المؤلف: محمد حليم ليمام
مراجعة: منى سكرية(**)
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت
سنة النشر: 2017
عدد الصفحات: 247
ISBN: 9789953828107
سعى معِدُّ هذه الأطروحة إلى إثبات العلاقة بين الفساد والتسلُّط في بعض أنظمة الحكم، التي أنتجت ما أسماه «الفساد النسقي»، الذي يشكِّل عائقاً أمام التنمية والديمقراطية والإصلاح، متخذاً من الحالة الجزائرية أنموذجاً لدراسته، فاعتمد أسلوباً استقرائياً للتسلسل التاريخي للجزائر في حقبات الاحتلال العثماني ثم الاستعمار الفرنسي، ومرحلة ما بعد الاستقلال وتعاقب رؤساء وأدوار على سدة رئاستها، وقد قاربت النصف قرن، وذلك عبر منهج علمي و«تحليل الظاهرة بالاعتماد على المقاربات الجديدة في حقل علم السياسة وفي السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا السياسية» (ص 26).
– 1 –
عقد في الفصل الأول بعنوان «الفساد النسقي: حكم الفساد»، «مقارنة بين الدول التي تشهد فساداً عرضياً، وتلك التي تعيش في ظل نسق فاسد» (ص 37). وعليه بحث المؤلف الفساد النسقي في الأنظمة الديمقراطية وغير الديمقراطية، لافتاً النظر إلى تفسير بعض الدارسين للفساد النسقي «بأنه حاجة الأنظمة إلى الفساد من أجل الوصول إلى السلطة والبقاء» (ص 37)، متسائلاً عن ثقافة الفساد وكيف يتطور إلى فساد مُنظَّم ومُهيكَل، فيختصرها بما ذكره روبرت كلينغارد من أن الفساد يساوي الاحتكار زائد حرية التصرف ناقصاً المساءلة (ص 38)، معتبراً «أن الفساد يزدهر ويصبح أمراً مسموحاً به، لا عندما يزيد من مردودية الصفقات الفردية، بل عندما يتم في إطار أنظمة عديمة الشرعية» (ص 38)، مؤكداً «أن الفساد النسقي وضعٌ تتداخل فيه عناصر السلطة بعناصر الثروة، وتُفتقَد فيه الحدود بين العام والخاص، بحيث يصير الفساد يتغذّى من الفساد» (ص 41)، كما أنه «حالة مَرَضية مُتقدِمة ووباء يشمل هياكل الدولة وبُنياتِها كافة» (ص 43). وهذا التفسير المعمّق لحالة الفساد النسقي يحيلنا على مقاربة ما طرحته أوراق الندوة التي عقدتها المنظمة العربية لمكافحة الفساد بعنوان تعارض المصالح في الدولة والمجتمع[1]، و«أرادت المنظمة من خلال هذه الندوة تسليط الضوء على هذه الظاهرة التي باتت مستشرية في منظومة الدولة والمجتمع في بلداننا.. لأن الخطر الرئيس الذي تسببه هذه الظاهرة هو تفشي الفساد في المرافق العامة والخاصة، وتشجيعه كمنصة داعمة لبيئة فكرية وثقافية مجتمعية تستكين للفساد وتحتضن ثقافته من أجل تحقيق مصالح ومآرب وجشع فئة معيَّنة من الناس على حساب المصلحة العامة» (من التعريف بالكتاب في الصفحة المقابلة للغلاف)، ناهيك بمؤلفات وأبحاث صبّت في اتجاه تأكيد فشل بناء الدولة العربية منذ مراحل استقلالاتها على قاعدة تقسيمات اتفاقية سايكس – بيكو قبل مئة عام.
وإذ يقارن المؤلف بين الفساد في النظم الديمقراطية وتلك اللاديمقراطية، فإنه يتوقف أمام نظرية عالِم السياسة الأمريكي مايكل جونستون حول مشكلات الفساد من خلال تناوله أربع فئات من البلدان تتنوع أنظمتها السياسية والاقتصادية ودرجة القوة المؤسسية فيها: الفئة الأولى توجد فيها الديمقراطيات الراسخة ومثالها الاتحاد الأوروبي وكندا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية، والفئة الثانية تكون الأطر المؤسسية في هذه المجتمعات قوية نسبياً، ومثالها الديمقراطيات الأكثر قوة في أوروبا الوسطى في مرحلة ما بعد الشيوعية، وتضم الفئة الثالثة المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية مثل روسيا وتركيا. أما الفئة الرابعة فتضم من البلدان الأفريقية في جنوب الصحراء والبلدان العربية (ص 59 – 60) المجتمعات غير الديمقراطية، وضمن هذه الفئة تقع الصين وإندونيسيا والكثير.
– 2 –
في الفصل الثاني بعنوان «الإرث التاريخي للدولة الجزائرية المعاصرة: جذور الاستبداد والفساد»، يعرض المؤلف للدولة الجزائرية قبل وصول الأتراك، منطلقاً من «حقيقة أكدها الكثير من العلماء والباحثين العرب مفادها أن الدولة الجزائرية قديمة قِدَم المجتمع الجزائري خلافاً لما أوردته دراسات غربية اعتبرت أن جزائر ما قبل الاحتلال الفرنسي منطقة فراغ حضاري بلا تاريخ» (ص 72)، مستعيناً بنظرية ابن خلدون حول دراسته التاريخية للمغرب الأوسط، إذ وضع ابن خلدون عدداً من المفاهيم «هي بمثابة عوامل تفسِّر ظهور الدولة في المغرب العربي، فالعامل الأول يتمثل في العصبية، أما العامل الثاني وهو ظهور زعامة تتولى مهام القيادة أي رئاسة المجتمع القبلي، إضافة إلى العامل الثالث وهو الدعوة الدينية» (ص 75 – 77)، معتبراً أن «ما يقدمه لنا الفكر الخلدوني بشأن المجتمعات المغاربية وتحديداً حول بنية الدولة فيها ضروري لتأكيد أن المجتمع لم يكن إقطاعياً على النحو الذي كانت عليه مجتمعات أوروبا في القرون الوسطى» (ص 78).
إن ما أراده الباحث من الاتكاء على نظرية إبن خلدون حول الدولة في المغرب العربي هو لدحض «مقولات المدرسة الكولونيالية التي روَّجت للفراغ الحضاري في المنطقة المغاربية قبل الاستعمار» (ص 79)، ولكي يتابع أيضاً تفنيد بحثه حول أسس الدولة الجزائرية، سواء في المرحلة العثمانية أو تحت «الاستبداد الكولونيالي الوافد» (ص 87)، مستعرضاً «لسياسات الاستعمار الفرنسي في الجزائر طيلة 130 سنة وأشكال المقاومة التي واجه بها الجزائريون المُستعِمر لتحرير البلاد» (ص 87) التي تركت أثرها في تركيبة نظام الحكم الجزائري لاحقاً وما أفرزه من فساد نسقي، فيقول إنه «مقابل الازدهار الذي تحقق للدولة الفرنسية بعد نهب خزينة الجزائر العثمانية، ساءت أوضاع المجتمع الجزائري بفعل الأعمال الوحشية التي شَرَعت قوات الاحتلال في تنفيذها باسم الحضارة والحرية» (ص 89)، وقد «عملت فرنسا بتوجيه من منظّري الغزو يتقدمهم أليكسي دو توكيفيل الذي كان من أشد المدافعين عن النظام العسكري الاستبدادي في الجزائر من أجل احتلال الأرض وإخضاع السكان» (ص 90)، مع الإشارة إلى أن دو توكيفيل هو صاحب كتاب الديموقراطية في أميركا.
– 3 –
ويعرض الفصل الثالث بعنوان «الخبرة الكولونيالية وتوطين الفساد والاستبداد»، لأن «هذا التفصيل في التاريخ ضروري لفهم مدى امتداد الماضي في الحاضر عبر ما يصطلح عليه علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا بالمخيال التاريخي» (ص 95) شارحاً في تبنيه لهذا الاستنتاج طبيعة السلطة والعلاقة بين الدولة والمواطنين، هذه العلاقة التي استمرت «عمودية وانفصالية تماماً مثلما كانت في العهد الاستعماري، وطوال عهد الحركة الوطنية حينما تطورت السلطوية في ظل الجناح المتشدد (حركة انتصار الحريات الديمقراطية ثم مع المنظمة السرية) وترسخت مع جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني ليبقى العنف لب المخيال السياسي والاجتماعي» (ص 95).
ويضيف، موضحاً هدفه في تبديد الإشكالية التي يطرحها في دراسته هذه، ومنها كيف أن الحداثة التي جلبها المستعمر كانت حداثة من دون تحديث، فشاعت ما وصفه بـ «البتريمونيالية» لدى النخب، «حيث ستصبح الدولة إطاراً لتشكل وإعادة إنتاج نخب سياسية منظمة في عُصب تتولى عملية استقطاب الفئات الناشئة في سياق وظروف اجتماعية ملائمة لنمو «دولة زبونية» (ص 96)[2].. مقارناً مع ما حاوله الأمير عبد القادر الجزائري في دولته التي امتدت من 1832 إلى 1848، لكن توصية ألكسي دو توكفيل للحكومة الفرنسية «بعدم إضاعة الوقت لتحطيم دولة الأمير» (ص 98)، كانت أسرع (تتشابه مع دور الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي في ليبيا أو منظّري حقبة المحافظين الجدد أثناء احتلال أمريكا للعراق العام 2003) لافتاً إلى أن الحركة الوطنية «وُلدت في ظل القهر الذي مارسه الاستعمار بشتى أنواعه»، ما يدعوه إلى الاستنتاج أن الحركة الوطنية «تأثرت بمختلف تياراتها الاندماجية والإصلاحية والاستقلالية منذ البداية بالسياسة الاستعمارية»، وبأن «الاستبداد سيطر على فكر ونشاط قادة الحركة الوطنية» (ص 100).
في هذا الفصل يُؤشِّر الباحث إلى ما وصفه بتسلطية جبهة التحرير الوطني، ومع «مرور الزمن كان سعي العسكريين حثيثاً إلى توظيف نفوذهم على جميع الصعد» (ص 104)، وهو «سيكون مآل الدولة الجزائرية الناشئة»، وهو أيضاً ما يفسح المجال للباحث من تأكيد فرضية دراسته من «أن النظام التسلطي لا يشتغل من دون توظيف الفساد».. «نظام تأسس على شبكات زبونية تعتمد على الجهوية كقاعدة».. و«سيشهد مسار الثورة الانحراف التام عن مبدأ القيادة الجماعية وتوطيد مجموعات الزمر في غمرة الصراع بينها بالسلطة وتعزيز مواقعها» (ص 104 – 105). وعليه، فقد «استلهمت الدولة الجزائرية المستقلة أسلوب الحكم ونمط العلاقة بالمحكومين»، إذ «خططت القوى الكولونيالية لإبقاء سيطرتها غير المباشرة على الدول التي استعمرتها وقد نجحت فرنسا في ذلك، في أفريقيا عموماً، وفي الجزائر تحديداً» (ص 109)، ليخلص في هذا الفصل إلى أن حرب التحرير «تظل حاضرة في الخطاب والممارسة السياسية لأن مكانها في العقل السياسي، وهذا جانب آخر من تراجيديا الذاكرة الوطنية التي يبدو أن الجزائريين صاروا في سجنها وهي ذاكرة تتطلب تصفيتها من الأساطير» (ص 120).
– 4 –
في الفصل الرابع بعنوان «تكوين الدولة الفاسدة وبُنيتها» يتساءل الكاتب عما إذا كانت القيادة السياسية استجابت «لتجاوز [حالة] الدمار المادي والنفسي التي تركها الاستعمار» ويجيب بالنفي، مشيراً إلى الصراع الدموي على السلطة «سيتخذ العنف أداة للتداول على الحكم والنتيجة ستُبنى الدولة وتُهمل الأمة» (ص 121).
ويذكر المؤلف هنا، أنه يُصطلح على الدول التي يسيطر فيها الجيش بـ «الدولة البريتورية» (مصطلح مشتق من ممارسات الحرس الإمبراطوري في الدولة الرومانية عندما أصبح يُنَصّب الأباطرة ويعزلهم حسب مشيئته)، ويرى «أنه في ظل هذه الأنظمة لا مجال للحديث عن العلنية والشفافية» (ص 123)، متوقفاً أمام «صعوبة كبيرة في فهم النظام السياسي الجزائري، فمقارنة بأنظمة عربية أخرى مثـلاً يبدو أن طبيعته أكثر تعقيداً» (ص 124)، مصنفاً ثلاثة ترتيبات للسيطرة البريتورية تميّز النظام الجزائري وهي: تحقق استقلالية الجيش؛ توسع مجال الأمن العسكري؛ واستخدام «القذارة» في السياسة كقوة لمنع التغيير والاستمرار في الوضع السلطوي القائم (ص 130).. (نشير هنا إلى ما ورد في كتاب الحرب القذرة للضابط الجزائري حبيب سويدية عندما كشف أنواع العنف بحق الإسلاميين في التسعينيات في إثر فوزهم بالانتخابات التشريعية ومنعهم من تحقيق ذلك).
– 5 –
أما الفصل الخامس والأخير بعنوان «من الدولة الفاسدة إلى الدولة المُفسِدة»، فيقول إن ما شرحه في الفصل السابق كافٍ للإجابة عن إشكالية الدراسة، سياسياً واقتصادياً، لأن التداخل الحاصل ما بين السياسة والاقتصاد أي بين الثروة والسلطة خلق البيئة التي يتغذى منها الفساد، نظام سياسي مغلق يعتمد السرية والإخفاء واقتصاد خفي تديره سلطة خفية» (ص 165) مستعرضاً لحقبات 1962 – 1988 تحت حكم الرؤساء أحمد بن بلة، فالرئيس هواري بومدين، فالرئيس الشاذلي بن جديد؛ ثم عن الحقبة 1989 – 1991 وعنوانه فساد انتقالي – انتقامي حكمته ثلاث مجموعات متصارعة، في حين حكمت المرحلة 1992 – 1999 فساد عنفي – لصوصي؛ أما المرحلة 2000 – 2016 فكان الفساد فيها فساداً عصبوياً – عصاباتياً.
* * *
ما لا شك فيه أن المؤلف استطاع تقديم صورة مكثفة عن الحالة الجزائرية والفساد النسقي المستحكم في بُنيتِها – والذي ينذر بين حين وآخر بمؤشرات لاشتعال الجمر الكامن تحت رماد ما هو سائد – وذلك عبر منهج علمي معتمداً نظريات علم الاجتماع والسياسة، وواكب فيه وقائع تطور هذه الآفة وأسباب تجذرها، ولكن لنا أن نورد هنا بعض ملاحظات تثير الانتباه، ومنها:
– عدم تطرقه إلى الجانب الاقتصادي الجزائري ومراحل النمو والفشل والذي انعكس في عملية التنمية الملحوظة.
– تغييبه نخب المثقفين من دائرة البطانة القريبة من الحاكم لتأمين استمراريته واقتصرت لائحته على العسكر والسياسيين ورجال الدين.
– لم نلحظ أية إيجابية حول مرحلة العمل المقاوم والتحرري من الاستعمار الفرنسي، لا بل تركيزه على تأسيس الفساد منذ تأسيسه بمرحلة الثورة!
– تلميحه (لا تركيزه) إلى الإشكالية القائمة بين أنظمة ديمقراطيه في بلدانها الأم ودعمها لأنظمة غير ديمقراطية في أكثر من بلد، وبخاصة في منطقتنا العربية، وما تخلقه من أسباب الفساد والتسلط.
للحصول على نسختكم من الكتاب، إضغطوا على الفساد النسقي والدولة السلطوية حالة الجزائر منذ الاستقلال
قد يهمكم أيضاً هذه الدراسة للكاتب نفسه حول ذات الموضوع الفساد النسقي والدولة الاستبدادية: حالة الجزائر 1962 – 2016
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #مراجعة_كتاب #الجزائر #الفساد #الدولة_السلطوية #حالة_الجزائر_منذ_الاستقلال #الفساد_النسقي_والدولة_السلطوية
المصادر:
(*) نُشرت هذه المراجعة في مجلة المستقبل العربي العدد 468 في شباط/ فبراير 2018.
(**) منى سكرية: صحافية لبنانية.
[1] تعارض المصالح في الدولة والمجتمع (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017).
[2] يمكننا التذكير هنا بكتاب الباحث أديب نعمة بعنوان الدولة الغنائمية والربيع العربي (بيروت: دار الفارابي، 2014) ومعالجته للباتريمونيالية أو الإرثية المُحدّثة كما عرّفَها المؤرخ أحمد بيضون، ولمفهوم الدولة الغنائمية «التي تضيع فيها الحدود بين الشخص والمؤسسة، وبين العام والخاص، وبين الوظائف الإدارية والسياسية للدولة وبين الجمهور والمملكة، أو الإمارة، وبين التقليد والتحديث» (ص 119 من كتاب نعمة).
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.