مقدمة:
بدأ النزاع في منطقة دارفور بين الحكومة المركزية وبعض الحركات المسلحة في نحو 2003م بعد أن رفعت الحكومة المركزية راية الجهاد الإسلامي في جنوب وغرب السودان. تحول ذلك النزاع إلى صراعات مسلحة اشتركت فيها فصائل ما يسمى الجنجويد وهي فصائل من بعض القبائل العربية قامت الحكومة السودانية كما تدعي الحركات المسلحة بتسليحها. وقد قامت تلك الفصائل بالاشتراك مع الدفاع الشعبي والقوات المسلحة بحسب ادعاء تلك الحركات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية في ذلك النزاع المسلح.
نجحت الحركات المناوئة للحكومة في تدويل تلك القضية التي عرفت بقضية دارفور وتمكنت بفضل دعم بعض المنظمات الحقوقية والإنسانية ومجموعات ضغط إقليمية ودولية من الوصول إلى مجلس حقوق الإنسان والذي أصدر بدوره قرارًا بتكوين لجنة دولية لتقصى الحقائق.
قامت تلك اللجنة بزيارة إقليم دارفور بعد أن سمحت لها الحكومة السودانية بذلك وتمكنت من الوقوف على الحقائق بزياراتها الميدانية واطلاعها على المستندات واستجوابها للضحايا والشهود. خلصت اللجنة في نهاية الأمر إلى وجود شبهة ارتكاب تلك الجرائم وهو ما دعا مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ القرار 1593 الذي أحال بموجبه الوضع في دارفور إلى محكمة الجنايات الدولية النظر في الدعوى وأصدرت مذكرات توقيف في حق المتهمين في تلك القضية من بينهم الرئيس السوداني المعزول عمر البشير.
مشكلة الورقة البحثية: تناقش هذه الورقة سؤالًا رئيسًا يتمثل بإمكانية محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم تنتهك القانون الدولي الإنساني في دارفور أمام القضاء الوطني في السودان، ومدى قانونية محاكمة أولئك الأشخاص أمام القضاء الجنائي الدولي ممثلًا بمحكمة الجنايات الدولية التي أحيل عليها النزاع، أو أمام محكمة جنائية دولية مختلطة مكونة من قضاة دوليين وآخرين محليين من السودان يتم إنشاؤها بموجب قرار صادر من مجلس الأمن الدولي. يتفرع من هذا السؤال أسئلة أخرى تناقشها الورقة وذلك على النحو التالي:
هل القضاء الوطني في السودان غير قادر أو غير راغب في محاكمة الأشخاص المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية في قضية دارفور بما فيهم الرئيس المعزول عمر البشير؟ وهل هنالك مانع قانوني يمثل عائقًا أمام محاكمة أولئك المتهمين أمام القضاء الوطني في السودان؟ هل يستطيع مجلس الأمن الدولي تجميد قراره بإحالة الوضع في دارفور على المحكمة الجنائية الدولية والعمل على إصدار قرار آخر بموافقة الحكومة السودانية بإنشاء محكمة جنائية دولية مختلطة أو غرف استثنائية داخل منظومة القضاء الوطني لمحاكمة الرئيس المعزول وبقية المتهمين على تلك الجرائم؟
فرضيات الورقة: إن القضاء الوطني في السودان لم يكن قادرًا على محاكمة الرئيس المعزول عمر البشير وبقية المتهمين نسبة إلى عدم استقلالية السلطة القضائية في السودان. إن الجرائم محل الاتهام من المحكمة الجنائية الدولية تم إدخالها في القانون الجنائي السوداني بعد ارتكاب الأفعال المكونة لها. وإن لمجلس الأمن من الصلاحيات تحت الفصل السابع ما يمكّنه من تجميد المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية وإصدار قرار آخر بإنشاء محكمة جنائية مختلطة أو غرف استثنائية داخل النظام القضائي في السودان لمحاكمة أولئك المتهمين.
منهج الورقة البحثية: تتبع الورقة المنهج التحليلي وذلك بتتبع الوقائع وتحليلها ومناقشتها والوصول إلى النتائج من خلال تطبيق النصوص القانونية وآراء الفقهاء الواردة في أمهات المراجع المختصة بهذا الموضوع.
أولًا: نشأة النزاع المسلح في منطقة دارفور وتطوره
يتفق معظم المحللين على أن إقليم دارفور قد عانى تهميشًا واضحًا من الحكومات المركزية في الخرطوم على مدار تاريخ السودان المستقل، رغم إسهامه الكبير في الدخل القومي السوداني بثرواته الحيوانية والنقدية. يبدو في الأفق أن نمو إقليم دارفور كان معتلًا منذ وقت طويل حيث إن حصة الإقليم من المشاريع الحديثة الصناعية والزراعية تكاد تساوي صفرًا، وما يدخله من الميزانية العامة لا يتناسب مع إسهام الإقليم فيها. كما أن مستوى التعليم والخدمات الصحية والاجتماعية في دارفور متدنٍّ للغاية.
ويشكو العديد من مواطني دارفور من تعرضهم للتمييز السلبي من بعض المواطنين في وسط السودان وذلك رغم اشتراكهم في المواطنة وفي الإسلام. وتعزو الأطراف المختلفة ذلك التمييز لواقع سحنتهم الأفريقية ولكونهم يشغلون في الغالب أعمالًا يدوية وخدمية بسيطة، مما يتعالى عليه أبناء الوسط. ويجد الكثيرون مثالًا على هذا الاستعلاء في المقولة الدارجة المنتشرة في وسط السودان والتي تقول “البجي من الغرب ما بسرّ القلب”.
وربما تكمن بعض أسباب التوتر في علاقة بعض نخب ومواطني الوسط مع أهل دارفور في كون الأخيرين كانوا السند الأساسي للثورة والدولة المهدية التي ناضلت وحكمت في أواخر القرن التاسع عشر.
وقد شهدت العلاقة بين الدولة المهدية بقيادة الخليفة عبد الله ألتعايشي الذي ترجع أصوله لغرب السودان وبعض تكوينات الوسط القبلية توترًا حادًا ألقى بظلاله على حساسية العلاقة بين بعض مجموعات الوسط المعروفة بـ”أولاد البحر” أي النيل وأبناء دارفور وكردفان المعروفون بـ”أولاد الغرب”.
وقد شهد الإقليم في تاريخه الحديث ظاهرة الصراعات القبلية على موارد الأرض والماء المحدودة في ظل الانفجار السكاني وتزايد أعداد المواشي وانعدام أي شكل من أشكال تنمية الموارد وتحقيق الخدمات ورفع الوعي العام.
وقد اكتسب صراع الموارد هذا شكل النزاع بين القبائل الرعوية المترحلة ذات الأصول العربية في مجملها، والقبائل الزراعية المستقرة ذات الأصول الأفريقية متخذًا بذلك شكلًا عرقيًا مما سماه البعض لاحقًا صراع الهوية.
كل هذه العوامل أدت إلى تأزيم الأوضاع الاجتماعية والسياسية في دارفور وإشاعة ثقافة العنف والحرب والتي وإن كانت جزءًا من الثقافة السائدة في المجتمعات التقليدية القبلية فإن انفجارها بهذا الشكل اليوم يعلن سقوط مختلف المشاريع التنويرية والرجوع القهقرى إلى جيوش وحروب القبائل بعد نحو 60 عامًا من استقلال البلاد.
يبدأ تاريخ الصراع الحديث في إقليم دارفور عشية حادثة دخول مسلحي الحركات المتمردة إلى مدينة الفاشر واحتلال المطار وقتل المدنيين واعتقال حاكم الإقليم، فمنذ ذلك التاريخ بدأت حربًا ضروسًا بين الحكومة المركزية في الخرطوم والمتمردين في إقليم دارفور يظن كثير من المراقبين والمنظمات الحقوقية أن حكومة الخرطوم قد ارتكبت خلاله جرائم تنهك القانون الدولي الإنساني كجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية.
تطور ذلك النزاع بشكل متعاظم وبدرجة من السرعة أكبر من المعدل السابق لها، وأن تلك السرعة قد بدت لمعظم المراقبين مفتعلة، وأن السودان قد أصر على أن القضية قضية إقليمية على المستوى الأفريق [1] .
فى حزيران/يونيو 2004 انعقدت القمة الثالثة للاتحاد الأفريقي ونوقشت الأحداث في دارفور، وأمن الاتحاد الأفريقي على ضرورة حل الأزمة في الإطار الأفريقي. وتأكيدًا لذلك تم تكوين لجنة مصغرة لمتابعة أزمة دارفو [2]، ولكن باءت جهود تلك اللجنة بالفشل بسبب رفض الحكومة للمطالب التي قدمها المتمردون ومن أهمها إرسال لجنة دولية لتقصى الحقائق في شأن حقوق الإنسان في دارفور ونزع أسلحة الجنجويد.
تواصلت المفاوضات حيث انتقلت إلى العاصمة النيجيرية أبوجا وتم التوقيع على برتوكولين حول الأوضاع الأمنية والإنسانية وإعلان المبادئ السياسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2004 [3]. وبالرغم من أن تلك الاتفاقية قد حققت نجاحًا نسبيًا إلا أنها انهارت أخيرًا بسبب وجود أزمة ثقة كبيرة بين الحكومة وزعماء الحركات المسلحة. في هذا الصدد، يبدو أن اتفاق ابوجا يواجه صعوبات كبيرة خاصة في ما يتعلق بتنفيذ بنوده على الأرض وبالنسبة إلى الأوضاع الأمنية والإنسانية، مما حدا بالسيد منى اركو مناوي من مغادرة مكانه في القصر الجمهوري والتحق بمقاتليه في صحراء دارفور، وهو يشعر الآن أنه مسئول أخلاقيًا أمام الرأي العام الدارفوري، وأنه في واقع الحال لا يملك فعل الشيء الكثير.
هكذا تضافرت كل الأجندة الغربية الضخمة، الرسمي منها وغير الرسمي، في تدويل الصراع في دارفور حتى نجحوا في أن يجعلوه من الأجندة الرئيسية في مجلس الأمن. ففي الفترة من تموز/يوليو 2004 إلى نيسان/أبريل 2005 أصدر مجلس الأمن عشرة قرارات بشأن دارفور، وهو ما جعل البعض يتساءل وبحق عن الهمة والنشاط التي أصابت مجلس الأمن تجاه هذه الأزمة مع وجود أزمات تفوقها فداحة كفلسطين والعراق وأفغانستان والعراق والشيشان [4]. بصدور القرار رقم 1556 بتاريخ 30\6\2004 والذي قرر أن المسألة في دارفور أصبحت مهددة للأمن والسلم الدوليين دخلت قضية دارفور إلى أخطر منعطفاتها حيث إن هذا القرار يبرر لمجلس الأمن اتخاذ كل الإجراءات التي يراها للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين بما فيها التدخل الدولي المسلح. ولكن أعضاء مجلس الأمن عمدوا إلى طريق آخر وهو إحالة الوضع في دارفور على المحكمة الجنائية الدولية بموجب سلطاته تحت المادة 13/ب من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بموجب قراره تحت الرقم 1593.
ثانيًا: اختصاص القضاء الوطني في السودان بقضية دارفور
دار جدل قانوني كثيف أثناء تولي الرئيس المعزول عمر البشير الحكم في السودان حول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة المتهمين في قضايا الانتهاكات التي حدثت في دارفور. وقد كان إصدار الحكومة السودانية عبر العديد من وزرائها في تصريحاتهم وبياناتهم على أن القضاء السوداني من النزاهة والتأهيل ما يمكّنه من محاكمة كل المتهمين السودانيين أمامه. ولهذا نرى أنه من المناسب مناقشة مدى اختصاص القضاء الوطني في السودان لمحاكمة المتهمين في فضية دارفور عن الاتهامات نفسها الموجهة إليهم من المحكمة الجنائية الدولية وهي ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال سنوات النزاع المسلح في دارفور بين الأعوام 2003 و2005.
تنص الفقرة الأولى من المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991 على الآتي: تطبق أحكام هذا القانون على إجراءات الدعاوى الجنائية والتحري والضبط والمحاكمة والجزاء المتعلقة بالجرائم المنصوص عليها في القانون الجنائي لسنة 1991 أو أي قانون آخر مع مراعاة أي إجراءات خاصة ينص عليها في أي قانون آخر.
كما تنص الفقرة الثانية على الآتي: على الرغم من عمومية البند (1) لا يجوز اتخاذ اية إجراءات جنائية من تحر أو تحقيق أو محاكمة ضد أي سوداني متهم بارتكاب أي فعل أو امتناع عن فعل يشكل مخالفة لأحكام القانون الدولي الإنساني بما في ذلك الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب إلا أمام شرطة السودان أو النيابة العامة أو القضاء السوداني.
بالنظر إلى هاتين الفقرتين من المادة الثالثة من قانون الإجراءات السوداني لسنة 1991 نجد أن المشرّع السوداني قد أوجب تطبيق أحكام قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991 على كل إجراءات التحقيق والتحري والمحاكمة المتعلقة بالجرائم المنصوص عليها في القانون الجنائي السوداني كما حظر اتخاذ إجراءات التحري والتحقيق والمحاكمة ضد الأفراد السودانيين أمام أية محكمة أو نيابة أو شرطة خارج السودان عن أي فعل أو امتناع عن فعل يشكل مخالفة للأحكام القانون الدولي الإنساني وقد خص الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب أو جرائم الإبادة الجماعية بالاسم.
ثم جاءات الفقرة الثالثة من المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية السوداني قاطعة وحاسمة حيث أوردت أنه على الرغم من أي نص في قانون آخر لا يجوز لأي جهة حكومية في أي مستوى من مستويات الحكم أو أي شخص أن يساعد أو يقدم دعم لأي جهة لتسليم سوداني ليحاكم في الخارج لاتهامه بارتكاب جرائم تشكل مخالفة للقانون الدولي الإنساني بما في ذلك الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب.
من الواضح أن المشرع السوداني قد أخذ موقفًا واضحًا من محاكمة السودانيين خارج السودان عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية وهي ذات الجرائم التي تم توجيه اتهام بارتكابها للرئيس المعزول عمر البشير ومن معه ما عدا جرائم الإبادة الجماعية، وإن كانت التشريعات الجنائية يجب أن تقوم على مراعاة مبدأ السيادة والذي من أهم مظاهره عدم تسليم المواطنين لتتم محاكمتهم خارج السودان. إلا أننا نلاحظ أن قانون الإجراءات الجنائية قد خص ثلاث جرائم فقط ولم يكن الحكم عامًا على كل الجرائم المنصوص عليها في القانون الجنائي، وعليه فإن السوداني يمكن أن تتم محاكمته خارج السودان في حالة ارتكابه أي فعل أو امتناع يشكل جريمة غير الجرائم الثلاث المذكورة في المادة الثالثة في فقرتها الثالثة. وهذا الأمر يخالف مبدأ السيادة والذي من أهم مظاهره محاكمة كل السودانيين أمام القضاء الجنائي الوطني في الجرائم المنصوص عليها في القانون الجنائي السوداني.
جاء القانون الجنائي السوداني خلوًا من اية مادة مجرمة للأفعال التي تشكل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني وبالتحديد الأفعال أو الامتناع عن الأفعال التي تشكل جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو جرائم إبادة جماعية مما يعني قانونًا عدم استطاعة القضاء السوداني نفسه محاكمة أي فرد سوداني قام بارتكاب أو الامتناع عن ارتكاب أفعال تشكل واحدة من جرائم القانون الدولي الإنساني سالفة الذكر. وهذا يعني عمليًا إفلات المتهمين بارتكاب تلك الجرائم من العقاب.
بعد تزايد الضغوط على السودان إثر تداول أخبار بارتكاب جرائم تنتهك القانون الدولي الإنساني في دارفور أدخل المشرّع السوداني تلك الجرائم في القانون الجنائي السوداني بموجب تعديل عام 2007 [5] وهو أول وجود لتلك الجرائم في القانون السوداني. ولعل الشارع أراد مواكبة العالم في تجريمه للأفعال التي تنتهك القانون الدولي الإنساني، ولكنه أراد أيضًا تخفيف الضغوط الدولية على السودان بخاصة في ما يتعلق بقضية دارفور التي تم تصعيدها حتى وصلت إلى إصدار أوامر توقيف ضد الرئيس نفسه آنذاك. كما أراد النظام القائم على الأمر في السودان أن يستفيد من مبدأ التكاملية المنصوص عليه في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية [6] . لا يوجد في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تعريف دقيق لمبدأ الاختصاص التكميلي، ومع ذلك قام الدكتور عبد الفتاح محمد سراج بتعريفه بالاعتماد على خصائص المحكمة بأنه “تلك الصياغة التوفيقية التي تبنتها الجماعة الدولية لتكون بمثابة نقطة الارتكاز لحث الدول على محاكمة المتهمين بارتكاب أشد الجرائم جسامة، على أن تكمل المحكمة الجنائية الدولية هذا النطاق من الاختصاص في حالة عدم قدرة القضاء الوطني على إجراء هذه المحاكمة بسبب عدم اختصاصه أو فشله في ذلك لانهيار بنيانه الإداري أو عدم إظهار الجدية لتقديم المتهمين للمحاكمة [7].
أشرنا إلى أنه قد تم إدخال الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية في القانون السوداني عام 2007 وتم ارتكاب الجرائم التي قامت المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات توقيف ضد المتهمين فيها في الأعوام ما بين 2003 و2005. أي أن تاريخ ارتكاب تلك الجرائم كان في تاريخ سابق على إدخالها في القانون الجنائي السوداني. وبهذا، ووفقًا لقاعدة الأثر الفوري والمباشر لتطبيق القوانين الجنائية فإن المحاكم السودانية لا تستطيع محاكمة المتهمين الذين صدرت في حقهم مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية لأن تلك الأفعال لم تكن مجرّمة بالتوصيف الموجود في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ولهذا أيضًا لا يستطيع السودان الاستفادة من مبدأ التكاملية بين القضاء الجنائي الوطني والقضاء الدولي لأن ذلك المبدأ يعتمد على تقديم طلب للمحكمة الجنائية الدولية معتمدًا على ذات المعلومات الموجودة في الإشعار الذي ترفعه المحكمة الجنائية الدولية للسودان وتلك المعلومات تضمن توصيف تلك الجرائم بحسب ما جاء في النظام الأساسي للمحكمة، وهو غير موجود بطبيعة الحال في القانون الجنائي السوداني في ذلك، أو إذا كان موجودًا فإنه لا يمكن تطبيقه على المتهمين لعدم رجعية القانون الجنائي إلا إذا كان هو الأصلح للمتهم.
من هذا العرض يتضح لنا أن القضاء السوداني لا يستطيع محاكمة المتهمين الذين صدرت في حقهم مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بخصوص قضية دارفور بنفس التهم الموجهة إليهم منها. وهو الشرط الوحيد لإعمال مبدأ التكاملية بحيث تمتنع المحكمة الجنائية الدولية من محاكمتهم إذا تم فتح تحقيق ومحاكمة بواسطة الأجهزة العدلية في السودان.
ثالثًا: اختصاص القضاء الجنائي الدولي بقضية دارفور
اختصاص القضاء الجنائي الدولي يعني أن الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور يختص بمحاكمتهم القضاء الجنائي الدولي ممثلًا بالمحكمة الجنائية الدولية أو أية محكمة جنائية دولية ينشئها مجلس الأمن الدولي بموجب سلطاته تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وعليه فإننا في هذا المطلب سنقوم بدراسة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر في تلك القضية وإمكانية إنشاء محكمة جنائية دولية مختلطة تقوم بمحاكمة المتهمين عن نفس تلك الجرائم.
1- اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بقضية دارفور
توجد هنالك ثلاثة طرق لقبول الدعوى من جانب المحكمة الجنائية الدولية وهذه الطرق الثلاث نصت عليها المادة 13 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وذلك على النحو التالي:
أ- إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام وفقًا للمادة 14 حالة يبدو فيها جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتُكبت.
ب- إذا أحال مجلس الأمن متصرفًا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر قد ارتُكبت.
ج- إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق بجريمة من هذه الجرائم وفقًا للمادة 51. فوفقًا لهذه المادة تمارس اختصاصها بنظر الجريمة إذا تمت إحالتها إليها بواحد من الطرق الثلاث الواردة فيها، وعندما تتم إحالة القضية إلى المدعي العام للمحكمة بأحد تلك الطرق يقوم بمباشرة التحقيق عند التأكد من وجود أسباب معقولة للسير في الإجراءات وفقًا للمادة 53 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
في ما يتعلق بقضية دارفور فإن مجلس الأمن أصدر القرار رقم 1593 والذي أحال بموجبه الحالة في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية بحسب نص المادة 13/ب من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وفي هذا الخصوص فإن هنالك من يرى أن الإحالة إلى مجلس الأمن بموجب المادة 13/ب غير قانونية في حالة أن الدولة غير طرف في اتفاقية روما[8]. كما أن هنالك بعض الفقهاء الذين يرون أن الإحالة إلى مجلس الأمن لا تسري إلا على الدول الأطراف والتي قبلت باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وذلك لأن المحكمة الجنائية الدولية ليست من أجهزة الأمم المتحدة حتى يحيل إليها مجلس الأمن حالة عضو في الأمم المتحدة وليست طرفًا في المعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية ولم تقبل باختصاصها[9]. بذلك القرار الصادر من مجلس الأمن بإحالة الوضع إلى المحكمة الجنائية الدولية فإن المحكمة تصبح مختصة قانونًا بنظر الدعوى بعد أن يقوم المدعي العام بالتحري والتحقيق ويصل إلى أن هنالك جريمة أو أكثر من الجرائم النصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة قد ارتكبت، كما تعتبر تلك الإحالة مشروعة بحسب ما نصت عليه المادة 13/ب من النظام الأساسي، ولا تأثير للآراء التي تعتقد أن مجلس الأمن لا يمتلك السلطات التي تخوله إحالة النزاع إلى المحكمة الجنائية الدولية حيث إن ميثاق الأمم المتحدة الذي يحكم عمل المجلس لم يذكر أن من ضمن صلاحيات المجلس إحالة الأوضاع في الدول إلى المحكمة الجنائية الدولية. ويرى الباحث أن مكمن الخطورة على الدول ليس هو سلطات مجلس الأمن في إحالة الأوضاع في الدول إلى المحكمة الجنائية الدولية وإنما هو تقرير المجلس أن الحالة في الدولة تمثل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، إذ إن ذلك التقرير يستند إلى عمل سياسي بحت وهو تصويت أعضاء مجلس الأمن. وعليه فإن استناد رجال القانون على أن أحالة الوضع في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية عمل غير قانوني من جانب المجلس لن يفيد في سياق المدافعة عن المتهمين السودانيين من جانب المحكمة الجنائية الدولية بخصوص الجرائم التي تنتهك القانون الدولي الإنساني في دارفور، حيث من المفيد معالجة الوضع داخل أروقة مجلس حقوق الإنسان أولًا ثم داخل أروقة مجلس الأمن الدولي ثانيًا لتفادي تلك القرارات التي كانت نتيجتها وضع ملف دارفور أمام المحكمة الجنائية الدولية.
2- تشكيل محكمة جنائية دولية مختلطة لقضية دارفور
المحاكم الجنائية الدولية المختلطة أو الهجينة أو ذات الطابع الدولي هي نوع من المحاكم الدولية التي تنشأ بموجب اتفاقيات ثنائية بين الأمم المتحدة وسلطة دولة قامت فيها حرب أهلية أو اضطرابات ارتكبت خلالها جرائم ضد الإنسانية وأخرى يعاقب عليها القانون الدولي، إضافة إلى جرائم يعاقب عليها القانون المحلي كما حصل في كمبوديا وسيراليون وسواها من الدول [10]. ويعتبر هذا النوع من المحاكم في منزلة وسط بين المحاكم التي يتم إنشاؤها بموجب اتفاقية دولية والمحاكم التي يتم إنشاؤها بقرار من مجلس الأمن الدولي لأن الاضطرابات التي تحدث في الدولة المعنية تحتوي على جرائم دولية يختص بها القضاء الدولي وجرائم محلية يختص بها القضاء الوطني. لهذا فإن المحكمة المختصة بنظر كل تلك الجرائم يجب أن تنطوي على عنصر دولي وآخر وطني حتى تستطيع محاكمة جميع الأشخاص الذين قاموا بارتكاب تلك الجرائم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه قد يصعب الفصل بين الجرائم الدولية والجرائم المحلية في بعض الأحيان لكون أن الأفعال الاجرامية ناتجة كلها من عملية واحدة متداخلة، وأن الأشخاص أنفسهم مشتركون في كل تلك الجرائم. لهذا فإن مثل ذلك النوع من المحاكم يكون هو الأمثل لمحاكمة أولئك الأشخاص عن الجرائم المحلية والدولية في وقت واحد.
يتم تكوين المحاكم المختلطة عادة من قضاة دوليين وقضاة محليين بموجب اتفاقية ثنائية تعقد بين الأمم المتحدة والدولة التي وقعت فيها الاضطرابات. ففي محكمة الجنايات الدولية الخاصة بسيراليون مثلًا، فإن القضاة الدوليين يشكلون أكثرية القضاة، بينما أصرت السلطات الكمبودية أن تكون أكثرية القضاة من الكمبوديين في المحكمة الخاصة بكمبوديا، وذلك حفاظًا على ما أمكن من مظاهر السيادة، مع الإفادة من الخبرة القانونية التي يمكن أن يأتي بها القضاة الدوليون. وفي هذا الخصوص تعد المحكمة الجنائية الخاصة بلبنان من أشهر المحاكم المختلطة التي تم إنشاؤها في الفترة الأخيرة على إثر اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري والتي ما تزال مستمرة حتى الآن.
من أهم ما يميز المحاكم الجنائية الدولية المختلطة أنها تحفظ حق سيادة الدولة بحيث تتم المحاكمة داخل الدولة وبنظام قضائي داخلي وبقضاة وطنيين مع بعض القضاة من خارج الدولة وهو ما يخفف كثيرًا من حدة إجراء المحاكمة خارج الدولة وبنظام قضائي دولي. وقد وجد هذا النظام كثيرًا من القبول ونجح إلى حد بعيد في إعادة الاستقرار إلى كثير من الدول بفضل المحاكمات التي أجريت في بعض دول العالم.
في ما يتعلق بقضية دارفور فقد صدر قرار من مجلس الأمن الدولي بإحالة الوضع في دارفور إلى محكمة الجنايات الدولية. وقد باشرت تلك المحكمة إجراءاتها حتى وصلت مرحلة إصدار أوامر توقيف في حق الرئيس المعزول وبعض معاونيه، فهل يستطيع المجلس إلغاء أو تجميد المحاكمة وإصدار قرار آخر بإنشاء محكمة جنائية دولية مختلطة بموافقة الحكومة في السودان؟
أول ما يتبادر إلى الذهن هو تعبير “محكمة هجين” الذي اتخذه الاتحاد الأفريقي تسمية للمحكمة وبالرجوع إلى سوابق المحاكم الجنائية الدولية التي تم إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية نجد أن مجلس الأمن وبما له من سلطات تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة قد قام بإنشاء محاكم جنائية دولية مختلطة باتفاق بين الأمم المتحدة والدولة التي حدثت فيها النزاعات. وقد تميزت تلك المحاكم عن المحاكم التي تم إنشاؤها بقرار منفرد من مجلس الأمن بأنها كانت تقوم بعملها في إطار النظام القضائي للدولة وليس بنظام أساسي خاص بها ومستقل عن الدولة التي حدثت فها الانتهاكات، كما أنها تميزت – من ناحية ثانية – بأنها تتكون من قضاة دوليين تعينهم الأمم المتحدة وآخرين محليين تقوم بتعيينهم الدولة ذات العلاقة، وقد تم إنشاء تلك المحاكم بطلب من الدولة نفسها لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم تنتهك القانون الدولي الإنساني اثناء نزاع داخلي في تلك الدولة ومن أشهر تلك المحاكم المحكمة الجنائية المختلطة الخاصة بكمبوديا، والغرف الاستثنائية الخاصة بتيمور الشرقية، ومحكمة سيراليون الجنائية المختلطة. وكان الهدف الأساسي من قيام الدولة بطلب إنشاء مثل تلك المحاكم هو تفادى إنشاء محاكم جنائية دولية بواسطة مجلس الأمن الدولي تفرض على الدولة وتنتهك سيادتها وتعطل قانونها وتحاكم رعاياها من دون أن يكون لقضائها الوطني دور في تلك المحاكم. ومن جهة ثانية فإن قيادة الدولة تعلم أن نظامها القضائي ليس باستطاعته إجراء مثل تلك المحاكمات، إما لحداثته وإما لقوة نفوذ الأشخاص المتهمين داخل الدولة، قد نجحت تلك المحاكم إلى حد كبير في مساءلة كبار القادة المسؤلين عن تلك الجرائم في كل من كمبوديا وتيمور الشرقية وسيراليون.
من خلال النظر إلى الكتابات التي تناولت تلك المحاكم نجد أن التعبير الذي استعمله الفقهاء هو تعبير محاكم مختلطة أو مدوّلة، ووجدت استعمال تعبير محكمة هجين في المحكمة التي تم إنشاؤها عقب الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003. فقد تم إنشاء تلك المحكمة بواسطة مجلس الحكم في العراق والذي كان تحت سلطة الاحتلال المؤقتة، وبالرغم من أن قضاة تلك المحكمة كانوا عراقيين إلا أنها كانت تطبق القانون الدولي الإنساني متمثلة بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، كما كانت تطبق القانون الوطني العراقي في الجرائم المحلية.
لقد تعددت تسميات المحاكم الجنائية التي يشترك فيها العنصر الخارجي مع الداخلي سواء في القانون الذي يطبق على المتهمين أو في القضاة الذين يقومون بالمحاكمة، ولكنها كانت تلتقي في أنها محاكم جنائية مختلطة، لا هي بالمحاكم الوطنية الخالصة ولا هي بالمحاكم الدولية الخالصة؛ وإنما تجتمع فيها العناصر الداخلية بالخارجية لتفادي وطأة المحاكم الجنائية الدولية الخالصة والتي تمثل انتهاكًا صارخًا لسيادة الدولة، ولإرضاء ضمير العدالة الجنائية بمحاكمة المتهمين.
تنص المادة 16 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنه (لا يجوز البدء أو المضي في التحقيق بموجب هذا النظام الأساسي لمدة اثني عشر شهرًا بناء على طلب من مجلس الأمن بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر من المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ويجوز للمجلس تجديد الطلب بالشروط ذاتها).
تظهر آثار القراءة الحرفية للمادة 16 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن آثار قرار مجلس الأمن المتضمن لطلب التأجيل تحدد في منع المحكمة من البدء في التحقيق أو المقاضاة ووفق إجراءات هي محل متابعة أمامها وبالتالي لا يفيد قرار مجلس الأمن المتضمن لطلب التأجيل أن المتهمين لم يعودوا متهمين أو أسقطت عنهم التهم، وعلى الضد من ذلك فبسبب أن هذا القرار له طبيعة إجرائية ومبنى على خلفيات سياسية وكانت الآلية المضمنة في المادة 16 مقررة لفترة زمنية محددة فحسب، وأي قراءة أخرى ستؤدي حتمًا إلى اعتبار مجلس الأمن بمثابة جهة قضائية [11]. إذًا فإنه يمكن إدخال مجلس الأمن في تحويل محاكمة الرئيس المعزول عمر البشير وبقية المتهمين عن الجرائم التي ارتكبوها في دارفور وذلك بإصدار قرار من المجلس بموجب المادة 16 من الميثاق لوقف إجراءات المحاكمة ثم العمل مع حكومة السودان على إصدار قرار آخر تحت الفصل السابع لإنشاء محكمة مختلطة لمحاكمة المتهمين عن نفس تلك الجرائم. وبالتالي تسقط إجراءات المحاكمة بالنسبة إلى المحكمة الجنائية الدولية لسبق المحكمة وإعمال مبدأ عدم محاكمة الشخص مرتين عن التهم نفسها. ويعتبر هذا الإجراء من إيجابيات المادة 16 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية وهي تستعمل متى ما تعارضت مسألة تحقيق العدالة الجنائية مع مسألة حفظ الأمن والسلم الدوليين بينما يمكن لمجلس الأمن أن يحرم المحكمة الجنائية الدولية من اختصاصاتها، لذلك منحت لمجلس الأمن هذه السلطة تحت المادة 16[12]، كما أنه لا يمكن فصل العدالة الجنائية الدولية عن السياسة وهذا ما برهنت عليه الممارسة العملية المعاصرة، سواء أكان ذلك من مجلس الأمن أو من المحكمة الجنائية الدولية. فالبرغم من أن المحكمة الجنائية الدولية قد أُنشئت من أجل محاكمة الجرائم البشعة والخطرة إلا أن التراضي في تطبيق العدالة الدولية يمكن أن يؤدي إلى القول أنه من الأجدر تمييز العدالة عن السياسة لكنه لا يمكن فصل العدالة والحفاظ على الأمن والسلم طالما أن العمل القضائي يكون منطقه الوحيد هو حفظ السلم[13].
نخلص مما سبق إلى أنه من الممكن لجلس الأمن استعمال سلطاته تحت الفصل السابع لإصدار قرار بوقف الإجراءات في ما يتعلق بالمتهمين في قضية دارفور طبقًا لما تنص عليه المادة 16 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بعد توافر كل الشروط التي حددتها المادة المذكورة، وبعد ذلك يمكن لحكومة السودان العمل مع المجتمع الدولي وإجراء تفاهمات مع أعضاء مجلس الأمن الدولي لإنشاء محكمة جنائية دولية مختلطة سواء على النموذج الكمبودي بتكوين غرف استثنائية داخل النظام القضائي في السودان، أو بإنشاء محكمة مكونة من قضاة سودانيين وآخرين دوليين على النموذج اللبناني وذلك لتفادي ما نص عليه القانون السوداني في المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية من حظره لتسليم أي مواطن سوداني ليحاكم أمام محكمة خارج السودان عن التهم الواردة في القانون الدولي الإنساني وهي تهم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
خاتمة
من الاستعراض السابق نجد أن إحالة قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية قد كانت واحدة من محاولات تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وذلك أن كثيرًا من الأشخاص النافذين في بلدانهم يمتنعون عن المثول أمام القضاء الوطني، وأن القضاء الوطني في كثير من الدول لا يستطيع محاكمة أولئك الأشخاص، ومع ذلك فإنه لا بد من الاشارة إلى بعض الآليات الدولية التي تعنى بالعدالة الجنائية الدولية تمتد اليها يد السياسة وأبرز مثال على ذلك هو تدخل مجلس الأمن في عمل المحكمة الجنائية الدولية متمثلًا بنصوص المواد 13/ب الخاصة بإحالة النزاع من المجلس إلى المحكمة الجنائية والمادة 16 التي تعطى المجلس الحق في تأجيل المحاكمة.
نتائج الدراسة
- إن المحكمة الجنائية الدولية مختصة بحسب نص المادة 13/ب من نظامها الأساسي الجرائم التي وقعت في إقليم دارفور في الفترة بين عامي 2003 و2005 والتي تم إصدار مذكرات توقيف بشأنها في مواجهة الرئيس المعزول عمر البشير.
- إن القضاء الجنائي الوطني لا يستطيع محاكمة المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية بذات التهم المنسوبة إليهم وهي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وذلك لان تلك الجرائم قد تم إدخالها في القانون الجنائي في السودان في عام 2007، بينما وقعت الأفعال المكونة لها في الأعوام من 2003 إلى 2005 تطبيقًا لمبدأ عدم رجعية النصوص الجنائية الا ما كان منها أصلح للمتهم.
- إن من الممكن أن تقوم الحكومة السودانية بتفاهمات مع مجلس الأمن الدولي يتم بموجبها تأجيل نظر قضية دارفور أمام المحكمة الجنائية الدولية لآجال غير محددة على أن يقوم المجلس في تلك الفترة بإنشاء محكمة جنائية دولية مختلطة تفاديًا لتسليم المتهمين إلى محاكم حارج السودان لأن ذلك التسليم يتعارض كلية مع قانون الإجراءات الجنائية السوداني:
التوصيات
- تعجيل الانضمام إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وذلك تمشيًا مع متطلبات العدالة الدولية ولإدماج السودان في منظومة المجتمع الدولي التي تنادي بتعزيز منظومة حقوق الإنسان ومحاربة ظاهرة الإفلات من العقاب.
- الدعوة إلى إعادة النظر في إحالة النزاع إلى المحكمة الجنائية الدولية بواسطة مجلس الأمن الدولي حتى لا يكون المجلس واحدة من أدوات تطبيق العدالة الدولية.
- إعادة النظر في المادة الثالثة التي تحظر تسليم السودانيين إلى أي محكمة خارج السودان أو شرطة أو نيابة في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وذلك بوضع بعض الشروط التي تتماشى مع سيادة الدولة من جهة ومع متطلبات اندماج السودان مع منظومة العدالة الجنائية الدولية.
قد يهمكم أيضاً تأثير الحرب الأهلية السودانية في الاستقرار والتنمية
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #النزاع_في_دارفور #السودان #اقليم_دارفور #العدالة_الجنائية_الدولية #القضاء_الدولي #جرائم_ضد_الإنسانية #مجلس_حقوق_الإنسان
المصادر:
(*) ناجي أحمد الصديق الهادي
البريد الإلكتروني najisd2013@hotmail.com
المراجع
[1] عبد الله الأشعل: ازمة دارفور بين محاولات التدويل وحهود التسوية، سلسلة كتيبات السودان، مركز السودان للبحوث والدراسات الاستراتيجية، الخرطوم تموز/يوليو 2006.
[2] بدر الدين عبد الله حسن: بحث بعنوان رؤية قانونية حول قرار المحكمة الجنائية الدولية في حق الرئيس البشير، المجلة السودانية للقانون الدولي، العدد الأول، كانون الثاني/يناير 2010، ص62 .
[3] من أهم ما جاء في البروتوكولين الإنساني والأمني (تحسين الوضع الإنساني في إقليم دارفور وتعزيز الأمن ومنع الطيران الحكومي المعادي فوق إقليم دارفور وعلى الجانبين أن يحددا أماكن وجود قواتهما لمراقبة وقف إطلاق النار ونزع أسلحة الجنجويد).
[4] السيد مصطفى أبو الخير: أزمات السودان الداخلية والقانون الدولي المعاصر، ايزاك للطباعة والنشر، 2006م، ص 255.
[5] تنص المواد 186 من القانون الجنائي السوداني على تعديل سنة 2015 و187 و188 شاملة على الأفعال التي تكون جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة الإبادة الجماعية.
[6] تنص المادة 18 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في فقرته الثانية على الآتي: (… للدولة أن تبلغ المحكمة بأنها تجري أو أنها أجرت تحقيقًا مع رعاياها أو مع غيرهم في حدود ولايتها القضائية في ما يتعلق بالأفعال الجنائية التي تشكل جرائم من تلك المشار إليها في المادة 5 وتكون متصلة بالمعلومات المقدمة في الإشعار الموجّه إلى الدولة وبناءً على طلب الدول يتنازل المدعي العام عن التحقيق مع هؤلاء الأشخاص …).
[7] – مريم ناصرى، فعالية العقاب على الانتهاكات الجسيمة لقواعد القانون الدولي الإنساني، دار الفكر الجامعي، أمام كلية الحقوق – الإسكندرية ص190 .
[8] جاء في كلمة المندوب الهندي لاهيري أمام الجمعية العامة التاسعة لمؤتمر روما (.. وفي ظل قانون المعاهدات لا يمكن إرغام دولة على الانضمام إلى معاهدة أو الالتزام بأحكام معاهدة لم تقبلها، والنظام الأساسي ينتهك هذا المبدأ من الأساس.)
[9] خالد حسين محمد: المحكمة الجنائية الدولية وتجربة العدالة الجنائية الدولية، مرجع سابق، 188 .
[10] – www.ar.achr.eu داؤود خير الله، المحاكم الجنائية الدولية وتجاوزات مجلس الأمن الدولي، مرجع سابق.
[11] خالد خلوى: “تأثير مجلس الأمن على ممارسة المحكمة الجنائية الدولية لاختصاصاتها” مذكرة لنيل درجة الماجستير في القانون الدولي، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة مولود معمرى، تيزى أوزو 2011، ص99 .
[12] محمد شريف بسيوني: المحكمة الجنائية الدولية، أحكام وآليات الإنفاذ الوطني للنظام الأساسي، دار الشروق القاهرة 2004م ص 517 .
[13] الأزهر العبيدي: حدود سلطات مجلس الأمن في عمل المحكمة الجنائية الدولية، دار النهضة العربية، 2010، ص186 .

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.