لا شك في أن الصين دولة صاعدة، وقوتها تتنامى بتسارع واضطراد على الصعيد الدولي، جاعلة منها منذ بدايات القرن ركنًا أساسيًا من أركان النظام الدولي؛ واحدةً من قواه الكبرى، وربما القوة العظمى القادمة في مستقبل الأيام[1]. وبناء على استراتيجيتها المعلنة، هي تُصرّح أنها تستهدف أن تكون مع منتصف القرن على رأس هرم هذا النظام. مع هذا الوضوح، تبقى الصين لغزًا محيّرًا للكثير من المتابعين. أسئلة متعددة تحوم حول مستقبلها. هل تتمكن من تحقيق غايتها المعلنة، أم يتم إحباط مسعاها من جانب المنافسين؟ كيف ستتصرف في إدارتها للصراع المحموم على المكانة العالمية؟ وما هدفها من الوصول إلى القمة؟

على الأقل، توجد وجهتا نظر بشأن «اللغز» الصيني، وهما غربيتا المنشأ. هناك من يعتقد أن الصين مراوغة، تُضمِر غير ما تُعلِن. فهي تريد الهيمنة على العالم، والتفرد على قمة النظام الدولي. وفي سبيل ذلك تقوم باتباع خطوات محسوبة، يجب عدم التغاضي عنها، بل مواجهتها واحتواؤها قبل أن يفوت الأوان. وهناك من يقول إنها تريد فقط تعظيم استفادتها الاقتصادية، وزيادة حصتها في النظام الدولي بتغيير علاقات القوة المتحكمة به، وليس الانقلاب عليه بالكامل. لذلك لا ضرورة لمواجهتها، بل من الأفضل التعاون معها[2].

تحاول هذه المقالة تقديم إجابة عن الأسئلة الدائرة في الأوساط خارج الصين. وقد وجدت من الأنسب أن تأتي هذه الإجابة عن رؤية الصين وغايتها من مصدرها الأساس؛ من الصين ذاتها. لذلك تعرض هذه المقالة وجهة النظر الصينية عن دور الصين عالميًا، وليس كما يفهم ويفسر الآخرون ذلك. وهي بذلك دراسة استقصائية، وليست نقدية، هدفها التعريف بالكيفية التي تفكر فيها الصين في شأن دورها ومكانتها في النظام الدولي. قد نقبل أو لا نقبل الرواية الصينية، ولكن لكي نقرر بذلك يجب أولًا الاطلاع عليها. فالصين بلد ذو شأن متعاظم، ويجدر عدم إهمال روايتها لرؤيتها.

أولًا: الصين والعالم: المراحل الثلاث

مرت الصين الحديثة في ثلاث مراحل أحدثت كل واحدةٍ منها نقلة نوعية في كيفية رؤية الصين لنفسها داخليًا، ولدورها وطبيعة علاقاتها خارجيًا. فخلال فترة قصيرة نسبيًا (70 عامًا) تحولّت الصين بفعل نقلات هذه المراحل من دولة فقيرة ومعزولة داخل النظام الدولي، إلى دولة كبرى ولاعب أساسي فيه، وإلى الدرجة التي يمكن أن تؤول إليها قيادته[3].

1 – مرحلة التثبيت والمواجهة[4]

وهي مرحلة ماو تسي تونغ التي بدأت بإقامة جمهورية الصين الشعبية عام 1949، وانتهت بوفاته عام 1976. طغت الأيديولوجيا على هذه المرحلة، وكان الحكم شديد المركزية[5]. وخلالها أصبحت وسائل الإنتاج مملوكة للدولة، وأضحى الاقتصاد يُسيّر بتخطيط مركزي تمّت ترجمته بمتوالية من الخطط الخمسية. ومن وحي تنظيراته الأيديولوجية، التي شقّت للصين نموذجًا خاصًا من الماركسية، أصبح يُعرف بالماوية، قضى ماو فترة حكمه وهو ينتقل بالبلاد من تجربة إلى أخرى، لم يكن الكثير منها ناجحًا.

كان ماو يتوجس مما تقوم به أمريكا من إجراءات تضييقية لإجهاض الثورة الصينية، وأراد لبلاده أن تقود حراكًا عالميًا ضد طغيانها الإمبريالي. لذلك اتجهت السياسة الصينية حينذاك نحو تمتين العلاقات مع دول الجنوب الحديثة الاستقلال. وأصبحت الصين إحدى أهم دعائم تكتل دول عدم الانحياز. ومن أجل إرساء الأسس لعلاقة سليمة بين الدول، قام شو إن لاي، رئيس الوزراء الصيني حينها، بالتعاون مع رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، بإطلاق المبادئ الخمسة للتعايش السلمي بين الدول في عام 1954، وهي: الاحترام المتبادل للسيادة وسلامة الأراضي، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي[6].

2 – مرحلة الإصلاح والانفتاح

ارتبطت هذه المرحلة جوهريًا بالفكر التعديلي لدينغ شياو بينغ، وابتدأت منذ عام 1978، واستمرت حتى عام 2013، خلال فترتي الرئيسين جيانغ زيمين (1993-2003) وهو جينتاو (2003-2013) أيضًا.

قاد دينغ بين عامي 1978 و 1997 «انعطافة كبرى» عدلّت من توجه البلاد، وفقًا لرؤية مغايرة لرؤية ماو[7]. ومن المثير أن تغيير المسار لم يُصاحب بإدانة للمرحلة السابقة أو بتشويه سمعة مُنظّرها، بل عُدَّ مجرد تطوير لتلك المرحلة التي تُركت لتنحسر، ولكن دون تنكّر أو بابتهاج[8]. تمحورت رؤية دينغ حول عدم إمكان استمرار وضع البلاد على حاله، وأن هناك حاجة إلى تنشيط وضعها الاقتصادي، ما يعني ضرورة إجراء تحوّل بنيوي في هيكلية النظام الاقتصادي القائم، لتحسين الإنتاج ورفع مستوى حياة الناس. ولكنه أراد، في الوقت نفسه، الحفاظ على استمرارية النظام السياسي القائم على محورية القيادة المركزية للحزب الشيوعي. لذلك كان مهتما بألّا يؤدي التحويل المزمع إلى صراع وانهيار في البلاد.

تطلب تحفيز الصينيين على الإنتاج نقل الشأن الاقتصادي من حكر ملكية الدولة ليصبح ملكية مختلطة بين الدولة والأفراد. كان الغرض تحرير كوابح الاقتصاد الجامد والمنكمش من طريق ضخ نفحة من الليبرالية-الرأسمالية المنتجة للربح الفردي عليه، ولكن ضمن ضوابط تخطيط استراتيجي مركزي تحافظ على استمرار سيطرة الحزب على الدولة[9].

كانت هذه هي رؤية دينغ التي يمكن إطلاق تعبير البراغمادولوجية عليها (الجمع بين البراغماتية والأيديولوجيا): المزاوجة بين مجالين لم يكن تلاقيهما ممكنًا وفق الماركسية اللينينية، أو الماوية: نظام سياسي اشتراكي يرعى اقتصاد السوق. هذه هي «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، مسار جديد يجمع ما بين اتجاهين كان يُعتقد بأنهما متناقضان[10].

في الوقت الذي كانت الصين تخوض غمار عملية تحولاتها الإصلاحية، شهد العالم أمرين كان لهما أبلغ الأثر في النظام الدولي: بزوغ العولمة التي أطاحت الكثير من الحواجز بين الدول، وأدت إلى انسيابٍ أرحبَ للبضائع والأفكار والأفراد والأموال؛ وتفكُّك الكتلة الشرقية، والانهيار السريع غير المتوقع للاتحاد السوفياتي، فترك النظام الدولي يقف على أحادية قطبية دولية ورثت، من دون الحصول على فترة تحضير واستعداد، قيادة العالم وإدارته. وجدت الصين في العولمة ظاهرة إيجابية سمح الانخراط بها للبلاد أن تنفتح على العالم، تأخذ منه نواتج الآخرين، فتستوعبها وتوظفها وتحولّها إلى سلع تعيدها إليه، فينمو اقتصادها بسرعة واضطراد[11]. أما سقوط الاتحاد السوﭬياتي المباغت فقد نبّه القيادة الصينية إلى أنّ عدم أخذ الحيطة في مسيرة الإصلاح والانفتاح، وارتكاب الأخطاء في احتساب حسابات القوة على الصعيد الدولي يمكن أن يؤدي إلى انهيار[12]. وكان الدرس المستقى من الصعود الأمريكي المفاجئ إلى سدّة حكم العالم أن الإفراط في التوسع المفرط في استخدام القوة، يؤدي إلى وَهَن الدولة العظمى ويضعف قدرتها على الاستمرار. كانت هذه دروسًا للصين التي استوعبت أن المهم ليس امتلاك القوة، وإنما كيفية استخدامها بحكمة لتحقيق أهداف الدولة[13].

كان دينغ حريصًا على اتّباع سياسة الحذر وهو يقود تحديث الصين، إذ لم يُرد إثارة مخاوف الآخرين من الصعود الصيني. فقد اعتقد أن تقدم الصين لا يتحقق بمواجهة النظام الدولي السائد، والقوة العظمى المسيطرة عليه، وإنما بالانخراط فيه، وتحقيق الاستفادة القصوى مما يمنحه من إمكانات وفرص. لذلك كان شعار «تحقيق السلام والتنمية» هو عنوان استراتيجيته التي تلخصها مقولته المأثورة: «علينا أن نراقب برويّة، وأن نحصّن موقعنا، ونتعامل مع الأحداث بهدوء، وأن نخفي طاقتنا، ونُتقن فن التواضع، ونكون جيدين في المحافظة على البقاء بعيدًا من الأضواء، وألا ندّعي القيادة مطلقًا»[14].

3 – مرحلة الرسوخ والانطلاق

وهي المرحلة الموسومة بفكر تشي جين بينغ الذي انتُخب رئيسًا للبلاد عام 2013 وأضحى الرئيس الأقوى للصين منذ ماو تسي تونغ[15]. ومن المخطط لها أن تستمر حتى منتصف القرن الحالي، الموعد لبلوغ الصين مكانتها كقوة مركزية عالمية كبرى[16]. أعلنت الصين أنها تريد خلال هذه المرحلة إنجاز «الحلم الصيني» المتمثل بتحقيق «النهضة العظيمة للأمة الصينية». فقد وصلت البلاد، وفقًا للرئيس الجديد، إلى وضع لم يعد ضروريًا معه استمرار التستر «وخفض الجناح» لمداراة «الصعود الصيني»، أو التقليل من الدور الريادي الذي تريده الصين لنفسها على الصعيد الدولي[17]. فالبلاد ماضية في مسيرة «تحقيق حلم الصين المتمثل بالنهضة العظيمة للأمة الصينية بكل قوة وشجاعة، وعصر اقتراب بلادنا من صدارة المسرح الدولي يومًا بعد يوم، وتقديم إسهامات أكبر للبشرية»[18].

هذا الوضوح الجديد في السياسة الصينية لا يترجم نفسه بعدائية. فالصين تنأى بنفسها عن المواجهة، وتدفع في اتجاه المشاركة. أما مصالحها وأهدافها الحيوية فتتمثل بالمحافظة على طبيعة النظام الحاكم، وتأمين وحدة الأراضي الصينية وفق مبدأ «صين واحدة»، وتعظيم النمو الاقتصادي، وتوسيع القوة العسكرية والقدرة البحرية، وتطوير علاقة مستقرة بالجيران (14 دولة)، وتعميق التعاون مع الدول النامية، والاستمرار في تأدية دور إصلاحي نشط للنظام الدولي الحالي المُقاد من قبل أمريكا[19].

ينقسم المخطط لهذه الحقبة إلى ثلاث مراحل. يُخطَط للمرحلة الأولى أن تنتهي عام 2020 بالانتصار على الفقر في البلاد «وإنجاز بناء المجتمع رغيد الحياة». أما المرحلة الثانية فتنتهي عام 2035 باستكمال بنيان «التحديثات الاشتراكية» التي تتضمن إتمام بناء النظم في مختلف المجالات، وتحقيق طفرة اقتصادية وعلمية وتكنولوجية، لتصبح البلاد في مقدمة الدول المبتكِرة في العالم. ومع انتهاء المرحلة الثالثة، عام 2050، ستصبح الصين «دولة اشتراكية حديثة قوية ومزدهرة وديمقراطية ومتحضرة ومتناغمة وجميلة»، وكذلك قوية ورائدة في تأثيرها في الساحة الدولية. حينئذٍ «ستقف الأمة الصينية»، كما أعلن الرئيس تشي أمام المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، «شامخة وسط أمم العالم بمعنوياتها العالية»[20].

لإنجاح مسعى بلوغ قمة الهرمية الدولية، تم تحديد مسار العمل داخليًا ليكون متوازيًا على صُعد ما سُمي «الشوامل» الأربعة: أولًا، استكمال إنجاز مجتمع رغيد الحياة بصورة شاملة، بحيث يستمر نمو العجلة الاقتصادية وفق آلية السوق الفعّالة، والقيام بردم الفجوات بين مناطق البلاد المختلفة لتحقيق «التنمية المتناسقة». ثانيًا، تعميق الإصلاح في مختلف جوانب الحياة لإكمال بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وتحديث منظومة الحكم وتحسين أداء مؤسساتها. ثالثًا، تعزيز قوننة حكم الدولة وإخضاع الحكومة والمجتمع لحكم القانون الموحّد، وإصلاح وتقوية الجهاز القضائي. رابعًا، إدارة الحزب بانضباط صارم كي يستمر في قيادة الدولة وعملية تنميتها باقتدار ونجاعة، ما يتطلب محاربة الفساد، وترسيخ روح وعقيدة الاشتراكية الحزبية بين أعضائه[21].

تبدو الصين في هذه المرحلة أكثر وثوقًا بقدراتها، وبطموحاتها أيضًا. وهي تبدي استعدادًا أكبر للدفاع عن نظام حكمها ونموذجها التنموي، وعن المكانة المتقدمة التي تريدها لنفسها دوليًا. ومن أجل تحقيق ذلك، تدفع القيادة الصينية باتجاه انخراط أكبر للبلاد بالشؤون الدولية، وتوسيع شبكة علاقاتها الخارجية، وتشبيك مصالحها إيجابيًا مع مصالح الآخرين[22].

ثانيًا: منطلقات رؤية الصين الاستراتيجية

تنبع رؤية الصين الاستراتيجية من الصورة التي كوّنتها في ثقافتها عن نفسها، ومن تقييمها لما تمتلكه من مقدرات وإمكانات، ومن نظرتها إلى العالم والنظام الدولي السائد حاليًا فيه.

1 – صورة الصين لذاتها

نهلت الثقافة الصينية عبر تاريخ حضارة مديد من عدّة منابع، أهمها الفكر الكونفوشي، والطاوي، والماركسي ذو النفحه الماوية. من ضمن ما استندت إليه من الكونفوشية أن البناء الهرمي التراتبي للعلاقات الإنسانية يُمثّل الحالة الطبيعية المقبولة، وأن المنَعة أمام التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي لبلدٍ تكمن في ضرورة المحافظة على وحدته وتوازنه الداخلي من جهة، وسلميته وتناغمه ذاتيًا وخارجيًا، من جهة أخرى. أما بشأن تنظيم العلاقة مع الغير، فقد أخذت هذه الثقافة من الطاوية لها مرتكزًا في مبدأ اعتماد النفَس الطويل، الهادئ، وغير المواجِه، والذي يركزّ على أهمية تحقيق الهدف بصبر وتؤدة، ولكن بصلابة وثبات. وعززت الماركسية في هذه الثقافة مبادئ مقبولية مركزية الحكم وتراتبية السلطة، والطاعة، وأهمية التعاون وتحمّل الصعاب.

ترسخ الثقافة الصينية القناعة بأن الصين تمثّل «المملكة الوسطى»، أي «حضارة كل ما تحت السماء»، التي أنتجت «العالم المتحضّر» المتفوق على غيره، ولكن من دون نزعة عدوانية أو توسعية، فهي لا تؤمن بالحرب ولا تروّج لها، ولا تسعى للمخاطرة بلا سبب، بل تُفضّل «كسب المعركة من دون قتال». أما منظومة الحكم فتقوم على مبدأ «التفويض السماوي» الذي يقوم على أساس الاشتراطية التبادلية بأن يقبل المحكوم بالحكم المستمر للحاكم وفق تراتبية هرمية مطاعة، طالما قام الحاكم بتصريف شؤون الحكم بما يؤمّن للمحكوم العدل والأمان. وتنثر الثقافة الصينية أن هذا النوع من الحكم هو الضامن لمَنَعة الصين، والكفيل بتجنيبها خطر التجزئة من جرّاء التدخلات الخارجية، كما حصل لها خلال ما يُعرف بـ «قرن الإذلال» (1839-1949).

رسّخت هذه الثقافة لدى الصينيين ضرورة الحفاظ على خصوصية كينونتهم. كما وشحنتهم أيضًا باعتقاد أن عليهم واجب تحسين وضع العالم، بقيادة مشروع سلمي تشاركي تتلاقى فيه الثقافات، وتتلاقح ضمنه الحضارات، ليحقق الرخاء والأمان للجميع[23].

2 – ضخامة المقدرات والإمكانات

قبل أقل من نصف قرن كانت الصين بلدًا فقيرًا ومعزولًا، يصارع داخل نظام دولي غير مواتٍ كي يثبّت نظام حكمه ومكانته بين الأمم. ولكنها أصبحت الآن في مصافّ أكثر الدول تقدمًا في مجالات متعددة. منح هذا الصعود ثقة متزايدة للصينيين، ودفعهم إلى تأدية دور أكثر فاعلية في الشؤون الدولية.

الصين بلاد ضخمة المقدّرات والإمكانات. فهي أكبر دول العالم من حيث السكان، إذ تضم نحو 1.4 مليار نسمة، ما جعل الصين تمتلك أكبر قوة عاملة في العالم حاليًا. كما أنها رابع دول العالم من حيث المساحة، بنحو 9.6 ملايين كم² من الأراضي الغنية والمتنوعة بالمصادر الطبيعية. وهي تتمتع بموقع استراتيجي على خطوط التجارة العالمية الحالية، وبخاصة البحرية، وتتوسط دولًا متعددة يمكنها أن تؤدي دورًا محوريًا معها.

في غضون أربعة عقود أصبحت الصين عملاقًا اقتصاديًا. فمنذ عام 1979 حافظ هذا الاقتصاد على معدل نمو سنوي بنسبة 9,5 بالمئة[24]. وهي الآن ثاني أكبر قوة اقتصادية بعد الولايات المتحدة الأمريكية وفقًا للناتج المحلي الإجمالي، وأكبر قوة تجارية في العالم، وأكبر مُصدّر للسلع، وثاني أكبر مستورد، والأولى في الاحتفاظ بأكبر موجودات في القطاع المصرفي، وفي الاستحواذ على احتياطي العملات الأجنبية، وأكبر مستورد للنفط، وثاني أكبر مستهلك له. ومع أن معدل دخل الفرد السنوي الذي تخطى حاجز 10,000 دولار لا يزال ضئيلًا بالمقارنة بالدول المتقدمة، إلا أنه قفز عدة مرات منذ عام 1980 حين لم يكن يتجاوز 1000 دولار سنويًا[25].

أدى هذا النمو الاقتصادي إلى تصاعد مستويات التعليم في البلاد، وازدياد نسبة التمدن باضطراد، وإخراج مئات الملايين من الفقر، وإلى نمو متسارع لطبقة وسطى جديدة وحيوية، وهذا جعل الصين تصبح أسرع سوق استهلاكية نامية في العالم.

لحماية المصالح التجارية والإمدادات الحيوية، وبخاصة النفط، تنامت حاجة الصين إلى تدعيم القوة العسكرية للبلاد لتناسب صعود مكانتها الدولية. والصين أصلًا دولة قوية عسكريًا، فهي قوة نووية وتستحوذ على أكبر جيش تعدادًا في العالم. وقد بدأت مؤخرًا بتطوير قدراتها العسكرية، وفقًا لخطة تنقسم إلى مرحلتين: الأولى تستمر حتى عام 2035، ويتم خلالها تحديث كامل للقوات المسلحة، والتركيز بخاصة على تقوية القوتين البحرية والجوية. أما المرحلة الثانية فتبدأ عام 2035 وتنتهي بأن يصبح الجيش الصيني عام 2050 على رأس هرم التصنيف العالمي. من أجل ذلك ظلّت ميزانية الإنفاق على الدفاع تتضاعف منذ بدايات هذا القرن حتى أصبحت الآن ثاني أكبر ميزانية (235 مليار دولار بالعام) بعد الولايات المتحدة التي تنفق سنويًا ما يزيد على ذلك بثلاثة أضعاف[26].

3 – النظرة الصينية للنظام الدولي

عانت الصين تعرض أجزاء منها خلال القرنين الماضيين للسيطرة الأجنبية. وتم حينها انتهاك الحقوق الصينية، وفرض شروط قاسية ومذّلة على الصينيين، ما زالت وطأتها السلبية تقضّ مضاجع ذاكرتهم الجمعية[27]. وبعد تحوُّل النظام الدولي إلى ثنائي القطبية، تحيّز المعسكر الغربي ضدها، وأقصاها من دورها كدولة كبرى في منظومة حاكمية هذا النظام.

شهدت علاقة الصين بالنظام الدولي بعض التحول ابتداءً من مطلع سبعينيات القرن الماضي بسبب ثلاثة عوامل: الأول، التحول في الموقف الأمريكي تجاهها ابتداءً من عام 1972، وصولًا إلى الاعتراف بها عام 1979. والثاني، التحول في التوجه الصيني من دوغمائية أيديولوجية ماو إلى براغمادولوجية دينغ. أما الثالث، فكان الدخول منذ الثمانينيات في عالم العولمة الذي مكّن الصين من التغلغل بين ثنايا انفتاح العالم إلى السوق العالمية.

ولكن على الرغم من كل ما حققته الصين من نجاحات اقتصادية، إلا أن موقفها من التركيبة السياسية للنظام الدولي بقي سلبيًا؛ فهي ترى أن هذا النظام يرتكز على أساس هيمنة القوة، والصراع هو محركه، وعقلية الحرب الباردة تستحكم فيه، حتى بعد أن أصبح أحادي القطبية[28]. وترى الصين أنه مع تفرد الولايات المتحدة وتسلطها في إدارة الشؤون الدولية، أصبح العالم أقل توازنًا وأكثر اضطرابًا، ويفتقر إلى بوصلة موجِّهة وناظِمة تحقق له الاستقرار.

4 – الرؤية الاستراتيجية في التطبيق

يُشكّل ضمان استمرار النمو الاقتصادي في البلاد، وبوتيرة مرتفعة، الهدف/الهاجس الأساس للقيادة الصينية. فرغم جميع الانجازات، إلا أن البلاد لا تزال تعاني الكثير من الاختلالات والفجوات. ومع أن الكثير قد تحقق، إلا أن الكثير لا يزال بانتظار أن يتحقق.

لا تريد الصين تعكير الأجواء الدولية التي سمحت لها بتحقيق الصعود، ولكنها لا تريد أيضاَ أن يتم تعكير هذه الأجواء عليها. فهي تريد لخطوط التجارة الحرّة أن تستمر مفتوحة، لأن الاقتصاد الصيني يعتمد عليها للاستمرار في النمو. لذلك يلاحَظ أن الصين ليست صدامية في سياستها الخارجية، بل تنأى عما قد يسبب لها المصاعب، وتحاول عدم استثارة الولايات المتحدة. ولا تورّط الصين نفسها في التسبب بمواجهة، ولكنها لا تنأى بنفسها عن الردّ بالمثل عندما تُفرض عليها المواجهة؛ هي تشدّد على أنها منافِسة وليست مهاجِمة. هذه هي حالها مع ما فرضته عليها إدارة ترامب من حرب تجارية لم تكن تريدها على الإطلاق. المفارقة العجيبة التي يمكن تسجيلها هنا أن الدولة الاشتراكية الأكبر في العالم أصبحت الداعم الرئيس للتجارة الحرة أمام حمائية الدولة الرأسمالية الأكبر في العالم، والتي من المفترض أن تكون هي ذلك الداعم.

لا تخفي الصين عدم رضاها عن بنية وقيم النظام الدولي الحالي الذي يركّز الحاكمية الدولية عند دولة عظمى واحدة. لذلك هي تُعلن بأنها تسعى لتغيير بنيته السياسية إلى التعددية القطبية، مع الاستمرار بتعزيز أسسه الاقتصادية القائمة على انفتاح الأسواق وحرية التجارة الدولية. باختصار، الصين لا تريد الانقلاب على النظام الدولي الحالي، ولكنها تدعو إلى تغيير تحويلي يُعدّل علاقات القوة داخله[29].

من أجل تحقيق هذا الهدف، تُمحوِر الصين سياستها الخارجية حول المرتكزات التالية:

أ – إعادة تشكيل الخطاب المتعلق بالنظام الدولي

تعمل الصين على طرح خطاب جديد يصيغ رؤيتها حول ما يجب أن يكون عليه النظام الدولي، والكيفية التي يجب أن تُعالَج بها القضايا الدولية. يمتاز هذا الخطاب بالإيجابية، ويُنقَل إلى الآخرين بنبرة هادئة وناعمة ليعرض لمنظومة دولية مختلفة، أفقية التشكيل، تتساوى فيها الدول، صغيرها وكبيرها، بغضّ النظر عمّا تملكه من قوّة. العلاقات الدولية وفق هذه المنظومة تصبح مبنيّة على التعاون والتناغم بين الجميع في معادلة تحقيق «الفوز المشترك». لذلك يُشدد الخطاب الصيني، الذي يبدو طوباويًا، على تعميق فكرة العيش المشترك القائم على التناغم والانسجام بين دول العالم، لتحقيق المنفعة المتبادلة والازدهار المشترك للجميع[30]. وتُشدد الصين على أهمية تحقيق التنمية المستدامة للشعوب، وإشاعة أجواء السلم والاستقرار في العالم، بالتفاهم والاعتدال واتّباع منهج فضّ النزاعات سلميًا[31].

ب – طرح نموذج مختلف للدولة العظمى

تطرح الصين باستمرار تصورها حول ماهية النموذج الجيد للدولة العظمى، مستلهمة سرديتها الذاتية كمثال يعاكس النموذج الأمريكي. فهي ترغب بتوليد الانطباع بأنها دولة أهلٌ للثقة، تتحلى بالمسؤولية، وذات صدقية، وتنهل من تكوينها الثقافي التحلي بالصبر ورباطة الجأش وضبط النفس وبُعد النظر. لذلك هي في علاقاتها مع الآخرين ليست لحوحة ولا متسرعة، بل حذرة ومتأنية كونها «… ترى مبادئ الربح والخسارة من منظار طويل المدى جدًا»[32].

وفقًا لرواسخ فكرها الكونفوشي تفضّل الصين العمل مع الآخرين بالتوافقات لا بالإملاءات. لذلك تعتمد في علاقتها بالغير على بناء المنظومات المشتركة من الروابط القيمية والثقافية، وتؤكد أن دوافعها ليست عدائية، بل سلمية. وهي دائمًا تشدد على أنها لن توظّف قوتها العسكرية لتهديد الغير كونها ليست ذات نزعة توسعية، ولا تؤمن بالتحالفات العسكرية، ولا ترغب بالاستحواذ على أراضي الغير بالقوة. بل تريد القيادة بالحكمة والقدوة الحسنة، وأن تكون باعتدالها مثالًا يُحتذى من جانب الآخرين. هي تقول بأنها لا تريد أن تصبح «شرطي العالم»، بل تسعى لتكون «الأخ الأكبر» للآخرين ترعى معهم مصالحهم، وتحقق لهم الفائدة التي ستعود عليها بالنفع أيضًا، ما يحقق استفادة الجميع[33].

تعلن الصين أنها لا تريد إرغام الآخرين على استنساخ نموذجها، إذ تؤمن بأن ما هو جيد بالنسبة إليها ربما لا يكون كذلك لغيرها. فلكل مجتمع خصوصيته، ولا يجوز الإملاء على الآخرين كيفية تنظيم حياتهم. لذلك تُعلن أن نموذجها مطروح أمام الآخرين، ويعطيهم بديلًا من النموذج الغربي، ولهم حرية القرار والاختيار، بما في ذلك استنباط المنهج الخاص المناسب لهم[34].

ج – الاهتمام بتطوير العلاقات الثنائية مع دول العالم

تسعى الصين لتطوير علاقاتها الثنائية مع أكبر عدد ممكن من الدول، بغضّ النظر عن حجم أو وضع كل دولة، أو معتقدها الأيديولوجي، أو نوع نظامها السياسي، أو طبيعة علاقاتها مع بعضها بعضًا. فالجميع عندها أصدقاء. ولا يوجد وسيلة لتعزيز مكانتها الدولية أفضل من تربيط مصالح أكبر عدد من الدول معها، كونه يقوّي أسس الاعتمادية الاقتصادية معها. وهي في علاقاتها مع الغير تأتي برزمة مغرية. فهي لا تتستر على أنها تريد تحقيق الاستفادة لنفسها، ولكنها تشدد على أن استفادتها تبادلية، وليست أنانية استغلالية تهتم بمصالحها الذاتية فقط. وتؤكد أنها لا تتدخل في شؤون غيرها من الدول، فهي تحترم سيادتها، وتقيم العلاقات معها وفق مبادئ التعايش السلمي، ولا تُحمّل تعاونها أو مساعدتها لغيرها من الدول رزمة اشتراطات[35].

تنهمك الصين في أرجاء العالم بالقيام بأعمال وفق أجندة عريضة ومزدحمة بالمشاريع المختلفة. فهي في قطاع تطوير البنى التحتية في دول متعددة تقوم بمشروعات إنشائية كبرى، كبناء شبكات الطرق والسكك الحديد، وإنشاء الموانئ وتطويرها وإدارتها وبناء مصافي النفط وخطوطه، ومحطات الكهرباء والمياه. كما تعمل في مشاريع مختلفة في مجالات الاتصالات، والطاقة، والزراعة، والتعدين، والتصنيع، ونقل التكنولوجيا، وصولًا إلى بيع الأسلحة. باختصار هي تعمل في مختلف المجالات والقطاعات، وتهتم بالدخول في شراكات. لذلك أصبحت أكبر شريك تجاري للدول الأفريقية ودول آسيوية متعددة، وثاني أكبر شريك لأمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، وشريك تجاري أساسي لكثير من دول الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي[36].

د – خلق وتعزيز الروابط الإقليمية والدولية

تُفضّل الصين تمتين علاقاتها مع الدول ضمن أطرٍ جماعية، يختص كل منها بإقليم محدد. كذلك تعمل على إيجاد تجمعات موازية لتلك التي يقوم عليها النظام الدولي الحالي. وتحاول أن يكون لها فيها دور قيادي مركزي تتكئ عليه في مدّ نفوذها عالميًا.

تقوم الصين بإنشاء ورعاية عدّة منتديات، وتشارك في مؤسسات دولية متعددة. فهي الشريك الرئيسي في منتديات التعاون الصيني – الأفريقي، والصيني – العربي، ودول جنوب شرق آسيا (الآسيان)، ومنظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (الأبيك)، ومجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي (سيلاك)، ومنظمة شنغهاي للتعاون، إضافة إلى مجموعة بريكس. كل هذه المنتديات والمؤسسات تُستخدم منابر للتواصل مع الآخرين ونشر الرؤية الصينية. ويساعد على تحقيق ذلك الأذرع التي أنشأتها الصين لتقوم من خلالها بتنفيذ خططها التنموية مع الآخرين، مثل بنك الصين التنموي والبنك الآسيوي للتنمية، من جهة، وعضويتها في أُطر دولية مثل منظمة التجارة العالمية ومجموعة العشرين، من جهة أخرى[37].

هـ – تنامي الانخراط في القضايا الدولية متعددة الأطراف

بدأت الصين، من منطلق تزايد وعيها بأهمية الانخراط على نحوٍ أعمق في تحمل المسؤوليات العامة في العالم، بزيادة اهتمامها في أداء دور أكبر في هذه القضايا. فقد وجدت أن من المفيد لها، إن هي أرادت تعزيز مكانتها الدولية، أن تقتحم هذا المجال، حتى وإن كان بمساهمات مالية لا تزال متواضعة.

ساهمت الصين في التوصل إلى اتفاق باريس للمناخ، وأعلنت بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية استمرار التزامها به[38]. كما تحاول إبراز دور جديد لها في مجال تحسين البيئة وتعزيز مبادرة التنمية الخضراء. وزادت جهودها في مواجهة قضايا دولية متعددة مثل محاربة الفقر وانتشار الأوبئة والكوارث الطبيعية والتصحر، ومحاربة الإرهاب. وأصبحت تقود الجهود الدولية في مجال حفظ السلام تحت راية الأمم المتحدة. وتُعدّ الصين الأكبر مساهمةً في هذا المجال بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، بميزانية فاقت المليار دولار حتى الآن[39].

و – تعزيز الاعتبار للأمم المتحدة

للصين موقف تقليدي ثابت في دعم الأمم المتحدة، على أساس أنها المؤسسة الأعلى في الحاكمية الدولية[40]. وقد أكد عضو مجلس الدولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي أن بلاده «… تدافع بحزم عن دور الأمم المتحدة الرئيسي في الشؤون الدولية وصيانة المصالح المشتركة للمجتمع الدولي، وبخاصة البلدان النامية»[41].

لهذا الموقف الصيني ثلاثة دوافع: الأول، تعزيز دور الأمم المتحدة يصب في المسعى الصيني الذي يستهدف تغيير قواعد الحوكمة الدولية من نظام أحادي القطبية إلى متعدد الأقطاب. فالدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن تمتلك حق النقض، ما يعني عدم إمكان تفرّد دولة واحدة واستئثارها بالقرار الدولي. أما الدافع الثاني فهو استخدام المؤسسة الدولية كدرع واقية للصين تصدّ عنها تدخلات الغير في شؤونها الداخلية. فازدواجية المعايير في السياسة الخارجية للدول الغربية، يضمحل تأثيرها عندما تُقنَن داخل إطار الشرعية الدولية، وضمن أحكام القانون الدولي. والدافع الثالث هو استخدام المنبر الذي توفره الأمم المتحدة، وبخاصة جمعيتها العمومية التي تضم جميع الدول، لحشد التأييد للمواقف والسياسات الصينية.

ثالثًا: القوة في «القوة الناعمة»

اكتشفت الصين أهمية الاعتماد على القوة الناعمة لزيادة جاذبيتها وتعزيز مكانتها دوليًا. فهي تحاول إقناع الآخرين أن مشروعها الدولي التشاركي ناجم عن قناعة راسخة لديها، وليس مجرد صيغة ترويجية لمشروع يستهدف الهيمنة على العالم. ففي نظرها، هي ذات قوة أخلاقية بأبعاد إنسانية متوازنة ومختلفة عن تلك التي تستند إليها القوة العظمى الحالية، ولها نموذجها الخاص، وتحمل مشروعًا طليعيًا وتغييريًا لحال العالم، وتريد من الآخرين تقبّله، والالتحاق بركبها لتحقيقه[42].

ارتأت الصين، لإيضاح نياتها الايجابية، ضرورة توسيع نافذة معرفة الآخرين بها. لذلك دأبت خلال العقدين الأخيرين على توسيع دوائر انفتاحها الثقافي، فافتتحت في دول متعددة شبكة واسعة من معاهد كونفوشيوس التي تُعنى بالتعريف بالثقافة وتعليم اللغة الصينية[43]. كما زادت من اهتمامها في استضافة أحداث رياضية وتجارية عالمية، كالألعاب الأولمبية و«الإكسبو»، ودعمها لبرامج التبادلات الأكاديمية والثقافية، وبدأت بتوسيع برامج منح الدراسة في الجامعات الصينية، حيث يدرس الآن آلاف الطلبة من أنحاء مختلفة من العالم. ولإيصال رسالتها للعالم بصورة أنجع، قامت بتطوير وسائل إعلامها، وخصوصًا المرئية، لتتواصل مع العالم بلغات متعددة[44].

لكن الأهم في رؤية الصين لقوتها الناعمة يتمركز في استخدام قصة نجاحها كعامل ترغيب، وتطوير علاقاتها في المجال التنموي مع الدول الأخرى المتلقية لدعمها بأشكال مختلفة، وتطويع قوة الصين الاقتصادية لإيجاد وتمتين علاقتها مع الدول الأخرى. مئات مليارات الدولارات ما بين استثمارات ومنح وقروض ميسّرة تقدمها الصين إلى دول متعددة، تدخل معها في شراكات، وتلبي لها حاجات، مع الإعلان عن عدم ربط ذلك بالتدخُّل في شؤونها أو فرض اشتراطات عليها. هذا عامل ترغيب كبير لكثير من الدول لتوطد علاقاتها بالصين، وتوسع التبادل التجاري معها.

تم تجميع كل العوامل السابقة في مبادرة صينية واحدة أُعدت لتربيط أطراف العالم في شبكة من العلاقات المتداخلة، بحيث تكون بكين المركز لالتقاء كل الخيوط بعضها ببعض. هذه هي مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس تشي عام 2013. تتضمن هذه المبادرة، وهي أكبر مشروع بنية تحتية وتعاون اقتصادي مقترح في العالم، إقامة ستة ممار برّية تخترق آسيا وصولًا إلى أوروبا، ومسارين بحريَّين يصل أحدهما الصين بأفريقيا ومنها إلى أوروبا وبقية العالم، بينما يُعزّز الآخر تجارتها عبر المحيط الهادي. رصدت الصين نحو 125 مليار دولار لإطلاقها، ومن المتوقع أن تتصاعد لتصل نحو 300 مليار دولار بحلول عام 2030. وهذه المبادرة تشاركية بمعنى أن الدول التي تمر بها الممار البرية ستقوم بتحمّل تكلفة تحديث بنيتها التحتية، ويمكنها الاستفادة من قروض يمدّها بها «صندوق طريق الحرير» الذي أنشأته الصين لهذه الغاية.

تستهدف الصين من هذه المبادرة تجميع علاقاتها الثنائية ضمن إطار جامع واحد، يسهّل لها عملية التبادل التجاري خارجيًا، وتستفيد منها داخليًا في تنمية أواسط وغرب بلادها التي تعاني فجوة تنموية إذا ما قورنت بشرق البلاد المتقدم عليها. في المقابل، تطرح الصين أن هذه المبادرة مصممة لتحقق فوائد جمّة للدول المشاركة فيها، كونها تربطها بخطوط تجارية ستصبح هي العصب المحرك للاقتصاد العالمي[45].

1 – التحديات المؤثرة

رغم كل النجاحات التي حققتها الصين حتى الآن، إلا أن استمرار رحلة صعودها لن تكون سهلة أو مضمونة النجاح. فهي تواجه ثلاثة تحديات أساسية، أحدها داخليّ المنشأ، يعززه تحديان خارجيان.

أ – استمرار الاستقرار الداخلي

تحتاج الصين إلى ضمان وحدتها الداخلية لتحافظ على تجميع الطاقة الصينية وتوجيهها لتحقيق الأهداف المرسومة من القيادة الصينية. هذا يعني أنها بحاجة إلى استمرار قناعة الصينيين بجودة نظامها السياسي القائم على «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، والتي تركز الحكم بيد الحزب الشيوعي المسؤول عن تحديد مسيرة البلاد، من جهة، واستعدادهم للاستمرار في بذل الجهود الموجهة لتحقيق الأهداف التي يحددها لهم الحزب الحاكم، من جهة ثانية.

نجحت القيادة الصينية حتى الآن في تأمين ذلك، وخصوصًا أن الصينيين منهمكون بتحسين ظروف حياتهم، ما يحيل حاليًا رؤيتهم لمستقبل نظامهم السياسي إلى أولوية ثانوية. ولكن ذلك قد يتغير في حال تباطؤ النمو الاقتصادي. وقد بدأ هذا التباطؤ في السنوات الأخيرة، ما قد يعني أن الخطط الطموحة لاستمرار تنمية البلاد بوتيرة متسارعة قد تتراجع. من الممكن أن يؤدي ذلك إلى خلق تململ من بقاء النظام السياسي في البلاد على وضعه الحالي، وتفجير مطالبات بتغيير الأسس القائم عليها.

ليس هذا فحسب، فقد يؤدي النقيض إلى النتيجة نفسها. فاستمرار النمو الاقتصادي بوتيرة عالية يعني استمرار تحسّن الوضع الاقتصادي للأفراد، وذلك سيؤدي إلى استمرار توسع قاعدة الطبقة الوسطى التي من المتوقع أن تتنامى توقعاتها، وألّا تبقى محصورة فقط في خانة تحسين وضعها الاقتصادي، وإنما تتوسع لتشمل المجال السياسي. فالخبرة من تجارب دول أخرى تشير إلى أنه كلما توسعت الطبقة الوسطى، زادت المطالبات بالمشاركة السياسية، وارتفعت وتيرة الضغوط باتجاه دمقرطة الحياة السياسية[46].

تدرك القيادة الصينية هذه الاحتمالات، ولكنها تبدو مطمئنة حاليًا إلى رسوخ الاستقرار الداخلي في البلاد. وهي تنطلق في اطمئنانها من أن النظام الصيني يجب أن يُقاس بمقاييسه، وليس بمقاييس مستوردة لا تنطبق عليه[47]. فالمنبع الثقافي لهذا النظام مختلف بالكامل عن المرتكزات الثقافية للنظم السياسية الغربية، ما يُصعّب على الآخرين فهم النموذج الصيني واستكناه قوة الصين ومناعتها الداخلية. ولكن يجب الأخذ في الحسبان أثر التحدِّيين من الخارج اللذين تواجههما البلاد في إمكان إذكاء عدم الاستقرار الداخلي في المستقبل.

ب – تعثر الانفتاح العالمي

اعتمد الصعود الصيني على انفتاح العالم على بعضه في عصر العولمة التي أدت إلى تصاعد اعتمادية اقتصادات الدول بعضها على بعض. تحتاج الصين إلى استمرار العالم مفتوحًا، فهي تعتمد على استيراد النفط من الخارج، وبحاجة متزايدة إلى المعادن المختلفة التي تستوردها أيضًا، وإلى الأسواق الخارجية لتصريف منتجاتها. ومن دون ذلك لن يتمكن اقتصادها من المحافظة على معدلات نمو مرتفعة وضرورية لاستمرار وتيرة تنمية داخلية مرتفعة.

اجتاحت العالم مؤخرًا موجة من الصعود اليميني المتطرف، وفي أرجاء متعددة منه تتزايد قوة المشاعر القومية الانغلاقية، والمطالبات بتصليب الحدود، واتخاذ الإجراءات الحمائية من فرض نسب عالية من الجمارك والمكوس. هذه الموجة تضرّ بالصين وسعيها لإبقاء أبواب العالم ومساراته التجارية مفتوحة للتداول الحر.  وقد تؤدي على الأقل إلى إبطاء القدرة الصينية على اختراق الأسواق العالمية، وبالتالي إضعاف قوتها الاقتصادية وكبح جماح صعودها على الساحة الدولية[48].

ج – حملة الاستهداف الأمريكية – الغربية

هذا هو التحدي الأهم الذي يواجه الصين حاليًا لأنه لا يُمثّل احتمالًا فقط، بل هو واقع مُوجّه ضدها ويستهدف إيقاف تقدمها وصعودها. يأتي الاستهداف الغربي على مستويين. أولهما، المستوى القيمي – الأخلاقي، الذي تسعى فيه قوى غربية لتقويض دعائم المشروع الصيني في العالم، وذلك من خلال التشكيك بالنيات الصينية، وبخاصة سلمية وتشاركية توجهاتها نحو الدول الأخرى. يشدد المناوئون على أن الصين تخفي نيات عدائية وتسعى للهيمنة على النظام الدولي، حتى وإن أدى ذلك إلى مواجهة عسكرية. والدليل على ذلك أنها تقوم ببناء قوتها العسكرية بصورة متسارعة، وتخصص ميزانيات كبيرة لتحقيق تفوقها الإقليمي الذي ستنطلق منه للسيطرة على العالم.

تحذّر هذه القوى بقية العالم من الانخداع بالرواية الصينية المزيفة، وتؤكد لغيرها من الدول أن الصين لن تكون لها «أخًا كبيرًا» يقدم إليها المساعدة من دون شروط، وإنما قوة استغلالية كبرى ستمتص مصادرها الحيوية، وتُغرقها بالديون من طريق القروض واجبة السداد، وتُلحقها باقتصادها المتعاظم لتصبح توابع هامشية تُغذّي الاقتصاد الصيني بمصادرها الطبيعية، وقواها العاملة الرخيصة، وأسواقها الاستهلاكية المفتوحة. كما تحذر الشعوب المختلفة أن النموذج الصيني في الحكم نموذج استبدادي مناهض للديمقراطية، قامع لحريات الأفراد والأقليات، يقوم على تركيز السلطة عند حزب واحد، وأن رغبتهم في تحقيق الانتقال الديمقراطي في دولهم سيتم مقاومتها من النظم الدكتاتورية والسلطوية الحاكمة في بلادهم من خلال استلهام النموذج الصيني، والاتكاء على المساعدة الصينية[49].

أما المستوى الثاني فهو المستوى العملي – الإجرائي، الذي تقوم من خلاله دول غربية، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، باتخاذ خطوات تشويشية تُعيق انسيابية التجارة الصينية، لتضرب من خلالها نمو الاقتصاد الصيني، وتعطل مساعي التنمية في الصين[50]. وما الحرب التجارية التي افتعلتها إدارة ترامب مع الصين، وتغذية التظاهرات في هونغ كونغ، ورفع وتيرة الاتهامات بخرق الصين حقوق الإنسان مع الأقليات، وتصعيد وتيرة الانتقادات لما تقوم به من إنشاءات في بحر الصين الجنوبي، إلا دلائل على ذلك.

تواجه الصين هذه التحديات بطريقة هادئة وواثقة. ففي احتفالية مرور سبعين عامًا على قيام دولة الصين الشعبية، التي شهدت عرضًا عسكريًا بأحدث الأسلحة الصينية، أرسل الرئيس الصيني رسالة قويّة وواضحة مفادها أن «ما من قوّة يمكنها أن تهزّ دعائم أمتنا العظيمة. ما من قوة يمكنها أن تمنع الشعب الصيني والأمة الصينية من المضي قُدمًا»[51].

2 – ما بعد جائحة «كورونا»

لم يكن في تصوّر الرئيس الصيني عندما ألقى تلك الرسالة الواثقة أن قوة هائلة وغير مرئية، هي فيروس «كورونا»، ستجتاح بلاده، ومن ثم بقية العالم الذي لم يواجه وباءً بهذه القوة منذ قرن من الزمن. فجأةً تغيّرت الأوضاع والعلاقات داخل الدول، وفي ما بينها. قد يكون الأمر طارئًا وسيزول بعد انتهاء المحنة، وقد يكون له تداعيات بعيدة الأثر، يبلغ مداها لا حدوث تغيّرات على صعيد المجتمع والدولة فقط، بل إعادة توزيع علاقات القوة بين الدول أيضًا، وإحداث تغيير على بنية النظام الدولي. وهناك من المختصين في مجال العلاقات الدولية من يعتقد بأن العالم سيشهد بعد انتهاء المحنة انحسار العولمة وتفكك البنى الدولية وتقوقع «الدولة القومية» على ذاتها وتنامي قوتها. في المقابل، هناك من يستشرف استمرار بنية النظام الدولي، ولكن مع حدوث انتقال في القوة من الغرب إلى الشرق؛ من أمريكا إلى الصين[52].

قد يكون فيروس «كورونا» فتح أمام الصين فرصة سانحة، ولكنه وضعها أمام تحدٍ كبير كذلك. فقد أثارت قدرتها على محاصرة الوباء، مقابل تلكؤ وعدم كفاءة مواجهته أمريكيًا، الإعجاب حول العالم. والتقطت الصين الفرصة لتوسيع نطاق قوتها الناعمة، بإظهار التزامها الفعلي برؤيتها الترابطية والتشاركية للعالم، وذلك بإسراعها لتقديم المساعدات الطبية لدول متعددة، ما ترك لها أثرًا ايجابيًا[53].

ولكن، في المقابل، قد يؤدي استمرار هذه الجائحة وطول معاناة العالم منها إلى انتكاسة للمسعى الصيني لتوطيد مكانة البلاد وتقويض إمكان استمرارية صعودها دوليًا. فمن ناحية، توجّه أصابع غربية اللوم للصين، وبخاصة من جانب الإدارة الأمريكية، وتحمّلها مسؤولية انتشار الوباء عالميًا، إذ تتهمها بالتلكؤ في الإعلان عنه عندما بدأ بالانتشار في مدينة ووهان، ما أفقد الدول الأخرى وقتًا ثمينًا للاستعداد لمواجهته. وهذا أمر قد يضرب صدقية الصين في البعد الأخلاقي الذي ما فتئت تحاول ترويجه[54].

من ناحية أخرى، سيكون لهذه الجائحة تداعيات مستقبلية قد تُغيّر من أسس الاقتصاد العالمي المعولم، الذي تعتمد عليه الصين لتنمية البلاد ودفع صعودها عالميًا. فقد انكفأت الدول على نفسها، ووجدت نفسها مجبرة على الاعتماد على ذاتها، ما قد يؤدي مستقبلًا إلى تقليص الاعتمادية الاقتصادية بعضها على بعض، وتقصير سلاسل التوريد، كون الإنتاج محليًا أضمن من الاعتماد على الغير. قد يؤدي هذا التوجه، إن تحقق، وخصوصًا في ظل انكماش اقتصادي عالمي قادم، إلى فقدان الصين نسبة وازنة من اقتصادها المعتمد على التصنيع للغير، ما سيسبب لها ولمخططاتها انتكاسة مؤثرة.

كما يجدر الانتباه إلى الأثر السلبي الذي من الممكن أن تتركه المحنة العالمية الحالية على تقدم مسار مبادرة الحزام والطريق. فالانكماش الاقتصادي العالمي قد يدفع الدول المشاركة إلى التباطؤ في مشاركاتها، ما قد يؤجل تنفيذ عدد من المشاريع، أو يلغيها كليًا[55].

بالرغم من ذلك، ربما لا يكون وضع الصين حاليًا أسوأ من وضع الولايات المتحدة وحليفاتها الغربية. وبما أن الصين ليست على عجلة من أمرها لأن تُحوّل نفسها إلى قوة عظمى، وإنما تُعلن أن أمامها ثلاثة عقود قادمة كي تصل إلى هناك، فإن المستقبل يبقى مفتوحًا أمام تحقق هذا الاحتمال.

خاتمة

استقصت هذه المقالة رؤية الصين لدورها العالمي. وللتمكن من فهم هذه الرؤية تم الانطلاق من المراحل التي مرّت بها الصين منذ أواسط القرن الماضي، لما لها من أهمية في صقل هذه الرؤية. وبعد التعريج المقتضب على مقدّرات الصين التي تؤهلها لأداء دور مركزي في النظام الدولي، تم التطرق إلى الأهداف المركزية للرؤية الاستراتيجية الصينية، وللكيفية التي تحاول الصين من خلالها تحقيقها عمليًا، وما تواجهه من تحديات ومعيقات في هذا الشأن.

كما أشارت المقالة إلى الآثار المستقبلية المحتملة لجائحة كورونا، التي لم تكن متوقعة، ليس على الصين ومخططاتها فحسب، وإنما على النظام الدولي برمته. قد يكون وضع الصين قد تأثر سلبيًا بسبب المحنة العالمية، ما سيُعطب إمكان تحقيقها لرؤيتها. ولكن بما أنها ليست أصلًا على عجلة من أمرها لأن تُحوّل نفسها إلى قوة عظمى، وإنما تُعلن أن أمامها ثلاثة عقود قادمة كي تصل إلى هناك، فإن المستقبل يبقى مفتوحاُ أمامها لتحقيق هذه الاحتمال.

كتب ذات صلة:

العلاقات العربية – الصينية