أولًا: حيثيات إعادة طرح أسئلة النسوية

ردًا على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي الاستيطانية المتواصلة، اخترقت المقاومة الفلسطينية الحواجز والجدران العنصرية الفاصلة، وشنّت هجومًا بريًا على غلاف غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وبهذا أصابت عملية «طوفان الأقصى» أسطورة إسرائيل الأمنية والعسكرية والاستخباراتية في مقتل. فسارع الاحتلال، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من البلدان الغربية، إلى ارتكاب جرائم مروّعة بحق السكان المدنيين في قطاع غزة المحاصر منذ عام 2006، معتمدًا أساليب التطهير العرقي، والفصل العنصري. واستهدفت آلته الحربية بصورة أساسية النساء، والأطفال، من خلال هدم المستشفيات والأماكن السكنية، بهدف تفكيك الأسَر، وترويع الرجال وإذلالاهم وشيطنتهم، ومن ثم دفعهم إلى الاستسلام. بل أكثر من ذلك تعمّد الاحتلال القضاء على أكبر عدد ممكن من الأمهات، كمنجبات، كراعيات، كمربيات، كحافظات للذاكرة. ما يعني أن آلة الحرب الإسرائيلية أرادت اغتيال الأرحام والحاضنات وقتل الأجنة[1]، وكل ما يتعلق بأعمال الرعاية والحماية والإحاطة، بغية قطع النسل الفلسطيني كي لا ينجب مقاومين. أي أن سلطات الاحتلال استهدفت عن سابق تصور وتصميم المرأة ككيان، كرمز للحياة.

حصل كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع. وكان لافتًا للنظر عجز المنظمات الأممية والحقوقية والمواثيق الدولية عن حماية النساء، بل حتى عن إغاثتهن. وكأن الآلة العسكرية أبادت ليس البشر والحجر فقط ، إنما كل حملات التوعية والتدريب والتمكين للنساء أيضًا؛ فاكتفت هذه المنظمات بوضع التقارير المنقوصة والمجتزأة والخارجة عن السياق، وبحسبان أعداد الضحايا؛ فأفادنا أحد إحصاءاتها أن 2 من الأمهات في قطاع غزة يستشهدن في كل ساعة، وأن عدد الأمهات الشهيدات بلغ ستة آلاف، وأن 19 ألف طفل تيتّم، وعدد المفقودين من النساء والأطفال بلغ 4700. وأن 6 من كل 10 نساء من الحوامل يعانين مضاعفات صحية[2].

هذا غيض من فيض مما جرى وما زال يجري، الذي اهتزت من جرائه المعايير والمواثيق والمعاهدات الدولية، ففقدت الكثير من مصداقيتها، وارتبكت الدول المسماة ديمقراطية الداعمة والراعية للاحتلال الصهيوني، ونحت نحو مزيد من المراوغة، وتحركت الضمائر الحية، وتجرأت على مساءلة من هم في مواقع القرار. واضطربت المفاهيم وانقلبت المقاييس. في هذا السياق، تلح علينا الأسئلة كباحثات وكأكاديميات عن مدى إسهامنا في تكريس الهيمنة؟ وعن أوجه القصور التي اعترت مقارباتنا لموضوع النساء، وعن مدى انجرافنا في التيارات الفكرية السائدة؟ ويلاحقنا السؤال: هل الحرب ضد غزة ستمنحنا الفرصة من جديد لنحت مفاهيم وأفكار جديدة مستمدة من واقعنا ومن آلامنا، ومن دمائنا وعذابات نسائنا وأطفالنا، وتضحيات شبّاننا وشاباتنا؟ غير أن تلمّس الإجابات عن هذه الأسئلة المؤرقة يستدعي التوقف عند رمزية المشهدية النسائية المترافقة مع الإبادة، ربطًا بالسياق النيوليبرالي ما بعد الكولونيالي، المترافق مع جملة تحولات أصابت الحياة الإنسانية في الصميم، بغرض تشخيص العلل الناجمة عن الهيمنة بأساليبها المضمرة والمعلنة، وتمظهراتها المباشرة وغير المباشرة في الأوساط النسوية العربية.

مشهدية نسائية ترافقت مع الإبادة لها دلالاتها ورمزيتها

كباحثة عن معنى ما تقوم به النساء، ارتسمت أمام ناظرَي المشهدية الآتية:

– نساء يُحاصرن، يُجوَّعن، ينتقلن من مكان إلى آخر، هربًا من القصف والدمار. نساء يبحثن عن جثث أطفالهن تحت الأنقاض، نساء يلدن في ظروف قاهرة، نساء مسعفات، حاضنات، متمسكات بالأرض، متضامنات، محتسبات، مناجيات الخالق، تتردد على ألسنتهن عبارة «حسبي الله ونعم الوكيل»…

– نساء يتعرضن للأسر والإهانة والاغتصاب وكل أنواع التعذيب والترهيب، نساء كسرن حاجز الخوف، وتخطّين رهاب الاغتصاب الذي لطالما كان وسيلة الاحتلال الدنيئة لتهجير العائلات خوفًا على بناتهن ونسائهن.

– نساء مبدعات مؤثرات اقتحمن عالم الترميز، ووضعن نصب أعينهن دحض أساليب المحتل الدعائية الكاذبة والمضللة. ولأن المُحتل كان بالأساس يضمر لهن نيات مبيتة، سرعان ما وجد أن الفرصة سانحة لاعتقالهن، مبررًا ذلك بحجج واهية؛ كما حصل مع دلال أبو آمنة الفنانة وطبيبة الأعصاب، التي ارتأت أن تنعش الذاكرة، وأن تقاوم المحتل بالأغنية، من خلال برامج لمصلحة «التلفزيون العربي»، تعنى بالتراث الفلسطيني. فاعتقلتها السلطات الإسرائيلية في إثر نشرها عبارة «وما غالب إلا الله» عبر صفحتها الشخصية على الفايسبوك، واصفة أن في ذلك دعمًا وتحريضًا على الإرهاب[3]. كذلك أوقفت الشابة عهد التميمي بالتهم عينها، بعدما كانت قد أُوقِفت عام 2017 واعتُقِلت ثمانية أشهر لأنها صفعت جنديين إسرائيليين في باحة منزل العائلة في النبي صالح في الضفة الغربية المحتلة وطلبت منهما مغادرة المكان. واعتقلت الأستاذة الجامعية نادرة شلهوب، محاسبة إياها على استخدامها مصطلح الاحتلال الاستعماري وتوصيف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتعريف نفسها كنسوية فلسطينية[4].

– في الشتات، وخصوصًا في الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الغربية الداعمة لإسرائيل، تصدرت المشهدية نساء فلسطينيات مُحركات للاحتجاجات والتظاهرات بكل جرأة، بما فيهن عارضات الأزياء وفنانات الاستعراض، واللواتي كانت النسويات يقللن من أهميتهن (بنات حديد، وميا خليفة)[5]. وكان نصيبهن الترهيب والعقاب، واعتماد أساليب الابتزاز تحت عنوان «معاداة السامية». فألغت على سبيل المثال جامعة جنوب كاليفورنيا كلمة تخرّج للطالبة المتفوقة أسنا تبسم التي انتقدتها الجماعات اليهودية المؤيدة لإسرائيل بسبب منشوراتها المؤيدة لفلسطين[6]. وفصلت جامعة كولومبيا ابنة البرلمانية إلهان عمر بسبب مشاركتها في احتجاج تضامني مع فلسطين[7]. تضامنت معهن نساء غربيات، ويهوديات، وأفريقيات، فتظاهرن لإيقاف الحرب ووقف الإبادة، وهتفن فلسطين حرة، وتم تهديدهن بالطرد وسلبهن المنح الدراسية ومحاسبتهن بقوانين السلامة العامة.

جرى ترهيب ومعاقبة أكاديميات ومفكرات ومبدعات لديهن مقارباتهن النقدية للنظام الرأسمالي، من خلال الاعتقال والحجب والإيقاف عن العمل وغيرها من الأساليب التي كانت الديمقراطيات الغربية تدعي أنها تحاربها في بلدان الجنوب المتخلفة. فتم حجب الجائزة التي كان من المقرر منحها في معرض ألمانيا للكتاب للروائية الفلسطينية عدنية شبلي[8]. واعتُقِلت أستاذة الفلسفة نويل ماك فاي مؤلفة كتاب الخوف من الانهيار: التحليل النفسي والسياسة من جامعة إيموري بسبب تضامنها مع فلسطين، وربما أيضًا بسبب مقاربتها الجريئة في نقد النظام السياسي[9]. وعوقبت الأكاديمية الأمريكية الشهيرة جودي دين بسبب غزة، فمُنحت إجازة من منصبها التدريسي في كلية هوبارت أنوليام سميث في نيويورك، لأنها كتبت بحثًا بعنوان «فلسطين تتحدث للجميع،» وصفت فيه الطائرات الشراعية وهي تحلق فوق السياج الذي يفصل إسرائيل عن غزة بأنها «مبهجة»[10]. بما معناه أنها وظفت مقاربتها الأنثوية فبحثت عن مشاعر المهمشين المقموعين المحتلة أرضهم والمطرودين من بلادهم.

– سُحبت الدعوة التي كانت جامعة ألمانية قد أرسلتها إلى المفكرة والفيلسوفة اليهودية الأمريكية نانسي فرايزر التي أسست تيارًا نسويًا ناقدًا للنظام الرأسمالي، لتولي منصب أستاذية مرموق فيها، بحجة توقيعها على رسالة مفتوحة نشرت في تشرين الثاني/نوفمبر بعنوان: «فلسفة من أجل فلسطين» باسم عشرات أساتذة الفلسفة حول العالم[11].

– عوقبت إعلاميات تجرأن على خرق الخطوط الحمر المرسومة لهن من جانب مؤسساتهن بعدم التعرض للسياسات الإسرئيلية. فكان أن اختفت المذيعة البريطانية سانغيتا مايسكا عن إذاعة LBC البريطانية بعد مقابلة ساخنة مع متحدث باسم الحكومة الإسرائيلية آفي هايمان في 15 نيسان/أبريل الماضي حول الهجمات الإيرانية بطائرات مسيّرة وصواريخ على إسرائيل. كذلك اختفت المذيعة البريطانية بيل دوناتي منذ كانون الثاني/يناير الماضي عن قناة سكاي نيوز البريطانية بعد مقابلتها مع سفير إسرائيل السابق لدى الأمم المتحدة داني دانون، في معرض سؤالها إياه إذا كانت دعوته إلى الهجرة الطوعية من غزة وحث بلدان العالم على استقبال الفلسطينيين تشبه ما تعرّض له اليهود في أوروبا خلال الهولوكست[12]، وهو ما يعني أن هؤلاء المذيعات دفعن ثمن تخطيهن الخطوط الحمر المرسومة لهن.

– في المقابل، بدا التعامل مع رئيسات الجامعات لا يمتّ بصلة إلى الديمقراطية ومُثلها. رئيسات احتفلت بهن النسويات لكونهن خرقن السقف الزجاجي ووصلن إلى مراكز القرار. وإذ بهن يجدن أنفسهن خاضعات مسلوبات الإرادة، فكان مصيرهن التعرض للاستجواب بطريقة مهينة. ومن تمايزت بإجابتها، واضعة ما تفوّه به الطلاب تحت عنوان حرية التعبير كان مصيرها الإقالة أو الاستقالة، كما حصل مع رئيسة جامعة هارفرد كلودين غاي، لكونها وضعت الاحتجاجات ضد إسرائيل في الجامعة في نطاق حرية التعبير[13]. أما نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا، التي استدعت الشرطة لفك الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين، وتم اعتقال أكثر من مئة طالب وطالبة، فإنها استبطنت المعايير الذكورية الرأسمالية وأعادت إنتاجها بغلاف أنثوي، حفاظًا على مركزها. فهي باستجابتها لإملاءات أصحاب المصالح الكبرى، ظنت أنها تحافظ على مركزها، من دون أن تضع في حسبانها أنها لاحقًا قد تُستَخدم ككبش محرقة، إذ ليس من العبث أن كل خبر عن نعمت شفيق يذكرنا الإعلام بأصلها وفصلها، وفي ذلك إيحاء عنصري بأن الاستبداد جزء من تركيبتها المشرقية والعربية (نعمت شفيق المصرية الأصل، ضحت بالحرية الأكاديمية، قمعت الاحتجاجات)[14].

– المحامية الإنكليزية اللبنانية الأصل أمل علم الدين زوجة جورج كلوني، التي روّج إعلام الغرب بأنّها «من أشرس المُدافعين عن حقوق الإنسان»، صمتت خلال العدوان الإسرائيلي الوحشي المستمرّ على غزّة وجنوب لبنان (وطنها الأم)، مع أنها من الذين أدانوا الجيش الروسي في وجه أوكرانيا وصرّحت في نيسان/أبريل 2023 بأنّ «أوكرانيا اليوم مذبح في قلب أوروبا». أي أن هذه المحامية التي شاركت في كلّ تلك القضايا وكان لها موقف الحزم بوجه «طُغاة الأرض»، لم تقِف في محكمة العدل الدولية لتُدين بنيامين نتنياهو، حتى وإن كان ذلك تلميحًا. في هذا السياق يقول أحمد الدقة بمرارة: «ابنتنا، مشغولة بأمر آخر أو أنّ دعاية مُعاداة السامية في هوليوود والغرب تسدّ أذنيها عن صراخ الأطفال والأمهات أمام آلة الحرب الصهيونية. ابنتنا تُحاكي حقوق الإنسان الغربي وحده وتُشاهد موت «الحيوانات البشرية» بصمت. وهي كانت من ضمن الخبراء الذين استشارتهم الجنائية الدولية عند إصدار القرار الذي طلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية من قضاة المحكمة إصدار اعتقال كلّ من نتنياهو ويوآف غالانت ويحيى السنوار وغيره من قادة المقاومة بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة. اللافت للنظر أنّ خريجة «جامعة كولومبيا»، ظهرت أخيرًا تطالب بمساواة الجاني والضحية. أمل التي تماهت مع روحية الغرب، التي تصدّرت الأخبار على أنها المدافع عن حقوق الضعفاء، تساوي بين من أتى من آخر الدنيا ليبني مستوطنات لـ «شعبه» فوق جثث وأحلام وذكريات أصحاب الأرض»[15].

في هذا الصدد، قد يتساءل المرء عن جدوى تولي أفراد من جنسيات تنتمي إلى بلدان العالم الثالث مناصب رفيعة في البلدان الغربية؟ هذه التساؤلات التي بدأت تعتمل في أذهان البعض، ربما نجد إجابة عنها في تسجيل فيديو راج مؤخرًا لخطاب إحدى الأكاديميات في الجامعة الأمريكية في منطقة البحر الكاريبي تقول فيه: «لا يكفي أن نكون نساء، وأن نكون سوداوات ليس أمرًا جديرًا بالثقة بحد ذاته، ما دمنا نلتزم الصمت إزاء الإبادة الجماعية التي تتعرض لها الشعوب المضطهدة في العالم، وذلك بتمويل من الضرائب التي ندفعها. إن أصحاب المناصب الرفيعة من السود لن يسهموا في إنقاذنا. انظروا منظر هذه المرأة السوداء التي تشغل منصب سفيرة في الأمم المتحدة وهي ترفع يدها لتصوت ضد قرار وقف إطلاق النار في غزة».

– انحياز لاأخلاقي لبعض الجمعيات النسوية في أمريكا، التي دعت إلى التحقيق في اعتداءات جنسية قد تكون إسرائيليات تعرضن لها عند أسرهن من قبل حماس، وإشاحة نظرهن عما يجري في غزة. في هذا السياق تقول زينب عساف: «رغم أنه لا أدلة ولا إثباتات حتى الآن، ماذا عن النساء الفلسطينيات السائلة دماؤهن على بلاط المستشفيات؟ ماذا عن جوعهن وتشردهن وخوفهن؟ وحياة عوائلهن الممزقة بأسلحة الدنيا كلها؟ لا مكان لنا ببساطة، هكذا تدور الأرض بوجوه نساء بيضاوات وملونات لا يشبهننا، يطلقن على أنفسهن لقب ناشطات «مسلمات» هنا في أمريكا، ولا يأخذن موقفًا واحدًا إلا إذا كان مقبولًا من الستاتيكو القائم. يتحدثن عن تمكين المرأة والمساواة، وتردد كلامهن كالببغاوات نساء في الوطن العربي، ناشطات «لايت، يخدمن «الصوابية السياسية» بوفاء، ويوجهن السهام نحو الرجل العربي المتوحش. هذه المعضلة غير القابلة للحل، أولوية التحرير أم الإصلاح. لكن في وقت الحرب نحن مع الرجل وأمامه في مقارعة الظلم»[16]. كل هذا يؤشر إلى أن الماكينة التضليلية للنظام المهيمن تعمل بتضافر وتكافل بين السلطات السياسية والإعلامية والمالية على فبركة التحقيقات الصحافية، وقطع التمويل عن منظمات نسوية عربية فشلت في التحدث وفي وصف استخدام حماس للعنف الجنسي بصوت عالٍ[17]. وتبرز العنصرية والفوقية الاستعمارية بوضوح في معرض محاورة المذيعة في قناة توك تي في البريطانية جوليا هارتلي بروير للأمين العام للمبادرة الفلسطينية الوطنية مصطفى البرغوثي في الثالث من كانون الثاني/يناير 2024 إذ حاولت مرارًا دفعه إلى تبرير جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ولمّا لم يستجب لها راحت تقاطعه تحت حجة نفاد الوقت، فما كان منه إلا أن أجابها لا أعرف ماذا لديك من الوقت من أجله. انفعلت صارخة «دعني أنهي جملتي يا رجل ربما لستَ معتادًا على امرأة تتكلم»[18].

تدل هذه المشهدية على أن ما حصل تعدى الانحياز السافر بصفاقة إلى دخول الصراع على نحو شبه مباشر، ولا سيما من طرف الولايات المتحدة الأمريكية؛ فاجتاحت حالة من الهستيريا وسائل الإعلام الغربية وحكوماتها؛ من منع للتظاهرات المساندة لفلسطين، إلى التهديد بتتبّع المنشورات الداعمة على وسائل التواصل الاجتماعي قضائيًا، وحتى إلغاء مشاركة مثقفين فلسطينيين في فعاليات ثقافية كانت مبرمجة سلفًا، وفبركة أخبار زائفة حول «وحشية المقاومة» وتداولها على أعلى مستوى. كل تلك الفظائع التي كانت الدول الغربية تصدر من أجلها بيانات التنديد في مواجهة أنظمة عربية أو عالم ثالثية أو حتى أنظمة كبرى معادية كروسيا والصين، صارت هذه الدول تقترفها من أجل «إسرائيل». لكن المفارقة تكمن في الخطاب الأخلاقي الذي تصدّره لتبرير انحيازها، ومواءمة مواقفها المنحازة مع أيديولوجيتها «الليبرالية التنويرية»، التي تبني عليها منذ قرنين شرعيتها للهيمنة[19].

تدفعنا المفردات التي راجت خلال هذه المدة: إبادة، تطهير، احتلال، استيطان، حصار، تجويع، مقاومة، إغاثة، احتجاج، تضامن، أساليب معاقبة، طرد، منع، ابتزاز، مراوغة، فبركة أفلام… إلخ، إلى التساؤل لا عمّا فعلته الديمقراطيات الغربية فقط، وعمّا فعلته الاتفاقيات والمواثيق الدولية، إنما إلى التساؤل أيضًا عمّا قالته لنا كباحثات مهتمات بقضايا المرأة، مهما اختلف التسميات نسوية، نسائية، جندرية. وبما أن حرب الإبادة هذه كانت كاشفة للمأزق الفكري الذي وصلنا إليه، فالجميع مدعوّ إلى مراجعة مقارباته، وإلى إعادة تكوين تمثلاته، وإعادة تأسيس شبكات تحليله. وهذا ما يستدعي وضع أفكارنا على المشرحة وتشخيص العلل الناجمة عن الهيمنة والاستتباع.

ثانيًا: العلل الناجمة عن الهيمنة
على صعيد الخطاب النسوي العربي

لتشخيص العلل الناجمة عن الهيمنة سوف أستكمل ما كنت قد بدأته في معرض بحثي عن معضلات تكوين خطاب نسوي عربي، وإن كانت كلمة خطاب بدت للبعض مقولة قديمة لا تتناسب مع التحولات الرقمية ولا مع المناخ «التحرري» لما بعد الحداثة. ملخص ما توصلت إليه آنذاك أن الخطاب النسوي العربي يعاني جملة معضلات متداخلة، من أبرزها: معضلة تماهي أو تمايز النسوية العربية إزاء النسوية الغربية. معضلة الانخراط في العمل الإبستيمولوجي، معضلة تشبيك الإبستيمولوجي مع السياسي، معضلة التعامل مع الثنائيات (الأصالة والمعاصرة، الخاص والعام، الطبيعي والثقافي، النظري والتطبيقي، الاجتماعي والوطني… إلخ) معضلة التفاعل مع الأجيال الرقمية، ومعضلة التمويل الأجنبي والتبعية الفكرية[20].

فتحت هذه المعضلات أمامي الآفاق لضرورة الخروج من المقاربات الأحادية الجانب التي أسرنا أنفسنا بها، وبتنا أحيانًا نردد كالببغاوات ما يقوله حراس النظام الرأسمالي الاستعماري في الغرب المتقدم تحت عناوين براقة: المساواة الجندرية، الهويات الجنسية، العدالة الاجتماعية، الحوكمة، الشفافية، السقف الزجاجي، الثقافة القامعة، النشطاء. بل أكثر من ذلك تم العمل على توسيع وتشتيت دائرة الحقوق إلى درجة أنها لشدة الشرذمة تفخخت من داخلها. وانجرفنا في التفكير الاستقطابي الثنائي، الذي يؤسس لصراعات لا تنتهي. كذلك بتنا أسرى الاستقطابات الثنائية الناتجة من الفكر الرأسمالي الذكوري الذي هيمن على العالم، وأفرز المجموعات تبعًا لمدى اقترابها وابتعادها من أساليب الحياة الغربية؛ وبهذا عمل على تنميط هذه المجموعات على نحو إطلاقي لا مجال فيه للتلاقي. فالاستعمار اخترق على نحو عنيف كل أوجه الحياة كالثقافة والقيم والموارد، وحصلت جراء ذلك عمليات نفي للآخر، وبالتالي إنكار أي صفة إنسانية له. تسمية «حيوانات بشرية» لم تأتِ عبثًا، وليست زلة لسان، إنما تؤشر إلى اللغة المنحطة التي تكمن وراء حرب الإبادة[21]. ولعل إلقاء نظرة على كيفية تفاعل الحركات النسائية في بلادنا مع التيارات النسوية الغربية الحارسة للنظام الرأسمالي تؤشر إلى مكامن الهيمنة التي تتجسد حاليًا بوضوح أمام أعيننا.

التفاعل مع التيارات النسوية الحارسة للنظام الرأسمالي

لأن الدول الغربية اهتمت بفرض نسق واحد من النسوية في بلادنا، فإن الأغلبية من الناشطات النسويات اعتنقن الفكر الاستشراقي العنصري الذي يسعى جاهدًا لربط كل حالات الأذى التي تصيب النساء بالإسلام وبالثقافة العربية[22]، فكان واضحًا تفاعلهن مع الحركات النسوية المؤطرة من داخل النظام الرأسمالي المروجة ضمنًا للهيمنة، وبالتالي نادرًا ما التفتن إلى الحركات النسوية الغربية الناقدة للنظام الرأسمالي والمعارضة للهيمنة الاستعمارية. عزز من ذلك انشغال الأكاديميات في البحوث الكمية والدخول في لغة الأرقام التي تراوغ النقاش وتبعد سؤال المعنى. وشرعت الحركات النسوية تحتفي بالنساء الخارقات للسقف الزجاجي والواصلات إلى مراكز القرار العليا، من دون أن تتساءل عن جدوى وصولهن في حال مارسن أساليب الذكور.

لذلك وجدنا أن بعض المقاربات النسوية لقي ترحيبًا في ظل سياق وظروف معينة، وبعضها الآخر في سياقات أخرى تم تجاهله من قبل المنظومة الرأسمالية الأبوية، بما لديها من أطر فكرية وأكاديمية وإعلامية، وحوافز وإغراءات مادية. على سبيل المثال، لم نجد صدى في بلادنا لأطروحات الأخلاقيات النسوية التي حاولت تنقيح الأخلاق التقليدية، وإعادة صوغها، وإعادة التفكير في مدى انتقاصها من قدر خبرة النساء الأخلاقية والحطّ من قيمتها. وطُرِحت الأسئلة حول إذا كانت هناك من فضيلة واحدة للجنسين، أم فضيلة غير متكافئة يختلف فيها الرجال عن النساء وفقًا لها. وحصل جدل في ما إذا كانت الاختلافات بين أخلاقيات كل من الجنسين هي نتيجة للتلاعب الاجتماعي أم الحتمية البيولوجية، ووضعت العدالة في ميزان الرعاية، وحصلت نقاشات حول المفاضلة بينهما[23]. وعلت مطالبات بأن تدفع النساء بأخلاقياتهن السامية إلى الحيز العام، وأن تحضر فيه كحضورها في الحيز الخاص. في حين رأى البعض أن النساء بحاجة إلى المساواة الاقتصادية بالرجال قبل أن يستطعن تقديم فضيلة إنسانية أخلاقية. في المقابل رأت مفكرات نسويات أن خبرة النساء في بناء غرور الرجال وتضميد جراحهم تُضعِف النساء في النهاية، وأكدت أن «العمل العاطفي» الذي تمارسه النساء في بعض الخدمات المهنية يقطعهن عن مشاعرهن وعواطفهن الخاصة، حاسبات أن الرعاية الحقة لا يمكن أن تتم تحت شروط فرضها سيطرة الذكر وخضوع الأنثى، مُشددات على ضرورة تمتع النساء بالمساواة الكاملة مع الرجال، ليستطعن تقديم الرعاية للرجال من دون خوف من استغلال أعمالهن الحنونة. وهناك من وجدت في العلاقة بين الأشخاص الأموميين والأطفال نموذجًا ممتازًا للعلاقات الإنسانية عمومًا. في المقابل، هناك من أرجعت الأخلاقيات النسوية للرعاية إلى العلاقات الاعتمادية بين البشر التي ينبغي أن توجه السياسات العامة للمساواة الإنسانية[24].

وكان لافتًا للنظر أن المقاربة الجندرية تصدرت المشهد في بلادنا بعدما لاقت ترحيبًا في المجتمعات الرأسمالية الليبرالية، على العكس من المقاربة الرعائية التي تم تهميشها في تلك المجتمعات، ومن ثم لم نجد لها أصداء لدينا، لأسباب كثيرة منها: أن المقاربة الجندرية ترمي تبعة التمييز والتقسيم الجندري على الثقافة والمجتمع والأعراف، التي تم النظر إليها على أنها واحدة وشاملة وأبدية وثابتة، وفي ذلك تحييد للاقتصاد وللسوق وللسياسة. هذا عدا أن هذه المقاربة وجد البعض أنها تربي على الفردانية وعلى الغمامة في الهوية والسلوك، وتمثل بذلك عاملًا من عوامل الفتور الاجتماعي، ومن الفوضى، وبهذا تمثل ميزة للأيديولوجيا المسيطرة[25]. فالمقاربة الجندرية نحت في المدة الأخيرة نحو استبدال أصلانية الثقافة المحلية بأصلانية البديل، كما يجد صدقي عاصور، فاختلطت النظرية النقدية بنظرية ما بعد الاستعمار. إذ وجدت جوديت بتلر أن المجتمعات الأصلانية كانت غير ممتثلة جنسانيًا، قبل أن جاء الاستعمار الغربي وفرض عليها الامتثال الجنساني الغيري، وهنا حولت بتلر ذاتها وطبقتها الاحترافية المهنية إلى «شيوخ أصلانيين». وبهذا نجد أنه ليس فقط السلطة الرأسمالية – الأمنية المحلية تستخدم خطاب ما بعد الاستعمار ومناهضة الإمبريالية من أجل شرعنة جبروتها، بل سلطة البديل المعارض وغير السائد تتقن مثل هذا الاستخدام[26].

في حين أن المقاربة الرعائية التي تنتقد النظام الاقتصادي الذي غيّب الاجتماعي، تُقيم نوعًا من الجدلية بين الخاص والعام، بين المعولم والمحلي، بين العدالة والعناية. وبهذا تمثل عاملًا من عوامل الانسجام والترابط الاجتماعي، ما يمثل خطرًا على الأيديولوجيا المهيمنة. فسياسة الحماية توجه الفكر نحو أخلاقيات العناية، والتبادل، والاحتياط بمعنى الوقاية، وتركز الاهتمام على القريب والمحلي، بما أنه لن نعتني إلا بمن هو في متناولنا. إذًا هذه النظرية واقعة على نقيض الأيديولوجيا المهيمنة المرتكزة على إلغاء الحدود، وفرض العولمة، وهدم المكتسبات الاجتماعية والمخاطرة بمن هم أقل ثراءً[27]. كذلك لم نلحظ في الأوساط الأكاديمية أثرًا للمعاني التي أعطاها أكسيل هونت (Axel Honnet) للحرية والاستقلالية وللأهمية التي أولاها للسياقات العلائقية والاجتماعية التي يتطور فيها الأفراد[28]. وترى نانسي فرايزر (Nancy Frazer) أن الفصل الجندري بين التكاثر الاجتماعي والإنتاج الاقتصادي مثّل قاعدة المأسسة الأساسية لخضوع النساء في المجتمعات الرأسمالية وأدخلها في أزمة العناية. وهذا يشبه الطريقة التي تعاملت فيها المجتمعات الرأسمالية مع الطبيعة كخزان لامتناهٍ، يمكننا أن نأخذ منه ما نريد. فعندما يسحب المجتمع الدعم العمومي للتكاثر الاجتماعي، ويقوم بتجنيد كبار مقدمي الخدمات لساعات طويلة وشاقة من أجل العمل المأجور، يكون قد استنزف القدرات التي يعتمد عليها. هذا الشكل الراهن من التمويل الرأسمالي يستهلك بصورة ممنهجة قدراتنا في الحفاظ على الروابط الاجتماعية، كمثل النمر الذي يأكل ذيله، والنتيجة تكون أزمة رعاية كما أزمة بيئة[29]. وتتوجس فريزر من تقارب الليبرالية النسوية المقلق مع الرأسمالية، لكون ذلك يضفي طابعًا من التحرر على نظام استغلال لا هوادة فيه. وتقدم فريزر، في معرض نقدها للرأسمالية، رؤية جذرية مختلفة للنسوية مبينة كيف أن العدالة الجندرية كامنة في قلب أي صراع من أجل مجتمع متساوٍ.

وبهذا عمل الاقتصاد النسوي على تحليل العلاقات التفاعلية بين النوع والاقتصاد وأدمج في تحليله أقسام الدائرة الإنتاجية التي لا تُدار من السوق، والتي لا تُكافأ ماديًا. ودرس المنطق الذي يغلف ازدواجية المفاهيم التقليدية، كمثل: الاقتصادي والاجتماعي، الإنتاجي والإنجابي بمعنى تجدد النسل، المذكر والمؤنث، المجانية والمدفوعة الثمن، وكذلك العام والخاص. كما حلّل مصطلحات البطريركية والرأسمالية كأشكال من الهيمنة المترابطة[30]. وقد أشاعت هذه المقاربات، على تنوعها، مناخًا فكريًا على مستوى كبير من الأهمية، لكونها نحتت الكثير من المفاهيم ولاحظت ترابطاتها، وتوقفت أمام الكثير من المعاني، وعملت على التمفصل بين المحلي والعالمي، بين العام والخاص. والأهم أنها انتقدت الأنظمة الاقتصادية التي أغفلت السياسات الاجتماعية، وحللت العلاقة بين أخلاق العناية والديمقراطية، إذ تجد جوان ترنتو (Joan Tronto) في معرض دراستها طبيعة أخلاق العناية، أن الرعاية والديمقراطية لا يبدو أنهما يسيران معًا على نحو جيد؛ لأن الرعاية تتطلب تمييزًا إيجابيًا لمصلحة الفئات الهشة والضعيفة، والأكثر حاجة، والديمقراطية تعدّ الناس متساوين، وبهذا جرى إبعاد الرعاية عن السياسة[31].

وهكذا يستوقفنا الفكر النسوي في ظل السياق المعولم والسياقات المحلية المحاطة بالمخاطر، وتستوقفنا الجدلية التي أثارها بين المعولم والمحلي، وتستوقفنا بالتحديد المقاربات النسوية التي همشت في السابق وعادت لتبرز من جديد، بمنزلة حاجة إلى الإجابة عن الأزمات الصحية والمعيشية والاجتماعية المتزايدة مع تصاعد النيوليبرالية، وتسارع التطورات التكنولوجية والاتصالية وتكريس اقتصاد السوق كنموذج أوحد، وانتفاء البدائل[32]، وصعود الفردنة، وتراجع العمل النقابي والحزبي، وتغير آليات العمل والأسس المقوننة لها، وما نجم عن ذلك من تحوير الأسباب، والعمل على النتائج، وتجهيل الفاعل، بحيث وصلنا إلى تعزيز العنصرية والنظرة العدائية تجاه المهاجرين، وتحميل الفرد عبء أوضاعه ومشاكله، وهذا ما يسبب له الشعور بالذنب ويجعله موضع إدانة. وضعت، كل هذه العوارض وغيرها، العالم، بما فيه البلدان الديمقراطية، أمام تحديات سياسية واجتماعية واقتصادية تصيب أسس النظام الديمقراطي، بحيث أوجدت المتغيرات المتسارعة المترافقة مع تصدير المخاطر عبر الحدود حالة من عدم اليقين، وتعمقت اللامساواة، نتيجة ارتباط أنظمة الحماية الاجتماعية بالأنظمة الاقتصادية، وهو ما جعل أنظمة الحماية الاجتماعية في البلدان النامية موضع تساؤل في سياق الأزمات الاقتصادية المرتبطة بالخصخصة في إطار برامج التكيف الهيكلي، وكان أن أدت الصدمات المالية والاقتصادية إلى فكفكة دولة العناية، وكسر النقابات. فكانت الإصلاحات المقترحة بهدف فكفكة آليات التضامن وإحلال أشكال من التأمينات الفردية. هذا عدا وقوع النساء والفتيات إزاء لامساواة بنيوية ومخاطر يومية تقع في صلب دورة حياتهن[33].

انعكس هذا التفاعل على الصعيد الأكاديمي والبحثي، إذ كان من الملاحظ إغفال أغلبية البحوث لسياقات إنتاج المفاهيم، وعدم مساءلتها، وعدم تشبيكها المقاربات، وبخاصة تشبيك الإبستيمولوجي مع السياسي مع الاقتصادي. وعدم توقفها أمام معاني الفلسفة الاجتماعية والسياسية، ولا أمام معاني الهوية، الحرية الفردية، التكافؤ، المساواة، الاختلاف، القبول. إلى جانب الانبهار ببعض العناوين من دون التوقف أمام معانيها وشروط تحققها: الاستقلالية، الفردانية، الحرية. لذلك كاد البعض ينزلق في المدة الأخيرة نحو الترويج لحرية الهويات الجنسية، ويعلي شأن الفردانية. في هذا الصدد تشير الفيلسوفة جنفياف فريس (Fraisse) إلى أن العالم نسي أن يفكر بالجمع حيث يتأسس السياسي[34]. وهكذا تعاظمت الهيمنة في مرحلة الحداثة المتقدمة وما رافقها من تحولات تكنولوجية واتصالية، اسهمت في تخطي حدود الزمان والمكان، وكان لها مفاعيلها الاقتصادية والسياسية والأنتروبولوجية والثقافية والاجتماعية والنفسية.

ثالثًا: حقبة الحداثة المتقدمة وأدوات تكريس الهيمنة

حصل في المرحلة النيوليبرالية، الكثير من الانزياحات المفاهيمية، التي وقف معظمنا أمامها في حالة من الذهول والحيرة لا يتمسك بشيء ولا يملك يقينًا، في انتظار كل شيء، يتوهم أنه مستقل إنما من دون قوة، ومتحرر إنما من دون إرادة، على حد تعبير جيل ليبوفتسكي (Gilles Lipovetsky)‏[35]، وتجلى ذلك في جملة تحولات، نذكر منها:

1 – تحولات الحداثة المفرطة و«ثورة الفردانية الثانية»

من المفيد أن نرصد التحولات التي طرأت على المجتمعات الغربية المعاصرة بعد دخولها في مرحلة «الحداثة المفرطة» قبل تبني أي اتجاه أو تيار نسوي. كذلك من المفيد تتبع المتغيرات التي مسّت جملة من الموضوعات المهمة مثل: الديمقراطية، والإغراء، واللامبالاة، والنرجسية، وثورة الفردانية الثانية، وطغيان حس الدعابة، والنسوية الجديدة، واستبدال العنف المتوحش بعنف مرن وليّن. إن المنطق الجديد الذي يحكم هذه المرحلة عنوانه الشخصنة، أي أن هناك شكلًا جديدًا لتنظيم المجتمع وتدبير سلوكات أفراده. وهذه الشخصنة، كما يراها ليبوفتسكي، تحيلنا إلى أمرين متقابلين، أحدهما سالب يشير إلى التشقق الذي أصاب التنشئة الاجتماعية الانضباطية، والآخر موجب يحيل إلى تشكل مجتمع مرن قائم على الإعلام وإثارة الحاجات والجنس، وتقديس الطبيعي وروح الدعابة. وكان من تبعات هذه العملية حدة التمركز على الذات، واللامبالاة بالمصلحة العامة، وغلبة الفردي على الكوني، وغلبة النفسي على الأيديولوجي، جاعلة من المرحلة الراهنة في نظر ليبوفتسكي بمثابة «ثورة فردانية ثانية». وكان من تبعات ذلك أن فقد الإنسان صلته بالمعنى، واعترى الفتور علاقته بمختلف القطاعات الحيوية، فأصبح ميدان التعليم منزوع القداسة ومبتذلًا بعدما تم إفراغه من لبّه، وتحييد دوره في بناء الإنسان الواعي المحصن ضد أي استلاب أو تشييء، وشهد مجال السياسة فتورًا لا تخطئه العين، تجلوه نسب الامتناع عن التصويت، وتراجع الوعي الأيديولوجي الصارم لمصلحة فضول مشتت، كان للإعلام فيه اليد الطولى. وبهذا مثلت النسبوية والسيولة المعرفية أهم روافد النزعة الفردانية، لأنهما عززتا في الإنسان التمرد على كل دين أو مذهب، ومن ثم إكبابه على ذاته، وانفصاله عن مجتمعه الذي لم يعد يرى له حقًا عليه أو رابطًا يربطه به[36]. كمنت وراء هذه التحولات أيديولوجيا اتصالية حملت جملة من الانزياحات المفاهيمية، وروجت للكثير من المصطلحات المراوغة.

2 – التلاعب بالمصطلحات وطرائق استخدامها

كثيرة هي المواضع التي تم فيها التلاعب بالمصطلحات، على سبيل المثال: بعدما كان ينُظر إلى العدالة الاجتماعية على أنها إجابة عن عدم المساواة، في المعجم النيوليبرالي الجديد أُزيلت أي إشارة إلى التوزيع العادل للثروة والدخل والموارد، واقتربت العدالة الآن من أن تعني نقيضها، كما لاحظت نانسي فرايزر، أي الحق في الاختلاف، حيث يتم استخدامه في الغالب، بمعنى الهوية في ما يتعلق بالنسوية ومناهضة العنصرية والحقوق الجنسية. والآن اكتسبت العدالة الاجتماعية أيضًا مجموعة من المعاني الجديدة من بينها هذا التعريف المختلط للاتحاد الأوروبي: «تعزيز البرلمان، حماية حقوق الإنسان، تشجيع الحوار الاجتماعي، تعزيز الوقاية من المخدرات وعلاجها، تمكين المرأة ومناصرة الشباب». كذلك الفساد الذي وصل إلى أبعاد هائلة في ظل الليبرالية الجديدة بقدر ما استُخدم للتغطية على مشاكل اقتصادية واجتماعية أخرى (الاستغلال على سبيل المثال). كذلك استُبدِل بمصطلح التضامن مصطلح المناصرة، وبالمناضل مصطلح الناشط[37].

3 – رواج أطروحات تكرس الهيمنة

كان من الملاحظ أنه في زمن الحداثة المتقدمة راج الكثير من الأطروحات التي تكرس الهيمنة بأساليب ناعمة. على سبيل المثال، يرى محمود حيدر أن أطروحة «العالمية المرآة» جاءت لترسخ في الوعي التاريخي للغرب نزعة الاستعلاء عبر ثلاثة مجالات: حقوق الإنسان، والتدخل الإنساني، والاقتصاد. ففي إطار النموذج الحداثي الغربي تكتسب عالمية حقوق الإنسان شرعيتها بفعل السمة العالمية لمبدئها المؤسس الذي يزعم أن العقل الغربي منذ التدوين اليوناني إلى الحداثات المتعاقبة، هو العقل الذي ينشر أنواره على العالم كله، كذلك الزعم أن الحضارة الغربية هي المكان الوحيد والمتميِّز والحصري الذي تنبثق منه القيم التي تحدد المرحلة النهائية من التطور البشري. أما ترجمة هذا المبدأ فقد تم تسييلها عبر مسلّمة مركبة مؤداها: الإيمان بعالمية القيم الغربية والمماثلة القطعية والتطابق بين حقوق الإنسان وهذه القيم. وفقًا لهذا صار ينظر إلى أي معارضة نقدية لقيم الحداثة، وما بعد الحداثة، على أنها تشكيك بعالمية حقوق الإنسان وبالحريات الفردية. بهذا المقتضى أمست العلاقة بالشعوب الأخرى جزءًا من عملية الأنسنة، ولو جرت وقائعها بالقوة القهرية. وبهذا حوّل غرب ما بعد الحداثة نظرية مقولة التدخل الإنساني إلى أطروحة إنقاذية تحت ذريعة الحروب العادلة. وما الحرب على الشعب الفلسطيني في غزة اليوم، وقبل ذلك على العراق وأفغانستان، سوى عملية تضفي الطابع الإنساني على حروب الغرب المفتوحة على العالم[38]. وهذا ما يعني أن هناك رواية واحدة يجب أن تروى، والدول المهيمنة هي من يقررها ويعطيها بعدًا معياريًا، وأي شذوذ عن هذه الرواية المعيارية يصبح خللًا أخلاقيًا يجب إدانته وملاحقته.

4 -التنكر بالزي الثقافي لتصبح الأسئلة السياسية
والاقتصادية غير قابلة للحل

ترافق مع انهيار الاتحاد السوفياتي مع انتهاء التفسيرات الاقتصادية، ومذاهب التحرُّر، ما حدا بصمويل هنتنغتون إلى القول بأن نموذج العصر الجديد الواحد المحتمل هو الثقافة. يرى فواز طرابلسي أنه على الرغم من عدم وضوح سبب وجوب أن تكون الثقافة هي البديل الوحيد الممكن، فقد تم رفعها إلى مرتبة القيمة العالمية المطلقة. أصبح هذا النموذج الجديد تفسيرًا للحياة والظواهر الاجتماعية وسلوك الرجال وفقًا لجواهر وهويات ثابتة عادة ما ترتكز على الدين واللغة. والمفارقة هنا أن ما يبدأ بالثقافة يتحول إلى جيوسياسي وحتى إلى جيوستراتيجي. ولهذا تمحورت التقارير الدولية عن الوطن العربي بأنه متخلف عن التنمية ويعاني عجزًا ثقافيًا ولا سيّما في حقوق الإنسان والديمقراطية والوصول إلى مجتمع المعرفة وتمكين النساء. وفي هذا يتحوّل الوطن العربي إلى كتلة واحدة ذات ثقافة واحدة، ومن ثم ينزلق التقدم الثقافي إلى تعديلات هيكلية وإصلاحات نيوليبرالية. ويتساءل طرابلسي: أليس في هذا توضيح لمبدأ غرامشي: الأسئلة السياسية والأسئلة الاقتصادية تصبح غير قابلة للحل عندما تتنكر في زي ثقافي! وعندما يتحول كل شيء إلى ثقافة، ويُنظر إلى الإرهاب على أنه منتج ثقافي ديني؟ والإجابة: تشجيع الإسلام المعتدل. أما تمكين المرأة فهو الآن مُتوخى من حيث «تغيير ثقافة المرأة»؛ لا داعي إلى تغيير ثقافة الرجل! والطريق الملكي السريع إلى مجتمع المعرفة هو الترجمة (اللغة مرة أخرى)[39].

في هذا الصدد، يشير أسعد أبو خليل إلى أن الفكر الاستشراقي العنصري أدى إلى ربط كل حالات الأذى للنساء بالإسلام والثقافة العربية[40]. لذا غدت روايات العنف الجنسي تستخدم لتكوين الرأي العام والتأثير في التصورات الدولية للصراع. وبهذا يصبح الانتقام من العنف الجنسي ذريعة لمواصلة الحرب، ولشيطنة الرجال المقاومين[41]. كذلك تحوّل الجندر من مصطلح إلى مشروع له أبعاد ثقافية واجتماعية، كما أنه لم يترك الخيار حرًا، بل بات أمرًا إلزاميًا تشكلت من أجل متابعة تنفيذه بدعم من الأمم المتحدة في البلدان العربية والإسلامية هيئات ولجان خاصة، لمعرفة التقدم في التغيير الذي حصل في المؤسسات التعليمية والثقافية والتشريعات والأنظمة والقوانين، كما يرى طلال عتريسي[42].

5 – إضفاء نزعة أخلاقية على المنازعات السياسية

لاحظ موريس عايق من جهته أن الليبرالية اتجهت في عقودها الأخيرة إلى التمحور حول الأخلاق، بمعنى إضفاء نزعة أخلاقية على المنازعات السياسية، ما يحرمها بعدها السياسي وإمكان تنوع الآراء واختلافها. على سبيل المثال، لم يعد الليبرالي يكتفي فقط بالدفاع عن المثلية الجنسية حتى لا يعاني المثليون أي تمييز أو اضطهاد بسبب هويتهم الجنسية، بل أصبح مفروضًا على المرء قبول المثلية بوصفها شيئًا طبيعيًا وأن يصرح بهذا علنًا، وفيما عدا ذلك يُعدّ ساقطًا أخلاقيًا. نحن أمام ليبرالية تنحو باستمرار صوب شمولية أخلاقية تنتهك الليبرالية (فكرة الحرية) نفسها عبر موضعة المواقف في نسق أخلاقي، وهو ما يجعل من الرأي الآخر سقوطًا أخلاقيًا[43].

خلاصة

لو وضعنا قيم ما بعد الحداثة كما أوضحها ليبوفتسكي في هذا الزمن الرقمي والحداثة المفرطة (الفردانية، النرجسية، الاستعراض، التقوقع حول الذات… إلخ) مقابل القيم التقليدية للمجتمع الغزاوي الفلسطيني (نجدة الآخرين، التضامن والتكافل الأسري، تقاسم لقمة العيش، التضحية من أجل الوطن، الصبر، الاحتساب، التوكل على الله… إلخ)، وتساءلنا: كيف كانت ستكون أوضاع النساء الفلسطينيات في غزّة لو كن حاملات قيم ما بعد حداثية، وحانقات على مجتمعهن وثقافتهن، وكارهات الرجال وساعيات لمنافستهم كيفما كان؟ هل كنّ سيتمكنّ من التضحية والصمود والتحمل؟ ربما الإجابة عن هذا السؤال تتطلب البحث المعمق في السرديات التي تتناهى إلينا عن بطولات وعذابات الأمهات والجدات والطفلات الفلسطينيات، وبهذا يمكننا أن نعطي معنى من ناحية، للثقافة المسماة تقليدية ولتراثنا، ونتصالح مع بيئتنا، ونتحاور مع بعضنا، ونمارس النقد الذاتي بطريقة بناءة. ومن ناحية ثانية، يمكننا أن نفكك الخطاب النيوليبرالي ما بعد الكولونيالي السائد، ونفهم خلفياته وأبعاده، ومراميه.

القيمون على الشركات الاحتكارية الكبرى وعلى المنصات الرقمية ورؤوس الأموال التي تديرها روجوا خطاب الـمابعد، وخطاب النهايات، بغرض تهشيم البنى والهياكل الهرمية التي بينت في مرحلة الحداثة، وغدت الآن في نظرهم، مترهلة تعيق حركة أموالهم، وتقف صدًا أمام مشاريعهم في الهيمنة على العالم من خلال فرض سرديتهم ومعانيهم الهادفة إلى التعمية على الاستغلال وعلى اللاعدالة في توزيع الموارد… ولشدة توغلهم وتغولهم في الهيمنة وفي حجب الخيارات، غدت خططهم تحبط نفسها بنفسها، وأُفرغت ديمقراطياتهم من مضمونها، بعدما تغافلوا عن التفاوتات الاجتماعية والطبقية، وفتكوا بالطبيعة، وعبثوا بإنسانية الإنسان. وهكذا مثلت مقاومة المحتل التي تجسدت في عملية طوفان الأقصى تهديدًا وجوديًا لا للكيان المحتل فقط إنما لمشاريع الدول الرأسمالية ومخططاتها في الهيمنة وفي الاستغلال. ونظرًا إلى شدة رواج الأدوات الرقمية التي أرادت الشركات الاحتكارية منها المراقبة والإمساك بنعومة بالعالم، فقد راحت صور المجازر التي تتناقلها الهواتف الذكية توقظ ضمائر الناس العاديين وتنبههم إلى واقعهم كمواطنين، أرادت لهم الماكينة الرأسمالية أن يكونوا مجرد أفراد مستهلكين، منافسين، متصلين، متعهدين لأنفسهم، لامبالين بالسياسة ولا بالشأن العام. وها هم الآن يشهدون بأم العين انتفاضة جيل جديد يبحث عن إنسانيته التي جربوا إماتتها، وعن جوهره الذي انُتزِع منه تحت عناوين واهمة (الحرية، الاستقلالية، الأفقية، التفاعلية… إلخ). وها هو الإمعان التاريخي في إبادة شعب طُرِد من أرضه، وإحلال شعب آخر مكانه، وليّ الحقائق بالقوة، قد مثّل هزة للضمير العالمي، ربما لو تم استثمار ما يجري على المستوى الفكري قد يؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى انقلاب السحر على الساحر.

من هذا المنطلق، نتساءل عما سينبثق من المشهدية المرسومة أعلاه؟ هل تلوح بوادر مشهدية معاكسة؟ وإن كنا نبقي في الحسبان مقدرة النظام الرأسمالي على فرز آليات تصحيح الخلل من داخله، وقدرته على فك ملزمة الرأي العام بأساليب مراوغة وناعمة.

في هذا السياق، تذكرنا لمى غوشه أن النظريات النسوية ما بعد الاستعمارية توضح لنا العلاقة المتينة المتشكلة بين الأم والأمة، وتشير إلى أن الدور البيولوجي هو أحد الأدوار المركزية والمهمة التي تُمنح للنساء في الخطاب والنضال الوطني. وبناءً على هذا تُستَهدف أجساد النساء بصورة مُمنهجة كجزء من الآليات التي تستخدمها القوة الاستعمارية لفرض الهيمنة العرقية، وللمنطق الذي تعتمده لإبادة المجتمعات الأصلانية[44]. ولهذا ارتُكِب العنف الجنسي في السياقات الاستعمارية ضد أجساد النساء الأصلانيّات عبر الاغتصاب، والتحكم في قدراتهن الإنجابية، والتعذيب والقتل. كما تشير نادرة شلهوب – كيفوركيان، إلى أن انعدام التوازن بين القوة الإسرائيلية الخارجية والقوة الفلسطينية الداخلية يؤدي إلى إعادة توجيه هذه القوة (الإسرائيلية) نحو مجموعات داخلية ذات قوة محدودة – عادة النساء. من هنا، فإن تحليلها يشير إلى أن العنف ضد أجساد النساء الفلسطينيات، وجنسانيتهن تعزز في يد الدولة الصهيونية من أجل تقوية البنى الذكورية الأصلية. كما أن الدولة الإسرائيلية استغلت التهديد بالعنف الجنسي ضد النساء الفلسطينيات، والمفاهيم الذكورية للجنسانية و«الشرف» من أجل تجنيد الفلسطينيين كمتعاونين، ولردع محاولات المقاومة المنظمة. وهذا ما يعني أن المحتل منذ البداية، وجد في استخدام النساء عناوين لآلته الدعائية تضاهي أسلحة الدمار الشامل، يغتصب النساء الفلسطينيات بغرض التهجير، يقتل النساء بغرض التطهير العرقي، يفبرك الأفلام عن اغتصاب حماس للأسيرات الإسرائيليات لاستعطاف الرأي العام ولإثارة الغضب على المقاومين وإلصاق تهمة الإرهاب بهم.

تدفعنا هذه الازدواجية المراوغة إلى التساؤل: لماذا كان التعاطف مع قضية مهسا أميني كبيرًا وممنهجًا، ولم نشهد تعاطفًا مع النساء الغزاويات؟ هل لأنهن محجّبات أم لأنهن أنجبن مقاومين للمحتل؟ أم لأنه كما تقول الدوسري إن الإمبريالية الاستعمارية تنشر روايتها المألوفة، بالادعاء أن المرأة الفلسطينية بحاجة «إلى إنقاذها من «حماس» المصنفة على أنها جماعة إرهابية في المملكة المتحدة ودول أخرى؟»[45]. لماذا لم تعلِ الجمعيات النسوية الصوت دفاعًا عن المرأة المحجبة التي تعرضت للمضايقات والإهانات في البلدان الديمقراطية؟[46].

على الرغم من كل هذه الغمة التي تلف العالم، إلا أننا نتلمس مشهدية مغايرة، وخصوصًا بعدما تراجعت دولة العناية التي حصّلت النساء في ظلها، الكثير من الحقوق، بدأت التيارات النسوية تفرز نفسها بنفسها. هناك من راح يتفاعل مع النسوية التقاطعية وإن كان أحيانًا بالقفز فوق السياق. وهناك من أكب على إبراز تقاطع العنف القائم على النوع الاجتماعي والحرب والسرديات السياسية في سياق الصراع العربي – الإسرائيلي. وهناك من بدأت تتشكل لديه القناعة بأنه آن الأوان للافتراق عن الرأسمالية المتوحشة التي تعد قتل النساء والأطفال وتدمير المستشفيات وهدم سبل العيش أضرارًا جانبية، تسعى للتحقيق بها. وربما هناك من يفكر في سره بالاعتذار من نساء غزة عما كنا نحمله في عقولنا من أفكار استعلائية فوقية نمّطها الغرب عن بيئتنا وثقافتنا، نتيجة انبهارنا بمقولاته عن التقدم والتطور والحداثة وما بعد الحداثة، وربما ستتأسس لدى البعض عقدة ذنب ناجمة عن إشاحة النظر عمّا ارتكبته الآلة العسكرية الصهيونية بحق النساء منذ عام 1948 وحتى اليوم.

ولأن النسوية هي نضال سياسي مستمر ضد كل الأنظمة والبنى المرسخة للهيمنة والاستغلال واللامساواة واللاعدالة، وبهذا المعنى هي ليست حكرًا على النساء، كما تشير قرامي[47]، فإنه لا بد أن نعمل كأكاديميات على أشكلة قضايانا، ومفهمة مكوناتها، وإبراز ترابطاتها، والاعتناء بالأبعاد المعرفية والأخلاقية والتفاعلية مع المجتمع، وتشغيل مقارباتنا الأنثوية في مختلف المجالات والتخصصات، وإعلاء شأنها، والعناية بالتسميات اللغوية ودلالاتها، وتشغيل الحس النقدي، وإعمال التفكير السياقي، والإصغاء جيدًا إلى الفئات المهمشة، وهذا ما يرفع مستوى الخطاب النسوي العربي. يكفي أن نكف عن احتساب أرقام من وصلن إلى مراكز القرار الذكوري المتوحش، وأن نصغي جيدًا إلى تجارب النساء في الأوضاع الصعبة، ونحلل السرديات التي ستتناهى إلينا، ونتعلّم منها ونضفي عليها معاني جديدة. وإلا سنبقى أمام خطاب نسوي ببغائي تغيـب عنـه القضايـا الوطنيـة، أفقـي، مجـزأ، مفتـت، وأطروحاتـه مفردنـة، وعنيفـة، وخائفـة مـن نفسـها ومـن هويتهـا، ومخيفـة للآخرين المتمترسـين فـي ماضيهـم؛ خطـاب لحظـوي سـمته احتقـار الماضـي، والقلـق مـن المسـتقبل؛ في مـا يشـبه مرحلـة اللايقين التي نجتاز.

كتب ذات صلة:

غزة: بحث في استشهادها

المرأة والفن والإعلام: من التنميط إلى التغيير

الاستثمار في الإعلام وتحديات المسؤولية الاجتماعية (النموذج اللبناني)