مقدمة:
لطالما كانت النخب عبر العديد من المجتمعات قائدة الرأي العام والمؤثرة فيه، وهي التي تشكّل اتجاهات هذا الرأي، وكذا توجهات المجتمع، إذ من المتعارف عليه أن من بين الشروط الضرورية لإقامة دولة مستقرة، هو الاهتمام بصياغة علاقة توافقية بين النخب المختلفة والدولة. فبقدر ما يحدث هناك تجانس في هذه العلاقة، يساهم ذلك في الحفاظ على الهدوء الاجتماعي والتقدم الاقتصادي وتوفير الأمن، وكذا فسح الفرص لكل أفراد المجتمع لتطوير إمكاناتهم البشرية بشكل كامل، في ظل وتيرة سلسة في التغيير بمفهومه الشامل.
لقد ساهم إخفاق النخب في الجزائر إلى اتساع الهوة بين المجتمع والدولة، وانحسار فضاء الممارسة الاجتماعية، وبالتالي بروز ملامح القطيعة بين المجتمع والدولة، التي أدت إلى حالة من الانكفاء على الذات أو ما يسمّيه علماء السوسيولوجيا «العزوف» لدى الكثير من أفراد المجتمع الجزائري. وتجلى ذلك العزوف من خلال غياب الثقة بالعمل السياسي، وفقدان الأمل بصلاح النخب الحاكمة والعامة. واقترن هذا العزوف باستلاب حضاري تجسّد في ازدواجية سلوك الفرد الجزائري، وما ترتب عليه من كسل فكري، وافتقار إلى مقوّم الحس الحضاري لدى الكثيرين.
يمكن القول إن الجزائر، كغيرها من دول العالم الثالث، التي تردّدت في حسم التوافق المجتمعي حول الرؤية للأنا وللعالم، تقدم نموذجاً واضحاً للتحول عن الغرامشية التقليدية المتمركزة حول الدولة، وحتمية الهيمنة النخبوية، إلى النيوغرامشية التي تأخذ بعين الاعتبار تدفق الولاءات النخبوية عبر الحدود، واستعصاء بناء التوافقات في ظل تراجع خطاب الهيمنة النخبوي لصالح صدام مزمن للخطابات النخبوية. يفسر ذلك، إلى حدّ ما، لماذا لم تؤسس بعد، بشكل فعلي وجدّي، لمجتمع تقوده نخب عصرية، مجتمع يقوم على فلسفة وقواعد المواطنة، مجتمع يقوم على التعدد والتنوّع، وفي الوقت نفسه إخضاع هذا التنوّع لقواعد تحظى باتفاق، ولو نسبي، من بين النخب المتنافسة في المجتمع، بما يحدد دورها ومكانتها في إطار النسق العام الذي تتحدد في إطاره أساليب الارتقاء والحراك الاجتماعي؟
في ضوء ما تقدم، سنحاول أن نثير إشكالية إخفاق النخب الجزائرية، وسبل تفعيلها، بما يساهم في بلورة توجه توافقي لمواجهة التحديات المتنامية التي يواجهها هذا البلد.
أولاً: النخبة، والسلطة، وبناء الدولة الجزائرية
عرفت المراحل الأولى للاستقلال حتى بداية عهد التعددية الحزبية في بداية تسعينيات القرن الماضي، هيمنة واضحة في ما يتعلق بجهود بناء الدولة الجزائرية من خلال تدخل السلطة في تشكيل النخب وزجّها في معركة البناء والتشييد بطريقة تسمح بتعزيز تلك السلطة أكثر من توفير الأجواء لتلك النخب للقيام بأدوارها التاريخية.
1 – مراحل إنتاج وتشكُّل النخب في الجزائر
رغم الصدمة الاستعمارية، ومعها ظاهرة الازدواجية والاغتراب، عرفت مرحلة الاحتلال الفرنسي للجزائر بروز العديد من النخب، هذا إضافة إلى النخب التي كانت قائمة قبل مجيئه. وقد أدت هذه النخب أدواراً عديدة في مقاومة سياسة المستعمر وممارساته، ولا سيَّما أن الإدارة الاستعمارية كانت تمثل بالنسبة إلى فئات واسعة من الشعب الجزائري رمزاً للعنف والغطرسة، الأمر الذي دفعها إلى المقاومة. فقد تعدّدت النخب السياسية والثقافية والدينية التي ساهمت في بناء ثقافة المقاومة والرفض للنسق الاستعماري. وهكذا استطاع المجتمع الجزائري أن يعيد بناء أطر هويته السياسية والثقافية والحضارية بواسطة استراتيجية محددة في المقاومة والاحتجاج، وهي إستراتيجية تراوحت توجهاتها وتشعباتها بين الإصلاح والاندماج والثورة، وذلك خارج دائرة الفضاء السياسي والاقتصادي والثقافي لدولة المحتل الفرنسي. وعلى العموم، تميّزت فترة الاحتلال بتنوّع وغنى في إنتاج النخب، وهي النخب التي أفضى نشاطها إلى بروز إحدى كبريات حركات التحرر الوطني في العالم الثالث خلال القرن العشرين.
تميّزت الفترة أو المرحلة الثانية من عملية إنتاج وتشكّل النخب في الجزائر، وهي فترة الأحادية الحزبية (1962 – 1989) بانتكاسة واضحة. فعلى الرغم من أن فترة الاحتلال الأجنبي شهدت تبلور حركة فعالة لتشكل النخب، وهي حركة عكست التوجهات السياسية والفكرية والأيديولوجية المختلفة للمجتمع الجزائري، وهو الوضع الذي كان يبشر بحركية هائلة ومتميّزة لهذه النخب لفترة ما بعد الاحتلال، إلا أن ذلك لم يتحقق. وقد جعلت فكرة توحيد الدولة الجزائرية، كفكرة شعبوية، النظام القائم يرفض الاعتراف، وحتى الوعي، بالاختلافات والتناقضات الاجتماعية والفكرية والسياسية، وبالتالي إعطاءها ترجمة سياسية مؤسسية، بل على العكس من ذلك، عمل على مقاومة كل من يحاول أن ينقد أو يعارض من منطلقات مختلفة، ونعته بأنه عدو للأمة والدولة الجزائرية. لقد اتجه النظام القائم إلى منع أية حركة تجنيد للمجتمع قد تضيّق من مجال سلطته، وذلك بوضع حواجز أمام الحركات أو النخب التي تهدف إلى تحريك المجتمع.
أدت الفلسفة الشعبوية دوراً لا يستهان به في تضييق الخناق على معظم النخب، وبالتالي غلق العديد من قنوات التعبير المنظّم والحر بهدف الدفاع عن المصالح المختلفة للمجتمع الجزائري. وقد دفع هذا الوضع إلى بروز مفارقة واضحة بين النصوص التي شدّدت على التعددية الاجتماعية للشعب الجزائري، وواقع الفعل، حيث لم تتم ترجمة تلك النصوص إلى تعددية سياسية واجتماعية فعلية عن طريق فسح المجال أمام نشاط نخب سياسية واجتماعية وثقافية مستقلة[1].
ولمنع بروز نخب مستقلة، أدت النخبة الحاكمة دوراً مهماً في جعل حزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الوحيد في الدولة، بمنزلة الوعاء الذي تصبّ فيه مختلف التنظيمات الاجتماعية، بهدف الدفاع عن سياسة الدولة، وليس التعبير عن مصالح أعضائها بصورة مستقلة. وبحكم هذه المهمة التي تم إسنادها إلى حزب جبهة التحرير الوطني، ظلّ هذا الأخير في معظم المعارك الحاسمة التي عرفتها الجزائر رديفاً تاماً ومكملاً للنخبة الحاكمة ذات الجذور العسكرية والبيروقراطية. لقد عجز هذا الحزب عن أن يبلور مشروعاً مجتمعياً حديثاً لبناء الدولة الحديثة التي تقوم على فصل السلطات، وإرساء بنية سياسية ديمقراطية تتجاوز انقسامات المجتمع التقليدي، الفئوية منها والجهوية[2].
يحسن بنا التذكير، ونحن بصدد الحديث عن واقع النخب في الجزائر في فترة ما قبل التعددية السياسية، وجود ثنائية غير متجانسة في بنية هذه النخب. فإلى جانب تشكّل نخب رسمية، أي النخب التي حظيت باعتراف ودعم من قبل النسق السياسي القائم، تشكّلت، في مقابل ذلك، نخب أخرى غير رسمية لجأت إلى التعبير عن نفسها خارج هذا النسق نفسه. إن هشاشة النخب الرسمية، وعدم قدرتها على الامتداد الحقيقي داخل المجتمع، سواء تعلق الأمر بنخبة حزب جبهة التحرير الوطني، أو مختلف النخب التي كان عمادها المنظمات الجماهيرية الرسمية، دفع بالعديد من النخب والفئات الاجتماعية إلى تنظيم نفسها خارج دائرة الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تتحكّم فيه الدولة، والقصد هنا النخب التي شكّلت نواة الحركة الإسلامية، والحركة البربرية، وبعض فلول الحركة اليسارية.
ومن المفارقات المهمة التي يمكن تثبيتها من خلال التعرّض لواقع النخب في الجزائر في مرحلة ما قبل التعددية، أن مرحلة ما بعد الاستعمار أعادت إنتاج الوضع نفسه الذي مَيَّزَ نشاط النخب الجزائرية خلال مرحلة الاحتلال، أي أن هذه المؤسسات لم تتوقف عن العمل، لكنها عادت إلى العمل خارج إطار الفضاء السياسي الذي تحكمه الدولة، أي أنها عادت إلى وضع طبيعي مميز لها خلال المرحلة الاستعمارية.
2 – مظاهر هيمنة السلطة على تشكّل النخب في الجزائر
في واقع الأمر، أثرت عملية وكيفية بناء الدولة في الجزائر منذ الاستقلال، في إنتاج النخب وديناميتها. ولقد كان لهذا البناء انعكاسات وتداعيات سلبية على العملية برمّتها، إذ أفضت طريقة بناء الدولة إلى طمس النخب أكثر مما عملت على إنتاجها وتفعيلها. ويمكن تأكيد هذا الطرح من خلال فحص بعض الجوانب من هذه العملية، وعلى رأسها شخصية السلطة، ونمط التنمية المتّبع، وطبيعة وأهداف المنظومة التربوية.
أ – شخصية السلطة
في ما يخصّ شخصية السلطة، فإن أهم ما ميّزها هو هيمنة العقل السياسي العسكري عليها، إذ صاحب هذه الهيمنة رغبة عارمة في السيطرة على الساحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، وسحق معظم النخب وروافدها من أحزاب سياسية، ونقابات، وصحافة حرّة، ولا سيَّما أن الجسم المجتمعي ظلّ في نظر الفئة العسكرية البيروقراطية النافذة، في حالة عدم تشكّل واضح، أي بمنزلة كتلة صمّاء تخضع للتشكيل وإعادة التشكيل بالأوامر والقرارات والتشريعات التي تساهم هذه الفئة المسيطرة على جهاز الدولة في صياغتها. لقد ساهم العقل السياسي العسكري، بطبيعته الأبوية، في تشويه وتشويش عملية بناء الدولة، وعلى رأسها إرساء ما يُعرف في الفكر الحقوقي بدولة القانون والحريات[3].
ب – الخيارات الاقتصادية
أدت الخيارات الاقتصادية بدورها إلى الاعتماد على فئة من التكنوقراطيين بهدف الإشراف على تطبيق المشروع التنموي الطموح الذي تبنّته النخبة الحاكمة. إلا أن المصالح النخبوية للفئات التكنوقراطية المتحالفة مع البيروقراطية أفضت إلى قلب موازين الخيارات التنموية. فعوض أن يتم بناء دولة حديثة ومتقدمة، تم تحقيق ما يسمّى رأسمالية الدولة، وبالتالي إفراغ المشروع التنموي من محتواه الحقيقي الذي يخدم المجتمع ككلّ لصالح النخبة السياسية الحاكمة التي أصبحت تتحكّم في الريع النفطي. لقد برر هذا الوضع حرص هذه النخبة واستمرارها في استخدام وسائل القمع ضد أية حركة أو قوة اجتماعية معارضة من شأنها طرح مشروعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي قد ينافس ويهدد المصالح الاقتصادية لهذه النخبة[4].
ج – المنظومة التربوية
لم تحظ المنظومة التربوية كجزء محوري في المسألة الثقافية بمتابعة جدّية من قبل النخبة الحاكمة. ففي الوقت الذي تولي فيه الأمم والدول الجادّة والمدركة لمكانة هذا الجانب أهمية بالغة، حيث تسعى إلى جعل المسألة الثقافية كأساس لوحدتها، ومنطلق لتحرّرها، وتجنّب تحويلها إلى بؤرة توتر اجتماعي وتوظيف أيديولوجي وتكريس للتبعية والتخلّف، فإنه ضمن الحالة الجزائرية يلاحظ غياب الإرادة السياسية، وغياب الاتفاق بين زمر النخبة الحاكمة حول مرجعية وفلسفة صارمة لبناء المنظومة التربوية، وهو ما انعكس سلباً على بناء هذه المنظومة. وقد أدى هذا الإخفاق إلى بروز تناقضات ثقافية واجتماعية خطيرة، لعل أبرزها عدم الفصل بشكل نهائي في أهم أبجديات وأسس الهوية الوطنية، مثل اللغة والثقافة، بعد مرور عدة عقود من الاستقلال، وبالتالي عدم تحقيق الاندماج الثقافي والاجتماعي داخل المجتمع الجزائري[5].
من جهة أخرى، ارتكز النظام التعليمي على فلسفة امتازت بمقاربتين خطيرتين، أدّتا في المحصّلة إلى كل ما يمكن أن يساهم في بروز مثقف عضوي مستقلّ بالتعبير الغرامشي، في الجزائر. تمثلت المقاربة الأولى بالربط بين العلم والتنمية، أي أن المخرج المباشر للسلطة الحاكمة هو خدمة متطلبات التنمية، وهذا التوجّه ترتبت عليه أولوية المواد العلمية على المواد الإنسانية، وما يعنيه ذلك من تشكيل لمنظومة علمية تقنية تخرّج تقنيين، لكن لا تكوّن مثقفين. أما المقاربة الثانية، فقامت بالربط بين التعليم والترقية الاجتماعية في جانبها المادي.
3 – في الأسباب النخبوية لإخفاق عمليات بناء الدولة الجزائرية
إذا تمعنّا بدقة في ظاهرة الإخفاق التي ميّزت عملية بناء الدولة، فإن ذلك يفضي إلى تثبيت ملاحظة جوهرية، وهي أن عملية البناء هذه كان يتعيّن أن تمر عبر قناة معيّنة، وهي قناة التعايش والتنافس السلمي بين السلطة الحاكمة وبقية النخب الأخرى في المجتمع، بحكم الدور الحاسم الذي تضطلع به هذه النخب، من خلال ضغطها على الطبقة الحاكمة، بممارسة الحكم على أساس أغلبية سياسية حزبية يحترم فيه مبدأ تداول السلطة ودولة القانون وحقوق المواطن. إن الإخفاق الذي عرفته هذه القناة يعدّ عنصراً محورياً مسؤولاً عن ترهّل شرعية النظام الحاكم وإفلاسه، وهو الإفلاس الذي وصل إلى مستوى خطير خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، وأكدته انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 1988 المأساوية. وهنا يمكن أن أؤكد صحة الفرضية التي مفادها أن تهميش العديد من النخب في الجزائر يعدّ تفسيراً منطقياً لمجموعة من التوترات السياسية والاجتماعية التي عرفتها الجزائر منذ مجيء الاستقلال.
وقد أدى إخفاق السلطة الحاكمة في مهمتها المتعلقة ببناء الدولة، وهو الإخفاق الذي تزامن مع فشل في بناء علاقة تكاملية تنافسية وتعايشية مع العديد من النخب التي لا تقاسم السلطة التوجهات نفسها، إلى فتح المجال أمام بروز ملامح مرحلة جديدة من مراحل إنتاج وتشكّل النخب في الجزائر، هي مرحلة إذعان النظام الحاكم للقوة المتنامية التي اكتسبتها بعض النخب الصاعدة، خاصة نخب الحركة الإسلامية. وعليه، تم إقرار التعددية السياسية بمقتضى دستور شباط/فبراير 1989، حيث تم فسح مجال النشاط الاجتماعي والسياسي العلني أمام العديد من النخب التي كانت تنشط في الخفاء قبل إقرار التعددية. ومن ضمن الملامح التي ميزت عملية إنتاج وتشكّل النخب في الجزائر في مرحلة الانفتاح السياسي، إتاحة فرصة المشاركة السياسية لمختلف النخب والقوى والجماعات والأفراد للتنافس، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع كوسيلة محايدة لتحديد الأوزان النسبية للمتنافسين في إطار ديمقراطي. لقد أفضى المناخ الجديد إلى بروز حركية نخبوية نشيطة، ما دفع بالعديد من المحللين السياسيين المهتمين بالتطورات السياسية في الجزائر، إلى اعتبار هذا البلد نموذجاً ديمقراطياً جارفاً، وبمنزلة ثورة ثانية تدشّنها الجزائر في أقل من ثلاثين عاماً، ثورة من شأنها أن تضع هذا البلد في قلب المشهد الدولي من جديد. إلا أن هذا النموذج سرعان ما أصابه الضعف، ثم الانهيار التام، بفعل عدة عوامل تتعلق، بشكل خاص، بسلوك السلطة الحاكمة من جهة، وقصور بعض النخب من جهة ثانية.
إن الإقرار بالتعددية، وبرغم جوانبها الإيجابية، لم يكن لقناعة وإيمان النظام الحاكم في الجزائر بقيم ومزايا المشاركة السياسية والحرية، وفسح المجال أمام بروز وصعود نخب جديدة، بقدر ما عكس هروباً من أزمة صراع على مستوى التيارات والتوجهات والمصالح المختلفة الممثلة ضمن العلبة السوداء، أي النظام السياسي. ويمكن الاستدلال على صحة هذا الطرح بغياب الإرادة السياسية الحقيقية لمواصلة الإصلاحات التي باشرتها الجزائر إلى نهايتها، وهو الغياب الذي تأكد من خلال عدم اعتماد ما يمكن أن نطلق عليه تسمية «العقد الوطني» أو «الاتفاق الوطني» الذي يحمي تجربة التعددية والانفتاح على المجتمع بنخبه المختلفة.
إن تحميل النظام الحاكم وحده مسؤولية الفشل في بناء علاقة تكاملية بين الدولة ومعظم النخب، في ظل عملية انفتاحه مع بداية إقرار التعددية، يُعدّ أمراً غير مقبول، من وجهة نظر التحليل العلمي المتزن. فعلى الرغم من أن النظام الحاكم يتحمّل الجانب الأكبر من هذه المسؤولية، إلا أن العديد من النخب، بدورها، تتحمّل جانباً من هذه المسؤولية. فالتناقض الكبير في توجّهاتها، وتغليبها منطق المصالح الضيّقة، وكذلك الجمود الفكري الذي لازم بعضها، إضافة إلى الراديكالية التي ميّزت مواقف بعضها تجاه البعض الآخر، واعتمادها سياسة نفي الآخر عوض اعتمادها سياسة ومنهجية التحالفات؛ كلها عوامل ساهمت في إضعافها وإخفاقها. وعليه، ساهمت بشكل إرادي وغير إرادي في تهيئة الظروف للانقلاب على بعض المكاسب التي حققتها بعد إقرار التعدّدية.
لقد أكد الانقلاب على تجربة التعددية التي خاضتها الجزائر بعد توقيف المسار الانتخابي مع بداية عام 1992، أن عملية التفاوض على التغيير بين السلطة الحاكمة والعديد من النخب في الجزائر ما زالت طويلة. فالتعددية لم ينتج منها تحوّل جذري في النظام السياسي للسلطة في الجزائر، بقدر ما نتج منها تحوّل على مستوى جهاز الحكم فقط، إذ أكد ذلك الانقلاب أن الماسكين بالسلطة في الجزائر يمكن أن يقبلوا بكل التنازلات التي لا تؤدي في النهاية إلى فرض مبدأ التداول على السلطة. فبمجرد أن يتأكدوا من أن التنازلات المتراكمة ستؤدي في لحظة تاريخية ما إلى انسحابهم من السلطة، فإنهم يصبحون مستعدّين لكل الاحتمالات، حتى ولو اقتضى الأمر الانقلاب على القوانين والإصلاحات التي باشروها بأنفسهم، وذلك في حالة بروز ملامح تؤدي إلى فرض نخب منافسة لمنطقها وإرادتها.
لقد أفضت عملية التفاوض على التغيير بين السلطة الحاكمة والنخب الحاملة إلى رؤى بديلة بتفوق الطرف الأول، وذلك في المرحلة التي أعقبت مراجعة التعددية السياسية ابتداء من عام 1992. لكن ذلك أدى إلى حدوث أزمة حادّة، شملت آثارها، ليس فقط مجال النخب، بل امتدت إلى نظام الحكم الذي أصابه ضعف مزمن، وهو الضعف الذي ظلت تؤكده منهجية معالجته لمجمل الأزمات التي واجهته، والتي انحصرت بشكل لافت في استخدام مكثف لمنطق العلاج الأمني، وهو المنطق الذي تلجأ إليه الأنظمة التسلطية في لحظات إفلاسها.
4 – التشديد على خطة المركز والمحيط لمقاربة العلاقة بين السلطة والنخبة
يفضي التعمق في تحليل أسباب الأزمة التي ظلت تلازم الجزائر منذ عام 1992، إلى التأكيد أن من أهم تلك الأسباب غياب التفاوض الجدّي بين السلطة الحاكمة والنخب الحاملة لرؤى بديلة، بفعل التضييق الذي تمّت ممارسته عليها، وهو التضييق الذي تجلى من خلال عوامل عديدة، كانغلاق النظام السياسي على نفسه من جديد، وسلوك النخبة الحاكمة للممارسات الأبوية، كما كان الأمر قبل إقرار التعددية، ولجوئها إلى دعم أسلوب التعبئة بدل المشاركة. وعليه، تم التمهيد لإحياء ظاهرة ميّزت سلوك النخب، ألا وهي ظاهرة تحول هذه النخب إلى كيانات حاملة لعناصر العزوف، والإحباط، وحتى الحقد.
إذا أخذنا، على سبيل المثال وليس الحصر، علاقة المثقف بالسلطة، كمنظومة قيادة وتسيير للمجتمع، فقد تم استبعاد المثقفين من المواقع التي تسمح لهذه النخبة من المشاركة في صياغة الرؤية والتخطيط والاستشراف واتخاذ القرار، وإن حدث وتم تقريب المثقف، فلا يسمح له بأكثر من دور الموظف التابع المطبق للأوامر، والمنفّذ لرؤى السلطة، والمحسّن لخطابها السياسي. فبدل الاستعانة بالنخبة المثقفة، وجعلها شريكاً في التخطيط والرؤية، وتقديم البدائل التي تساعد على اتخاذ القرار، يتم اللجوء إليها بشكل براغماتي عند حدوث الأزمات. ولقد ترتب على هذا الوضع نوع من الازدراء المتبادل بينهما. كما أفرز حالة أصبح بمقتضاها الكثير من المثقفين التابعين للسلطة يسعون إلى نيل رضاها ليتفادوا التهميش. وعليه، يمكن، من خلال إفرازات الوضع السالف، فهم حالة الازدواجية التي تعيشها النخبة المثقفة في الجزائر، والتي من أبرز ملامحها الانفصام بين القول والعمل أو بين الفكر والممارسة.
وفي واقع الأمر، فإن العشريتين الماضيتين عرفتا وضعاً اجتماعياً خاصاً زاد الأمر تعقيداً. لقد انفلت المجتمع الجزائري من العديد من الأنظمة والقيم المعيارية والمثاليات التقليدية المتعارف عليها، كاحترام الحدود الاجتماعية، واحترام المقامات، أي احترام الآخر، وتقديس العمل، وتثمين الكسب المشروع، واحترام الأخلاق الفاضلة والعمل بها. فالوضع السالف الذكر جعل من المثقف عاجزاً عن مسايرته في مجتمع يسخر من الثقافة التي يرى فيها فلسفة دون جدوى، فالقاعدة الاجتماعية الأكثر حضوراً هي «أريده فاهماً وذكياً، ولو كان أمياً، ولا يهمني إن كان متعلماً ويتفلسف»[6].
وما يُلاحظ ضمن الحالة الجزائرية هو تخلّي السلطة الحاكمة عن دورها الرمزي، إذ من المتعارف عليه أن لكل سلطة إطاراً فكرياً أيديولوجياً تبرر به مشروعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فمنذ انقضاء عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، لم تعُد السلطة الحاكمة تشعر بضرورة الإقناع من خلال عالم الأفكار عند تعاطيها مع المجتمع، وتمّت الاستعاضة من التعبئة والتجنيد الفكري بالقمع والإغراء، وأضحت ظاهرة رشوة النخب والفئات الاجتماعية الفاعلة من الممارسات السائدة. ورغم ادّعاء السلطة الحاكمة حالياً أن توجّهها ليبرالي، فهو في واقع الأمر توجّه سلطوي يتم بمقتضاه السيطرة على مفاصل الدولة باستعمال القمع والإغراء من دون تأصيل فكري وأيديولوجي.
ثانياً: النخبة في الجزائر والتغيير السياسي
بعد أن اشتركت النخبة الجزائرية مع السلطة الحاكمة في بناء الدولة الجزائرية، وما تخللها من علاقات فتور بين الطرفين، كان لا بد للأوضاع السياسية في الجزائر من أن تعرف منحى آخر على غرار ما حدث في باقي الأقطار العربية. هذا المنحى غيّر من اهتمامات النخب من مجرد ديكور سياسي لإضفاء شرعية النظام الحاكم، في إطار استراتيجية البناء الوطني، إلى فاعل حقيقي على مستوى العملية السياسية بشكل يضمن تغييراً سياسياً يسمح بإعادة تشكيل الخارطة السياسية في الجزائر. وفي هذا الإطار، تنبع الانشغالات حول الدور والموقف الذي تميّزت به النخب الجزائرية تجاه قضايا التغيير السياسي، وخاصة في إطار ما يسمّى «انتفاضات الربيع العربي».
1 – موقف النخب الجزائرية من قضايا الانتقال الديمقراطي
ينطبق دور النخب في التنمية السياسية على مفهوم الاندماج في هيئة اجتماعية تعيّن لها النشاطات والوظائف التي ينبغي أداؤها، ويتحدّد دور النخبة من خلال درجة اندماجها في المجتمع الذي تـكـون فيه، ويمثل الاندماج والتكامل المجتمعي الجزء الأكبر من الدور التنموي للنخبة بشكل عام، والسياسي منها بشكل خاص، إذ تقوم النخبة بأداء وظيفة تحقيق التكامل والاندماج بين الآراء السياسية والاتجاهات لمعظم القوى داخل المجتمع، بمختلف أنماطها وتأثيراتـــها، بهدف تحقيق استقرار المجتمع وثبات استمرارية أنماط العلاقات البينية بين مؤسساته المختلفة. ويتوقف مستوى نجاح النخبة في أداء هذا الجزء من الدور على مستوى اندماجها بذاتها مع مؤسسات وبنى المجتمع الأخرى.
يحصي تراث ما يسمّى «علم الانتقال» أطروحة مركزية تقدّم تفسيراً دقيقاً باعتماد متغيّر النخبة السياسية، لا لعملية الانتقال الديمقراطي وحسب، بل لترسيخ واستقرار الديمقراطية كذلك، حيث إن الانتقالات والانهيارات الديمقراطية يمكن أن تفهم بشكل أفضل من خلال الاستمرار والتغيّر في العلاقات الداخلية للنخبة الوطنية، بدل التركيز على الطبيعة الاحتمالية وغير المتوقعة للخيارات النخبوية. فالنخبة الوطنية الموحدة بالتراضي، حسبهم، وهي نادرة تاريخياً، تنشئ نظاماً سياسياً مستقراً يمكن أن يتطور إلى ديمقراطية حديثة، كما في السويد، وبريطانيا، والولايات المتحدة، وتتشكل النخبة الوطنية، بحسب هذه الأطروحة، من مجموع الأشخاص القادرين، بحكم مواقعهم في السلطة ومختلف المنظمات والحركات، على التأثير في مخرجات السياسة الوطنية جوهرياً وبانتظام، التي تكون موحّدة حين يحصل الإجماع بين أعضائها على قواعد وإجراءات العمل السياسي، وصولاً إلى تحزب مقيد، وكذلك حين يشاركون في هيكل متكامل للتفاعل يتيح التواصل الموثوق نسبياً والفعال بين بعضهم البعض، ومع صناع القرار الأكثر مركزية. هذا التوافق على قواعد العمل السياسي القائم على التفاعل الشامل لأطياف النخبة هو براغماتي يأتي نتيجة لتقديرها أن السياسة، كمساومة وتنافس على أساس حاصل إيجابي، هي أفضل من الصراع الصفري المقترن بالخوف وهاجس الخسارة. فاللجوء إلى وسائل العنف والإكراه ممكن في غياب الضوابط، وكون الخاسر يخسر كل شيء[7].
عند الانتقال إلى الحالة الجزائرية، نجد أنه بسبب العديد من العوامل الذاتية التي تخصّ بنية النخب وسلوكاتها ووزنها داخل النظام السياسي، إلى جانب عوامل موضوعية أخرى تتعلق بمنظومة التحول الديمقراطي في الجزائر وتجربتها القصيرة والمعقّدة، يمكن القول إن النخب في الجزائر لم تتخذ مواقف واضحة من عملية الانتقال الديمقراطي، ولم تدعم المساعي لاختراق السلطة الحاكمة، ويمكن إرجاع أهم الأسباب وراء ذلك إلى[8]:
- ضعف المبادرة السياسية بوضع مشاريع كفيلة باستيعاب تعقد العملية السياسية.
- غياب التنسيق للمواقف والجهود بين أقطاب النخب.
- قلة تواصل النخب مع جماهير الشعب.
- عدم التزام النخب بالديمقراطية كقواعد تحكم تنظيماتها.
تُعتبر النخب التي من المفروض أنها صاحبة المصلحة والمسؤولية عن إيجاد حركية سياسية مفضية إلى الانتقال الديمقراطي، ورغم ما تظهره من مؤشرات إيجابية على مستوى المواقف المعلنة، ولأسباب موضوعية وذاتية، محدودةَ الفعل والتأثير السياسي، الأمر الذي يجعلها غير قادرة إلى حدّ الآن على الاضطلاع بدور فعال في إقامة الديمقراطية.
2 – الفخ الأيديولوجي للنخبة والمجتمع في الجزائر
من أهم سمات المجتمع الجزائري ذلك الانقسام الصارخ إلى مجموعتين اثنتين، تتسم كل واحدة منهما بالانسجام الثقافي؛ الأولى تعيش وتفكر بحسب أنماط ومعايير الثقافة الغربية، ولا تتخيل إمكانية للحياة الفردية والاجتماعية خارجها؛ والثانية تنتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، ولا ترضى عنها أو تقبل منافساً لها. ولقد طغت هذه الازدواجية على كل الازدواجيات الأخرى وغطّتها، وأخذت في العقدين الأخيرين تتزايد حدّة وشدة لا سابق لهما، ووصلت إلى درجة من العمق والاتساع والتأثير، بحيث صار عندها الانسجام والتماسك الاجتماعيان في خطر، فكل فئة من الفئتين المتنازعتين تفكّر وتعمل ليس فقط من أجل الهيمنة على المجتمع بكامله، ولكن أيضاً من أجل إقصاء الأخرى ومحوها من الخريطة.
وتشير كل الدلائل في الجزائر إلى وجود هذين المجتمعين التابعين لحضارتين اثنتين مختلفتين، وتعايش كلّ منهما مع الآخر، وبطبيعة الحال فإن كل واحدة من النخبتين المتعارضتين تعمل وتناضل من أجل الهيمنة على الجميع. غير أن ما يميّز هذه الممارسة، وما تنفرد به، هو أنها تستهدف إقصاء الأخرى ومحوها من الخريطة واستئصالها، وهذا الإقصاء يأخذ شكل طرد الآخر من المجموعة الوطنية. فالحداثيون يرمون بخصومهم في ظلمات التاريخ الذي ولى من دون رجعة، ويتكلفون النظر إليهم وكأنهم من بقايا الماضي السحيق. أما العروبيون، فهم يدفعون بمنافسيهم إلى جغرافيا أخرى غير الجغرافيا الجزائرية، ويعمدون إلى اعتبارهم وكأنهم مجرد امتداد لمجتمع آخر. وليس من الممكن والحالة هذه أن يرتبط الطرفان بحوار مهما كان نوعه، لأن كل طرف يعتمد ويتمسك بمسلمة تقول إن الوجود الشرعي له وحده دون سواه[9].
وليست هذه الازدواجية الأيديولوجية – التي تحمل أبعاداً سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية – التي تميّز الجزائر اليوم، هي وليدة الاستقلال، فعندما ننظر إلى تاريخ الجزائر نلاحظ بروز هذه الازدواجية مع الهجمة الاستعمارية الفرنسية عام 1830، إذ لا أثر لها، مثلاً، في المرحلة التركية التي امتدت إلى ثلاثة قرون. ولقد امتدت هذه الازدواجية منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، فعرفت الساحة النخبوية انقسامات حادة ابتداء من ثنائية حمدان خوجة – الأمير عبد القادر، حيث حمدان خوجة البرجوازي الحضري، المالك والتاجر والمثقف الذي كان أحد أعيان مدينة الجزائر البارزين، ومن القلائل الذين كانوا على دراية بالمجتمعات الأوروبية وبحضاراتها، وحتى بلغاتها، وقد اختار طريق المقاومة السياسية السلمية للاحتجاج والمطالبة. وقد أسس بصحبة بعض أعيان مدينة الجزائر «لجنة المغاربة» كمجموعة ضغط تسعى إلى المطالبة بحقوق الجزائريين. أما الأمير عبد القادر، فهو ينتمي إلى الأرستقراطية القبلية والدينية للجزائر العميقة، وهو مثقف ثقافة عربية إسلامية، وقد اختار طريق المقاومة المسلحة[10].
وقد امتدت هذه الازدواجية من خلال ثنائية فرحات عباس – عبد الحميد بن باديس، ثنائية المشروع الإسلامي والمشروع التحديثي الذي ينادي بهما قطبا المشهد النخبوي بعد الاستقلال في إطار منظمات سياسية أو مهنية معينة. وهو الأمر الذي نراه في مجال الأحزاب السياسية والمنابر الإعلامية والجمعيات الوطنية والمحلية، وفي أوساط المثقفين والكتّاب.
من أهم النتائج المترتبة على هذا الانقسام الأيديولوجي هي إغفال قضايا التغيير السياسي في إطار الأجندات السياسية للنخب لصالح النقاشات حول القضايا المبدئية التي تخصّ المجتمع الجزائري، والتي لم يحدث الوفاق بشأنها بسبب الشرخ غير القابل للجسر في مواقف النخب في كلا الأيديولوجيتين. وعليه، اتسمت النقاشات السياسية الكبرى بهذا الانقسام، الذي نذكر من أهمه[11]:
أ – الدين: يشدّد القطب الحداثي على إلزامية فصل الدين عن الدولة، وعدم توظيفه في الممارسات السياسية، ولا في مؤسسات الدولة وقوانينها. وعليه، يجب تطبيق العلمانية من خلال الاعتماد على القوانين الوضعية في مختلف المجالات والممارسات. أما القطب العروبي الإسلامي، فيرى أن الدين الإسلامي عنصر مهم وأساسي في تشكيل الشخصية الجزائرية، وعليه من الضروري ربط الدين بالدولة.
ب – اللغة: لقد مثلت اللغة موضوعاً خصباً للسجالات بين النخب الجزائرية بحكم أنها تعبّر عن مرجعية ثقافية معينة تكون لها إرهاصات على مستوى السياسات العامة للدولة، ونقطة الخلاف الرئيسية هي أولوية البعد العربي في تشكيل الهوية الوطنية الجزائرية، بحكم أن المجتمع الجزائري تتحكّم فيه ثلاث فرضيات أساسية بالنسبة إلى البعد اللغوي: أولاً، البعد الأمازيغي للمجتمع الجزائري على أساس أن الأغلبية العظمى من الشعب ذات أصل أمازيغي، حتى وإن تعرّبت شريحة كبيرة من القبائل الأمازيغية، كقبيلة كتامة مثلاً، وهو ما يحتّم الاهتمام باللغة الأمازيغية التي تمثل أصل المجتمع الجزائري؛ ثانياً، البعد العربي للجزائر خاصة، وعلاقة اللغة العربية بالإسلام دين التسامح؛ ثالثاً، البعد الفرنسي على أساس الجانب التاريخي للجزائر، إذ إن هناك من يرى أن اللغة الفرنسية غنيمة حرب. وبالنسبة إلى القطب الحداثي، فإن اللغة العربية تمثل أحد ثوابت الهوية الوطنية، لكن الاعتماد عليها بصورة مطلقة لا يساعد على الاحتكاك بمختلف العلوم والابتكارات العالمية، بسبب التأخر التاريخي الذي تعرّضت له.
من خلال ما سبق، يتبيّن أن النخب الجزائرية، في إطار نقاشاتها المصيرية حول المبادئ الكبرى التي تحكم الشعب الجزائري، لم تكن متوافقة في آرائها، بسبب تعنّت الأطراف المختلفة لمرجعيتها الأيديولوجية في معالجة الإشكالات المطروحة، وهو ما سبب نوعاً من عدم الاستقرار المعياري للمجتمع الجزائري. أما في ما يخصّ الانشغالات الأخرى والمتعلقة بالتغيير السياسي، فلم تكن من أولويات النخب الجزائرية التي وقعت في الفخ الأيديولوجي الذي أعماها عن الانشغالات الحقيقية للشباب، كالشغل، والسكن، ومحاربة الفساد…، فلم يكن الشغل الشاغل للنخب الجزائرية التأثير في السلطة الحاكمة من خلال قنوات حضارية تمنحها إياها خصوصيتها الثقافية داخل المجتمع، وإنما كان الانشغال الأول هو التعبير عن توجّهاتها الأيديولوجية التي ساهم النظام الحاكم في تأطيرها، فكيف لهذه النخب أن تفكّر في تغيير النظام الذي أوجدها. لقد احتدمت النقاشات الأيديولوجية بين أقطاب النخب الجزائرية إلى درجة أن أصبحت قضايا وجودية يمكن مقايضتها بالمهام التاريخية التي يمكن أن تقوم بها في كل المجتمعات.
3 – موقف النخب الجزائرية من الحراك الديمقراطي العربي
تتسم المعارضة في الجزائر بالضعف البنائي نتيجة التشتّت وغياب التنسيق والتكامل، لافتقادها عموماً لمشروع متكامل واستراتيجية واضحة للعمل، وهذا ما يمكن التحقق منه في أرض الواقع، إذ تكتفي في الغالب بردود الفعل إزاء مشاريع السلطة، كما وقع، مثلاً، مع التعديل الدستوري الأخير، والعهدة الثالثة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وتطلّ في المواعيد الانتخابية لتختفي في ما عداها من أوقات، وإن كان لهذه الوضعية تبريرها الموضوعي المرتبط بممارسة السلطة للتضييق والتعتيم عليها. وبالرغم من أن الانتقال إلى التعددية يرتبط من الناحية النظرية بالإقرار بإمكانية وشرعية المعارضة، وبالتالي انتهاء طابعها السرّي وأسلوب العنف الذي عرفت به في مرحلة الأحادية، الذي ظهر على سبيل المثال في أحداث الربيع الأمازيغي عام 1980، وفي انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 1988 التي تعتبر نقطة تحول في تاريخ الجزائر على كل الصعد، فإن وضع المعارضة في الواقع لم يتغير كثيراً، حيث إنها لم تجد، على ما يبدو، القنوات التي من المفروض أن تؤمنها التعددية للتعبير عن نفسها سلمياً، وسرعان ما عادت إلى العنف بعد الانقلاب العسكري على الشرعية الانتخابية في كانون الثاني/يناير 1992، ليعرف البلد صراعاً دموياً أو حرباً أهلية كما تعرف بحكم خسائرها البشرية والمادية[12].
لقد نجحت السلطة الحاكمة في الجزائر إلى حدّ بعيد في تدجين وترويض العديد من النخب (المثقفة، الاقتصادية، الدينية، العسكرية، الحزبية، الحكومية… إلخ)، تارة بالتهديد والوعيد، وتارة أخرى بالإغراء والترغيب، ولا سيَّما أنها تعتمد في استراتيجيتها التسلطية على النخبة السياسية إلى جانب نظيرتها العسكرية. ويظهر تغليب بعض هذه النخب لمصالحها الخاصة، وتورطها في فساد مالي وإداري وسياسي… الأمر الذي أسهم بشكل كبير في خلق فجوة بين السلطة السياسية الحاكمة من جهة، وأفراد المجتمع من جهة أخرى، وفرض استمرار الأوضاع السياسية على حالها، وهو الذي أفقد هذه النخب ثقة الجماهير، وولد شعوراً بالإحباط في أوساط الشعب الجزائري، فيما فضلت نخب أخرى الانكفاء على نفسها، والانزواء بعيداً[13].
لعل أهم ما ميّز الحراك العربي الذي تجري فصوله في أكثر من بلد عربي هو غياب البعد الأيديولوجي بجميع انتماءاته عن الحركة الثورية وشبابها، وهو ما سهّل نجاحها ووسّع نطاقها، فلم نر أثراً لهذا البعد في ميادين التحرير في مصر من خلال الشعارات المرفوعة، أو من قبل الجهات المنظمة التي كانت وراء هذا الحراك الشعبي، وهذا ما يفسر الإجماع الحاصل بين مختلف شرائح المجتمع على دعم هذه الثورات والمشاركة فيها.
لقد استغلّت أنظمة الحكم العربية عطش شعوبها إلى أنظمة وطنية بعد أن تخلّصت من سيطرة القوى الأجنبية، من خلال خلق نوع من الأصنام الأيديولوجية التي تهيمن على العمل السياسي، والتي تحدّ من حرية الشعوب في التعبير عن أفكارها، وفق مبدأ حرية المعتقد والرأي. أما في ما يتعلق بالنخب، فقد بقيت متقوقعة في بروجها الأيديولوجية، ولم تستطع أن تهبط إلى مستوى التوقعات البسيطة للشعوب العربية، وبقيت عند النقاشات الأيديولوجية الكلاسيكية البيزنطية التي لم ولن تعرف أي حلول بسبب الشرخ الأيديولوجي بين الأطراف النخبوية. وعلى هذا الأساس، وبالنظر إلى الفكر الثوري المعاصر، فقد وقعت النخب الجزائرية في ما يسمّى الفخ الأيديولوجي، الذي كان يمثل أحد أهم آليات التعبئة والنضال في إطار النظريات الثورية الكلاسيكية من الجيل الأول إلى الجيل الرابع، إلا أن الحراك العربي أنتج منطقاً ثورياً جديداً يبتعد من البعد الأيديولوجي نحو مساحات ذاتانية جديدة[14].
ويمكن الحديث عن موجة جديدة للفعل الثوري في إطار ما يسمّيه أنطونيو نيغري الصراع بين الإمبراطورية والتعدد بعيداً عن الذوات السياسية الكلاسيكية، كالأحزاب والنقابات وآلياتها الكلاسيكية التي من أهمها الأيديولوجيا[15]. إن الفعل الثوري اليوم لا بد من أن يعيد تعريف الفعل السياسي وذواته وأساليبه بشكل يمكّن من تحرير الشعوب من الأساليب الجديدة للتحكّم والسيطرة.
خاتمة
في ضوء ما تقدم، نخلص في النهاية إلى التشديد على ضرورة إعادة التفكير بجدّ في العلاقة بين السلطة الحاكمة والنخب الحاملة لرؤى بديلة، عن طريق إشراكها بما يحقق تكاملاً وتعايشاً وانسجاماً بينها وبين السلطة الحاكمة، ولا سيما في ظل التحديات العديدة التي تواجهها الجزائر حالياً، ومنها عدم فعالية نشاط الدولة، وعدم جدّية مؤسساتها في الوصول إلى الشرائح الاجتماعية الأكثر ضعفاً وتهميشاً.
لقد مرت العلاقة بين النخب الجزائرية والسلطة الحاكمة بمراحل متعددة تمشياً مع تطور الحياة السياسية وآلياتها، لكنها كلها تعبّر عن علاقة هيمنة متعددة الصور والزوايا، لأسباب ذاتية تخصّ بنية النخب الضعيفة وتشكلها الهزيل، الأمر الذي أدى إلى عدم قدرتها على طرح بديل سياسي ومجتمعي مقبول، وأسباب موضوعية تدور كلها حول سلوك السلطة الحاكمة تجاه هذه النخب، وما ميّزه اتجاه عام نحو تبني آلية الجزرة والعصا، أي ترغيب وترهيب النخب بما يتناسب والمشروع المجتمعي للسلطة الحاكمة القاضي بالهيمنة وعدم إشراك الفعاليات الوطنية القادرة على طرح الأفكار والسعي إلى التغيير. على هذا الأساس، تجلّت علاقة ميكانيكية تربط بين مركز مهيمن على كل القرارات الحاسمة والخيارات الاستراتيجية للمجتمع والدولة، وبين محيط يؤدي دور الديكور السياسي الذي لا بد من وجوده لإضفاء نوع من الشرعية السياسية والمجتمعية على النظام السياسي.
لقد كانت العلاقة بين السلطة والنخب والأيديولوجيا علاقة متداخلة تخدم في معظم الأحيان أهداف السلطة ومشروعها، بحيث إن مرحلة ما قبل التعددية عرفت دوراً فعالاً ومحورياً للأيديولوجيا في الإحاطة بالنخب تحت نوع من الوصاية، في إطار مشروع السلطة الحاكمة، وفق شرعية البناء الوطني. وهكذا لم تستطع النخب إلا أن تجد نفسها جزءاً من النظام، أو في مرحلة التعددية، وظهور آفاق جديدة نحو التغيير السياسي. فقد أدت الأيديولوجيا دوراً آخر يتناسب مع هذه المرحلة، بحيث إن السلطة الحاكمة، من خلال العديد من الآليات القانونية والسياسية، ونظراً إلى ظروف تاريخية عاشتها النخب نفسها، سقطت مع هذه النخب في الفخ الأيديولوجي، الذي ما فتئ أن أصبح سبب وجودها وحدّد سلوكها، وبهذا تهاوت كل آمال التغيير من خلال هذه النخب، بسبب سعيها الدؤوب إلى إثبات تفوقها الأيديولوجي على حساب مساعي التغيير السياسي الهادف.
لقد أدى غياب المشروع المجتمعي إلى اختلال في سلّم القيم والمعايير التي تحكم الاتفاق النسبي للأفراد والجماعات. ويتجلى هذا الاختلال القيمي بحدّة في الإطار المرجعي، الذي يمثل قاعدة مقبولة لبلورة نمــاذج وأنماط للسلوك والعلاقات، وصولاً إلى تدهور قيم العمل، والوقت، والأداء، والفعـالية، والكفاءة…، وهي عناصر أساسية لقيام مجتمع مؤسس على الاستغلال الرشيد لموارده البشرية والمادية. فحجم السكان، وشبابية المجتمع، واتساع المساحة في الجزائر، قد تصبح نقمة إذا لم تستغلّ بشكل جيد وعقلاني. وقد أدى غياب المشروع المجتمعي في الجزائر، كذلك، وبشكل واضح، إلى الفشل في تحديث المجتمع، وانعدمت قدرته على التفاعل ومواجهة التحديات والضغوط التي تفرضها التحولات المحلية والدولية التي تتسم بالتنوع والتجدد.
وتطرح آفاق العلاقة بين الدولة والنخب مشكلة مهمة، وهي أن هذه الآفاق مرتبطة أشد الارتباط بالتطورات التي سيشهدها نمط الحكم في الجزائر. وفي هذا الصدد يمكن القول إن الشكل التسلطي للدولة الجزائرية، كمعظم الأقطار العربية الأخرى، سيظل قائماً لسنوات عديدة لاحقة، وهذا ما يدفعنا إلى النظر إلى هذه الآفاق، ولا سيَّما في جانبها الإيجابي، بنوع من التردّد. إن بقاء هذا النمط التسلطي للحكم في الجزائر سيخلّف مشكلات عديدة للسلطة الحاكمة، وذلك في ظلّ تنام لقوى وفاعلين اجتماعيين جدد. من هنا، فإن تفعيل النخب والعمل على إشراكها في صناعة القرارات، بدل استشارتها مناسباتياً فقط، ستكون لهما آثار إيجابية في استقرار الدولة ذاتها.
قد يهمكم أيضاً المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الجزائر: إشكالية الدور
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الجزائر #النخب_في_الجزائر #الحكم_في_الزائر #النخب_الجزائرية #الحزب_الحاكم_في_الجزائر #الحراك_الجزائري #التغيير #الدولة_الجزائرية #حزب_جبهة_التحرير_الوطني #دراسات
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 430 في كانون الأول/ديسمبر 2014.
(**) مراد بن سعيد: أستاذ محاضر (أ)، قسم العلوم السياسية، جامعة باتنة – الجزائر.
(***) صالح زياني: مخبر الأمن في حوض المتوسط، إشكالية وحدة وتعدد المضامين، قسم العلوم السياسية، جامعة باتنة – الجزائر.
[1] Lahouari Addi, L’Impasse du Populisme, L’Algérie: Collectivité politique et Etat en construction (Alger: Entreprise Nationale du livre, 1990), pp. 102-107.
[2] Kamel Bouchama, Le FLN a-t-il Jamais en le Pouvoir, 1962-1992 (Alger: El-Maarifa éditions, 1997 ).
[3] Mohamed Tahar Ben Saâda, Le Régime Politique Algérien (Alger: Entreprise Nationale du Livre, 1992), pp. 30-32.
[4] عبد النـاصر جـابي وعلي الكنز، المجتمع والدولة في الوطن العربي في ظل السياسات الرأسمالية الجديدة (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1997)، ص 40 – 41.
[5] علي بن محمد، «بذور الفتنة القادمة وملامح الفشل الأكيد في الإصلاح التربوي المقترح،» الشروق اليومي، 17/2/2001، ص 5.
[6] حميد عبد القادر، «المثقف الجزائري يعيش الإحباط واليأس،» ندوة الخبر، 9/10/2013.
[7] زكرياء بوروني، «النخبة السياسية وإشكالية الانتقال الديمقراطي،» (رسالة ماجستير في العلوم السياسية، جامعة قسنطينة، 2009)، ص 134 – 135.
[8] المصدر نفسه، ص 216 – 217.
[9] أم الخير تومي، «ازدواجية النخبة في الجزائر: النخبة الإعلامية كمثال،» المستقبل العربي، السنة 32، العدد 374 (نيسان/أبريل 2010)، ص 66 – 68.
[10] جمال غريد، «الجزائر: ثنائية المجتمع وثنائية النخبة: الجذور التاريخية،» في: أحمد زايد، محرّر، النخب الاجتماعية: حالة الجزائر ومصر (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2005)، ص 72.
[11] تومي، المصدر نفسه، ص 77 – 81.
[12] بوروني، «النخبة السياسية وإشكالية الانتقال الديمقراطي،» ص 195.
[13] وصال العزاوي، «الثورات العربية واستحقاقات التغيير: دراسة تحليلية حول أسباب انهيار النظم السياسية،» قضايا سياسية، السنة 26، العدد 1 (2012)، ص 166.
[14] Sari Hanafi, «The Arab Revolutions: The Emergence of a New Political Subjectivity,» Contemporary Arab Affairs, vol. 5, no. 2 (2012), pp. 198-213.
[15] Mervat F. Hatem, «The Arab Spring Meets the Occupy Wall Street Movement: Examples of Changing Definitions of Citizenship in a Global World,» Journal of Civil Society, vol. 8, no. 4 (2012), pp. 401-415.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.