المؤلف: علي خليفة الكواري

مراجعة: فايز الصّياغ(*)

الناشر: منشورات ضفاف، بيروت

سنة النشر: 2015

عدد الصفحات: 415 ص

ISBN: 9786140213098

بانتظار الكتاب الثاني من العوسج، فإن من المؤكد أن الكتاب الأول (منشورات ضفاف، 2015)، ليس كما وصفه المؤلف علي خليفة الكواري مجرد «سيرة وذكريات»، بل هو أكثر وأهم من ذلك بكثير. إنه في الواقع سجل حي نابض بمرحلة مهمة من تاريخ قطر الاجتماعي والسياسي الحديث. وتزداد أهمية الكتاب لدى من عرفوا المؤلف، كما عرفته شخصياً، مواطناً عربياً في المقام الأول، ومناضلاً صلباً وباحثاً قومياً مثقفاً ومستنيراً من دعاة الإصلاح والديمقراطية والعدالة في مجتمعه القطري الصغير والعربي الأوسع.

وقد تتعاظم أهمية الكتاب في نظر جيل كامل، أو حتى جيلين، من المواطنين القطريين الذين عاصروا علي خليفة الكواري أو شاركوه مع نخبة مستنيرة أخرى في جهوده ومساعيه الإصلاحية وضحّوا وعانوا معه الأمرَّين في هذا المجال. ومع أن الكتاب الأول ينتهي مع نيله شهادة الدكتوراه من جامعة درم البريطانية وبدء انخراطه في القطاع النفطي في قطر(وهي الفترة التي سعدت فيها بالتعرف إليه)، فإن الأحداث والتطورات التي يغطيها هذا الجزء، بالإضافة إلى قيمتها التوثيقية البيوغرافية بحد ذاتها تمثل تذكيراً للأجيال القطرية الطالعة بما كان عليه مجتمعهم قبل سبعة عقود أو يزيد.

– 1 –

يستهل الكواري فصول الكتاب الثلاثة عشر بذكرياته عن سنوات طفولته الأولى في «الغارية»، وهي واحدة من عشرات البلدات التي نشأت وتنامت فيها مجتمعات محلية صغيرة ليست بدوية الطابع على العموم بل هي تجمعات تقوم أساساً على ممارسة الغوص على اللؤلؤ والمتاجرة به. واللافت أن الكواري يتبنى مقاربة سوسيولوجية متميزة في وصفه وتحليله لتلك التجمعات السكانية التي كانت، حسب تعبيره، تؤلف ما يشبه الكيان «الكونفدرالي»، وذلك قبل وقت طويل نسبياً من قيام سلطة مركزية توحدها وتجمع فيما بينها، وقبل اكتشاف النفط وتدافع أهل قطر للعمل في الصناعة النفطية لدى رب عمل واحد تمثله شركة نفط قطر أو الأجهزة الحكومية الوليدة. ولا بد من أن يُدهَش القارئ لذاكرة الكواري التي تتذكر، وتسجل، أعداداً لا حصر لها من المنتمين إلى هذه الكيانات القبلية وتنوِّه بروح التضامن والوئام والسلام الاجتماعي بينهم، وتبيِّن أوجه نشاطهم المختلفة ومكانتهم ومآثرهم بصورة تذكر بخبراء الأنساب العرب القدامى.

وخلافاً لما عايشه المؤلف في «الغارية» وما عرفه من خصائص التجمعات الأخرى المجاورة لها آنذاك، ينتقل الكاتب في فصل لاحق إلى نزوح عائلته بعد اكتشاف النفط إلى «الريان» ثم إلى «أم غويلينة» – اللذين أصبحا فيما بعد من «فرجان» الدوحة. وإذا كان النسيج الاجتماعي في أم غويلينة قد احتفظ ببعض السمات التي ميزت «بلدات ما قبل النفط» القديمة، كشيوع روح التواضع والمساواة النسبية وتقارب المستوى المعيشي، فإن بيئة الريان، حيث تمركزت الأسرة الحاكمة، كانت تتميز بالتفاوت الصارخ الفاحش بينها وبين مجموع الأهالي؛ ذلك أن تلك الأسرة، وبدعم أو تغاضٍ من المعتمد البريطاني أحياناً، قد خصت نفسها بالجانب الأكبر الذي يعادل نحو خمسين بالمئة من العائدات النفطية، بينما خصصت البقية الباقية لخزينة الحكومة بمجملها.

– 2 –

إن الاهتمام بالشأن العام بشتى أبعاده وجوانبه هو المحور الرئيس، وربما المبرر الأول، الذي دفع الكواري إلى نشر هذه «السيرة». فبالإضافة إلى الواقع المحلي القطري، يستعرض الكتاب التطورات في الساحة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، ويوضح تفاعل أهل قطر وتجاوبهم مع القضايا القومية – وقد شارك في جانب منها مع الشباب القطريين آنذاك؛ وتجلى ذلك في التظاهرات الغاضبة التي نُظمت لنصرة مصر والتنديد بالعدوان الثلاثي عليها عام 1956، والاحتفال الجماهيري بقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسورية عام 1958، وحملات جمع التبرعات لدعم ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، ودعم المجهود الحربي في أعماق هزيمة 1967.

أما على الصعيد المحلي، فإن علي خليفة يخصص فصلاً كاملاً ومؤثراً بعنوان «ليلة القبض على نادي الطليعة»! وفصلاً آخر عظيم الأهمية عن الحركة الشعبية الوطنية وتداعياتها في قطر عام 1961. فبالنسبة إلى النادي، فقد أسسته بهذا الاسم مجموعة من الشباب القطريين اليافعين عام 1959 كنادٍ ثقافي فني يعنى بقضايا الفكر والأدب والمسرح. واتسعت أنشطة النادي واستقطب أعداداً ضخمة من الشباب. وذات مساء من عام 1961، انقضّت الشرطة وجماعة من الفديوية على النادي واعتقلت الأعضاء المسؤولين فيه وزجت بهم في السجن ثلاثة أسابيع من دون محاكمة، وأغلق ذلك النادي الريادي عندها حتى الآن.

أما السبب، الذي ما فتئ الكواري يؤكده في مختلف أنشطته وكتاباته منذ عقود، فهو أن سياسة السلطة تتمثل بـ «منع قيام أي مؤسسة أو جماعة أو جمعية غير حكومية من المواطنين ما لم تكن من صنع السلطة ورهن إرادتها وتحت جناح أصحاب النفوذ فيها». بيد أن هذه الفئة من مؤسسي «نادي الطليعة» وأعضائه المستنيرين، كما يضيف المؤلف بحق، تحولوا مع الزمن إلى «طيف ثقافي وطني تجمعه القضايا والاهتمامات… طيف غير منظم ولكنه متواصل وحاضر في حياة قطر الثقافية».

ولا ريب في أن رسالة «نادي الطليعة» كانت، في ظاهرها على الأقل، ثقافية فنية، غير أن مضامينها السياسية النقدية، سواء في ما قدم فيه من محاضرات أو ما عرض فيه من مسرحيات، لم تكن خافية على سلطة الحكام الشيوخ. غير أن الحركة السياسية المطلبية الأخطر والأبعد أثراً، كما يرى الكواري، قد تبلورت بعد واقعة «نادي الطليعة» بعام واحد.

– 3 –

في أوائل الستينيات، بدأت بوادر التململ الشعبي العام مع تعاظم الفجوة الاقتصادية الاجتماعية بين القلة المستأثرة بحصة الأسد من الثروة النفطية وأغلبية الأهالي المتدنية الدخل التي يواجه بعضها الغلاء والبطالة وتضاؤل فرص العمل، ومع تردي مستوى الخدمات العامة التي تؤديها الحكومة مثل المياه والكهرباء. وكأن التحرك الشعبي، ولا سيَّما في الأوساط العمالية، كان ينتظر شرارة الانطلاق. وحانت تلك اللحظة عندما أطلق أحد صغار الشيوخ النار على تظاهرة مؤيدة للاتحاد الثلاثي بين مصر وسورية والعراق فأصاب عدداً منهم، في نيسان/أبريل 1961 (ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الذكريات المنشورة على الموقع الإلكتروني تحدد تاريخ الحركة الشعبية خطأً بسنة 1962 أحياناً و1963 في أغلب الأحيان). وتحولت الحركة إلى سلسلة من التظاهرات الشعبية والمهرجانات الخطابية غير المسبوقة شاركت فيها جماهير عمال النفط من مختلف أنحاء قطر وشخصيات قطرية من جميع الفئات وجماعات من المواطنين والمقيمين العرب. وشكلت «لجنة الاتحاد الوطني» التي قدمت للحاكم عريضة بما يزيد على مئة من المطالب الإصلاحية، ووقّعها أكثر من مئتي شخصية قطرية.

ويقول علي الكواري، الذي كان وقتها لا يزال يواصل دراسته في مصر، إن بعض الصياغات في العريضة وبعض مطالبها تنم عن وعي سياسي ومفردات متداولة في أوساط حركات سياسية منتمية للتيار القومي آنذاك، غير أن تلك المطالب دعت، على الصعيد المحلي والوطني، إلى سلسلة طويلة من الإجراءات والسياسات التنفيذية للتخفيف من الأوضاع الاقتصادية المتردية بين السكان والتأزم السياسي، ومنها: تنظيم الأمن العام والشرطة وتعريب القيادة وتقطير الوظائف في الجهاز الأمني، واستعادة الأراضي التي استولت عليها العائلة الحاكمة بحكم نفوذها وتوزيعها على المواطنين الذين ما زالوا يدفعون ثمن سكناهم، ومنع العائلة الحاكمة من مزاولة الأعمال التجارية، وبناء المستشفيات في الأحياء الشعبية، وانتخاب مجلس بلدي ممثل لجميع طبقات الشعب،  بالإضافة إلى عشرات من المطالب الأخرى. وما إن سمع الطلاب القطريون في القاهرة، ومنهم على الكواري، بتلك التطورات، حتى أصدروا بياناً مؤيداً للحركة الشعبية ومطالبها.

وكان من النتائج المباشرة لهذه الهبّة الجماهيرية اعتقال عشرات من الناشطين والموقعين العريضة، وبينهم شخصيات وأفراد من عائلات المسند والعطية والهتمي والسويدي والنعيمي والخاطر والربان والسعد والجيداه وآخرين، وهجرة أو تهجير الكثيرين أو نفيهم إلى الكويت والسعودية. كما عوقب طلاب القاهرة بفصلهم وإلغاء بعثتهم الدراسية. غير أن حكومة الشيخ أحمد بن علي آل ثاني والمستشار حسن كامل أصدرت في أيلول/سبتمبر 1961، ودون الإشارة إلى العريضة أو مطالب الحركة الشعبية واللجنة الوطنية، ما يسمى «بيان إيضاحي لمنهاج العمل الشامل لتقدم البلد». ومثلت هذه الخطوة استجابة جزئية لبعض المطالب الشعبية، وتلتها سلسلة من الإجراءات التنظيمية والتشريعات القانونية لتحقيق بعض الإصلاحات في البلاد. إلا أن بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية ظلت قائمة، وبصورة ملحة، مثلما أن شبح الصراع الداخلي – المعلن والخفي – ظل يهيمن على الأسرة الحاكمة لعشر سنوات أخرى على الأقل، عندما حسم الشيخ خليفة بن حمد هذا الصراع وتولى الحكم أثناء إحدى زيارات الشيخ أحمد بن علي الاستجمامية الطويلة خارج البلاد!

وخلال هذه السنوات العشر، شهدت حياة علي خليفة الكواري الشخصية والعملية سلسلة من التحولات والانعطافات المهمة التي أسهمت في تحديد مساراته المقبلة، لكنها لم تؤثر في توجهاته الوطنية والقومية ولا في خصائص شخصيته الأساسية، بل يمكن القول إنها عززت في نفسه جانباً من هذه السمات، مثل الاستقلالية وروح المبادرة والاستكشاف، والاعتماد على النفس. وذلك ما تغطيه الفصول المقبلة من الكتاب الأول. فبعد حرمانه استكمال دراسته في مصر، توجه، بموارده الشحيحة، إلى دمشق. وحصل هناك على البكالوريوس في إدارة الأعمال والمحاسبة، وفُجع هو وآخرون في تلك الأثناء بوفاة أحد رموز المعارضة القطرية حمد العطية في السجن. وفي ظل الإقصاء الذي فرض عليه، دخل القطاع الخاص في الدوحة، وأسس «برادات قطر» للمواد الغذائية التي أدارها بنجاح على مدى أربع سنوات أو خمس، ووفرت له مدخرات تمكن بها من استكمال الدراسات العليا في بريطانيا.

وبعد أن يستعرض في الفصل قبل الأخير بعض التطورات في الخليج العربي، ومنها الانسحاب البريطاني من شرق السويس عام 1971 و«الحركة التصحيحية» التي تولى بها الشيخ خليفة مقاليد الحكم في قطر عام 1972، ينهي الكواري كتابه هذا بسفره إلى بريطانيا وعكوفه على الدراسة الجادة المستفيضة إلى أن حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة دَرَمْ في أواسط عام 1974.

والفصل الأخير، شأنه شأن جميع الفصول في هذا السجل الشخصي الوطني، حافل بالأحداث والتفاصيل عن دراسته الأكاديمية وصداقاته وحياته العائلية في بريطانيا، ثم عودته أخيراً إلى الدوحة تمهيداً لبدء انخراطه في صناعة النفط القطرية – وهذه هي الفترة التي تعارفنا فيها وارتبطنا بصداقة أخوية وطيدة ما زالت تتنامى وتتعزز منذ تلك الأيام المشهودة.

– 4 –

وعلى الرغم من جدية القضايا الشخصية والعامة التي يتطرق إليها الكواري في كتاب الذكريات هذا، فإن أسلوبه السردي المشوّق يشد القارئ ويدفعه إلى متابعة المؤلف في تأريخه لهذه المرحلة الحية. ومع أن لمسة من المرارة تتجلى في كثير من المواضع والمواقف في تلك السيرة، فإن تضاعيف الكتاب لا تخلو من روح النكتة والظرف والاستشهادات الطريفة. وذلك ما يسبغ على شجرة العوسج الشائكة التي تمثل التحديات والصعاب، قدراً من الرونق والعبق الذي يمثل الطموح والأمل، ويهيئ القارئ والمراقب للاطلاع على ما تبقى من هذه المذكرات في الكتاب الثاني الذي نأمل أن لا يطول انتظاره.