مقدمة

عرف العالم في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 عملية نوعية نفذتها عناصر المقاومة الفلسطينية في مستوطنات غلاف غزّة، في هجوم مباغت شنّته «كتائب القسّام» بتنسيق مع مجموعة من فصائل المقاومة في القطاع. أعادت هذه العملية، وما تلاها من رد فعل الاحتلال الإسرائيلي، القضيةَ الفلسطينيةَ إلى موقعها الأصلي على رأس الاهتمامات العربية والعالمية، بعد أن كانت أنظار العالم متوجِّهة نحو الحرب الروسية – الأوكرانية، وظنّ الكيان الإسرائيلي أنّ حملات التطبيع وربط علاقات دبلوماسية مع الكثير من الدول العربية ستنال من عزيمة الشعب الفلسطيني من المطالبة بحقه في تقرير مصيره بالوسائل كافة التي يكفلها له القانون الدولي والمواثيق الدولية.

حاولت إسرائيل استغلال هجوم 7 أكتوبر، أو ما سمَّته المقاومة عملية «طوفان الأقصى»، من أجل كسب التعاطف العالمي، وخصوصًا الغربي، واستثمار ذلك في ارتكاب مجازر شنيعة وجرائم حرب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة الذي يعيش أصلًا أوضاعًا كارثية. واستغلت إسرائيل العملية للطّعن في شرعية المقاومة الفلسطينية ومحاولة تصويرها للعالم على أنها تطرّف واستعمال غير مشروع للقوة.

أرادت إسرائيل تجاوز جميع المكتسبات القانونية التي راكمتها حركات المقاومة منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة، كالتوصية الرقم 1415 لعام 1960 والتوصية الرقم 2625 لعام 1970. أدى هذا الأمر إلى التصادم مع مجموعة من المواثيق الدولية، ومنها ما هو سابق لوجود الكيان الإسرائيلي، إذ تُعدّ مقاومة الاحتلال الأجنبي حقًا من الحقوق الطبيعية للشعوب، كحق الدفاع عن النفس، بل إن المقاومة وجه من أوجُه الدفاع الشرعي كما نصّ على ذلك ميثاق الأمم المتحدة، واعترفت بذلك قواعد القانون الدولي الإنساني التي منحت لحركات المقاومة المسلحة امتيازات مماثلة لعناصر الجيوش النظامية ومتّعتهم بالحقوق نفسها، مثلما تترتّب عليهم الواجبات نفسها؛ وهو ما يُثبت الاعتراف الدولي بحركات المقاومة كعنصر من عناصر النظام الدولي.

وعليه، تكمن أهمية هذه الدراسة في إبراز محاولات طمس الحق الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وخلطه بالإرهاب، والمساواة بين حركات المقاومة المعترف بشرعيتها وبحقها في حمل السلاح حتى تحقيق أهدافها، وأخرى متطرفة لها أهداف تخريبية لا شرعية لها.

تهدف هذه الدراسة إلى تبيان الحق المشروع للمقاومة الفلسطينية في استعمال السلاح لنيل استقلالها، بما في ذلك عملية «طوفان الأقصى»، والوقوف عند العوامل الجيوسياسية التي ساعدت على طمس حق المقاومة والتضييق عليها، وإلى أي مدى نجحت إسرائيل في النيل من الحقوق الشرعية للمقاومة الفلسطينية.

تبحث الدراسة في مدى تأثر المقاومة الفلسطينية بتهمة الإرهاب الموجهة إليها من طرف الكيان الاسرائيلي، وكيف يمكن التمييز بين أعمال المقاومة والإرهاب بناءً على قواعد القانون الدولي العام.

أولًا: موقف القانون الدولي من الشعوب المستعمَرة

لا جدال في أن القانون الدولي أعطى شعوب العالم الحق في العيش بكل حرية وسلام، ولعلّ ذلك يتجلى في باب المقاصد من ميثاق الأمم المتحدة، وخصوصًا الفقرة الثانية من المادة الأولى. هذه الحقوق التي اكتسبتها الشعوب بنضالاتها ضد القمع والاستعمار، لن تكون لها فعالية إن ظلّت حبيسة المواثيق من دون آليات تستطيع من خلالها نيْل حقوقها الطبيعية كاملة. أبرز تلك الآليات الكفاح المسلح الذي يعَدّ حقًا مشروعًا للشعوب المستعمَرة، بل على سائر الدول مساندة هذا الكفاح، وتقديم جميع أنواع الدعم له.

1 -حق الشعوب في تقرير مصيرها
كحق أصيل في القانون الدولي

تنص المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة في فقرتها الثانية على أنّ: «إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام»، إذ قرن الميثاق حق الشعوب في تقرير مصيرها بالتدابير التي يتم من خلالها تعزيز السلم الدولي أو العالمي. فتزامُن تأسيس منظمة الأمم المتحدة مع خضوع نصف العالم الجنوبي للاستعمار جعلها تمنح حقوقًا وامتيازات كثيرة لشعوب تلك الدول، من أجل تقرير مصيرها وتحقيق استقلالها.

رغم أن أحكام الميثاق جاءت واضحة في شأن حق الشعوب في تقرير مصيرها، فإن الغموض ظل يكتنف بعضًا من مواده التي تتعلق بالشعوب أو الأقاليم الخاضعة للوصاية أو غير المتمتعة بالحكم الذاتي، وخصوصًا المواد 11 و12 و13 الخاصة بنظام الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، التي تضعها تحت الوصاية، وتطبق على تلك الأقاليم سلطة إدارية صارمة قريبة من وضْع الاحتلال. وتبيَّن في التوصيات الخاصة بالجمعية العمومية، أنه تم تطوير حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتطبق خصيصًا على الأقاليم المستعمرة‏[1].

اكتسب هذا المبدأ أهمية كبيرة في القانون الدولي بعد التنصيص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، حيث لم تتوقف المنظمة عند الميثاق فقط بل سعت إلى ترسيخه من خلال الممارسة التي جعلت من هذا المبدأ حقًا قانونيًا، وكان أول مجال تحقق من خلاله الإقرار بحق تقرير المصير كمبدأ قانوني هو القضاء على الاحتلال. كما أصدرت الجمعية العامة بناءً على طلب من الاتحاد السوفياتي إعلان منح البلدان والشعوب المستعمرة استقلالها في 14/12/1960، في الدورة الخامسة عشرة، حيث تم إقرار ضرورة إنهاء الاحتلال بجميع مظاهره على الفور ومن دون شروط، وأن خضوع الشعوب للسيطرة والاستغلال الأجنبي يعدّ مخالفة لميثاق الأمم المتحدة، وعقبة في سبيل تنمية التعاون وتعزيز السلام العالمي‏[2].

عززت التوصية المذكورة مواد الميثاق الأممي بتكريس حق الشعوب في تقرير مصيرها بوسائل شتى، حيث أكدت منح الاستقلال للدول والشعوب القابعة تحت الاستعمار. ونقرأ في هذه التوصية: «إنّ إخضاع الشعوب للاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله يشكل إنكارًا لحقوق الإنسان الأساسية، ويناقض ميثاق الأمم المتحدة، ويعيق قضية السلم والتعاون العالميين، وإن لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها»‏[3].

جاء في السياق نفسه قرار الجمعية العامة الرقم 2625 الذي أعطى الشعوب حق معارضة السيطرة الأجنبية، وواجب كل دولة العمل، مشتركة مع غيرها أو منفردة، على تحقيق مبدأ تساوي الشعوب في حقوقها وحقها في تقرير مصيرها وفقًا لأحكام الميثاق، وإنهاء الاستعمار على وجه السرعة وفقًا لرغبة الشعوب المعنية بالأمر. كما نص القرار على مجموعة من المبادئ المتساوية بين الشعوب، أهمها الحق في تقرير مصيرها بنفسها، ومبدأ تساوي السيادة بين الدول، وامتناع الدول في علاقاتها الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة وعلى نحْو يتعارض مع مقاصد الأمم المتحدة‏[4].

تواصلت قرارات وتوصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دعم الشعوب الساعية إلى نيل استقلالها وعدم إنكار هذا الحق، إذ جاء في قرار الجمعية العامة الرقم 2649 الخاص بفلسطين وجنوب أفريقيا لعام 1970 أنّ الجمعية العامة: «إذ تؤكد أهمية التحقيق العالمي لحق الشعوب في تقرير المصير والإسراع في منح الاستقلال للشعوب والبلاد المستعمرة من أجل الضمان الفعَّال لحقوق الإنسان والتقيد بها… وتعتبر أنّ الاستيلاء على الأراضي والاحتفاظ بها خلافا لحق شعب تلك الأراضي في تقرير المصير؛ لا يمكن قبوله، ويشكل خرقًا فاحشًا للميثاق. وتدين تلك الحكومات التي تنكر حق تقرير المصير على الشعوب المعترف لها بذلك الحق، وخصوصًا شعوب أفريقيا الجنوبية وفلسطين…»‏[5].

تصطدم هذه الترسانة القانونية والمبادئ الأممية لحق الشعوب في تقرير مصيرها دائمًا بتعنّت الدول، وخصوصًا تلك التي تعدّ نفسها خارج القانون الدولي، ولم تثنِ الدول الاستعمارية عن الاستمرار في ممارساتها الاستعمارية فالقرارات الصادرة ضد دول الاحتلال لا تغير من واقع الممارسة، بل في موازاة إنشاء الأمم المتحدة وبعدها بسنوات قليلة أُسست دولة استعمارية واغتُصب حق شعب بأكمله، حيث تم خلال سنة 1948 الاعتراف بـ«إسرائيل» وإعلانها كدولة، وتقسيم فلسطين إلى دولتين، الأولى أخذت حقوق غيرها، والثانية سُلبت جميع حقوقها.

رغم الاختلاف الأيديولوجي والصراع الذي كان حاصلًا بين قطبي الكرة الأرضية، حصلت «إسرائيل» على اعتراف القوتين العظميين (الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية) في وقت وجيز بعد إعلانها؛ إذ تعَدّ إسرائيل أول منتفع بحق النقض الفيتو في مجلس الأمن في انحياز واضح لمصلحتها، وقد عرف هذا التحيُّز والانتقاء في عمل المجلس أوجَه مع نهاية الحرب الباردة‏[6]. تعطينا هذه الممارسة التفضيلية لدولة محتلة الانطباع إلى أي مدى يمكن الاعتماد على المنظمة الأممية لانتزاع حقوق الدول المستعمَرة، وما تهمنا هنا هي دولة فلسطين.

لقد أدانت الجمعية العامة في 22/2/2001 أنشطة المصالح الأجنبية الاقتصادية وغيرها، التي تعرقل تنفيذ إعلان منح الاستقلال وتحرير الشعوب المحتلة، وتؤثر في مصالح شعوب الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي وغيرها. كما دعت الجمعية العامة في 4 آذار/مارس 2003 الدول إلى تنمية العلاقات الودية بين الدول المشار إليها في الميثاق، التي تقوم على احترام مبدأ المساواة في الحقوق بين الدول وحق تقرير المصير بين الشعوب، وأكدّت في المادة الأولى من هذا الإعلان تقديم الدعم اللازم إلى الشعب الفلسطيني للحصول على حق تقرير مصيره‏[7].

إذا كانت الدول الكبرى تتحايل على قواعد القانون الدولي وتخرقها بصورة صارخة في مناسبات جمة تكريسًا لسياسة الكيل بمكيالين، فتلك القواعد القانونية نفسها تمنح الشعوب المستضعفة استعمال جميع الوسائل من أجل الدفاع عن حقوقها. فحق تقرير المصير يُنفذ في ميدانين، أولهما سياسي يخضع لمنطق موازين القوة والعلاقات السياسية، وثانيهما قانوني حقوقي بشقيه المؤسسي والعسكري، وما تتمتع به حركات المقاومة من حرية حمل السلاح والترافع عن قضايا التحرر.

2 – شرعية حمْل حركات المقاومة السلاح

أصدرت محكمة العدل الدولية رأيًا بتاريخ 21 حزيران/يونيو 1971 أكدت من خلاله حق الشعوب في تقرير مصيرها، جاء فيه: «وبالنظر إلى التطورات التي وقعت في نصف القرن الأخير، ليس هناك شك في أن الغاية النهائية للأمانة المقدسة هي تقرير المصير والاستقلال للشعوب». نستنتج من ذلك أن لصاحب هذا الحق أن يتخذ تصرفًا فعّالًا من أجل الحصول عليه، وهو ما يدعم نظرية الحروب التحررية وحق الشعوب المستعمَرة استعادة أقاليمها المغتصبة بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح من خلال حركات التحرير الوطنية‏[8].

لقد تزامن الاستعمار مع حركة قمع كبيرة بمختلف الأراضي التي كانت خاضعة للاحتلال الأجنبي، سواء بالأقاليم الأفريقية أو الآسيوية. وقد لجأت هذه الشعوب المستعمَرة والمضطهَدة إلى استخدام القوة في نضالها من أجل الحرية، حيث ساعدت انتفاضة هذه الشعوب على بروز مفهوم الشعب المناضل وتقييم حقوقه. كذلك ساعدت على إعطاء نضالها شرعية عالمية، أعطت للشعوب حقوقًا ووضعت عليها واجبات، كشخص من أشخاص القانون الدولي‏[9].

أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار الرقم 2105 بتاريخ كانون الأول/ديسمبر 1965، أكدت فيه بصورة قاطعة شرعية الكفاح المسلح ضد الاستعمار، حيث جاء في المادة 10 أن الجمعية العامة «تؤكد شرعية كفاح الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية، لممارسة حقها في تقرير مصيرها واستقلالها، وتدعو كل الدول لتقديم المساعدة المادية والمعنوية لحركات التحرير الوطني في الأقاليم المستعمَرة»‏[10].

تتمتع حركات التحرر بالعضوية الكاملة في بعض المنظمات الدولية، مثل منظمة التحرير الفلسطينية العضو الكامل في جامعة الدول العربية منذ سنة 1976 وفي المنظمات المتخصصة التابعة للجامعة وفي منظمة التعاون الإسلامي وفي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، كما أن حركة التحرر الوطني لها حق التفاوض وإبرام اتفاقيات الاستقلال، ومثال على ذلك اتفاقية «إيفيان» (Evian) التي أبرمتها فرنسا وجبهة التحرير الوطنية الجزائرية في 19 آذار/مارس 1962، وكذلك الشأن بالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية ثم السلطة الفلسطينية مع إسرائيل منذ مؤتمر مدريد سنة 1991، حيث تفاوض الطرفان من أجل استقلال الدولة الفلسطينية وتكوينها. كما تبقى أهلية التعاقد لحركات التحرر الوطني منقوصة، لأنها محددة بهدفها المتمثل بالكفاح من أجل حصول الشعب المحتل على استقلاله وتكوين دولته‏[11].

إضافة إلى الحقوق المذكورة سلفًا، تتمتع حركات التحرر الوطني بحق حمل السلاح ومقاومة الاحتلال بجميع الطرائق، كما على الدول أن تقدم جميع أنواع الدعم والمساندة إلى هذه الحركات حتى تنال استقلالها. رغم محاولات الالتفاف على هذه الحقوق بمختلف الطرائق، آخرها رواية الحرب على الإرهاب التي أرادت تجريد حركات المقاومة من حقها في الكفاح المسلح، وخلطها مع الحركات المتطرفة لطمس شرعيتها القانونية.

دعمًا لهذا التوجُّه في صيانة حق الشعوب في الكفاح المسلح ومساندة حركات التحرر الوطني، صدرت من الجمعية العامة للأمم المتحدة توصية تحت الرقم 39/14 عام 1984 تطالب من خلالها الدول القوية بالامتناع عن التدخل في شؤون الدول الأخرى، واحترام الاختيار الحر للشعوب، وحقهم في اختيار نظامهم السياسي وطريقهم في التنمية، مع تشديد هذه التوصية على شرعية كفاح الشعوب في سبيل الاستقلال والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية والتحرُّر من السيطرة الاستعمارية والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي، بجميع الوسائل المتاحة لها، بما فيها الكفاح المسلح. إضافة إلى ذلك حذرت الأمم المتحدة في آذار/مارس 2005 من أن تعرّض «الحرب ضد الإرهاب» الحقوق الإنسانية ومبدأ المساواة للانتهاك‏[12].

يعَدّ القرار الرقم 3070 الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر 1973 أول قرار تستخدم فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة عبارة «الكفاح المسلح»، إذ كانت تكتفي في القرارات السابقة له بمصطلحات من قبيل كلمة مقاومة أو كفاح فقط. أما النص الأصلي الصادر باللغة الإنكليزية لهذا القرار فقد استخدم عبارة «armed struggle» أي «الكفاح المسلح»، حيث تم التأكيد في الفقرة الثانية من القرار على: «شرعية كفاح الشعوب للتحرر من الخضوع للسيطرة الاستعمارية والأجنبية بكل الوسائل المتاحة بما فيها الكفاح المسلح»‏[13].

لقد خلق السماح لحركات المقاومة باستعمال السلاح تضاربًا كبيرًا مع مصالح الدول الاستعمارية التي كانت تحتكر استعمال السلاح لخدمة مصالحها فقط، وتنكر ذلك على بقية الشعوب المتطلعة إلى الانعتاق من الاحتلال الأجنبي. يحسب للأمم المتحدة أنها استطاعت التأسيس لمبادئ كانت غائبة في القانون الدولي وفي عهد عصبة الأمم، نخصّ بالذكر مبدأ عدم التهديد باستعمال القوة أو استعمالها في العلاقات بين الدول، وحسبان ذلك عدوانًا وعملًا غير مشروع في العلاقات الدولية، إلّا أنّ عدم تعريف العدوان ترك المجال للقوى الكبرى من أجل تحديد مَن له حق حمْل السلاح ومَن ليس له الحق واللّعب بين الأمرين.

أصدرت الأمم المتحدة، في تعريفها العدوان، التوصية الرقم 3314 بتاريخ 14 كانون الأول/ديسمبر 1974، استثنت فيها نضال الشعوب وحركات المقاومة الوطنية من الأعمال المكونة للعدوان، حيث جاء في المادة السابعة من هذا التعريف أنه: «ليس في هذا التعريف خصوصًا ما ورد في المادة الثالثة – التي أوردت صورًا للعمل العدواني على سبيل المثال لا الحصر – ما ينطوي بأيّ حال على الإخلال بحق تقرير المصير والحرية والاستقلال المنصوص عليها بالميثاق، وذلك بالنسبة للشعوب التي جُردت من هذا الحق بالقوة… وبصفة خاصة تلك الشعوب الخاضعة للأنظمة العنصرية أو الاستعمارية أو أيّ شكل من أشكال السيطرة الأجنبية. كما لا يوجد في هذا التعريف ما يخلّ بحق هذه الشعوب في الكفاح من أجل هذه الغاية وفي تلقي المساعدة والدعم طبقًا لمبادئ الميثاق والإعلان المشار إليه»‏[14].

إضافة إلى توصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة نجد أن اتفاقيات جنيف الأربعة أقرّت بشرعية المقاومة المسلحة ضد الاستعمار حتى التحرُّر ونيل الاستقلال. فالمادة 2 المشتركة لاتفاقيات جنيف الأربعة اعترفت بالحق في المقاومة المسلحة، حيث أكدت انطباق هذه الاتفاقية: «في جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لإقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة، حتى لو لم يواجه هذا الاحتلال مقاومة مسلحة». كما أدرجت اتفاقيات جنيف الأولى والثانية والرابعة بنصّ صريح شرعية المقاومة المسلحة وحسبانها جزءًا من الأطراف التي تشملها هذه الاتفاقيات، حيث تنص المادة 13 الفقرة 2 من الاتفاقية الثانية في تحديدها الفئات التي تنطبق عليها أحكام هذه الاتفاقية: «أفراد الميليشيات الأخرى والوحدات المتطوعة الأخرى، بمن فيهم أعضاء حركات المقاومة المنظمة الذين ينتمون إلى أحد أطراف النزاع ويعملون داخل أو خارج الإقليم الذي ينتمون إليه، حتى لو كان هذا الإقليم محتلًا، على أن تتوفر الشروط التالية في هذه الميليشيات أو الوحدات المتطوعة، بما في ذلك حركات المقاومة المنظمة المشار إليها»‏[15].

لا جدال في أن المقاومة المسلحة والميليشيات التي تدخل في سياقها قد اكتسبت شرعيتها الطبيعية والقانونية، وأن الاختلاف حول وصف مقاومة الاحتلال الأجنبي عملًا مشروعًا أو غير ذلك لا يعدو أن يكون سياسيًا لا فقهيًا؛ لأن مقاومة الاحتلال الأجنبي هي أمر طبيعي، تمارسه الشعوب المحتلة بحمل السلاح من تلقاء نفسها، في سبيل الخروج من السيطرة الأجنبية. وإن اعتراف المنتظم الدولي من عدمه لن يثني جماعات المقاومة عن ممارسة أنشطتها المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي؛ ذلك ما جعل المشرّع يعدّ حركات المقاومة طرفًا في الكثير من الاتفاقيات وخصوصًا المتعلقة بالنزاعات المسلحة.

أثناء الاجتياح الروسي لأوكرانيا، اعترف العالم الغربي لأوكرانيا بحقها في الدفاع عن نفسها واستعمال السلاح من أجل ذلك بحسب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، بل تلقّت أوكرانيا كامل الدعم السياسي والعسكري من أجل دفع العدوان الروسي عنها. ففي نظر الدول الغربية ليس حق الدفاع عن النفس فقط المقبول، بل حتى المتطوعون هم مدعوون إلى القتال إلى جانب قوات الدول المهدّدة مثل حالة أوكرانيا. لكن إذا تعلق الأمر بفلسطين سيعدّ إرهابًا عابرًا للحدود. حتى دعم المقاومة ماديًا أو معنويًا أصبح جريمة لدى بعض الدول الأوروبية، ولا يُعدّ دعمًا لدولة خاضعة للاحتلال الأجنبي لها حق الدفاع الشرعي. كذلك بعد الوقائع التي دارت في حي «الشيخ جرَّاح» في القدس الشرقية والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة؛ صنّفت الحكومتان البريطانية والأسترالية الجناحَ السياسي لحركة حماس في قائمة المنظمات «الإرهابية»، الأمر الذي يؤكد بوضوح إنكار حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم‏[16].

لقد نصّ البروتوكول الإضافي الأول المتعلق بالنزاعات المسلحة الدولية لعام 1977، في المادة الأولى، الفقرة الرابعة، على ما يلي: «تتضمن الأوضاع المشار إليها في الفقرة السابقة المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضدّ الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير مصيرها، كما كرّسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول، طبقًا لميثاق الأمم المتحدة»‏[17].

لقد مثّلت «الحرب على الإرهاب» مسرحًا جديدًا للقوى الاستعمارية من أجل طمس شرعية حركات المقاومة. فنجد مجموعة من الدول الحديثة الاحتلال وأخرى تناضل منذ سنين طويلة للحصول على استقلالها، تم إدراج حركات المقاومة فيها في خانة الجماعات «الإرهابية». لكن تلك المحاولات البائسة لم تستطع إلغاء شرعية المقاومة المستمدَّة من روح الميثاق وقواعد الطبيعة، وكفاح الشعوب ضد المستعمر سابق على ما سمي «الحرب على الإرهاب».

ثانيًا: عدم التناسب بين أعمال المقاومة والعدوان الإسرائيلي

1 – شرعية أعمال المقاومة الفلسطينية أمام الإرهاب الإسرائيلي

انقسمت اللجنة الخاصة بتعريف «الإرهاب» إلى قسمين، أصّر القسم الأول فيها المكون من الدول الكبرى على إدراج حركات الكفاح المسلح ضمن هذا المفهوم الجديد. لكن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت الكثير من القرارات التي تدين إرهاب الدولة، وتؤكد شرعية الكفاح المسلح من أجل تقرير المصير، وضرورة عدم الخلط بينه وبين «الإرهاب»، في محاولة منها للتمييز بين الإرهاب والكفاح المسلَّح من أجل تقرير المصير، حيث دعت الجمعية العامة في قرارها الرقم 159/42 كانون الأول/ديسمبر 1987 إلى عقد مؤتمر دولي تحت إشراف الأمم المتحدة، لتحديد الإرهاب، والتمييز بينه وبين نضال الشعوب في سبيل التحرير الوطني‏[18].

قد يتم الخلط بين «الإرهاب» وبعض الأعمال الأخرى، كالمقاومة المشروعة من أجل حق تقرير المصير والعدوان المسلح، وذلك بسبب غياب تعريف موحد للإرهاب؛ فالمقاومة المشروعة تعطي حركات التحرير الوطني حق استخدام القوة في سبيل كفاحها ضد القوى الاستعمارية والسيطرة الأجنبية، التي تنكر حقهم في تقرير مصيرهم، أما أعمال «الإرهاب» فهي أعمال غير مشروعة بالمقياسين الأخلاقي والقانوني، لغياب المبرر القانوني الذي من أجله تستعمل القوة، والغرض منه ترويع الناس. لعل الخلط بين أعمال «الإرهاب» والمقاومة المشروعة للاحتلال هو السبب الرئيس لعدم وجود اتفاق أو إجماع حول مفهوم «الإرهاب»، حيث اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية في خطابها نعْت حركات المقاومة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وجنوب لبنان بصفة «الإرهاب»، وتضم قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للمنظمات «الإرهابية» فصائل المقاومة في تلك المناطق، مثل حزب الله، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بينما يتم غضّ الطرف عن الممارسات «الإرهابية» التي يقوم بها الكيان الصهيوني‏[19].

ادّعت إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى في الغلاف المحيط بقطاع غزّة أنها في حالة دفاع عن النفس، مجانبةً بذلك الصواب في ما يتعلق بشروط الدّفاع عن النفس كما هي منصوص عنها في ميثاق الأمم المتحدة. أصل الإشكال والمسبّب الأول للصراع هو وجود الاحتلال الإسرائيلي الموجب للدفاع عن النفس من طرف المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك أخذ الرهائن الذي يعَدّ عملًا من أعمال المقاومة المناهض للوجود الأجنبي، إذ إنّ الكثير من الدول؛ وبخاصة الأوروبية، ترى أنّ المستوطنات الإسرائيلية غير شرعية وتمنع التعامل معها ومع منتجاتها، هذا الوجود غير الشرعي يجعل المستوطنات الإسرائيلية هدفًا مشروعًا للمقاومة الفلسطينية‏[20].

رغم تجدّد الجدال حول شرعية المقاومة ومن يَحسب أفعالها من أعمالها «الإرهاب»، استُبعدت تهمة «الإرهاب» من حركات المقاومة الوطنية بموجب اتفاقية نيويورك في 17 كانون الأول/ديسمبر 1979 المتعلقة باحتجاز الرهائن، فالمادة 12 من هذه الاتفاقية ميَّزت بين اختطاف الرهائن في وقت السلم وبين احتجازهم في زمن النزاعات المسلحة، إذ أحالت الاتفاقية على اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977 إذا ما تعلق الأمر بنزاع مسلح. كذلك وردتْ توصية رقمها 159/42 بتاريخ 7 كانون الأول/ديسمبر 1987 تتعلق بـ«التدابير الرامية إلى منع الإرهاب الدولي الذي يعرّض للخطر أرواحًا بشرية بريئة»، حيث نصّت في ديباجتها على «الحق غير قابل للتصرف، في تقرير المصير والاستقلال لجميع الشعوب الواقعة تحت النظم الاستعمارية والعنصرية وغير ذلك من أوجُه السيطرة الأجنبية». كما تم الإقرار في هذه التوصية على «شرعية كفاحها، وبصفة خاصة حركات التحرر الوطني، وفقًا لمقاصد ومبادئ الميثاق ولإعلان مبادئ القانون الدولي المتصلة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقًا لميثاق الأمم المتحدة»‏[21].

مثّلت «الحرب على الإرهاب» فرصة ذهبية لـ«إسرائيل» من أجل احتواء المقاومة الفلسطينية، فاستغلت هذه الحرب إعلاميًا وسياسيًا وعسكريًا من أجل قلب الحقائق وإلصاق تهمة «الإرهاب» بحركات المقاومة الفلسطينية، وقد ساهمت في ذلك المتغيرات الجيوسياسية التي حدثت بعد تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر 2001، كسقوط دول كانت داعمة للقضية الفلسطينية على المستوى الدولي والإقليمي، والتضييق على الجمعيات الخيرية الداعمة للمقاومة الفلسطينية بتهمة تمويل «الإرهاب». كما أوهمت «إسرائيل» العالم بأنها منخرطة في «الحرب على الإرهاب»، لتبرير هجومها المتكرر، وحصارها قطاع غزة، والتغطية على جرائمها ضد الإنسانية في استغلال واضح لضبابية «الحرب على الإرهاب»‏[22].

مارست «إسرائيل» الكثير من الأفعال غير المشروعة داخل الأراضي الفلسطينية، كحصار غزة واجتياحها كلما سنحت الفرصة، وارتكابها جرائم ضد الإنسانية بحسب قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ونظام روما. غير أن ردّ منظمة الأمم المتحدة على هذه الأفعال كان محتشمًا، وقد ساهم في استمرار عنصرية «إسرائيل» وإنكارها حقوق الشعب الفلسطيني.

اعترف القانون الدولي بحق الشعوب في القتال من أجل التحرّر من الاستعمار والميز العنصري والاحتلال الأجنبي، بجميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح، كما ستؤكد ذلك توصية الجمعية العمومية للأمم المتحدة الرقم 45/130 بتاريخ 14/12/1990. إن استعمال القوة من أجل التحرُّر مشروع، وطريقة استعمال القوة منظمة بموجب قانون الحرب الذي يرتكز أساسًا على حماية المدنيين من الجانبين. الرصاص الموّجه في الضفة الغربية غير موجَّه ضد المدنيين ولا يمكن وصفه عملًا إرهابيًا، إذ يتعلق الأمر بعمل مسلح للمقاومة ضد قوة محتلة في إقليم محتل، فالنظام الإسرائيلي يوجِّه الإعلام من أجل التعامل مع أي عمل للمقاومة بوصفه عملًا إرهابيًا. كما أن إسرائيل لا تعترف بأي صنف من صنوف المقاتلين الفلسطينيين، إذ من وجهة نظر إسرائيلية كل مقاومة ضد احتلالها وقمعها وإن كانت غير مسلحة هي خطر على أمنها وتعَد إرهابًا، وهو ما تبين من خلال تصنيف ست منظمات مدنية كمنظمات إرهابية‏[23].

يتعرّض قطاع غزة للكثير من الهجمات الممنهجة منذ إعلان «الحرب على الإرهاب»، ولحصار يكاد يكون دائمًا كعقاب جماعي لسكان القطاع الخاضع لسلطة حركة المقاومة «حماس». حيث تعرض القطاع سنة 2008 – على سبيل المثال لا الحصر – لهجوم واسع شبيه بالحرب الشاملة؛ هجوم جيش نظامي حديث مسلّح بأسلحة متطورة على مساحة جغرافية صغيرة تعَدّ من الأكثر كثافة سكانيًا في العالم، من دون تمييز بين مدنيين وعناصر مقاومة مسلحة، ومن دون تمييز بين منشآت مدنية أو مستشفيات أو منشآت تابعة لمنظمات دولية، مخلّفة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحسب القانون الدولي ومبادئ القانون الدولي الإنساني‏[24].

قتلت إسرائيل في اجتياحها غزة سنة 2008 نحو 1400 فلسطيني وجرحت الآلاف أغلبهم مدنيون في حملة قصف استمرت واحدًا وعشرين يومًا. ومن ضمنهم 300 شهيد و2000 جريح ومئات الإصابات بالصدمات النفسية من الأطفال، في استخدام غير متكافئ للقوة، مع تأكيد الجنود الإسرائيليين جرائمهم المتعمدة، كذلك استخدام المدنيين كأدرع بشرية، واستهداف الأطقم الطبية وسيارات الإسعاف، وإطلاق النار من مسافات قريبة، حيث يمكن التمييز بين المدني والمسلح بهدف الترويع والترهيب، ودليل على «إرهاب الدولة» من طرف كيان فوق القانون‏[25].

يمكن القول إنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، استصدار قرار من مجلس الأمن ضد «إسرائيل»، هذا ما جعل أغلب القرارات تصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة وإن كانت غير ملزمة، إلا أن أهميتها تكمن في الإحراج العالمي وتنوير الرأي العام العالمي بخصوص الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على فلسطين. صدرت في هذا الصدد مجموعة من القرارات عن الجمعية العامة، منها القرار الرقم 64/10 بتاريخ 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2009 في شأن «متابعة تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق بشأن النزاع في قطاع غزة»، لكن الغريب في هذا القرار هو تسمية العدوان والجرائم الإسرائيلية بـ«النزاع»، وكأنه نزاع متكافئ بين دولتين أو جيشين نظاميين. كذلك ورد في القرار دعوة السلطات في فلسطين إلى التحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان تضمنها تقرير لجنة التحقيق، وتناسى القرار أن قطاع غزة كان في حالة دفاع عن النفس وفي استمرار لممارسة حقه في المقاومة المسلحة حتى تحقيق استقلاله‏[26].

إذا لم يكن انتقاد «الإرهاب» ظرفيًا، وجب الأخذ في الحسبان النقاش السائد في المرحلة السياسية التي نناقشه فيها حتى يتم فهْمه. هناك طرائق جمة للحديث عن الأمور. يتوقف كل ذلك على المصطلحات والكلمات المستعملة. في زمن تسود وسائل الاتصال، انتقل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى المستوى الإعلامي، آخذًا شكل المواجهة الدلالية، القليلة الفرجة لكنها عنيفة ومتطورة. صحيح أن هذا الصراع أكثر من غيره وبسبب المخاطر السياسية والثقافية التي تطبعه؛ يكتسب معنى ليس بالضرورة انطلاقًا من الوصف الأصلي للأحداث، لكن انطلاقًا من الكلمات التي قدمت بها هذه الأحداث، غالبًا ما تكون كلمات غير محايدة. نتحدث عن «حرب» إذا تمت الإشارة إلى «الإسرائيليين»، ونتحدث عن «الإرهاب» إذا تعلق الأمر بالفلسطينيين. الحرب والإرهاب كلمتان ثقيلتا المعنى، تستخدمان على هذا النحو المتعارض، لبعْث رسالة واضحة مفادها: «الإسرائيليون يشنون الحرب، والفلسطينيون إرهابيون»‏[27].

2 – الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى جريمة إبادة

من النقاط المهمة التي حاولت إسرائيل وحليفتها الأولى الولايات المتحدة الأمريكية التركيز عليها في عدوانها على قطاع غزّة زرْع الشك في شرعية أعمال المقاومة الفلسطينية، وعدّها عملية 7 أكتوبر عملًا إرهابيًا لتضليل الرأي العام العالمي. متناسية الحصار المضروب على القطاع منذ سنين طويلة وما يخلّفه من ضحايا أبرياء، وكذلك الاعتداءات التي تشن على الفلسطينيين من حملات اعتقال ممنهجة وتعذيب في السجون الإسرائيلية، إذ لم تكن هذه العملية إلّا ردًّا على تلك الأفعال كحق من حقوق المقاومة القابعة تحت احتلال أجنبي.

خلّف الاعتداء الإسرائيلي على قطاع غزّة بعد 7 أكتوبر عشرات الألوف من الشهداء، إذ أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة أنّ عدد الشهداء وصل إلى ما لا يقل عن 31112 وإصابة 72760 حتى تاريخ 11 آذار/مارس 2024 منذ انطلاق العدوان الإسرائيلي‏[28]، ناهيك بأعمال التهجير والتجويع التي تدخل كافة في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني.

لقد أصدرت محكمة العدل الدولية بتاريخ 26 كانون الثاني/يناير 2024 أمرًا شددت فيه على ضرورة أن تتخذّ إسرائيل كل ما في وسعها، لمنع جميع الأعمال التي تتضمنها المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وذلك ردًا على دعوى أقامتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل. المحكمة في أمرها لم تقطع بأنّ إسرائيل ارتكبت فعلًا جرائم إبادة، بل نصّت على أن تتّخذ تدابير من أجل منع جيشها أو أفراد من جيشها القيام بأعمال تتضمنها اتفاقية منع الإبادة الجماعية أو التحريض عليها‏[29]. لكنّ ذلك لن يخفي حقيقة ارتكاب جيش الاحتلال الإسرائيلي جميع الجرائم المعاقب عليها في القانون الدولي ووفق لائحة نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية.

إنّ الأمر المستغرب هو كيف لدولة جنوب أفريقيا أن تتوجه صوب محكمة العدل الدولية وهي تعلم أنّ قراراتها غير ملزمة من دون موافقة الدولتين طرفَي الدعوى، كما أن تبليغ مجلس الأمن بالقرار الذي اتخذته المحكمة لن تكون له جدوى؛ إذ سيصطدم بالفيتو الأمريكي الذي ظلّ مساندًا لإسرائيل طوال عدوانها على غزّة، كذلك من وجهة نظرنا، يبقى الحكم ناقصًا ما لم يذكر حق المقاومة في استعمالها السلاح بوصفه عملًا مشروعًا وفقًا للقانون الدولي. كان من الأجدر أن تتوجه دولة جنوب أفريقيا نحو محكمة العدل الدولية التي تعدّ طرفًا فيها، لتحريك دعوى ضد مجرمي الحرب في إسرائيل، وذلك وفق المادتين 13 و14 من النظام الأساسي للمحكمة‏[30]، وخصوصًا أنّ المدعي العام للمحكمة أصدر مذكرة توقيف في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزعم ارتكابه جرائم حرب في أوكرانيا‏[31].

لقد فقد الإسرائيليون قوة الظهور أمام الرأي العام العالمي كضحية عنف الأسلحة الفلسطينية. بالتالي فالظهور كضحية اللاعنف أو السلمية ليس مجديًا، لذلك ابتكر الإسرائيليون مصطلح «الإرهاب السلمي» لتبرير العنف المسلح ضد شعب أعزل لكن من دون جدوى. في واقع الأمر، ميدان اللاعنف الذي اختاره الفلسطينيون والذي حظي بتغطية إعلامية واسعة؛ أظهر بكل وضوح العنف الإسرائيلي، وأدّى إلى سقوط غير مسبوق لشرعية هذا العنف، كما بعثر جهود النظام الإعلامي الإسرائيلي الذي يروّج لشرعية الاستعمال المفرط للعنف أو الرد غير المتناسب. نقل هذا الانتصار الفلسطيني المعركة إلى الساحة الإعلامية التي تحاول من خلالها إسرائيل التساوي مع المقاومة الفلسطينية، وتقديم الفلسطينيين على أنهم عدو «إرهابي»، وتقدم نفسها كضحية لهذا العنف «الإرهابي»‏[32].

إذا كان مسعى الجماعات المتطرفة المصنفة «إرهابية» في الكثير من الدول تحقيق أهداف سياسية أو وجهة نظرها بالقوة، فالمقاومة الفلسطينية، سواء المسلحة أو المدنية، تصبو إلى تحقيق أهداف مشروعة وحقوق طبيعية وُجدت مع وجود الشعوب، وتأسست على أساسها قواعد القانون الدولي والمنظمات الدولية، إذ لا يمكن استغلال الحرب على «الإرهاب» لقتل الأبرياء من النساء والأطفال وتهجيريهم وتجويعهم، أمام صمت دولي عربي وغربي غير مفهوم؛ وكأنّ المقاومة الفلسطينية أصبحت عبئًا عليهم بسبب الضغط الشعبي الذي يمارَس عليهم من طرف الشارع.

يعلم العالم أجمع أن كلمة «الإرهاب» مصطلح دِعائي يتأقلم مع الكثير من الأوضاع، وليس له معنى محدد، ولا يشمل وضعًا معيّنًا. إن تطبيقه على استهداف جنود الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة يُعدّ تعسفًا وتلاعبًا يستحق أن يسلَّط عليه الضوء. فإسرائيل تحتل الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عشرات السنين، احتلالًا غير شرعي بحسب القانون الدولي، والأمم المتحدة تطلب من الحكومة الإسرائيلية الانسحاب من «التراب الفلسطيني» في مناسبات كثيرة؛ إنّ أشدّ المدافعين عن إسرائيل يعلم أن الضفة الغربية تقبع تحت نظام احتلال غير شرعي، وأن المشروع الاستيطاني كان ولا يزال مخالفًا للقانون الدولي. رغم هذا الإجماع العالمي فالمستوطنات الإسرائيلية تتوسع على نحو متسارع، أمام رفْض المسؤولين الإسرائيليين التفاوض في شأن أي اتفاق يقضي بإنهاء هذا الاحتلال. كرد فعل للفلسطينيين على هذا الوضع شُنّت مجموعة من الهجمات على جنود الاحتلال، فنعتت الصحافة الأمريكية تلك الهجمات بـ«الارهابية»‏[33].

خاتمة

مهما حاول نظام الاحتلال الإسرائيلي الالتفاف حول الحقوق الفلسطينية المشروعة، وخصوصًا المقاومة بجميع أنواعها، التي تمثل مصدر إزعاج وخطر وجوديّ للاحتلال الإسرائيلي؛ فالحقُّ الفلسطيني ثابت، كونه حقًا طبيعيًا لشعب قابع تحت الاحتلال، وكذلك بوصف المقاومة مسألة وجودية للشعب الفلسطيني. كما أن اختلاف أوجُه المقاومة الفلسطينية من استخدام السلاح إلى الإعلام ثم النشاط على مستوى المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، يُنقص من تأثير وفعالية الآلة الدعائية للاحتلال الإسرائيلي.

شنّت قوات الاحتلال اجتياحات متكررة لقطاع غزة وفرض حصار عليه كنوع من العقاب الجماعي الذي يدخل في إطار «إرهاب الدولة»؛ رغم تأكيد مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة من خلال مجموعة من القرارات والتوصيات، أنه يجب عدم اتخاذ «الحرب على الإرهاب» ذريعة لممارسة انتهاكات حقوق الإنسان أو الالتفاف حول الحقوق المشروعة للشعوب، كما ورد في التوصية الرقم 60/158 لسنة 2005 التي تنصّ على ضرورة حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية خلال مكافحة «الإرهاب».

إنّ استغلال عملية طوفان الأقصى كمبرر لقتل وتجويع وإبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أمر لا مبرر له، لأنّ هذه العملية لن تكون الأولى أو الأخيرة؛ فالمقاومة الفلسطينية لها الحق الدائم في استخدام جميع الوسائل بما فيها استعمال السلاح حتى تنال دولة مستقلة. غير أنّ استمرار الصمت العالمي والإفلات من العقاب ينذر بارتكاب المزيد من جرائم الحرب من طرف الكيان الإسرائيلي، الأمر الذي قد يتطور إلى حرب أشمل.

كتب ذات صلة:

تناقضات القانون الدولي : مدخل تحليلي

المقاومة الفلسطينية بين غزو لبنان والانتفاضة

في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسية

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 553 في آذار/مارس 2025.

محمد الخلوقي: أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية، جامعة القاضي عياض، مراكش – المغرب.

[1] Antoine Mekinda Beng, «Le Droit des peuples à disposer d’eux-mêmes dans la conjoncture institutionnelles actuelle des états du tiers-monde en mutation,» Revue trimestrielle des droits de l’homme (Faculté des sciences juridiques et politiques Université de Ngaoundéré Cameroun, Bruxelles), no. 58 (2004), p. 509.

[2] عماد محمد علي، الأمم المتحدة وإرهاب الدولة في مجال السلم والأمن الدولي (بيروت: دار النهضة العربية، 2013)، ص 103.

[3] القرار الرقم 1514 بتاريخ 14 كانون الأول/ديسمبر 1960.

[4] قرار 2625، الدورة 25، بتاريخ 24 تشرين الأول/أكتوبر 1970.

[5] قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 2649، بتاريخ تشرين الثاني/نوفمبر 1970، بخصوص «إدانة إنكار حق تقرير المصير، خصوصًا لشعوب جنوب أفريقيا وفلسطين».

[6] أحمد بوعون، قرارات مجلس الأمن الدولي (تونس: مجمع الأطرش، 2021)، ص 79.

[7] محمد علي، الأمم المتحدة وإرهاب الدولة في مجال السلم والأمن الدولي، ص 105 – 106.

[8] المصدر نفسه، ص 107.

[9] سعد الركراكي، العلاقات الدولية الميراث والرهان (مراكش: المطبعة والوراقة الوطنية، 2000)، ص 34.

[10] قرار رقم 2105، كانون الأول/ديسمبر 1965.

[11] عبد المجيد العبدلي، قانون العلاقات الدولية، ط 5 (تونس: منشورات مجمع الأطرش للكتاب المختص، 2014)، ص 54.

[12] محمد الوادراسي، «الكفاح المسلح الفلسطيني في سياق الحرب ضد الإرهاب،» المستقبل العربي، السنة 43، العدد 497 (تموز/يوليو 2020)، ص 77.

[13] مازن شندب، استراتيجية مواجهة الإرهاب (بيروت: المؤسسة الحديثة للكتاب، 2014)، ص 192.

[14] توصية 3314 الخاصة بتعريف العدوان، الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 14 كانون الأول/ديسمبر 1974.

[15] راجع اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949.

[16] Yousef Mohammad, «The Right to Self-defence: Between Ukraine and Palestine,» Middle East Monitor, 2 March 2022, <https://shorturl.at/RdX2U>.

[17] المادة الأولى من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الملحق لاتفاقيات جنيف لعام 1949.

[18] محمد علي، الأمم المتحدة وإرهاب الدولة في مجال السلم والأمن الدولي، ص 114.

[19] حنان السيد عبد الهادي، النظام القانوني في ظل هيمنة القطب الواحد (القاهرة: دار النهضة العربية، 2013)، ص 190.

[20] انظر حكم محكمة العدل الأوروبية بتاريخ 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 المتعلق بالمنتجات المستوطنات الإسرائيلية.

[21] توصية 159/42، 7 كانون الأول/ديسمبر 1987.

[22] محمد الخلوقي، «التحرر الوطني الفلسطيني في ضوء الحرب على الإرهاب،» المجلة البحثية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، عدد خاص بمؤتمر معًا السابع «القدس القضايا المعاصرة، والأصول الحضارية» الرباط، 10 – 12 أيار/مايو 2018، ص 37.

[23] Orly Noy, «Avis aux Israéliens: La Résistance armée à l’occupation est légale, et non du terrorisme,» Middle East Eye, 21 septembre 2022, <https://tinyurl.com/nhd588t4>.

[24] سري المقدسي، «فلسطين الوجه المعكوس: احتلال يومي،» المستقبل العربي، السنة 33، العدد 386 (نيسان/أبريل 2011)، ص 43.

[25] المصدر نفسه، ص 43.

[26] قرار الجمعية العامة 64/10، بتاريخ 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2009.

[27] Bernard Ravenel, «Pour une critique politique du terrorisme,» Confluences Méditerranée, vol. 4, no. 43 (2002), p. 94.

[28] خبر منشور على موقع <https://www.swissinfo.ch/ara> بتاريخ 11 آذار/مارس 2024.

[29] «محكمة العدل الدولية تطالب إسرائيل بمنع ارتكاب أعمال تتضمنها اتفاقية منع الإبادة الجماعية،» أخبار الأمم المتحدة بتاريخ 26 كانون الثاني/يناير 2024، <https://news.un.org/ar/story/2024/01/1128017>.

[30] انظر النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية،         <https://www.icc-cpi.int/fr>.

[31] المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرة توقيف في حق السيد فلاديمير بوتين رئيس روسيا والسيدة ماريا ألكسيفنا لفوفا – بيلوفا رئيسة مفوضية حقوق الأطفال في روسيا، بتاريخ 17 آذار/مارس 2023، <https://news.un.org/ar/story/2023/03/1119002>.

[32] «La Résistance palestinienne – 3 questions à Bernard Ravenel,» IRIS, 7 novembre 2017, <https://tinyurl.com/2atn5eas>.

[33] Glenn Greenwald, «Terrorisme ou légitime résistance à l’occupation israélienne?,» Orient XXI, 25 avril 2016, <https://tinyurl.com/bdf8safs>.

 


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز