تقديم:

تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – منذ عدة سنوات – نزاعات مسلحة طاحنة، وذلك في سياق صراع تناحري لقوى عالمية وإقليمية على موارد المنطقة وفضاءات النفوذ فيها، إذ أفرزت الأزمات التي اجتاحت المنطقة منذ 2011 ملايين اللاجئين والنازحين. تَمّ فيها – بصورة واضحة – توظيف حركة اللجوء كورقة في إدارة الصراعات؛ حيث أدت أزمة الحرب السورية إلى نزوح ملايين الأشخاص نحو تركيا والأردن ولبنان والعراق، متخذين من تلك البلدان محطات أولى للوصول إلى أوروبا؛ بينما أصبحت ليبيا – التي تغرق في فوضى عارمة في إثر عمليات الناتو العسكرية التي أفضت إلى انهيار الدولة – محطة مرور نشطة للّاجئين من أفريقيا الطاردة والمنتجة شبه الدائمة للمهاجرين واللاجئين إلى أوروبا. وفي كل الأحوال كان واضحاً استخدام حركة اللجوء كسلاح في سياقات الصراع المحتدم، سواء بمنع أو بتيسير وصول المهاجرين إلى أوروبا.

إن التحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية وتنوع استراتيجيات رهاناتها وصراعاتها تدعو إلى إعادة النظر والبحث مجدداً في أوضاع اللاجئين‏[1]. فاللجوء من حيث التعريف يعني طلب اللجوء والحماية من بلد معيَّن بدافع خوف صاحبه على نفسه من القتل أو التعذيب أو من كل ما من شأنه أن يهدد سلامته. وحق اللجوء فعل إنساني محدد في القانون الدولي، تترجمه الدول المستقبلة إلى مجموعة تدابير إجرائية تطبقها على اللاجئين. غير أن هذا التعريف لا يكاد يَصْدُق على حالة اللاجئين السوريين راهناً ولا على حالة بعض النماذج التاريخية من تجارب اللاجئين الفلسطينيين التي سنعمد إليها في دراستنا المقارنة هذه. وذلك لاعتبارين اثنين: يتمثل أولهما بكون وجهات لجوئهم لم تكن بمحض اختيارهم – إلا ظاهرياً – وإنما زُجَّ بهم في مسار مفبرك سلفاً – سياسياً واستراتيجياً – ليصلوا إلى حيثما خططت لهم أجندة القوى الدولية المتحالفة الحاضنة «لإسرائيل». أما الاعتبار الثاني فيتجسد في استثناء قانون اللجوء الدولي للّاجئين الفلسطينيين تحديداً من أحكام كثير من بنوده‏[2]، علاوة على تعسف القوانين الإجرائية التي يخضع لها أولئك اللاجئون داخل الدول المضيفة.

في حالتَي اللجوء الفلسطيني والسوري جرى استقبال اللاجئين الفارين من ويلات الحرب طلباً للحماية والإغاثة؛ فاحتوت بعضَهم المخيمات بوصفها فضاءات «إغاثية» تحولت عبر مسار الصراع إلى فضاءات «معلقة، تخضع لنظم «الضبط‏[3] والمراقبة‏[4] والسياسة الحيوية»‏[5]. قامت الدول المستقبِلة للّاجئين الفلسطينيين والسوريين بادئ الأمر بممارسة تلك النظم في سياق عملية استقبال اللاجئين بقصد حمايتهم وتنظيم عملية احتواء مئات الألوف منهم في مخيمات الإيواء؛ لكن ذلك الإجراء كان يحجب – وقتها – هدفاً خفياً هو أحد أوجه تطويع اللاجئين وإخضاعهم لتيسير توظيفهم سياسياً واستراتيجياً.

سيركز تحليلنا السوسيولوجي لإشكالية توظيف اللاجئين في الصراع – في سياق التحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية الأخيرة – على الواقع الميداني الذي يعيشه أولئك اللاجئون في علاقته بالبعد القانوني الدولي والوطني المتعلق باللجوء.

سنعتمد في قراءة وتفسير معطيات الموضوع الميدانية – التي توفرها الدراسات والإحصاءات واستطلاعات الرأي – على تصورات كل من جورجيو أغامبين‏[6]. وحنة أرنت‏[7] وميشيل فوكو‏[8] في تفكيكهم لآليات سلطة الدولة عموماً وضبطها ومراقبتها لمعسكرات الاعتقال التي تشبه آلياتُ تسييرِها وضبطها ومراقبتِها – إلى حد كبير – الآليات التي تَخضَع لها مخيماتُ اللاجئين.

يُعَد المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين أبرز المنظِّرين الذين تطرقوا إلى حالة «الاستثناء»، وذلك في سياق مشروعه الفكري الضخم، حيث اعتبر «الاستثناءَ» تلك الحالة التي تقوم فيها السلطة الحاكمة – بصفتها صاحبة السيادة – بتعليق القانون لفترة ما «لأسباب ظرفية أو استثنائية، بحيث يتيح هذا التعليق للسلطة إمكانية ممارسة سلطتها من غير رقابة قانونية، أو أن توسع من حدود سلطتها التي يعمل القانون على تضييقها». وتقوم الدولة في حالة اللجوء إلى تعليق القانون، لأن اللاجئ وإن كان يبدو رمزاً هامشياً فإن وضعه يكون مُقلقاً للدولة الوطنية. لذلك ترى حنة أرنت – في هذا السياق – أن الهدف الجوهري من إقامة معسكرات الاعتقال هو خلق مواطنين خاضعين للسلطة. ضمن حالة الاستثناء تلك يرى أغامبين أن «المعسكرات» فضاء لممارسة السياسة الحيوية المطلقة التي تحوِّل الإنسان إلى كبش فداء.

سيتبنى تحليلنا مفهوم «الاستثناء» لا في علاقته بالقانون فحسب وإنما بمعنى أوسع يشير إلى مجال استثناء مركَّب داخل مخيَّمات اللاجئين في شكل استثناء قانوني وهندسي وحيوي وثقافي وسياسي. إضافة إلى مفهوم «الاستثناء»، سنتبنى مفاهيم «الضبط» و«المراقبة» و«السياسة البيولوجية» كما حددها ميشيل فوكو. اعتماداً على هذا البعد النظري – السالف الذكر – وعلى معطيات بعض الإحصاءات والدراسات الميدانية لمخيمات اللاجئين‏[9] سنقارب الإشكالية التالية: ما نوع السياسات الحيوية ونظم المراقبة التي تطبقها دول الاستقبال على اللاجئين؟ ما هي فضاءات «الاستثناء» التي يُخضَع لها اللاجئون – من أجل السيطرة عليهم وتطويعهم تمهيداً – لاستخدامهم «كسلاح حرب» خلال الصراعات الجيوسياسية؟ وكيف يتم استكمال الإدماج لاحقاً في الدول التي تمثل نقطة وصول اللاجئين ومستقرهم النهائي؟

ستحاول الدراسة أن تجيب عن هذا الإشكال المطروح من خلال تحليل مقارن لوقائع ميدانية وقانونية تتعلق بنموذجين من اللاجئين يمثلان اللاجئين الفلسطينيين واللاجئين السوريين؛ مع مراعاة خصوصية سياق كلٍّ منهما والتقاطعات التي جمعت بينهما.

أولاً: نبذة تاريخية عن ظاهرة معاناة اللاجئين وتوظيفهم استراتيجياً

شهدت البشرية عبر تاريخها حروباً لامتناهية عكست صراعاتها في أعلى تجلياتها، حيث جرى استخدام وسائل كثيرة في الصراعات والحروب بهدف كسبها. وبغض النظر عن مشروعية تلك الوسائل من عدمها، تم في سياق تلك الحروب والصراعات توظيف عملية التهجير القسري والتطهير العرقي وموجات اللاجئين كسلاح سياسي عسكري اجتماعي اقتصادي ثقافي بين الأطراف المتنازعة. لذلك تعتبر الحروب منتجاً نشطاً للّاجئين، يتم فيها توظيف اللاجئين كسلاح تتعدد أوجه استخداماته السياسية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية.

استُخدِم اللاجئون كسلاح خلال الحرب العالمية الثانية. واستَخدم الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو أيضاً الهجرة كسلاح ضد الولايات المتحدة عدة مرات، أشهرها هروب ماريل الجماعي عام 1980. كذلك طرد الرئيس اليوغسلافي سلودوبان ميلوسوفيتش خلال حرب كوسوفو في ربيع عام 1999، مئات الألوف من اللاجئين في محاولةٍ لردع الناتو عن قصف قواته. بينما توعد الزعيم الليبي السابق معمر القذافي بـ «جعل أوروبا سوداء» في أكثر من مناسبة، مهدداً بذلك الاتحاد الأوروبي في حال عدم استجابته لمطالبه برفع العقوبات عن ليبيا، كما استعمل التهديد نفسه ليطالب بإيقاف دعم أوروبا للمحتجين في الأيام الأولى لما عرف بـ «الانتفاضة الليبية» لعام 2011‏[10].

لكن منطقة الشرق الأوسط ستعرف منذ العام 2011 تصاعداً مهولاً لحجم وعدد حركات النزوح، حيث أفرزت صراعات المصالح التي هيمنت على المنطقة ملايين اللاجئين والنازحين وبخاصة بعد اندلاع الحرب السورية. وكان يتم التعامل بنظم «الضبط والمراقبة والسياسة الحيوية» نــفــســهــــا مع اللاجئين الذين استقبلتهم الدول الأوروبية خارج مخيمات الإيواء أو داخل الفضاءات «المعلقة». ففي كلا الحالين كان اللاجئون يعانون ظروفاً معيشية صعبة جداً.

بعد عملية الاستقبال وتقديم الحماية والعون للّاجئين الفارّين من ويلات الحرب – وخصوصاً في الحالة السورية – تم لاحقاً استخدام اللاجئين كسلاح عبر إطلاقهم في موجات بشرية تضرب الخصوم في عقر دارهم. بموازاة ذلك، شُنت هجمات إرهابية في البلدان المستقبلة للّاجئين رُبِط أغلبها بحركة استقبال اللاجئين، رغم أن من تورطوا فيها هم في الغالب إرهابيون مندسّون بين اللاجئين، أو لاجئون جرى تحويلهم إلى إرهابيين في بيئات اللجوء نفسها.

في المقابل، لوحظ أن عدداً من الدول الأوروبية المتورطة في الصراع الدائر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أغلقت أبوابها تماماً في وجه اللاجئين الفارّين من الحرب، بل منعت اللاجئين من الوصول إليها باستخدام القوة. بينما مارست – تحت ضغط الهاجس الأمني – قدراً كبيراً من العنف المادي والرمزي على اللاجئين الذين تمكنوا من العبور إليها أو خلال عملية إعادة توطينهم وإدماجهم. وبذلك نرى كيف شكلت دائرة من العنف والإرهاب اللاجئين الذين يُعدُّون ضحاياها بامتياز.

أغلقت بعض الدول المستهدفة بحركة اللجوء حدودها وأبوابها أمام اللاجئين، وهو ما يجعل استخدام اللاجئين كسلاح أمراً صعباً جداً، إن لم يكن مستحيـلاً. إلا أن ذلك يمثل تخلّياً عن التزامات قانونية تتحملها تلك الدول في توفير الحماية للّاجئين، كما يمثل تخلياً عن مكون أخلاقي ورئيسي لقيم الديمقراطيات الليبرالية التي تنادي بها ليلَ نهار. في ذات الوقت، فإن إدارة الظهر لمعاناة ألوف اللاجئين من جانب تلك الدول سيساعد على تغذية «الخطاب الجهادي» الذي قد يزرع بدوره بذور نوعٍ مختلف من استخدام النازحين كسلاح‏[11]. وهو الاستخدام الذي تلجأ إليه التنظيمات المتطرفة.

ثانياً: مخيمات اللاجئين السوريين: فضاءات «تعليق» ومجالات للضبط والمراقبة والبيولوجيا السياسية

1 – مخيمات اللاجئين السوريين: فضاءات «تعليق»

شهدت سورية نزوح الملايين من داخلها أو عبر حدودها نحو الدول المجاورة على امتداد سنوات الصراع المشتعل فيها. استقبلت تركيا الكمَّ الأكبر من اللاجئين، لكنها بعد عدة سنوات بدأت في توظيف مخزونها منهم في سياق صراعاتها السياسية مع أوروبا. يقول طلال الربيعي: «كان واضحاً تمام الوضوح أن تركيا تسعى لضرب عصفورين بحجر: فهي أولاً ترمي لزعزعة استقرار الدولة المجاورة المكروهة وهي اليونان. وتسعى ثانياً، في الوقت نفسه، إلى التخلص من اللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان»‏[12].

هكذا استُعمِل اللاجئون في الحالة السورية ورقة ضغط سياسي وُظفت من جانب عدّة دول على طول رحلتهم منذ لحظة مغادرتهم لديارهم التي ظلوا يحلمون بالعودة إليها. في دراسة أعدها الباحث أوتيون أورخان‏[13]، تناول فيها وضع اللاجئين السوريين – في تركيا، والأردن، ولبنان، والعراق – مدة 6 أشهر تناولاً مقارناً لفهم وتقييم حالهم. فقد زار الباحثون الذين أسهموا في الدراسة تلك البلدان وعاينوا وضع المبحوثين عن قرب. وجَّه الباحثون إلى اللاجئين السوريين في الدول الأربع سؤالاً يستفسر عن رغبتهم في العودة إلى سورية مرة أخرى، فأجاب الجميع بـ «نعم»‏[14]. فما الذي جعل اللاجئين السوريين يتوجهون للمجهول بعيداً من أرض الوطن رغم أن هدفهم الأول هو العودة إلى أوطانهم بأمان، ورغم توفير دول الجوار الحماية والإغاثة لهم؟ ما هي طبيعة الظروف التي أودت بهم إلى سلك طريق البحر والمجهول والارتماء في أحضان دول ومجتمعات غريبة تنظر لهم بعين الريبة؟

قد تكون الإجابة البديهية لهذا التساؤل هي «الظروف القاسية» التي يمرّون بها في المخيمات وداخل مجتمعات الدول المضيفة، مع طول مدة الصراع وعدم وجود مؤشرات لعودة الأمور إلى طبيعتها في بلادهم.

تقول حنة أرنت في سياق تحليلها لمعسكرات الاعتقال «إن الهدف الحقيقي من المعسكر هو إنتاج مواطنين مسيطر عليهم من قبل السلطة»‏[15]. وللسيطرة على الألوف من اللاجئين الذين يكوِّنون مصدر قلق عارم للدولة، رغم كل التزاماتها القانونية والأخلاقية في توفير الحماية والإغاثة، تمثّل المخيمات المعزولة حـلاً أمنياً لتجنب أو تخفيف حدة الآثار الأمنية والاقتصادية والاجتماعية غير المرغوب فيها، وكذلك لحيازة ورقة ضغط سياسي متحكم فيها. يقول المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين «إذا كان وضع اللاجئ يُعبَّر عنه كعنصر مُقلق في النظام المكوِّن لدولة الأمة، على ما يبدو أن هذا الرمز الهامشي (اللاجئ) يستحق أن يكون هو الرمز الرئيسي في تاريخنا السياسي»‏[16]. وهكذا كانت تقام مخيمات اللجوء لإغاثة وحماية اللاجئين في الدول المستقبلة لحظة خروجهم من سورية، لكنها في العمق تعمل وفق كثير من آليات عمل معسكرات الاعتقال. يقول أليساندرو بيتي خلال وصفه مخيمات الاعتقال عبر تاريخ القرن الماضي لِما بعد الحقبة الاستعمارية «استدعيت الفضاءات العالقة «فضاءات التعليق» إلى حيِّز الوجود بسبب المخاوف الأمنية، لكونها نموذجاً حقيقياً للسيطرة الاجتماعية والمكانية، حيث في داخل الفضاءات العالقة «التعليق» كان يتم تحويل شعب إلى مجرد سكان وأرقام يحكمون ويدارون»‏[17]. بالتالي تتحول مخيمات اللاجئين من فضاء استقبال وحماية إلى فضاء تركيز أو احتجاز أو احتواء.

٢ – مخيمات اللاجئين السوريين مجالات للضبط والمراقبة والبيولوجيا السياسية

إن المتفحص لعملية استقبال اللاجئين وظروف مخيمات اللجوء سيرى كيف يكون الهاجس الأمني هو المسيطر على الدول المستقبلة منذ اللحظة الأولى، حيث توضع لوائح محددة لقبول استقبال اللاجئين أو رفضهم، وتخضع مخيمات اللاجئين السوريين لمراقبة القوى الأمنية الموجودة داخل المخيمات أو حولها طوال الوقت، كما تحاط تلك المخيمات بالسياج وكاميرات المراقبة، وتقنن حرية حركة اللاجئين في تلك المخيمات، فلا يتاح الدخول والمغادرة إلا بتصاريح من القوى الأمنية المشرفة على تلك المخيمات، سواء تعلق الأمر باللاجئين أو بالمنظمات الدولية أو أي زائر كان. بينما يتم تقديم الإغاثة وفق منظومة محددة. يمر كل ذلك في سياق أوضاع معيشية وبيئية صعبة لا يمكن للخيام أو ما تيسر من البيوت الجاهزة «الكرافان» أن تواجه صعوبتها، حيث أدى كل ذلك إلى كثير من الاحتجاجات التي قام بها اللاجئون في مخيماتهم، بل إلى الصدام مع القوى الأمنية التي واجهتهم باستخدام وسائل القوة التي أدت إلى مقتل وجرح كثير من اللاجئين في بعض الدول المستقبلة.

يشير أغامبين إلى أن «المعسكرات» هي فضاء السياسة الحيوية المطلقة التي تحول الإنسان اللاجئ إلى أضحية. فإذا كان الإبقاء على المخيمات من باب العمل «الإغاثي الإنساني» إلى حين انتهاء الأزمة، فقد أثبتت التجربة لاحقاً في حالة اللاجئين السوريين، على سبيل المثال، كيف أدت السياسة الحيوية المتبعة في مخيمات اللجوء – أو تلك التي يحيا وفقها اللاجئون الذين استقبلوا خارج المخيمات – إلى تحويل اللاجئ إلى «إنسان مستباح يضحَّى به»، على حد قول أغامبين.

لم يكن صعباً تشكيلُ موجات بشرية هائلة من اللاجئين لتجتاح أوروبا، بل وإخراجُ تلك الحركة على نحوٍ مأسوي وُظف فيه الإعلام والصورة بطريقة درامية‏[18].

لقد تعاملت الدول المستقبلة للّاجئين وفقاً لعدة أنماط تراوحت ما بين استخدام نظم الضبط ونظم المراقبة – بالمفهوم الفوكوي – تقوم على آليات البيولوجيا السياسية لحماية سيادتها، حيث فصلت ما بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن، وعملت على إخضاع اللاجئين وتحويلهم إلى أجساد طيعِّة مستباحة يضحَّى بها في الصراعات الدائرة. فـ «آلية الحماية المؤقتة»‏[19] – على سبيل المثال لا الحصر – التي تتبناها الدول المستقبلة في تسيير حياة اللاجئين في المخيمات أو اللاجئين خارج المخيمات الذين يواجهون الاضطهاد ومنع التجول، أو التحرك في كلّ من لبنان والأردن وتركيا، حيث يمنع السوريون في لبنان من التجوال ليـلاً في بعض شوارع بيروت، ويتم منعهم من الدخول إلى مناطق معينة. كما يمنع سكان المخيمات من الخروج إلى خارج المخيمات في تركيا والأردن‏[20]. كل ذلك جعل هؤلاء اللاجئين يعيشون في ظروف قاسية جداً، إلى درجة أنهم أصبحوا يساوون بين الموت غرقاً في البحار، والأمل في الوصول إلى منافي الأرض عوض البقاء في جحيم المخيمات، كما عبر عن ذلك كثير من اللاجئين.

هكذا نرى كيف تُبدل تلك السياسة البيولوجية وجهها من خلال تحديد روبرتو إسبوزيتو لثنائية خطابها الذي ينقسم إلى خطاب سياسي يؤكد الحياة، وخطاب سياسي رافض للحياة‏[21]، أو كما قال أغامبين «يمكن للسياسة البيولوجية أن تنعكس إلـى سياسة الـمـوت»‏[22].

٣ – نموذج لوثيقة ضبط ومراقبة اللاجئين

جدير بالذكر أن الحكومة التركية ارتأت إطلاق تسمية «ضيوف» بدلاً من كلمة لاجئين، وذلك في بداية أزمة تدفق اللاجئين من داخل سورية، حيث شدّد الرئيس التركي عبد الله غول على هذه التسمية‏[23]، الأمر الذي شكل معضلة قانونية وتقنية للّاجئين السورين داخل تركيا، حتى صدور آلية الحماية المؤقتة‏[24]، حيث لو أخذنا نموذج وثيقة الحماية المؤقتة التركية كمثال، فسنجد أنها لم تكن مصاغة كتابة رغم استقبال الدولة لألوف اللاجئين منذ 2011. ولم تتم تلك الصياغة إلا سنة 2014 حيث تمت عملية تقنينها ونشرها. بالإطلاع على الباب الخامس من الوثيقة يتبين أن موادها من 17 إلى 24 تتطرق إلى قبول أي طالب للجوء: التجرد من السلاح في حال كان الأجنبي العابر للحدود مسلحاً، نقل الأجانب القادمين عبر الحدود إلى مراكز الإحالة، إجراء الفحوصات الطبية لمن هم بحاجة إلى إجراءات معالجة عاجلة أو من يُشك في احتمال تهديدهم للصحة العامة. لتبدأ بعدها إجراءات تسجيل هؤلاء اللاجئين، وتفصيل عملية نقلهم إما إلى مراكز إيواء، وإما السماح ببقائهم في المحافظات. وبعد استكمال إجراءات التسجيل والتثبت من الوثائق والمعلومات اللازمة، يتم منح وثيقة هوية حماية مؤقتة تحتوي رقم هوية أجنبي استناداً إلى أحكام قانون السجل المدني ذي الرقم 5490 لعام 2006‏[25]. تتطرق وثيقة الحماية المؤقتة التركية أيضاً إلى أهم الالتزامات المتوجبة على المشمولين بالحماية المؤقتة. وأبرز هذه الواجبات:

– ضرورة التزام الأجانب القادمين لتركيا طلباً للحماية المؤقتة بالقوانين والواجبات الإدارية، كي لا تطبق بحقهم العقوبات القضائية والإدارية استناداً إلى الأحكام العامة للقانون التركي.

– ضرورة التزام المشمولين بالحماية المؤقتة وفق هذه الوثيقة بالشروط المتعلقة بأماكن الإقامة، سواء ضمن مراكز الإيواء أو في الأماكن المحددة ضمن المحافظات التركية.

– ضرورة الالتزام بتبليغ السلطات المختصة ضمن المهل المحددة في هذه الوثيقة بكل ما يتعلق بمستجدات الوضع المهني، أو بالتغيرات التي تلحق الأموال المنقولة وغير المنقولة، أو أيّ تغيرات تطرأ على عنوان الإقامة أو وثيقة الهوية أو الأحوال المدنية من ولادات أو زواج أو طلاق أو وفاة، وبتقديم أي وثائق أو معلومات أخرى تطلبها السلطات المختصة، وبالوفاء الجزئي أو الكامل عن المساعدات أو الخدمات أو المزايا التي تم تلقّيها من دون وجه حق.

– ضرورة الامتثال لدعوات مراجعة المؤسسات الرسمية المختصة في ما يتعلق بالإجراءات والمعاملات التي تدخل في نطاق تطبيق هذه الوثيقة. كما تذكر الوثيقة أنه يجوز الحد من الاستفادة كلياً أو جزئياً من الخدمات التي تتضمنها في حال عدم التقيد بالالتزامات المنصوص عليها، باستثناء الخدمات التعليمية والصحية الأساسية والعاجلة[26].

هكذا نرى – مـثـلاً – كيف تُحيل إجراءات الفحص والتدقيق إلى عملية فرز تتطلب الخضوع من اللحظة الاولى‏[27]، حيث يجري ذلك بموازاة الهاجس الأمني أو الاستثمار الأمني للّاجئين، يقول فوكو: من خلال الإجراءات الانضباطية يتجلى وسواس «العدوى» من الطاعون، وسواس الانتفاضات والجرائم والتشرد والفرار والناس الذين يظهرون ويختفون، يعيشون ويموتون داخل الفوضى‏[28]. وبنفس الطريقة فإن الهاجس الأمني يطل برأسه منذ اللحظة الأولى تمهيداً للسيطرة على اللاجئين قبل عملية الإيواء والإغاثة والحماية، حيث من الواضح أن الجهات الأمنية هي التي ستحدد مصير اللاجئين بقبولهم أو رفضهم من خلال عمليات فرزهم وتصنيفهم وتحديد أماكن إقامتهم. يقول فوكو: إن كل مراكز الرقابة الفردية تعمل بوجه عام وفقاً لأسلوب مزدوج، أسلوب القسمة الثنائية والوسم (مجنون – غير مجنون، خطِر – غير مؤذ، سويّ – غير سويّ)، وأسلوب التخصيص الإكراهي، والتوزيع التفاضلي (من هو، أين يجب أن يكون، بماذا نميزه، كيف يمكن التعرف إليه، كيف يمكن أن تمارس عليه رقابة دائمة ثابتة بصفة فردية… إلخ)‏[29].

ثالثاً: اللاجئون الفلسطينيون في  مخيمات تشهد حالة «الاستثناء»

١ –  اللاجئون الفلسطينيون في سورية سلاح استراتيجي ضد الاحتلال الإسرائيلي

شهدت القضية الفلسطينية استخداماً سياسياً شبه دائم للّاجئين عبر سنوات اللجوء الممتدة منذ عام 1948 إلى غاية ذكرى النكبة عام 2011، حيث شكّل ذلك الحدث علامة فارقة – ومفارقة أيضاً – في ما يتعلق بتوظيف اللاجئين خلال الصراع الدائر في المنطقة. ففي عملية تحذير سوري لـ «إسرائيل» قام الأمن السوري بغض الطرف – بقرار سياسي – عن تنظيم مسيرات اللاجئين الفلسطينيين إلى الحدود مع الجولان السوري المحتل. وفي الوقت الذي تعرّض فيه المتظاهرون للقمع في كل من الأردن ومصر، تجلت على الحدود الفلسطينية – السورية والفلسطينية – اللبنانية حركة النضال الفلسطيني من أجل العودة. حيث حمل الشبان الفلسطينيون اللاجئون على أكتافهم مهمة القفز من فوق سياج الأسلاك الشائكة وحقول الألغام، منجزين بذلك خطوة كبيرة ساهمت في تخطّي 63 سنة من الإنكار والحرمان والعزلة. في اجتماع عقد في سورية بعد أيام قليلة من يوم النكبة، تحدث عدد من الشبان الذين وصلوا إلى حدود وطنهم، عن تجربتهم في العودة إلى هضبة الجولان التي تحتلها «إسرائيل»، وعبروا عن عظمة الفعل وخلوده فقالوا: «لم نتمكن من التوقف، فنحن قريبون جداً من بلوغ ديارنا»‏[30].

تتجلى المفارقة هنا، في الفارق الكبير بين الدول التي استخدمت اللاجئين السوريين – بترحيلهم بعيداً عن أوطانهم كموجات بشرية تجتاح سواحل أوروبا – من أجل تحقيق مآربها ومكاسبها، وبين الدولة السورية التي استخدمت عودة اللاجئين الفلسطينين لديارهم سلاحاً في وجه «إسرائيل» التي انكشف تورُّطها في الأزمة السورية باكراً. لتقف «إسرائيل» مذهولة وعاجزة أمام سيل بشري لا يبغي إلا العودة إلى دياره. لذلك كانت خطة سيطرة المجاميع المسلحة لاحقاً على منطقة القنيطرة بدعم كامل من «إسرائيل» علانية ومن دون أي تستر، في سياق خطة «إسرائيل» لتحمي نفسها من تكرار سيناريوهات مشابهة أكبر خطراً في المستقبل. فكان الدعم الإسرائيلي علناً للمجاميع المسلحة في القنيطرة بدءاً بالسلاح والغطاء الجوي والمدفعي والتعاون الاستخباري وصولاً إلى الإسعاف في مستشفياتها.

2 – مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وحالة «الاستثناء»

تمثل المخيمات الفلسطينية حالة فريدة من حيث كونها «حالة استثناء» مركبة، تمتد من الاستثناء على مستويات القانون والحقوق والسياسة وهندسة المكان وصولاً إلى الثقافة والهوية. حيث خضع اللاجئون الفلسطينيون في تلك المخيمات إلى حالة الاستثناء التي أقرتها الدول المضيفة. هذا مع وجود اختلاف كبير في تعاطي الدول المضيفة مع المخيمات. فقد ساهمت سياسات التهميش والنبذ، بكل ما فيها من عنف مادي ورمزي، في جعل المخيمات فضاءات استثناء قانوني وفضاءات معلقة معزولة خاضعة للضبط والمراقبة. وهو ما عمل على منع اندماج أو توطين المخيمات في دول الشتات المضيفة. وجعل – في الوقت نفسه – اللاجئين الفلسطينيين في تلك المخيمات يعيشون أوضاعاً معيشية في غاية الصعوبة طوال العقود الماضية. في المقابل، ساهمت المقاربات الرسمية الإيجابية – الدولة السورية نموذجاً – إلى حدٍ كبير في إبقاء المخيمات فضاءً حضرياً هجيناً يتميز بهندسة عمرانية خاصة يحوي بين جنباته ذاكرة وثقافة حية. وسواء أكانت المقاربة سلبية أم إيجابية، فقد جعلت تلك المقاربات مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بنى سوسيو – ثقافية وسياسية قائمة رغم مرور عقود من الرهانات على اضمحلالها، وبالتالي اضمحلال حق العودة. علاوة على ذلك، لم تكن مسألة البقاء عامـلاً موضوعياً، فقد صمدت المخيمات وبإرادة واعية ذاتية بالنضال والقتال لتحافظ على نفسها بوصفها «فضاءً وحالة استثنائية»، تجمع في أزقتها شظايا فلسطين الضائعة من أجل إعادة تركيبها من جديد. في ذات الوقت اتبع الحكم العسكري للمحتل الإسرائيلي بدوره سياسة التهميش واستهداف للكل الفلسطيني، بموازاة استهدافه لأكبر المخيمات داخل فلسطين في سياق رهاناته على اضمحلالها.

يعاني اللاجئون الفلسطينيون حالة استثناء قانوني فريدة في نوعها، حيث يصيب الاستثناء على مستوى القانون الدولي جميع اللاجئين الفلسطينيين، بسبب استثنائهم من حماية الاتفاقية الدولية للّاجئين لعام 1955. وهي الاتفاقية التي تحض بالدرجة الأولى على حق اللاجئ في العودة إلى وطنه، أما في الحالة الفلسطينية فغالباً ما يتم تجاهل ذلك، ليتم الحديث عن حل عادل لقضية فلسطين. ورغم كون الكثير من قرارات الشرعية الدولية تحض على عودتهم إلى ديارهم، إلا أن أيّاً منها لم يجد سبيله إلى التطبيق. فالمجتمع الدولي صاحب سيادة القانون الدولي تحركه التحالفات السياسية التي تقف حائلاً في وجه عودة اللاجئين إلى فلسطين. إلى جانب ذلك كله تعاني مخيمات لبنان استثناءً قانونياً فريداً، فالقانون معلق بصفة دائمة في مخيمات لبنان التي تخضع لسيطرة الفصائل الفلسطينية.

أ –  استراتيجية تشتيت اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات للقضاء على حق العودة

يحسب للمخيمات أنها كانت سادن الرواية الفلسطينية منذ النكبة حول الأرض والهوية والجنة المفقودة. ويحسب لها أن معاناتها ووجودها كانا من بين أهم مولدات الثورة والمقاومة الفلسطينية المعاصرة، غير أن التغيرات التي مرت بها القضية الفلسطينية منذ «اتفاقيات السلام» أواسط التسعينيات، وما تمر به المنطقة العربية منذ سبع سنوات، أدخلت المخيمات الفلسطينية بوصفها رمزاً مادياً ومعنوياً لحق العودة في الشتات، في أحد أخطر مراحل تاريخها منذ نكبة عام 1948، حيث شهدنا مأساة «مخيم نهر البارد» في لبنان وكارثة «مخيم اليرموك» ومخيم «حرندات» في سورية. وما زالت آلة شيطنة المخيمات تشتغل على نحوٍ مكثف عبر تحريكها والزج بها في الصراع التناحري الجاري في الإقليم، إذ يجري استخدام السيناريو نفسه عبر تسلل مجموعة إرهابية مُنبتّة إلى أحد المخيمات ومن ثم تبدأ الأزمة. حالياً يعاني «مخيم عين الحلوة» أكبر مخيم للّاجئين في لبنان من المعضلة عينها، حيث لم يعد خافياً على أحد أن الهدف هو مسح المخيمات التي تعد الرمز المادي للعودة إلى الأرض والعمل على تشتيت اللاجئين الفلسطينيين في الأرض مرة أخرى، كما لم يعد خافياً من هو المستفيد الأكبر من ذلك كله. لقد كان العمل على بقاء مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بوصفها حالة وفضاء «استثناءً» – إيجابياً (سورية نموذجاً) أو سلبياً (لبنان نموذجاً) – وعلى منعها من الاندماج والتوطين في المجتمعات المضيفة، يقف وراء الحفاظ على الهوية الجمعية لسكان المخيمات وعلى هوياتهم الميكروثقافية – سواء في مخيمات الشتات أو في الداخل الفلسطيني – ما جعل تلك المخيمات عنواناً ورمزاً لحق العودة وتكريساً للمقاومة المشروعة للمشروع الصهيوني.

إن وضع «الاستثناء» بالمفهوم الإيجابي هو الذي يمنع تلك المخيمات من التحول إلى بؤر حاضنة أو منتجة للعنف والإرهاب، وذلك بالنظر إلى الهدف الأساسي وهو الحفاظ على المخيم كفضاء وحالة «استثناء» مادي، مع منح سكانه الحقوق المدنية التي تضمن لهم الكرامة الإنسانية. هذا إلى جانب وقف مختلف ضروب العنف المادي والرمزي الرسمي الممارس على المخيمات وسكانها في بعض الدول المضيفة، بحجة الحفاظ على الأمن أو عدم التوطين. ففي لبنان مثـلاً ينظر إلى اللاجئين الفلسطينيين على أنهم فئة خاصة من الأجانب محرومة بعض الحقوق التي يتمتع بها الأجانب. ولذلك يغدو الإصرار على الهوية أداة للحفاظ على الذاكرة ومواجهة التهميش والإقصاء. الجدير بالذكر أن حالات الانجرار إلى العنف كانت في سياقات هجوم مرتبط بصراعات لا تكون بعيدة من الكيان الصهيوني المحتل. أما في سورية فتكاد تقترب حقوق الفلسطينيين اللاجئين من حقوق المواطنين مع الاحتفاظ بجنسيتهم الفلسطينية. فيما كانت المقاربة في الأردن، وهو البلد الذي يستقبل النسبة الكبرى من اللاجئين الفلسطينين، متفاوتة في الاقتراب من النموذجين السوري واللبناني وفقاً لفئات الفلسطينيين داخل الأردن، حيث ضمت تلك الفئات أردنيين من أصول فلسطينية، وفلسطينيين من الضفة الغربية يحملون الجنسية الأردنية، وفلسطينيين من قطاع غزة، واللاجئين في المخيمات، أما الداخل المحتل فتحولت السلطة الفلسطينية لتقوم بدور الدولة المضيفة من دون أن تكون دولة وفي ظل الاحتلال‏[31].

ب –  حرب سورية نسف لنموذج الاستثناء الإيجابي لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين

شكل فضاء مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سورية مسرحاً آخر للصراع من قبل قوى إقليمية ودولية. رغم كون كثير من المخيمات الفلسطينية في الشتات فضاءات قهر أو فراغ أو نموذجاً لـ «حالة الاستثناء»، إلا أنها في سورية كانت مختلفة عن البقية من حيث كونها فضاءً إيجابياً حافظاً للذاكرة والهوية ورمزاً لحق العودة بموازاة صون كرامة الإنسان الفلسطيني. وهو القرار الذي اتخذته الحكومات السورية المتعاقبة على المستوى الرسمي والشعبي منذ نكبة عام 1948. حيث أصدرت الحكومة السورية تشريعات تنص على معاملة مواطنيها واللاجئين الفلسطينيين على قدم المساواة في الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. مع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، كان عدد اللاجئين الفلسطينيين في البلاد قد ارتفع إلى ما يزيد على 50.000 لاجئ إلى غاية شهر تموز/يوليو 2015، تعرض أكثر من 60 بالمئة منهم في سورية للتهجير القسري إلى مناطق مختلفة داخل البلاد أو إلى خارجها نتيجة للأزمة الراهنة التي تعصف بها‏[32]. فقد تحولت المخيمات إلى ساحة مواجهة بين المسلحين والجيش العربي السوري. وذلك بهدف تموضع المسلحين في خاصرة دمشق، وجر الجيش العربي السوري لخوض معارك حول المخيمات وداخلها – وبخاصة مخيم اليرموك الذي يُعَد أحد بوابات دمشق. رمت هذه الاستراتيجية إلى تحقيق هدفين: تأليب الرأي العام على الجيش السوري من جهة، ومن جهة أخرى، خدمة أجندات إقليمية ودولية بتدمير الوجود المادي للمخيمات الفلسطينية التي صمدت لسبعين عاماً مادياً ورمزياً بشعار حق العودة. بينما تم استثمار اللاجئين الفلسطينيين كأشقائهم اللاجئين السوريين بجعلهم سلاحاً في يد القوى المتناحرة بعد خروجهم من سورية طلباً للأمان.

هكذا تم استهداف مخيمات اللاجئين في سورية من أجل مسح وجودها المادي، وتحويل اللاجئين الفلسطينيين نحو مخيمات اللجوء خارج سورية مع أشقائهم السوريين تمهيداً لإرسالهم إلى ما وراء البحار. تقول حنة أرنت «إن اللاجئين وهم مطرودون من بلد إلى آخر هم طليعة شعوبهم، إن احتفظوا بهويتهم»‏[33]، يتساءل الكثيرون كيف أصبح هؤلاء إرهابيين في أرض الملجأ؟ يفترض الجواب إذاً تتبع صيرورة تهيئة اللاجئين ليصبحوا سلاحاً. وبالتالي وجوب الانطلاق من نقطة التركيز في مخيمات تصبح حالة من فضاءات تراوح بين كونها استثناء وفضاءات فراغ ومعازل للضبط والمراقبة. ففي المخيمات يتم تحويل اللاجئ ليكون ذلك الإنسان المستباح والمُضحَّى به.

رابعاً: اللاجئون في أوروبا والوصم بالإرهاب والخطر

‏مع تصاعد موجات اللاجئين فرضت دول الاتحاد الأوروبي قيوداً كثيرة على حدودها. حيث وضع الاتحاد الأوروبي سلسلة من الإجراءات لمنع دخول اللاجئين إلى أراضيه. اتخذت صبغة اتفاقيات أمنية مع بلدان المنشأ والعبور في الجنوب لمنع رحلات الهجرة، واستخدام الاعتقال بمنزلة رادع للّاجئين، إلى جانب عقد اتفاقيات إعادة القبول لتسهيل عودة المهاجرين غير النظاميين إلى البلدان المجاورة. أما في ما يتعلق بطريقة التعامل مع من تمكنوا من الدخول إلى أراضي دول الاتحاد الأوروبي فيصفها هاني سليمان بأنها: راوحت بين التمييز بين اللاجئين السياسيين والمهاجرين ذوي الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية، وإقامة مراكز الإيواء التي يعاني فيها اللاجئون ظروفاً قاسية جداً، والتوطين والإدماج. إجراءات تتم عبر سلسلة طويلة تمتد لسنوات، يعاني خلالها اللاجئون صعوبات جمة، تصل إلى حد الصد والطرد برفض طلب اللجوء في حالات كثيرة.

1 – اللاجئون وخطر الإرهاب حسب استطلاع للرأي في بلدان الاستقبال

يظهر استطلاع رأي أعده معهد «بيو ريسيرتش» الأمريكي بين 4 نيسان/أبريل و12 أيار/مايو 2016 أن أغلبية الأوروبيين يرون أن تدفق اللاجئين إلى قارتهم يزيد الإرهاب خطراً، كما يزيد مخاوفهم من انعكاسات موجة اللجوء على الوظائف في بلدانهم، حيث كشف الاستطلاع أنه في ثمانية من البلدان العشرة التي شملها الاستطلاع (وهي بلدان تمثل 80 بالمئة من مجمل السكان الأوروبيين) أن نصف الرأي العام على الأقل يرى أن وصول طالبي اللجوء «يزيد من المخاطر الإرهابية»، وبلغت نسبة المتخوفين من اللاجئين رقماً قياسياً في المجر (76 بالمئة) وبولندا (71 بالمئة). وهما بلدان استقبلا عدداً ضئيـلاً نسبياً من المهاجرين، وتبنت حكومتاهما سياسة بالغة الشدة حيال اللاجئين. أما في ألمانيا التي استقبلت أكبر عدد من المهاجرين، فإن 61 بالمئة من المواطنين أبدوا هذه المخاوف. فيما بلغت النسبة 60 بالمئة في إيطاليا و52 بالمئة في بريطانيا. وشكلت فرنسا مفارقة بالنسبة إلى بلد شهد اعتداءات دامية عام 2015، إذ إن غالبية الفرنسيين (51 بالمئة) لم تعرب عن هذا الرأي، مقابل 46 بالمئة رأوا أن «الأخطار الإرهابية ازدادت»[34].

هكذا أصبحت أزمة اللاجئين والخطر «الإرهابي» مترابطين بقوة في ذهن العديد من الأوروبيين، وهو ما أتاح تصاعد الخطاب المعادي للمهاجرين بوجه عام الذي تتبناه أحزاب اليمين المتطرف على امتداد القارة. استغلت تلك الأحزاب مخاوف الأوروبيين من انعكاسات تدفق اللاجئين على وضعهم الاقتصادي. ورأت نسبة كبيرة منهم في وصول اللاجئين عبئاً على دولها، إذ عبرت عن موقفها ذاك بقولها «قد يأخذون وظائفنا ومساعداتنا الاجتماعية» وذلك بحسب ما ورد في التقرير. وبلغت هذه النسبة 82 بالمئة في المجر، و75 بالمئة في بولندا، و72 بالمئة في اليونان، و65 بالمئة في إيطاليا، و53 بالمئة في فرنسا. هذه المخاوف تهيمن على سبع من الدول العشر المشمولة بالدراسة. ومن اللافت للنظر في ألمانيا، البلد الأول المعني بمسألة اللاجئين، أن أغلبية السكان (59 بالمئة) لا تعرب عن هذه المخاوف. من جهة أخرى، يكشف التحقيق عن زيادة المشاعر السلبية لدى الأوروبيين حيال المسلمين، ومن ضمنها فرنسا، حيث يعرب 29 بالمئة عن هذا الرأي. وبصورة عامة، ازداد عدد الأوروبيين الذين يرون أن التنوع الثقافي والإثني أمر يسيء لبلادهم. فأغلبيتهم ترى أنه من المهم تقاسم عادات وتقاليد مشتركة من أجل الانتماء فعـلاً إلى مجتمع وطني.

2 – التحولات الداخلية لدول الاستقبال تصنع الإرهاب وتصونه

أثرت عوامل متعددة في طبيعة التعاطي الأوروبي مع موجات اللاجئين، أبرزها المخاوف الأوروبية المتعلقة بمسألة الهوية الثقافية الأوروبية، وتصاعد قيم اليمين بما فيه اليمين المتطرف، والاستثمار السياسي لـ «خطر اللاجئين» خلال الانتخابات، والقلق الاجتماعي والاقتصادي بسبب اللاجئين، وتنامي النزعات الطائفية حيث لم تجد دول مثل بولندا وسلوفاكيا والتشيك أي حرج في رفض استقبال المسلمين من اللاجئين السوريين، والإعلان عن قبولها استضافة مسيحييهم[35].

ما إن ينجح اللاجئون في عبور البحر وتفادي الموت غرقاً بالوصول إلى بر الأمان كما كانوا يأملون، حتى تبدأ معاناة احتوائهم في مراكز الإيواء تحت ظروف معيشية صعبة جداً، إلى درجة أن بابا الفاتيكان فرنسيس شبّه كثيراً من مراكز الإيواء بمعسكرات الاعتقال النازية، حيث روى لاجئون سوريون قصصاً كثيرة عما لاقوه في تلك المخيمات من التعرض للضرب والإذلال والحط من كرامتهم الإنسانية، والتعامل معهم بأساليب أمنية رغم كونهم حالات إنسانية[36]. من ثمّ تبدأ عملية الإدماج عبر إرسال اللاجئين إلى مناطق نائية وتخصيص مسكن لهم وقدر مالي للإعاشة إلى حين العثور على عمل. ما من شك أنها إجراءات توفر لهم الأمن على حياتهم ولكنها لا تؤمِّن مستقبلهم. هنا مكمن الخطر الذي يصنعه واقع الإحساس باليأس والانزواء والتقوقع على الذات.

لا شك في أن العمليات «الإرهابية» التي اجتاحت كثيراً من بلدان أوروبا بموازاة حركة لجوء النازحين من المنطقة نحوها – وخصوصاً نحو البلدان التي تورطت في الأزمة السورية أو الليبية – قد شكلت موضوعاً لصوغ رد فعل رسمي تجاه اللاجئين. تنضاف إلى المخاوف الأمنية المخاوف الأخرى ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. غير أن الهاجس الأمني وتلك المخاوف المتعلقة بالإرهاب قد تشكل أسباباً مقبولة أخلاقياً وسياسياً لرفض اللاجئين أو التعامل معهم وفقاً لقوانين خاصة. على المستوى الشعبي شكلت تلك الهجمات «الإرهابية» مصدراً لتزايد «الإسلاموفوبيا» الذي رافق العمليات «الإرهابية» وحركة اللجوء من «الشرق المسلم» نحو أوروبا.

تنزع التحولات الداخلية لدول الاستقبال – تحت ذريعتَي الإرهاب والهاجس الأمني – إلى تعليق المنظومة القانونية الخاصة بحماية اللاجئين، ناهيك بتخليها عن مرجعايتها الليبرالية والأخلاقية، إذ تمارس عنفاً مادياً ورمزياً متفاوتاً نسبياً في صدها للّاجئين أو عملها على استيعابهم، وفي ما يتخلل عمليات فرز «إدماج» اللاجئين وإيوائهم وصيرورتهم في أوروبا؛ وهو ما يمكن أن يؤدي إلى شعور الكثير منهم باليأس والإحباط والخوف وتطوير نظم دفاع لحماية الذات، وما يفضي بالتالي إلى نجاح كثير من الجهات في استقطاب بعض اللاجئين لتنفيذ عمليات إرهابية. وبذلك يكون اللاجئون مادة توظيف من نوع آخر في الصراع ضد المجتمعات التي تستضيفهم نهائياً.

هذا وإن كانت الأحداث التي هددت الأمن القومي الأوروبي قد نفذها إرهابيون مندسون في الغالب، أو لاجئون تم تنظيمهم أصـلاً في البيئات المضيفة، إلا أن تلك الأحداث وُظفت لتضيٍّق الخناق على حركة اللجوء، وبالتالي لحماية تلك الدول لنفسها من موجات اللاجئين التي لن تشكل عبئاً عليها بقدر ما ستعمل في المستقبل القريب على إخراجها من أزمة شيخوخة ساكنتها، وتدنّي ناتج دخلها الاقتصادي القومي؛ وذلك برفدها بقوى عاملة شابة، متعلمة ومحترفة تضخها بدماء جديدة لما تحمله من قوة عضلية وفكرية ومن غنى وتنوع ثقافي.

خاتمة

من خلال تحليل الموضوع يتبيّن كيف صار اللاجئون سلاحاً في يد دول تحارب به دولاً أخرى لتحقيق مصالح سياسية أو جيوستراتيجية مشروعة أحياناً‏[37]، وغير مشروعة أحياناً أخرى. بينما كان الهاجس الأمني والإرهاب والمخاوف الاقتصادية سلاحاً في يد دول أخرى تواجه به تدفق موجات اللاجئين الفارِّين من الموت ومن ويلات الحرب. وفي كلا الحالين كان اللاجئون كأجساد هم الموضوع والسلاح المستخدم للهجوم والدفاع. بينما كانت عملية توفير الحماية أو توطين اللاجئين تتحول من كونها تنطلق من مضامين الإنسانية والليبرالية والديمقراطية، إلى مجرد كونها آلية تُسخَّر لخدمة الحرب والصراع، تسير وفقاً لنظم معقدة من الضبط والمراقبة والعقاب تحت غطاء القانون بمستويَيه الدولي والوطني.

إلى ذلك فإن توظيف حركة اللاجئين السوريين من داخل سورية، كان يرمي إلى ضرب وجود الدولة السورية، أما في الحالة الفلسطينية فإن تدمير المخيمات يرمي إلى مسح حق العودة، أو بالأحرى إلى ضرب وجود شعب بأكمله.

 

قد يهمكم أيضاً  الهجرة القسرية في الوطن العربي : إشكاليات قديمة جديدة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #دراسات #النزوح #اللاجئون_السوريون #اللاجئين #اللجوء #المخيمات_الفلسطينية #المخيمات_السورية #استغلال_قضية_اللاجئين #الهجرة #قضية_اللجوء #الحرب_السورية