إعداد وترجمة وتقديم: محمد ياقين
مراجعة: محمد الإدريسي
الناشر: منشورات دار نشر المعرفة، الرباط، (سلسلة المعارف السوسيولوجية؛ 1)
سنة النشر: 2020
عدد الصفحات: 133
– 1 –
صدر مطلع هذه السنة، عن دار نشر المعرفة (الرباط – المغرب)، كتاب الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا الكلاسيكية: نصوص مختارة، لعالم الاجتماع المغربي محمد ياقين(1) ضمن سلسلة المعارف السوسيولوجية. يرصد الكتاب الشروط الإبستيمولوجية والتاريخية لتعاطي رواد السوسيولوجيا الكلاسيكية مع مفهومَي الفرد والمجتمع من خلال عرض سير ونصوص مختارة ومترجمة لنحو اثنين وعشرين مفكرًا اجتماعيًا وسوسيولوجيًا طبعوا مرحلة التأسيس الفلسفي والعلمي للممارسة السوسيولوجية خلال القرنين الماضيين. يقدم ياقين «سلسلة [علمية] تسعى إلى تيسير فهم واستيعاب مفاهيم ونظريات وقضايا سوسيولوجية […] متضاربة» (ص 7) بالعودة إلى الأصول النظرية والنصوص المؤسسة لتجاوز المقولات الإبستيمولوجية التي تحصر تاريخ السوسيولوجيا الكلاسيكية في ثنائيات «التفسير/الفهم؛ الوضعي/التفهمي/الوضعية/الفيبرية».
يشدد الباحث على الطابع الإبستيمولوجي والتاريخي للمؤلف من جهة، والرهان البيداغوجي الذي يحكم إنتاج «سلسلة المعارف السوسيولوجية» من جهة أخرى. لهذا، نجده يربط ميلاد السوسيولوجيا بـ«التباعد الذي حصل مع الفكر الاجتماعي» (ص 18)، سيرورة الحداثة (ص 12)، الثورة الفرنسية (ص 13)، ظهور المجتمع الصناعي (ص 14)، المدينة والمجتمع الحديث (ص 16 – 17) بوصفها شروطًا موضوعية تسعف القارئ لفهم السياق العام الذي أطر نظرة السوسيولوجيا الكلاسيكية إلى علاقة الفرد بالمجتمع. إضافة إلى ذلك، راهن الكاتب على «تقديم لمحة عامة ومختصرة حول شروط نشأة السوسيولوجيا كمدخل لقراءة النصوص […] ودعمها بمختصرات بيوغرافية وبيبلوغرافية مختارة وفق رؤية وظيفية غرضها الأساس تأطير هذه النصوص» (ص 19) الموجهة أساسًا للطلبة والباحثين وعموم المهتمين بالحقل السوسيولوجي؛ بما يتكامل ومنطق اشتغال سوسيولوجيا العموم (The Public Sociology)(2).
تكمن القيمة العلمية للكتاب في كونه يبحث، إبستيمولوجيًا، في طبيعة العلاقة الجدلية بين «علم العمران» و«السوسيولوجيا» التي ما زالت تؤطر الممارسة العلمية وإنتاج المعرفة السوسيولوجية بالمجالات التداولية العربية. بهذا، نجده يقر بأن «ابن خلدون ليس مؤسسًا للسوسيولوجيا […] ويبقى [مؤرخًا] وعالمًا أنثروبولوجيًا» (ص 11). وهو بذلك يتبنى رأي المؤرخ المغربي عبد السلام شدادي الذي يرى ابن خلدون كعالم أنثروبولوجيا ومؤرخ أكثر منه عالمًا موسوعيًا أو مؤسسًا للسوسيولوجيا»(3). في الواقع، لا يزال هناك انقسام بين الجماعات العلمية العربية حول مركزية الفكر الخلدوني في التأسيس لعلم الاجتماع من جهة، وانفصال نشأة السوسيولوجيا عن ظهور علم العمران؛ إلى درجة أن القول بـ«علم الاجتماع» أضحى مرادفًا لمشاريع أسلمة العلوم الاجتماعية بالمجالات التداولية المحلية، في حين أن القول بـ«السوسيولوجيا» يربط نشأة هذه الأخيرة طرديًا بالتحولات السياسية والاقتصادية والصناعية والاجتماعية التي عرفتها أوروبا منذ القرن الثامن عشر. وسواء تم التأكيد على المنحى التاريخي، الأنثروبولوجي، الاجتماعي، السياسي، وحتى الموسوعي، للفكر الخلدوني، فذلك لا يمنع من تصنيفه ضمن المرحلة الثانية [العصر الوسيط] من مراحل التفكير الاجتماعي والفلسفي في المجتمع؛ كمؤرخ وفيلسوف وليس سوسيولوجيًا أو حتى أنثروبولوجيًا بالمعنى المعاصر.
– 2 –
يتألف الكتاب من اثنين وعشرين قسمًا، على امتداد 255 صفحة من القطع المتوسط، يقدم سيرًا ونصوصًا مختارة ومترجمة، عن أصولها، لاثنين وعشرين مفكرًا اجتماعيًا وعالم اجتماع ينتمون إلى حقبة ما بين القرنين الثامن عشر والعشرين؛ أي المرحلة الثالثة للتفكير الاجتماعي والفلسفي في المجتمع وبدايات السوسيولوجيا مع جيلَي الرواد والمؤسسين، في ترتيب كرونولوجي وإبستيمولوجي يسعف القارئ لفهم السجالات النظرية والفكرية التي ميزت ميلاد ونشأة السوسيولوجيا إبان مرحلتَي الثورة الصناعية الأولى والثانية. يعرض الكتاب سِيَر وأفكار كل من مونتيسكيو؛ جون-جاك روسو؛ نيكولا دوكوندورساي (Nicolas de Condorcet)، أدولف كيتلاي (Adolphe Quetelet)، سان سيمون (Saint-Simon)، أوغست كونت (Auguste Comte)، هربرت سبنسر؛ كارل ماركس وفريدريك إنجلز؛ ألكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville)؛ إميل دوركايم؛ مارسيل موس (Marcel Mauss)؛ بول فوكوني؛ سلستان بوغلاي (Célestin Bouglé)؛ ألفريد فيكتور إسبناس؛ روني فورمس (René Worms)؛ فرانسوا سيمياند؛ وليام ديلتاي (Wilhelm Dilthey)؛ فردناند تونيس (Ferdinand Tönnies)؛ جورج سيمل؛ ماكس فيبر وفيلفريدو باريتو.
– 3 –
يبرر محمد ياقين انفتاحه على كل هؤلاء الرواد والآباء المؤسسين للسوسيولوجيا الكلاسيكية من منطق التمييز الإبستيمولوجي بين مرحلة التفكير الاجتماعي والفلسفي في المجتمع ومرحلة التفكير السوسيولوجي في العلاقة بين الفرد والمجتمع. بالنسبة إلى المرحلة الأولى، يحدد كذلك ثلاث محطات ناظمة لتعاطي مختلف المفكرين والفلاسفة مع مقولات «الاجتماعي»: أولًا، المحطة القديمة [اليونانية]. ثانيًا، المحطة الوسيطية. وثالثًا، محطة عصر النهضة الأنوار (ص 12). ضمن هذه المحطات، حضر التفكير في المجتمع كبعد أساس من أبعاد وجود الإنسان المختلفة، سواء من منظور فلسفي شمولي أو تاريخي وسياسي مقارن. أما المرحلة الثانية، فقد اقترنت بسياق الثورة الصناعية الأولى (1750-1880) وتنقسم إلى محطتين اثنتين: أولًا، مرحلة الميلاد والنشأة (سان سيمون، أوغست كونت…). ثانيًا، مرحلة التأسيس والتطوير (دوركايم، فيبر…) (ص 12). يمكن الجزم بأن مفهوم المجتمع قد حضر ضمن مختلف مراحل ومحطات التفكير الفلسفي والسياسي والتاريخي في الاجتماعي، إلا أن مفهوم الفرد لم يظهر إلا في سياق تحولات التصنيع والتمدين معلنًا على انفصال العلوم الاجتماعية عن الفلسفة من جهة، وعوض التعاطي التاريخي لمرحلة التفكير الاجتماعي مع الإنسان في شموليته من جهة أخرى. لهذا، يتم استحضار نصوص وأفكار المفكرين الاجتماعيين ليس بوصفهم علماء الاجتماع [مؤسسين أو خالصين]، ولكن من منطلق المقولات والأفكار السوسيولوجية التي تتضمنها كتبهم ونظرياتهم ونظرتهم إلى علاقة المجتمع بالإنسان والفرد.
إذا كانت «السوسيولوجيا وليدة الحداثة، التصنيع والمدينة» (ص 16 – 17)، فإنها كذلك وليدة الرأسمالية والليبرالية بالضرورة. مرت المنظومة الرأسمالية بأربع محطات كبرى، في علاقتها بالتصنيع والتمدين، خلال القرون الثلاثة الأخيرة. ارتبطت المحطة الأولى باكتشاف المحرك البخاري وسكك الحديد في القرن الثامن عشر، جاءت كتتويج للحركية الاقتصادية والتجارية التي عرفتها أوروبا منذ عصر النهضة وأسهمت في تطور وتيرة التمدين والتحضر بأوروبا والانتقال من القرى والحواضر القديمة نحو المدن الجديدة. جاء هذا التحول بفعل تسليع وتسويق العمل والنظر إليه كمنتوج اقتصادي أكثر منه فعالية إنسانية. يمكن عد المرحلة الثانية امتدادًا للمرحلة الأولى، نظرًا إلى تطور وتيرة التمدين طرديًا مع تطور سيرورة التصنيع وانتشاره بمختلف المجتمعات الأوروبية خلال القرن التاسع عشر. مكّن اكتشاف الكهرباء والمحرك الانفجاري من تطوير المنظومة الاقتصادية وتوسع الليبرالية لتشمل تسليع وتسويق المال. بطبيعة الحال، ستحظى السوسيولوجيا باهتمام كبير من جانب الساسة ورجال الاقتصاد – على الأقل خلال مرحلة ما قبل الحروب العالمية وما بعدها – بغية فهم تحولات المجتمع من جهة، وربط تطور المعرفة العلمية بتطوير المنظومة الرأسمالية ورهان بناء المجتمعات الصناعية من جهة أخرى؛ شجع دوركايم نفسه سيرورة مهنة التعليم الفرنسي من منطلق الدفاع عن الفعالية العلمية للسوسيولوجيا ودورها الأساس في التقعيد للمجتمع الحديث(4). عرفت المرحلة الثالثة «انفجارًا» في شروط إنتاج الظاهرة الحضرية، بالشكل الذي تحولت معه الميتروبولية إلى نمط مميز للحياة الاجتماعية المعاصرة، وعززت النيوليبرالية من هيمنة الاقتصاد على السياسية والاجتماع مع أفول السرديات الكبرى وتطور مسلسل «مهننة» و«تقنوية» العلوم الاجتماعية بحثًا عن مجاوزة التحكم في الطبيعة والأرض (مع ظهور الحاسوب والإنترنت وميلاد الثورة التقنية الأولى) نحو الإنسان نفسه(5). نجحت الرأسمالية اليوم في تحقيق رهان التحكم في السلوك الإنساني بفضل إمكانات الثورة الصناعية الرابعة، تحولات الذكاء الاصطناعي، الأنفوسفير الرقمي وظهور رأسمالية المراقبة(6). يتم تضييق النطاق على شروط بناء الفكر النقدي(7) في ثوب مهننة الاجتماعيات والإنسانيات وربطها بالنتائج العملية، بغية الحفاظ على اقتران السوسيولوجيا بالتصنيع؛ لكن هذه المرة ليس بهدف بناء المجتمع الحديث ولكن بحثًا عن مزيد من الضبط والتوجيه الاجتماعي والاقتصادي للأفراد في العالم الرقمي.
لم يكن الانتقال من خطاب الحتمية الاجتماعية نحو منطق الفعل/الفاعل الاجتماعي، منذ ثمانينيات القرن الماضي، مرتبطًا بتحولات موضوعية مسّت البراديغم الإبستيمولوجي للممارسة العلمية وإنتاج المعرفة في حقل السوسيولوجيا فقط. كما أن مَيل المشتغلين بالمجال إلى الانفتاح على الطلب السياسي والاجتماعي لم يهدف إلى ربط المعرفة السوسيولوجية بسيرورة تطور العالم الاجتماعي خلال العقود الثلاثة الأخيرة فقط. إن مسألة المنح البحثية، تمويل الدراسات، الشرعية الاجتماعية والعلمية للعلم، فرضت على السوسيولوجيا أن تعيد إنتاج شروط عملها الراهنة بما يتمشى وقوانين السوق الاقتصادي والاجتماعي القائم، وبخاصة أن الفاعل الاقتصادي يتحكم في مختلف مدخلات ومخرجات إنتاج المعرفة العالمية. لهذا، وكما استفادت السوسيولوجيا، منذ المرحلة الكلاسيكية، من تحولات الحداثة والتصنيع والتمدين في بناء مسارها التاريخي والإبستيمولوجي بين سائر العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإنها كذلك خسرت الشيء الكثير: حسها النقدي، نظرياتها الكبرى، التركيز على المسائل الاجتماعية والسياسية… وعوضت النقد بالتقنوية والمهننة والشرعية الاقتصادية.
– 4 –
خلافًا للمعهود في تعاطي المفكرين العرب مع تاريخ السوسيولوجيا، وربط ميلاد العلم الاجتماعي بأوغست كونت مؤسسًا، وإميل دوركايم مطورًا، يعتبر ياقين مونتسكيو وجون-جاك روسو أهم الرواد الأوائل للسوسيولوجيا خلال عصر الأنوار (ص 21 – 29). صحيح أن هذا القول يظل امتدادًا لتصور دوركايم وريمون آرون (Raymond Aron)، إلا أنه يميط اللثام عن جزء من تاريخ الأفكار الذي أسيء فهمه أو لم يتم الانتباه إلى شروط إنتاجه ضمن المجالات التداولية العربية. غالبًا ما نصادف، ضمن المؤلفات العربية المخصصة لتاريخ الفكر السوسيولوجي، ربطًا إبستيمولوجيًا ومنهجيًا بين نشأة السوسيولوجيا وأعمال أوغست كونت ودوركايم في الأغلب الأعم، مع إدراج أعمال رواد الأنوار في إطار مرحلة التفكير الفلسفي في المجتمع دون الإشارة إلى المحاولات والأفكار والتنظيرات السوسيولوجية التي طبعت العديد من أعمال ومؤلفات الرواد الأوائل. بالرغم من النقاشات الإبستيمولوجية التي يثيرها الحديث عن البواكر السوسيولوجية في فكر النهضة والأنوار، في ظل استبعاد القول الخلدوني – رغم قرب السياق التاريخي لابن خلدون بنيكولا مكيافيللي بإيطاليا بلغة عبد الله العروي – يظهر أن تمديد قاعدة الرواد والمؤسسين لتشمل اثنين وعشرين مفكرًا يسمح بإعادة النظر في الكثير من التحليلات والتعميمات المتوارثة في سياقاتنا التداولية…
يقدم الكتاب أهم مفكري مرحلة السوسيولوجيا الكلاسيكية وفقًا لترتيب كرونولوجي، بالأساس، يتغيّا الإحاطة بالشروط التاريخية والنقاشات النظرية التي أسهمت في إخراج الممارسة السوسيولوجية من رحم الفلسفة من ناحية أولى، وفهم تطور النظر إلى علاقة السوسيولوجيا بتطور المجتمعات الغربية نفسها (سيرورة التصنيع والتمدين بالضرورة) من ناحية ثانية، ودينامية إنتاج الحقل المغناطيسي للمفاهيم السوسيولوجية في تفاعله مع مفهومي الفرد والمجتمع من ناحية ثالثة. إضافة إلى ذلك، يحضر السجال بين «الأصول» و«المعاصرين» (ريمون آرون، هنري لوفيفر…) ضمن نسق قراءة مستعرضة للنصوص المترجمة والخلفيات المؤطرة لاشتغال جيل الرواد والمؤسسين، بينما يشبه «سردًا سوسيولوجيًا» سلسًا لتطور الأفكار قائمًا على المزاوجة بين شروط الكتابة السوسيولوجية والأنثروبولوجية، الأمر الذي يسهل على القارئ إدراك الخيط الناظم بين النظريات السوسيولوجية الكلاسيكية، وفي الآن نفسه الاحتكاك المباشر بأفكار الرواد والآباء المؤسسين.
في الواقع، يعد اختيار نصوص سوسيولوجية دقيقة تعكس الإطار الإبستيمولوجي والنظري والمفهومي لجيل الرواد عملية في غاية التعقيد، نظرًا إلى تعدد المسائل المعالجة وتداخل قضية العلاقة بين الفرد والمجتمع مع قضايا أخرى مركبة (المدينة، الفردانية، التصنيع…). وقد نجح الباحث في هذا التحدي من خلال تجاوز منطوق المقاطع المترجمة والمتداولة في العديد من المؤلفات العربية المتفاعلة مع اللحظة الكلاسيكية [الفلسفية والسوسيولوجية]، والمجتزأة من سياقها في الغالب، والعودة إلى النصوص الأصلية بلغاتها الأساس (على الأقل في ما يتعلق بالنصوص الفرنسية) وتتبع النقاشات الإبستيمولوجية والنظرية حول العلاقة بين الفردي والاجتماعي التي أطرت التأسيس لمنطق الممارسة العلمية خلال هذه المرحلة. مكّن هذا الأمر الباحث من تصويب العديد من الأفكار والتصورات المتداولة (العلاقة بين الفلسفي والسوسيولوجي والأنثروبولوجي)، وتدقيق النظر في العديد من المفاهيم السوسيولوجية (communauté)، (l’individualisme)، (l’individualité)، (l’individualisation)، (l’organicisme)، ( (Les moi et les nous)، (communalisation)، (sociation)، (communautaire)…) والاجتهاد في تقديم ترجمات دقيقة تسهل تعاطي الجماعات العلمية العربية مع المتون السوسيولوجية (الجماعوية، الفردانية، الفردية، الفردنة، العضوانية، الكيانات الفردية والكيانات الجماعية، جماعاتية، اجتماعانية، نشاط جماعوي،…). لذا، يمثل هذا العمل السوسيولوجي جهدًا ترجميًا ومدخلًا مفهوميًا لإعادة قراءة الأصول والنصوص المؤسسة وتجاوز المغالطات المفهومية والتصورية التي اقترنت بالاستقبال العربي للسوسيولوجيا خلال القرن الماضي؛ بدءًا بإعادة النظر في مصطلح «علم الاجتماع» نفسه(8)، وعلاقته بمصطلح «السوسيولوجيا».
ما زالت إشكالية ترجمة المصطلحات والمفاهيم، وشروط الكتابة السوسيولوجية وطرائق التدريس والتكوين، بحاجة إلى نقاشات إبستيمولوجية واسعة النقاش بين الجماعات العلمية، ليس بهدف الفصل في مثل هذه القضايا، ولكن، أساسًا، للإشارة إلى الإشكالات التي أثارتها، وما زالت، وبخاصة في ما يتعلق بالاختلافات النظرية، المقارباتية، المفهومية واللسانية بين الجماعات العلمية المشرقية والمغربية؛ إذا ما جاز لنا الحديث عن جماعة علمية سوسيولوجية محلية تتوافق والشروط الموضوعية لبناء مجتمع المعرفة. تبعًا لهذا الطرح، يمثل الكتاب دليلًا إبستيمولوجيًا مبسطًا لإدراك التمايزات والاختلافات المفهومية ضمن المتون السوسيولوجية المؤسسة، والتفاكر في إمكان توحيد «قواميس سوسيولوجية» لتقريب وجهات النظر المفهومية بين الباحثين، وخلق جسر تواصل عملي لمدراسة صيغ الكتابة واللغة السوسيولوجية بالسياق المحلي.
– 5 –
يعترف الباحث بأن كتابه جزء من سلسلة معارف سوسيولوجية تتكون من ستة أجزاء أساسية: «الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا الكلاسيكية»؛ «الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا المعاصرة»(9)؛ «الفرد والمجتمع في الاتجاهات السوسيولوجية الجديدة» [الراهنة]؛ «أنماط المجتمعات»؛ «آليات الاشتغال وبنيات التنظيم»، و«قضايا منهجية وإبستيمولوجية» (ص 9). ويراهن في ذلك على أن تكون السلسلة بمثابة إعادة قراءة لتاريخ السوسيولوجيا في محطاتها الثلاث الأساسية (الكلاسيكية، المعاصرة والجديدة) ومجاوزة الشرط الإبستيمولوجي المنظم لتلقي السوسيولوجيا بالسياق العربي الذي يقرنها حصرًا بالمرحلة الكلاسيكية أو المعاصرة في تغافل كبير للمرحلة الجديدة، كما تطورت في السياق الأنغلوساكسوني منذ سبعينيات القرن الماضي وهمت مجموعة من القضايا الجوهرية، كالتربية، المدرسة، المدنية والحضري… وبحثًا في الترابطات والقطائع والطفرات الإبستيمولوجية التي أسهمت في الانتقال اليوم نحو «براديغم الحركية» (ص 8)، الهشاشة والنقد المتعدد الأبعاد للشروط الموضوعية لإنتاج العالم الاجتماعي في تفاعله مع المعطى الاقتصادي (الموجة الرابعة من لبرلة ورسملة العالم). ومن ثم، يمكن القول بأن الهدف الرئيس للسلسلة يرتبط بتحديد التمفصلات الإبستيمولوجية والمنهجية والمفهومية التي تحكم تطور الممارسة السوسيولوجية والدفاع عن مركزية تجسير الحوار بين التاريخي والسياسي والاقتصادي في إنتاج الفعل الاجتماعي، والإشارة إلى التداخل الحاصل اليوم بين مختلف محددات إنتاج المعرفة في حقل الدراسات الاجتماعية (السوسيولوجيا والإثنولوجيا والأنثروبولوجيا بخاصة).
لا يمكننا سوى الاعتراف بقوة الفكر في صوغ هذا المنتج السوسيولوجي القيّم. يتعلق الأمر بعملية تجميع واختيار وترجمة للنصوص، دامت لسنوات بتعبير الباحث، تماثل ذلك الحفر الإبستيمولوجي الذي لا ينتهي إلّا بمزيد من الحفر. انطلق المشروع من فكرة عامة حول «الفرد والمجتمع في تاريخ السوسيولوجيا»، لتنتهي بسلسلة تقارب هذه العلاقة الجدلية ضمن مختلف مراحل تطور الممارسة السوسيولوجية. كما أن الجهد المبذول في ترجمة بعض المصطلحات إلى العربية يزيد من قوة وراهنية هذا العمل، وبخاصة أن منشأ بعض الأفكار والمفاهيم اقترن بسياقات الحداثة والتصنيع الأوروبي، وهو ما يزيد من صعوبة تبيئتها وربطها بالبنية الذهنية للمجال التداولي العربي؛ وتلك واحدة من أبرز الصعوبات التي يعرفها حقل الترجمة في العلوم الاجتماعية والإنسانية(01) (Arppe, 2012, 29-34).
– 6 –
تركز جزء كبير من مجهود الباحث في اختيار النصوص وترجمة المصطلحات التي تعكس جوهر النقاش السوسيولوجي الذي دار خلال مطلع القرن الماضي بين الاتجاه الفرنسي ونظيره الألماني حول مفهومَي الجماعوية والمجتمع. بطبيعة الحال، نوافق الباحث في اختيار النصوص الدقيقة والترجمات المصطلحية المميزة، إلا أنه كان بالإمكان كذلك الانفتاح على النقاش/الحوار الإبستيمولوجي الذي دار بين دوركايم وتونيس، خلال نهاية القرن التاسع عشر (Mesure, 2013)، واتخذ شكل مراجعات ونقاشات منهجية ونظرية حول مفهوم المجتمع، وطبيعته، ذات بعد أكسيومي حول «نظرة كل منهما للمجتمع الحديث» من جهة، ومنحى إبستيمولوجي ومنهجي «مرتبط بشروط ممارسة السوسيولوجيا» (Mesure, 2013)، من جهة أخرى. كان سيكون من العملي إدراج هذه النصوص القيمة، التي ظلت غائبة عن المجال التداولي الفرنسي نفسه لعقود، وترجمتها كمدخل لقراءة في كتابَي الجماعوية والمجتمع (Gemeinschaft und Gesellschaft) لتونيس وفي تقسيم العمل الاجتماعي (De la division du travail social) لدوركايم. ومنه، التدقيق في العلاقة بين مفهومَي (Gemeinschaft und Gesellschaft) في المتن السوسيولوجي الألماني ومفهومَي (Communauté et société) ضمن نظيره الفرنسي، كأساس نظري لتحديد العلاقة بين الفرد والمجتمع ضمن منطوق السوسيولوجيا الكلاسيكية(11).
عمد الباحث إلى القول بالمنحى الأنثروبولوجي [التاريخي] لعلم العمران البشري أو الاجتماع الإنساني الذي تحدث عنه ابن خلدون في المقدمة. إضافة إلى ذلك، نجده يدرج إسهامه ضمن نطاق نسق التفكير الفلسفي الوسيط في الاجتماع الإنساني. ونشدد على دقة وتميز هذا الاختيار الإبستيمولوجي والتحقيبي الدقيق، إلا أن الوجاهة المنطقية والتأريخية لتطور الفكر الاجتماعي تفرض كذلك إبراز عناصر المقاربة الأنثروبولوجية والتاريخية التي تنفي عن ابن خلدون صفة «السوسيولوجي» وتكسبه صفة «الأنثروبولوجي»؛ أو على الأقل الحمولة الأنثربولوجية لأفكار المقدمة. لذا، كان من الضروري إدراج مقاطع نصوص أو مقارنات مفهومية ومنهجية تبين اختلاف «الفكر العمراني الخلدوني» عن فكر رواد السوسيولوجيا خلال عصر الأنوار ومؤسسيها خلال عصر التصنيع؛ بالرغم من أننا ندرك اهتمام الباحث بالمرحلة الكلاسيكية حصرًا. ولا بد من الإشارة إلى كون تصنيف ابن خلدون كعالم أنثروبولوجيا قد يجرنا، إبستيمولوجيًا، إلى نقاشات موسعة حول الحدود التاريخية والراهنة بين الأنثروبولوجي والسوسيولوجي قد تنتهي بإدراج المقدمة ضمن مجال النصوص الممهدة لنشأة «الاجتماعيات» بقوة منطق التداخل الاختصاصي، في حين أن الرجل هو بالضرورة مؤرخ بخلفية فلسفية!
نفهم من توصيف «سلسلة المعارف السوسيولوجية» أننا أمام سلسلة كتب مترابطة مفهوميًا وإبستيمولوجيًا ونظريًا، تنتهي بإنتاج متن متماكس؛ وبخاصة أن الكاتب أفرد تصديرًا ومقدمة موسعَين، نسبيًا، يبرر فيهما الأسس الإبستيمولوجية لاختياراته المختلفة. لكن، مع ذلك، كان بالإمكان تدليل الكتاب بخاتمة عامة تمهد الطريق أمام القارئ لإدراك مرتكزات وتمفصلات الانتقال نحو المرحلة المعاصرة. وبما أن الباحث قد اجتهد في ترجمة بعض المصطلحات، ترتيب الأعلام والنصوص المترجمة واختيار المقاطع المناسبة، كان سيكون من الجيد استثمار لحظة الخاتمة للانخراط في سجال إبستيمولوجي حول شروط تلقي هذا التقسيم المرحلي (السوسيولوجيا الكلاسيكية، المعاصرة والجديدة) والمفاهيم والسجالات النظرية والفكرية بالسياق المغربي والعربي.
إن من نقط قوة الكتاب اختياره وترجمته لمقاطع ونصوص سوسيولوجية عن لغتها الأصل. يسهم هذا الاختيار الترجمي لا محالة في تجاوز أي لبس معرفي ينتج من المرور عبر لغة وسيطة، ويمكن عدّه مدخلًا إبستيمولوجيًا لتقعيد شروط ترجمة واختيار المفاهيم والمتون السوسيولوجية بالصورة التي توحد الترجمات السوسيولوجية العربية في المستقبل؛ كما هو الشأن، جزئيًا، في الحقل الفلسفي مع جهود المنظمة العربية للترجمة على سبيل المثال. لكن، يلاحظ أيضًا اكتفاء الباحث بالمتون الفرنسية، وفي أغلب الأحيان الترجمات الفرنسية للنصوص الألمانية والإنكليزية. من المعروف أن كبار علماء الاجتماع الفرنسيين تاريخًا، فضلوا، وما زالوا، القراءة [والنشر كذلك] باللغة الإنكليزية، لشروط موضوعية وذاتية مختلفة، سواء لدينامية حركة الترجمة من مختلف اللغات الحية نحو الإنكليزية أو لبساطة وسهولة فهم المتون والنصوص الإنكليزية المستهدفة. يجعلنا هذا الأمر أمام نصوص مستهدفة من الدرجة الثانية (الألمانية) أو على الأقل تثير ترجماتها العديد من الصعوبات الإبستيمولوجية؛ لقد نتج من هذا الارتهان باللغة الإنكليزية والترجمة عبر لغة وسيطة إشكالات مفهومية ومعرفية في تلقي المتون السوسيولوجية الألمانية على سبيل المثال: إغفال الأنماط السوسيولوجية للتربية عند ماكس فيبر، الخلط بين تحليلاته لمفاهيم السلطة، السيادة والهيمنة(21).
ختامًا، يمثل كتاب الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا الكلاسيكية: نصوص مختارة، لعالم الاجتماع المغربي محمد ياقين واحدًا من المؤلفات السوسيولوجية المتميزة التي تدفعنا إلى إعادة النظر في العديد من «المسلّمات» الفكرية التي طبعت النظر والتفاكر المحلي في تاريخ السوسيولوجيا، وإعادة قراءة النقاشات الإبستيمولوجية الكلاسيكية بعُدة مفاهيمية جديدة واستشراف مستقبل واعد للسوسيولوجيا في سياقاتنا المحلية. إضافة إلى اللغة الدقيقة والاختيارات المصطلحية المائزة التي تزاوج بين السلاسة والتركيب من دون أن تسقط في التعقيد، والتي تجعله موجهًا للمختصين، الباحثين والطلبة، كما عموم المهتمين بشجون البحث السوسيولوجي. إننا بحاجة إلى مصالحة التعاقل الإبستيمولوجي مع الأصول السوسيولوجية والتسلح بالحس النقدي، وحتى إعادة النظر في العديد من مسلّمات اشتغال إنتاج المعرفة خلال عصرنا، من أجل التصدي لمختلف المحاولات الاقتصادية لتفريغ الممارسة السوسيولوجية من بعدها النظري والنقدي وكشف شروط إنتاج الهيمنة الكونية ومواجهة سيرورة «الهشاشات» المختلفة ضمن تحولات العصر الرقمي.
المصادر:
نُشرت هذه المراجعة في مجلة المستقبل العربي العدد 504 في شباط/فبراير 2021.
محمد الإدريسي: طالب باحث بسلك الدكتوراه، مختبر الفلسفة والمجتمع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل، القنيطرة – المغرب.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.