنه. وهناك غير المحتمل؛ إما لأنه ليس موجوداً، أو أن بذرته لم تنبت بعد. وفي هذه الحالة، فإن الرفض على طول الخطّ يفقد الأمل فرصته، لأن الرافضين يطلبون مثالاً ليس متاحاً في الواقع، على الأقل هذه الساعة، وعلى الأقل في هذه الأحوال. وصلنا إلى النقطة الأخيرة من خريطة الطريق، وجاء وقت اختيار الرئيس الذي يتحتم عليه أن يكون مسؤولاً على الأقل عن وضع مصر على طريق آمن ومأمون له شروط: أن يتصدى لمشكلة أمن مضطرب، ومصاعب تشق على الناس في حياة كلّ يوم؛ وأن يعالج ضرورات عاجلة أهمها: أزمة المياه ـ وأزمة الغذاء ـ وأزمة الطاقة، لأنه لا يمكن الوصول إلى أبواب المستقبل دون اطمئنان إلى أن هناك ري للأرض والناس، وغذاء ضروري لحياتهم، وطاقة لحركة كلّ يوم؛ وأن يواجه مشكلة التنمية الشاملة والعدل الاجتماعي، مع وجود ارتباط بين المشكلتين.

وأن يتأكد من مجموعة ضمانات: أن الوطن يعمل بكامل قواه وقدراته؛ أن حدود الوطن شرقاً وغرباً مُصانة؛ أن مصر في مكانها اللائق في الإقليم، وفي العالم؛ وأن طريق المستقبل بكلّ خبئ على الطريق إليه مؤدٍ إلى السلامة!

كيف حكمت على المسؤولية الملقاة (أو التي تلوح في الأفق) على عاتق رجل ينتمي للمؤسسة العسكرية لرئاسة مصر في تلك المرحلة؟

أعترف لك أنّني من حرصٍ على مستقبل الوطن، ورغم ابتعاد عن الساحة السياسية اخترته لنفسي لأسباب أولها حقائق السنين ـ أطلت التفكير في كلّ ما سمعت، وكنت أفضل اتِّقاء المحاذير على طريق المستقبل ـ بخشية أن تبدو المقدمة إليه من داخل القوات المسلّحة نوعاً من التدخل العسكري ـ على أن الأمر تبدى لي أكثر وأخطر؛ فالأمر ثقة، والأمر قدرة، والأمر مصداقية، والظروف مُلحَّة ودقيقة، ومزالقها زحام على الساحة، ومع ذلك فقد جربت اختبار كلّ ما تبدَّى لي وحتّى ما خطر على خيالي. لكن مسألة الثقة ـ مسألة القدرة ـ مسألة المصداقية كانت جميعها تشغل بالي وتُلِح عليَّ.

أعترف لك أنه خطر ببالي وسط الحيرة ما بين المحاذير والحقائق أن الرئاسة يصحّ إسنادها إلى واحد من الرجال الذين ظهرت أسماؤهم في الساحة وهم كُثر، رشحوا أنفسهم، أو رشحهم آخرون، وربما كان بينهم من يستحق؛ خطر ذلك ببالي رغم إدراكي أن المشاكل شديدة التعقيد، عصية على الحلول التقليدية، لأن «حالة الثورة» وصلت إلى ما يشبه حالة الحرب! واستعرضت الساحة بعرضها وتبدى لي أن التحدي أكبر من الساحة بالطول والعرض أيضاً!

في بداية التجربة الانتقالية بعد «مبارك» فكرت في مجلس رئاسي وظننت لبعض الوقت أن تلك تجربة موجودة في بلد من أكثر بلدان العالم تقدّماً، وهو «سويسرا». مجلس للرئاسة في «سويسرا» يتناوب أعضاءه كلّ ستة شهور على الرئاسة، وتصدر قراراته باسمهم جميعاً. لكنّي تحسبت أن ذلك قد ينجح في «سويسرا»، وهي البلد الذي أتقن صناعة الساعات لأنه يعرف قيمة الزمن، ولكن شكي كبير أنه يصلح لبلد من العالم الثالث مثل مصر.

وزاد من شكوكي أنّني تابعت بعض أنشطة ما سُمي بـ «الدبلوماسية الشعبية» التي يُقال لنا أنها تسافر داعية لمصر، وشارحة لأحوالها، لكنّي فوجئت بأن هذه الوفود ـ وبعضها يضم أسماء كبيرة ـ تعاركت في الخارج، وعلى مرأى ومسمع من مضيفيها. عرفت مثلاً في بلد عربي أن بعض المسافرين من وفد الدبلوماسية الشعبية المصرية اختلفوا وتعاركوا على الغُرف، وعلى السيارات، وعلى المقابلات، وعلى من يتحدث باسم وفدهم، ومن يتصدر الصور، ومن يحتل مقاعد الشرف في الاستقبالات. وبعض ما سمعته مزعج وبعضه مهين، وهو في النهاية لا يبشر باحتمال أن تتكوّن جماعة متسقة متوافقة يمكن أن يضمها مجلس رئاسي تنتقل إليه شرعية الدولة، في أوقات شديدة الحرج وشديدة الخطر. وعلى أي حال فقد فات الآن وقت الكلام عن مجلس للرئاسة وتجاوزته الظروف، ونحن الآن في ظلّ دستور معتمد، وفي انتظار رئيس منتخب ومجلس شعب أو مجلس نواب منتخب.

 

وكيف رأيت إقدام المشير السيسي على تحمل مسؤوليات أكبر ـ من واقع قراءتكم للمشهد ـ ومن واقع معرفتكم به عن قرب؟

عندما اتجهت الأنظار إلى الفريق عبد الفتاح السيسي باعتبار شعبيته المؤكّدة، وقد عززتها التجارب التي مرت على مصر في ثلاث سنوات من «حالة الثورة» ودائرتها التي لا تكتمل؛ أحسست بالفعل أن الرجل عازف عن طلب الرئاسة، راضٍ عما تحمَّل به، بالإضافة إلى أنه بالفعل أفصح مرات عن بعض هواجسه: لا يريد أن يقع أحد ـ في الداخل أو الإقليم أو الخارج ـ في خطأ أن 30 يونيو كان انقلاباً عسكرياً؛ لا يريد لقطاعات الشباب في الداخل أن يتصوروا أنه «حكم عسكر»؛ لا يريد لأحد أن يشكّ أنه ـ أو أن القوات المسلّحة كلها ـ في وارد انتهاز فرصة، وهو يعرف أن العالم يتغير، وأن العصور اختلفت، وأكثر من ذلك فهو رجل يسيء إليه أن يظن أحد أن رئاسة الدولة مكافأة مستحقة على خدمات أداها، وهو أول من يفرق بين جسامة المسؤولية، ومكافأة الخدمة.

وكان قوله على حسب ما سمعت: «أنه يريد للبلد أن يختار بحرية، وأن يجد بين المدنيين من يحمل أمانة المسؤولية، وهو واثق من التزام القوات المسلّحة بتسليم الشرعية إلى من يختاره الشعب دون إكراه، أو تدخل خارجي وضغط». ويضيف عليه ما مؤداه: «أن هناك كثيرين من أفراد الشعب وقواه يرونه أمامهم، ويحسنون الظن به ويرشحونه، لكنه يرجوهم أن لا يزيدوا من الإلحاح عليه، وأن يجدوا غيره». وأعرف أنه سُئل مرة إذا كان يمكن لأي اختيار حرّ أن يجري خارج الواقع، أو خارج الممكن، أو خارج المحتمل، وكان رده: دعونا نبحث!

هل تسمح لي أن أضيف شيئاً، أنّني كنت شخصياً أوافق الفريق السيسي على ما بلغني من أسباب تردده، فقد كنت أفهم منطقه وأتفهمه، وكنت أكثر من ذلك أعرف حجم الضغوط في الإقليم وفي الخارج وأتحسب لها.

هل اعترف لك بشيء؟!

في لحظة من اللحظات رحت أفكر في غيره، وخطر ببالي اسم الرئيس المؤقت «عدلي منصور».

ماذا لو ترشَّح؟!

هذا رجل قانون متميز وصل إلى رئاسة المحكمة الدستورية العليا في مصر. وقد دعته الظروف إلى رئاسة الدولة مؤقتاً، وقَبِلَ المسؤولية وتحمَّلها بنزاهة قاضٍ عادل، يعرف القانون ويلتزم به. أكثر من ذلك فإنني قابلته مرة في أيامه المبكرة في بيت الرئاسة، وقد بدا أمامي متحفظاً، وإن بدا أيضاً مستقيماً مع نفسه ومع الظروف، ثمّ التقيت به بعد ذلك وأدهشني إلى أي مدى تمرس مع التجربة، وتجلى فكره وانطلق خطابه. إلى جانب ذلك فهو نموذج مشرِّف لقيمة الحراك الإنساني إذا ما تفتحت الفرص الطبيعية أمامه ليظهر قدراته الكامنة.

كانت معرفة الناس به في حدود عمله لا يتجاوزه، لكنه عندما وُضع موضع المسؤولية، تفتَّح استعداده وتجلى، وفي ظرف ستة شهور استطاع تأكيد ما هو كامن داخله من قدرة واستعداد. وكنت أسأل نفسي أحياناً وأنا أتابع أداءه. كم من القادرين المحتملين خسرتهم مصر حين ضاعت عليهم فرصة الحِراك أيام «مبارك»؟! كم من الناس حجبهم وجود رجال مبارك على قمة السلطة، رابضين في مقدمة الصف يعوقون حركة من بعدهم طوال ثلاثين سنة كاملة؟! ثلاثة أجيال من الرجال والنساء القادرين تعطلوا وحُجبوا. ثلاثة أجيال ضاعت، لأن رجال مبارك أمسكوا بالقمة ثلاثين سنة، لا يتزحزحون عن مواقعهم، ولا يفسحون طريقاً لغيرهم!

وبالفعل فإنني وبعد أنْ خطر ببالي ما خطر؛ ناقشت فكرة ترشح المستشار عدلي منصور مع عدد من الأصدقاء المهتمين بالشأن العام، والذين تلح عليهم هموم الوطن وضرورات مستقبله، وكان رأي كثيرين منهم يزكي الرجل ويشهد له. ثمّ عرفت أن الرجل بنفسه ـ وبأمانة ونزاهة قاضٍ ـ قال أنه لا يستطيع أن يترشح لمانع قانوني يفرض عليه أن يرد نفسه عن الترشح. وكان أكثر ما لفت نظري أن الرجل تصرَّف بصدق مع النفس ومع الناس، لكن إحساسي بالمأزق الذي يواجه البلد زاد بنفس المقدار وربما أكثر.

لماذا ظهر تعبير «مرشح الضرورة» من الأستاذ هيكل في توقيت كان الناس يريدون تجنيب الرجل تبعات المنصب خوفاً على المؤسسة العسكرية؟

وهكذا فإننا عُدنا من جديد إلى عقدة العقد في هذه اللحظة. كلّ وطنيّ في هذا البلد الآن يطلب: حرية وعيشاً وحياة عامرة بالكرامة والأمل. لكن الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كما تعرف، والمطلوب يحتاج إلى شبه معجزة. شبه معجزة ممكنة إذا توافرت لها الشروط، عُبئت الإمكانيات، واستدعيت كوامن الإرادة القادرة على الأمل.

في هذا الإطار طُرح اسم «عبد الفتاح السيسي»، وقلت أنه «مرشح ضرورة»، ليس له أن يحجب غيره، وإن كانت مقتضيات الحقيقة تشير إليه. بعضهم عتب عليَّ أن استعملت وصف «مرشح الضرورة»، بمقولة أنه رجل وراءه شعبية جارفة تدفع به للرئاسة، ولم أر وجهاً للتناقض بين الطلبين: شرط الضرورة وشرط الشعبية الجارفة؛ ليس هناك تناقض بل العكس هناك فرصة، وأن يكون مرشح الضرورة هو نفسه مرشح الاختيار، فذلك أدعى إلى الطمأنينة.

ويوماً بعد يوم بدأت الحقائق تفرض دواعيها العملية، وكذلك دواعيها الشعبية، فقد ظهرت أغلبية هائلة تدعو للرجل وتطالب به، وإن قلق البعض ـ وأنا واحد منهم ـ من مظاهر مهرجان لا يحتاجه الرجل ولا يسمح به واقع الحال ولا مناخ الأزمة ولا جلال الثورة، وأعترف أنّني كنت ضمن هؤلاء القلقين، وكان ظني أن المبالغة أول أعداء الحقيقة، وأعرف للإنصاف أنه في بعض اللحظات فكر أن يطلب إلى البوليس الحربي إزالة اللافتات ورفع الصور المعلّقة على الطرق والكباري، لكنه خشي أن يسبب ذلك حرجاً لبعض المتحمسين والمتطوعين، وفضَّل أن يبعث إليهم جميعاً برسالة تهيب بهم أن لا يسيئوا إليه وهم يتصورون أنهم يؤدون له خدمة؛ هو في الواقع لا يحتاجها.

ما هي الضمانات التي يحتاج أي نظام قادم لتقديمها من أجل أن يحكم دون منغصات، مثلما حدث في فترة حكم محمد مرسي؟

أحوال البلد خطيرة، ولا يملك أحد منا أن يفكر في المستقبل بالتشاؤم ولكن بالحساب، وأن يواجهه بالتفاؤل الحذِر والمحسوب. هناك وطن وشعب، وهناك مستقبل وهناك طريق، والمشاكل أكثر مما يتصور معظم الناس، والشعب المصري قادر على مسؤولية الأمل، وليس لديه بديل آخر غير الأمل! لقد ضاع منا وقت طويل. شردنا فيه عن الخطوط الاستراتيجية الرئيسيّة للأمن القومي المصري، ونسينا فيها مصالح أغلبية الشعب ومطالبه، وحان الوقت لنتصرف على نحو جاد، لأن التراخي إزاء المسؤوليات أو التخبّط والقصور في الأداء لم يعد متاحاً لنا. هناك نظام جديد يوشك أن يقوم بفكر جديد، وبرؤية واضحة وإرادة مصممة، ونحن لا نملك غير ذلك. واعتقادي أن هذا النظام القادم تلزمه ثلاث ضمانات مُلِحَّة: الأولى، رؤية واضحة محددة لشكل المستقبل على المدى القريب والتحرّك نحوها، ثمّ خطّة قادرة على صنع المستقبل المرجو والمطلوب والاستعداد لها؛ والثانية، أن قوى الشباب في مصر لا بُدَّ أن ينفسح لها المجال واسعاً، لكي تعرف، وتشارك، وتتحمس لمستقبل هي من يملكه، لأنها هي من سوف يسكنه، وحتّى إذا جرى بعض الجموح فتلك طبائع الشباب، إضافة إلى أنه جزء من التجربة يتعلم فيها بالصواب والخطأ؛ والثالثة، أنه سواء في مرحلة الرؤية أو مرحلة الخطّة، فإن البلد يحتاج إلى نوع من «التجمع الوطني من أجل المستقبل».

لا أظن أن المشير «السيسي» إذا وقع انتخابه سوف يشكِّل حزباً سياسياً، وإذا قيل أن التفاف الجماهير حوله يكفيه، فلا بُدَّ أن نتذكر أن التجارب السابقة علَّمت الجميع أن جماهير العالم العربي كلّه كانت ضمن أهم العوامل التي حمت النظام الثوري في مصر، ننسى أحياناً أن قوة أي نظام في مصر تكمن في تأثيره خارج حدوده ووضعه في إقليمه، والأوضاع حول مصر الآن تمر بمرحلة حرجة تحتاج فيه إلى من يسندها، وهي لسوء الحظ لم تعد تطلب ذلك من مصر، لأن أربعين سنة مما سُمِّي بمصر أولاً ومصر أخيراً ومصر وحدها في سلام مع «إسرائيل» وعلاقة خاصة مع «أمريكا» بددت الكثير من قواعدها المساندة خارج حدودها السياسية!

وظني وهذه فكرة أتمنى لو أنها تُطرح للمناقشة، أن الرئيس القادم ـ أياً كان ـ وبعد انتخابه، وبعد إتمام الانتخابات البرلمانية لاحقاً، قد يجد مناسباً ولازماً أن يدعو إلى نوع من التجمع، تمثَّل فيه الأحزاب السياسية الشرعية، وينضم إليه عدد من رموز التيارات الرئيسيّة وضمنها التيار الإسلامي البريء من ممارسة الإرهاب؛ جبهة وطنية؛ تجمُّع لا تذوب فيه القوى في بوتقة تنظيم واحد، وإنما يبقى كلّ طرف بما يمثله، بحيث تكون السياسات وليس التشريعات، والتوجهات العامة وليس القوانين ذاتها وإنما الدواعي المنشئة للقوانين على أساس الدستور، هي شاغل هذا التجمع، بحيث يكون هناك اتفاق تتعدد مصادره على سياسات وتوجهات تصدّ عن البلد خطر استمرار ما نراه الآن من منازعات ومشاحنات واستقطابات شديدة الحِدة، حتّى تكون قوى الشعب حاضرة عند المنبع، وقادرة عند المصب!

كلّ الأمم يمكنها ـ في ظروف الحرب وفي ظروف الأزمات ـ أن تتجمع في نوع من الجبهة الوطنية، لمواجهة المخاطر والمصائب. التشريع سوف يبقى بالطبع في مجلس النواب أو مجلس الشعب. ولكن السياسات عند المنبع يمكن بحثها، ومناقشتها مبكراً، والاتفاق عليها في جبهة وطنية تتعدد فيها الآراء، ويكون القرار في النهاية توافقاً يدفع ولا يعطل، ويشجع الحوار ولا يصادره.

وفي كلّ الأحوال فإن مصر لا تستطيع أن تواصل تمزيق نفسها على العشاء كلّ مساء على شاشات الفضائيات، ولا تستطيع أن تعذِّب نفسها على الإفطار كلّ صباح مع صفحات الجرائد، وإنما لا بُدَّ من صيغة، تحفظ التعددية اللازمة للديمقراطية، وتستدعي التوافق الضروري للسلامة، وتقبل شراكة شباب من حقّه أن يعرف، ومن حقّه أن يعترض، دون أن تكون مواجهة المعارضة بالأمن، وإنما بالتواصل بين الحاضر والمستقبل!

التطور الأحدث والأبرز في الأيام الأخيرة هو زيارة المشير عبد الفتّاح السيسي وزير الدفاع ونبيل فهمي وزير الخارجية لموسكو. كيف ترى توقيت الزيارة، وتأثير التقارب على العلاقة مع واشنطن، والأهم ما هي حسابات التقارب في بيئة متغيرة تختلف بالقطع عن سنوات الشراكة المصرية ـ الروسية من الخمسينيات إلى منتصف السبعينيّات؟

علاقاتنا بالعالم تحتاج إلى عملية ترميم وإصلاح ضخمة، فقد مرت علينا فترة ركزنا فيها على علاقة واحدة، هي العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية. والخسارة مضاعفة، فنحن لم نضع كلّ ما لدينا في السلة الأمريكية، ولكن الأخطر أن العالم راح ينظر إلينا باعتبارنا بالفعل في هذه السلة، وأن أمرنا مفروغ منه ومواقفنا محددة سلفاً إما بإشارات من واشنطن، أو بإيماءات منها إذا لم نفهم الإشارة من أول مرة. ذلك الرهان الذي وضعته السياسة المصرية في وقت من الأوقات لم يخسر فقط في الحرب والسلام، وإنما أثر أيضاً على حلم التنمية، وعلى حلم العمل العربي المشترك، وعلى دور مصر في الإقليم وفي العالم.

ربما أن أكبر الأخطاء التي وقعنا فيها ضمن هذا الرهان هو العلاقة مع الاتحاد السوفياتي الذي أصبح «روسيا» الآن! الروس لم يقصِّروا معنا وإنما توافقوا معنا على مصالح مشتركة، وليس دقيقاً أنهم تعاونوا بكلّ ما تصرّفوا به معنا من أجل مصر وحدها، ولكنهم فعلوه بما كانت تمثله مصر في العالم العربي، وفي أفريقيا، وفي العالم الثالث أيامها.

كلّ تصحيح لعلاقاتنا مع القوى الكبرى لازم وضروري، وكل جهد في هذا السبيل له قيمة، ومن المهم أن يتسع هذا الجهد لكي يصل إلى مواقع كانت قريبة منا: «الصين» ـ و«الهند» و«أفريقيا» و«أمريكا اللاتينية» ـ هناك جهد كبير مطلوب، لكن الخسائر الفادحة التي وقعنا فيها حين تحوَّلت علاقاتنا مع العالم إلى زيارات كرنفال: طيارات تحط، وحرس شرف يصطف، وطوابير مدعوين تنتظر، ومآدب تُقام، ثمّ تعود المواكب محمَّلة بالهدايا.

ربما أن لي ملاحظتين على تغطية الإعلام المصري للزيارة: أولاها، مقلق، بتركيز هذا الإعلام أكثر من اللازم على تعليق الرئيس الروسي بوتين، والذي قال فيه «أن ترشح المشير» السيسي «ينم عن شعور بالمسؤولية»، لا أعرف مبرراً لهذا التركيز، سوى عادة وقعنا فيها خلال زمن انسحابنا من العالم، وشوقنا إلى كلّ شهادة تُعطى لنا، لكن التركيز على الزيارة كانت مفيدة بالتأكيد ومستحقة.

والزيارة كانت رداً على زيارة سبقتها من وزير الدفاع الروسي ومعه وزير الخارجية، وردها جاء من وزير الدفاع ووزير الخارجية. صحيح أن وزير الدفاع الروسي حين زار القاهرة، كان المشير «السيسي» هو وزير الدفاع، لكنه الآن مرشح للرئاسة، وأظن أن الإعلام المصري كان عليه أن يرد المسائل إلى أصلها وفي إطارها دون إيحاءات تخلط الوزير بمرشح الرئاسة. أظن أننا في هذه الفترة الحرجة نحتاج إلى تجنُّب خلط الأوراق، خصوصاً بواسطة الإعلام الرسمي أو غير الرسمي.

والملاحظة الثانية: أن الإعلام صوَّر الزيارة وكأنها استعادة لدور مصر الإقليمي والدولي، وتلك مبالغة خطرة، لأن الشوط أمامنا ما زال طويلاً وطويلاً جداً.

دعوا «السيسي» يتحرك بهدوء ويتحرك بثقة، دون أن نحمِّله أعباء مبالغات إعلامية تثقل عليه دون مقتضى. وربما علينا أن نتذكر أن الرأي العام عندنا وحولنا وبعيداً عنا يتشكل بالانطباع أكثر مما يتأثر بالاقتناع. «بوتين» قال ملاحظة وهي صحيحة، لكن التركيز عليها بأكثر مما هو لازم للسياق، قد يعطي انطباعاً يخرج بها عن القصد والمقصود! إضافة إلى ذلك فإنه لا يصحّ أن يُقال أن زيارة «موسكو» قلبت الموازين الإقليمية والدولية. ساعة ونصف الساعة في اجتماع بين وفدين، وربع الساعة لقاء ثنائي كرجلين. والموازين في الزمن الجديد لها حسابات أخرى، ولها قواعد لا بُدَّ أن ندرسها. وببساطة فهذا ليس زمن الحرب الباردة، ومن الخطأ اعتماد منطقها في زمن لم يعد زمنها!

بمَ تنصح المرشحين في السباق الرئاسي الجديد؟

الساحة الانتخابية هذه المرة تحتاج من كلّ المرشحين إلى خطاب من نوع مختلف. والسبب أن البلد عند مفترق طرق لا يحتمل الخطأ، وإنما يحتمل الصواب فقط، ولذلك عليه أن يتوقى الحذر. وهناك مدرستان في الخطاب الانتخابي عادة: خطاب من الأحلام الوردية يتصور بعض الناس أنه يكسب الأصوات على أساس أن حساب الأحلام الوردية يجيء بعد الفوز وبعد السلطة، ووقتها لكلّ حادث حديث! وخطاب يعتبر أن أحلام الورد مناسبة لأيام الاحتفال، وأما أوقات العمل الجاد ـ خصوصاً لمواجهة تحديات مصيرية ـ فإنها تحتاج إلى خطاب المصارحة، واستدعاء الإرادة بعده.

كلا المدرستين في الخطاب معروفة في منافسة الانتخابات، وفي ساحة السياسة عموماً، وحتّى في ظروف الحرب. ولعل أظهر الفوارق بين الخطابين هو ما عرفناه من خطاب الحرب العالمية الثانية:

ـ خطاب «أدولف هتلر» الذي بدأ الحرب العالمية الثانية بحلم وردي يضمن لألمانيا سيادة كاملة على أوروبا، ولألف عام من سيادة الرايخ الثالث الذي أسسه جامعاً للأمة الألمانية بأسرها.

ـ ثمّ هناك خطاب ثانٍ قدمه «ونستون تشرشل» حين تولّى رئاسة الوزارة البريطانية زمن الحرب، وحليفه الرئيسي زمنها ـ فرنسا ـ يستسلم أمام «هتلر»، والجيش البريطاني في أوروبا ينسحب انسحاباً كاملاً وغير منظم أمام جحافل المدرعات الألمانية من ميناء «دنكرك» عائداً إلى بريطانيا، ووقف «تشرشل» وقتها يقول للشعب البريطاني: «ليس عندي ما أقدمه لكم غير العرق والدم والدموع».

وكان «هتلر» بحديث الورد غارقاً في الأوهام. وكان «تشرشل» بمواجهة الواقع صادقاً في تصوير الحقيقة. وانتهت الحرب العالمية الثانية، والنتيجة:

ـ خطاب «هتلر» الوردي وأحلامه بالرايخ الذي يعيش ألف عام وصلت إلى تدمير الرايخ الثالث، واستسلامه بلا قيد أو شرط، وانتحار «هتلر» نفسه بعد أنْ أوصى بحرق جثمانه حتّى لا يمثل الغزاة بجثته، ولا تزال معالم مخبئه الأخير مزاراً سياحياً موجوداً وراء بوابة «براندنبورغ»، يقصد إليه بعض السواح ليتذكروا!

ـ وخطاب «تشرشل» بالحقائق عبَّأ بريطانيا بقدر حجم التحدي، ووصل إلى الجائزة المطلوبة في أي حرب، وهي جائزة النصر!

ينسى بعضنا قواعد بدهية في صراعات الأمم. الشجاعة دون معرفة مهانة. والمعرفة دون شجاعة عجز. والقاعدة الذهبية في الصراعات أن تجتمع الإرادة والحقيقة في نفس الموقف، خصوصاً إذا كان الموقف أزمة شبه وجودية، أو وجودية بالفعل. لكن بعضنا يتفاءل ويتشاءم. يريد أن يسمع الكلمة «حلوة» لأنها تشيع الراحة. ولا يريد أن يسمع الكلمة «واضحة» لأنها تشيع الإحباط.

يقيني أن خطاب الانتخابات القادمة مُطالب بأن يؤجل ولو مؤقتاً مواسم الورد، وأن يواجه بشجاعة مطالب الحقيقة، لأن السنوات القادمة سوف تكون اختباراً بين مستقبلين: مستقبل تتحول فيه مصر بأحلام الورد الواهمة إلى دولة فاشلة، كلّ الزهور تذبل صباح اليوم التالي، أو مستقبل تتحول فيه مصر بشجاعة معرفة الحقيقة واستدعاء الإرادة إلى دولة قادرة على العصر، ومواكبة للتقدّم.

يظل اعتقادي بأن صوت التنبيه إلى الأزمات أكثر لزوماً من اللجوء للتمويه على حقائق هذه الأزمات. ولست أعرف حتّى الآن لماذا يكون التحذير إحباطاً، ولماذا يكون التمويه أملاً؟! ما زلت أتذكر تجارب عديدة مباشرة؛ آخرها تجربة تخص الرئيس الأمريكي «باراك أوباما»، كان داخلاً إلى البيت الأبيض وسط حفاوة عربية تبشر به رجلاً قادراً على فهم قضايا العرب ونصرتهم، فهو باللون، وبدماء أفريقية في عروقه، وبإيحاءات إسلامية تظهر حتّى في اسمه: «باراك أوباما» ( «باراك» أصلها بركات، و«أوباما» تصحيف لأبو عمامة)، وهذا معناه أن أصول الرجل: عربية (بالاسم)، إسلامية (بالعمامة)، بل وإن أحد أحباء الرئيس الأمريكي الجديد كان في الأصل شيخ طريقة!

وأجريت حديثاً في ذلك الوقت مع جريدة الشروق، أداره معي عدد من أقدر وألمع الصحفيين، في مقدمتهم الصديق الراحل الأستاذ سلامة أحمد سلامة، وفي هذا الحديث أبديت مخاوفي من أن «أوباما» لن ينجح، ولن يفهم، ولن يحسم، وأبديت أسبابي، وكان أكثر ما أثار دهشتي أن كثيرين ردوا عليَّ بدعوى إثارة الإحباط، وأتذكر رداً موجهاً إليَّ نشرته الشروق أيضاً، وكان عنوانه مباشراً يقول لي: بشِّر ولا تنفِّر يا أستاذ «هيكل». ولم أكن أريد أن أبشِّر أو أنفَّر، فتلك ليست مهمة صحفي، وإنما مهمة الصحفي أن يتابع ويرصد، وأن يعرض ويحلل قدر ما يرى من الحقيقة، ووفق ما يتقصى من احتمالاتها.

باختصار المعركة الانتخابية القادمة يتحتم أن تكون خطاباً واضحاً صريحاً، وليس إنشائياً مراوغاً أو مداوراً. أحلام الورد بلا مستقبل، والحقيقة هي المستقبل، مع أني أعرف أن الدواء مرّ، والمخدر مريح! لا تنفع البشارات إذا لم تساندها حقائق. البشارات بغير حقائق على الأرض قش طائر تتلاعب به الرياح في يوم عاصف!

أعلم موقفكم من شخص حمدين صباحي وتقديركم لتاريخه، لكن إعلانه الترشح ربما ينطوي على كثير من النقاط الخلافية في تلك المرحلة. كيف تقرأ قراره؟

دخول الأستاذ «حمدين صباحي» إلى حلبة السباق الرئاسي ظاهرة طبيعية، وهي أيضاً ظاهرة طيبة، والأسباب كثيرة: هذا رجل يملك مواهب سياسية تجلت منذ أن كان ناشطاً طلابياً في الجامعة، ثمّ نمت هذه المواهب حتّى أصبح جاهزاً للعمل السياسي العام؛ هذا رجل لديه تجربة سياسية، أخذته إلى مواقع معتبرة في الساحة العامة؛ وهذا رجل جرّب معركة رئاسية حصل فيها بالفعل على ملايين الأصوات؛ وهذا رجل تتحلَّق حوله جماعات من الشباب متحمسة؛ وهذا رجل لديه طموح، والطموح حقّ لكلّ همة.

مُضافاً إلى هذه الأسباب أن دخوله إلى الحلبة صحّي، وإلا أصبحت ساحة الانتخابات خالية من روح المنافسة، وهي مناخ الاختيار. لكن لدى «حمدين» مشاكل، ولديه محاذير.

المشاكل:

(1) أنه بعيد عن الساحة العالمية. (2) أنه لم يتولَ مهام في التنفيذ أو التخطيط تثري معارف النظرية العامة.

أما المحاذير فهي: أولاً، هذه اللحظة الصعبة والمعقّدة قد لا تكون لحظته؛ وثانياً، أنه ما زال في سنّ شباب، (حتّى وإن كان شباباً نسبياً)، وفي مقدوره أن ينتظر لحظته.

وكان أن الرجل فكر طويلاً وانتظر كثيراً ثمّ حزم أمره ودخل، وأظن أنه حسناً فعل، وإن كنت أشفق عليه من محددات على حملته الانتخابية تفرضها الحقائق وليس المجاملات، وأمامه سؤال عصي وهو: كيف يستطيع تقديم نفسه، دون تجاوز في حقّ منافسه، خصوصاً إذا كان هذا المنافس يملك أرصدة قبول هائلة لدى جماهير الناخبين؟!

إنني ضمن هؤلاء الذين يتمنون أن يجد حمدين صباحي إيقاعه الصحيح في حملته الانتخابية، وقد بدا لي عندما أعلن اعتزامه ترشيح نفسه أن إعلانه جاء بميزان ذهب، لكن المشكلة هي: هل يستطيع أن يحتفظ بميزان الذهب عندما تقترب العملية الانتخابية من مرحلتها الحاسمة؟ هل يستطيع أن يضبط كلّ الأعصاب؟! أعصابه هو يقدر عليها، وأما أعصاب غيره من جماعته، فهل تقدر؟!

المشكلة الرئيسيّة هنا أن قوى المستقبل على تنوع أطيافها تجمعها شراكة أمل، لكن الحماسة المشحونة قد تأخذ الناس إلى أبعد مما تقتضيه أسس هذه الشراكة!