الديمقراطية شكل معاصر من أشكال الحكم يتميز بمشاركة جميع المواطنين في عمليات الاقتراع لانتخاب ممثلين عنهم يقترحون القوانين ويطورونها ويستحدثونها. تحتل الديمقراطية موقعًا متقدمًا ضمن سردية التنوير الغربي والمنظومة الكونية لحقوق الإنسان، وفي نهاية القرن الماضي ظهرت أنظمة قياس لأنشطة الدولة الحديثة، تقيس الأحوال المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسة، أطلق عليها مؤشرات (Indices)، ومن بينها مؤشرات لقياس الديمقراطية ومظاهرها في دول العالم المعاصر[1]، وبرزت أربعة منها مع مطلع الألفية الثالثة، وهي: مؤشر الإيكونوميست للديمقراطية[2] (The Economist Democracy Index)، ومؤشرات V-Dem للديمقراطية[3] (V-Dem Democracy Indices) ، ومؤشر بيرتيلسمان للتحول[4] (Bertelsmann Transformation Index)، ومؤشر حالة الديمقراطية في العالم[5] (The Global State of Democracy Indices). تبين الدراسة المقارنة بين تلك المؤشرات القياسية نقاط الضعف ونقاط القوة بينها، وتكشف التأثير الخفي لصانعي تلك المؤشرات في نتائجها، فالملحق الرقم 2 (Comparative Analysis of Democracy Indices, Appendix II) يذكر أنها تختلف فيما بينها في تحديد المفاهيم، وتتفاوت بالدقة، وتتباين في الوصول إلى البيانات وطرائق معالجتها وتحليلها ومعالجتها الإحصائية، ناهيك بموثوقيتها وصلاحيتها[6]. ويقول جون هوغستروم في دراسة له تقارن بين تلك المؤشرات القياسية للديمقراطية: «أظهرت النتائج أن المؤشرات الثلاثة لديها تناقضات في جميع المقارنات المطبقة في هذه الدراسة. ونتيجة لذلك، يجب على الباحثين وغيرهم ممن يستخدمون مؤشرات الديمقراطية أن يدركوا أن المؤشرات تصل إلى استنتاجات مختلفة في ما يتعلق بتصنيفاتهم وتقييماتهم للديمقراطية. ويجب على العلماء أيضًا أن يدركوا أن المؤشرات تفضل وترفض مختلف البلدان والمناطق في العالم في تصنيفاتها للديمقراطية»[7].

أولًا: صدقية المؤشرات الغربية

ترى المؤشرات الغربية أن العملية الانتخابية هي أفضل وسيلة للكشف عن قدرة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على تمثيل إرادة الشعب، وعادة ما يشار إلى الدول التي تحظى بسجل نقاط عال في هذه المعايير بأنها ديمقراطية، لهذا يحظى مؤشر الديمقراطية بالاهتمام الكبير دون غيره، كون الدولة الديمقراطية هي دولة ناجحة، وبخاصة أن الغرب يستخدم شعار الديمقراطية لترويج النظام الرأسمالي الليبرالي، كون الديمقراطية تراثًا غربيًا خالصًا، وجزءًا من منظومة قيم الحداثة. ويعبر مؤشر الإيكونوميست عن الديمقراطية بخمسة معايير، هي: (1) العملية الانتخابية والتعددية؛ (2) الحريات المدنية؛ (3) أداء الحكومة؛ (4) المشاركة السياسية؛ (5) الثقافة السياسية. وفي ظل هذه المعايير ستقبع البلدان العربية دومًا في قاع المؤشر، وستُصنف أنظمتها السياسية بالاستبدادية. لكن استخدام الديمقراطية كمؤشر لنجاح الدولة يعدّ نوعًا من أنواع التسطيح لموضوع عميق ومعقد، إذ إن تعريف الديمقراطية غير محدد[8]، وغير متفق عليه لغةً (Cappelen)، ولا تعريفًا  Schmitter and Karl)) ولا اصطلاحًا (Kekic). وهناك نقاش علمي حول صحة المعايير المستخدمة لقياس الديمقراطية[9]، ومقترحات لاستبدالها[10]، كما يوجد جدل حول فاعلية قياس العلوم الإنسانية بالأدوات الكمية[11]، وهذه نقاط ضعف تدفع بعض الدول إلى الاعتراض على نتائج تلك المؤشرات، كما فعلت حكومة الهند بالاعتراض على مؤشر V-Dem الأخير (الصادر في عام 2024)، الذي وصف الهند بأنها «واحدة من أسوأ الأنظمة الاستبدادية»، وأشار إلى أنها توقفت بالفعل عن كونها ديمقراطية منذ عام 2018. وجاءت مؤشرات مماثلة بنتائج مماثلة في خفض مرتبة الهند الديمقراطية في السنوات الأخيرة، فقد صنفها مؤشر الحرية (Freedom House index) بأنها دولة «حرة جزئيًا»، وخفض مؤشر الإيكونوميست تصنيفها من «ديمقراطية معيبة» إلى «استبداد انتخابي»، وهو ما دفع الحكومة الهندية إلى مهاجمة تلك المؤشرات، والتخطيط لإصدار مؤشر للديمقراطية خاص بها[12].

ورغم عيوب هذه المؤشرات وقصورها فهي غالبًا ما تسلط الضوء على تطور الأنظمة السياسية أو تراجعها في تمثيل إرادة الشعب، غير أن اللجوء إلى صنف واحد من المؤشرات (كمؤشرات الديمقراطية) من أجل الحكم على نجاح دولة ما يعدّ ضلالًا مركبًا، وهو ما يمارسه الإعلام الغربي خدمة لسياسات الغرب، حين يُشير إلى نجاح الدولة بتقدم رتبتها في مؤشر الديمقراطية، ويتغاضى عن تأخر رتبتها في مؤشرات أخرى. تقول سارة بوش، وهي أستاذة مساعدة في العلوم السياسية في جامعة تمبل (Temple University): «تستخدم الحكومات والمنظمات تقييمات الديمقراطية لتحديد تدفق مليارات الدولارات من المساعدات والتنمية وقياس مدى نجاح برامجها، ومن المنطقي أن ترغب الشركات والحكومات والمنظمات في معرفة مستويات الحرية والديمقراطية في البلدان قبل إرسال المساعدات أو الموارد الأخرى إلى هناك»[13]، وتشير إلى أن صنفًا واحدًا من المؤشرات لا يكفي لقياس نجاح دولة ما، إذ يوجد 200 صنفًا آخر من المؤشرات في مجالات أخرى، غير الديمقراطية، تتقدم فيه مراتب الدول وتتأخر[14]، والحكم على نجاح أو إخفاق نظام ما بناءً على مؤشر واحد فيه كثير من التضليل، فهناك دول حائزةٌ رتبةً عاليةً في استيفاء معايير الديمقراطية، ولكنها حائزة رتبة متأخرة في معايير أخرى؛ إذ تحتل كوستاريكا رتبة بين العشرة الأوائل في مؤشر V-Dem للديمقراطية، لكنها تحتل رتبة 44 في مؤشر مدركات الفساد، فهل جرعة الديمقراطية العالية لم تتمكن من دحر الفساد؟ وسنغافورة الحائزة المرتبة 5 في مؤشر مدركات الفساد (Corruption Perceptions Index)، هي نفسها تحتل مرتبة 94 في مؤشر الديمقراطية الليبرالية (LDI)، ومرتبة 107 في مؤشر الاقتراع الديمقراطي (EDI)، ومرتبة 167 في مؤشر التشاركي، وذلك وفق تقرير (V-Dem 2024)، والكويت التي تحتل المرتبة 13 في مؤشر السعادة (Ranking of Happiness) لسنة 2021، متقدمة بذلك على الدول الخمس الكبار، يأتي ترتيبها 114 في مؤشر الإيكونوميست للديمقراطية. هذا التباين في المؤشرات دفع المحلل الاقتصادي بيتر تاسكر للتعجب من خروج اليابان والولايات المتحدة الأمريكية من فئة الدول ذات الديمقراطية الكاملة، بينما تحتلان المرتبة الثالثة والسادسة على التوالي في القدرة التنافسية الاقتصادية؛ وعلق قائلًا: «إذا أخذت المؤشرين على محمل الجد، فقد يغفر لك اعتقادك أنه كلما قلّت الديمقراطية زادت القدرة التنافسية الاقتصادية، والعكس صحيح»[15]. ويشير ازدحام المؤشرات السياسية والاقتصادية، وتفاوت نتائجها، إلى الخلل الكبير الذي تفرزه تلك المؤشرات باتخاذها زاوية ضيقة من أنشطة الدولة للحكم عليها، ولقد شغلت مسألة تعريف الديمقراطية، والمعايير المستخدمة لقياسها فكر الباحثين وأساتذة العلوم السياسية، وهو ما تعكسه الآراء المتعددة حول هذا الموضوع[16]، ناهيك بطبيعة النيات القابعة خلف قرارات الخبراء الذين يضعون معايير تلك المؤشرات، وهي ما جعلت بيتر تاسكر يقول «على الرغم من مظهر الموضوعية العلمية، فإن عملية تصنيف المؤهلات الديمقراطية لبلد ما مليئة بالتحيزات والأحكام القيمية والأجندات الخفية، مثل منح جوائز الأوسكار للأفلام، أو عدد نجوم ميشلان للمطاعم، والتي يتم تحديدها أيضًا من قبل مجموعات من الخبراء الغامضين، باستخدام معايير معروفة لأنفسهم»[17]، إذ لا تخلو تلك المؤشرات من مقاصد سياسية، فهي في النهاية جزء من صناعة المعرفة التي يهيمن عليها الغرب من أجل فرض سردياته على بقية العالم.

وواضح أن مؤشرات الديمقراطية الأربعة لا تضع مسائل مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية واحترام القانون الدولي ضمن معاييرها؛ لهذا احتفظت دولة الكيان الصهيوني حتى عام 2024 بموقعها ضمن الدول ذات الديمقراطية المعيبة[18]، مع فئة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها[19]، ما دامت مسائل مثل حقوق الإنسان والفصل العنصري والإبادة الجماعية والحريات الإعلامية لا تدخل ضمن تقييم ديمقراطيات الدول[20]، ورغم أن تقرير عام 2024 عدّ احتلال أذربيجان ناغورنو كاراباخ في أيلول/سبتمبر الماضي سببًا في الإضرار بسجلها، على أساس أنها لم تحترم القانون الدولي، فإن احتلال إسرائيل غزة والضفة الغربية لم يسبب أي ضرر في سجلها، ولم يلفت أنظار الفريق الذي أعد تقرير إيكونوميست للديمقراطية، رغم أن عامي 2023 و2024 شهدا مجازر دموية وإبادات جماعية في غزة والضفة الغربية. وإذا كان مؤشر V-dem في تقرير عام 2024 رأى أن «إسرائيل» تراجعت من دولة ديمقراطية ليبرالية إلى دولة ديمقراطية انتخابية[21]، فإنه فعل ذلك ليس بسبب الفصل العنصري، ولا الإبادة الجماعية، ولا احتلال أراضي الغير، ولا استهداف رجال الإعلام واغتيالهم، ولا تعذيب السجناء الفلسطينيين وحرمانهم حقوقهم الإنسانية، إنما فعل ذلك بسبب مصادقة الكنيست الإسرائيلي على قوانين خطة «الإصلاح القضائي» الحكومية في العام الماضي، التي أضعفت القطاع القضائي وأدت إلى تراجع موقع إسرائيل من «ديمقراطية ليبرالية» إلى «ديمقراطية انتخابية»[22]، وهذا كله يضع صدقية تلك المؤشرات على المحك.

ثانيًا: حالة الديمقراطية في الوطن العربي
وفق المؤشرات الغربية

تكاد الأنظمة السياسية في البلدان العربية، منذ ظهور تلك المؤشرات، تحتل المراتب السفلى بين قائمة الدول المطبقة للديمقراطية، ويشير الشكل الرقم (1) إلى الحالة الإقليمية للديمقراطية في العالم وتطورها، ويطلق على الوطن العربي إقليم MENA، أي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

الجدول الرقم (1)
تطور الديمقراطية في نواحي العالم المختلفة من عام 2006 حتى 2023
مؤشر الديمقراطية 2006-23 حسب المنطقة

 2023202220212020201920182017201620152014201320122011201020082006
آسيا واستراليا5.415.465.465.625.675.675.635.745.745.75.615.565.515.535.585.44
أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى5.375.395.365.365.425.425.45.435.555.585.535.515.55.555.675.76
أمريكا اللاتينية5.685.795.836.096.136.136.266.336.376.366.386.366.356.376.436.37
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا3.233.343.413.443.533.533.543.563.583.653.683.733.623.433.543.53
أمريكا الشمالية8.278.378.368.588.598.598.568.568.568.598.598.598.598.638.648.64
أوروبا الغربية8.378.368.228.298.358358.388.48.428.418.418.448.48.458.618.6
أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى4.044.144.124.164.264.264.354.374.384.344.364.324.324.234.284.24
المتوسط العالمي5.235.295.285.375.445.445.485.525.555.555.535.525.495.465.555.52

المصدر: وحدة الاستخبارات الاقتصادية

ويريد الجدول الرقم (1) أن يقول إن الحالة الديمقراطية لم تتطور تطورًا فعليًا منذ عام 2006، ولم يبلغ مؤشرها قيمة 4.00، وأعلى تطور بلغه هو عام 2012، حيث بلغ 3.73، وهي المدة التي اطلق عليها الربيع العربي، كما يشير إلى أن حالة الديمقراطية منذ عام 2012 في تراجع مستمر، حتى بلغ مؤشرها قيمة 3.23 في عام 2023، ويبدو أن مؤشر الإيكونوميست أكثر تشددًا مع الوطن العربي، فهو يصف أنظمة سبع عشرة دولة عربية – من بين عشرين – بالاستبدادية (Authoritarian regimes)،[23]، وهو تصنيف لم يتغير منذ ظهور هذا المؤشر عام 2006. ويحشر التقرير دولة الكيان الصهيوني بين بلدان الوطن العربي، ويمنحها درجة بقيمة 7.8 ليؤكد سرديته الزائفة أنها واحة الديمقراطية في صحراء عربية (انظر الجدول الرقم (2)).

الجدول الرقم (2)
حالة كل دولة عربية في مؤشر الديمقراطية البريطاني (الإيكونوميست)

الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2023
 إجماليعالميإقليميالعملية الانتخابية والتعدديةسير عمل الحكومةالمشاركة السياسيةالثقافة السياسيةالحريات المدنيةنوع النظام
 نتيجةرتبةرتبة
الجزائر3.6611043.082.53.8953.82استبدادي
البحرين2.52139.0014.000.422.713.334.381.76استبدادي
القاهرة2.93127.0012.001.333.213.335.001.76استبدادي
ايران1.96153.0016.000.002.503.332.501.47استبدادي
العراق2.88128.0013.005.250.006.111.881.18استبدادي
اسرائيل7.8030.001.009.587.509.446.885.59ديمقراطية معيبة
الأردن3.04122.0010.002.673.213.892.502.94استبدادي
الكويت3.50114.007.003.173.932.784.383.24استبدادي
لبنان3.56112.006.003.080.796.673.134.12استبدادي
ليبيا1.78157.0018.000.000.002.783.752.35استبدادي
المغرب5.0493.003.005.254.645.565.634.12النظام الهجين
عُمان3.12119.009.000.083.932.785.003.82استبدادي
فلسطين3.47115.008.001.580.148.333.753.53استبدادي
قطر3.65111.005.001.504.293.335.630.88استبدادي
السعودية2.08150.0015.000.003.572.223.131.47استبدادي
السودان1.76158.0019.000.000.072.225.630.88استبدادي
سوريا1.43163.0020.000.000.002.784.380.00استبدادي
تونس5.5182.002.006.174.646.115.635.00النظام الهجين
الامارات3.01125.0011.000.004.292.785.632.35استبدادي
اليمن1.95154.0017.000.000.003.895.000.88استبدادي
المصدر الإقليمي3.23  2.162.604.284.442.69استبدادي

المصدر: وحدة الاستخبارات الاقتصادية

من جانب آخر يشير تقرير V-Dem للديمقراطية لعام 2024 إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تزال هي المنطقة الأكثر استبدادية في العالم، حيث يعيش 98 بالمئة من سكانها ضمن أنظمة استبدادية، 45 بالمئة من هؤلاء يعيش في أنظمة استبدادية مغلقة، و53 بالمئة منهم يعيشون في أنظمة استبدادية انتخابية، ويقيم 2 بالمئة من سكان المنطقة ضمن فئة الاستبداد الانتخابي في «المنطقة الرمادية»، وتكاد بقية المؤشرات تتفق فيما بينها على وضع مراتب أغلبية الأنظمة السياسية العربية في أسفل قوائمها (انظر الجدول الرقم (3)). غير أن التفاصيل التي يقدمها هذا المؤشر السويدي يعطي صورة للديمقراطية في الوطن العربي أقل سوداوية من المؤشر الإنكليزي، بحيث لا تتفرد البلدان العربية بالجانب السلبي في المؤشرات التفصيلية، وهو ما يؤكد الغرابة في هذه المؤشرات، إذ إن النتائج تتبدل بينها وبين بعضها، فلقد جاءت نتائج تقرير V-Dem للديمقراطية السويدي عام 2024 مختلفة كلية، وجاء ترتيب البلدان العربية متدنيًا، ولكنه ليس الأكثر تدنيًا كما فعل مؤشر الإيكونوميست، وبخاصة أنه استخدم ستة مؤشرات لقياس الديمقراطية، ففي مؤشر الديمقراطية الليبرالية، جاءت أعلى مرتبة لدولة عربية كالتالي: الكويت 98، وتونس 100، متفوقتين بذلك على بعض الدول الأوروبية (صربيا وأوكرانيا) والهند؛ وفي مؤشر الانتخابات الديمقراطية، جاءت أعلى مرتبة لدولة عربية هي تونس، برتبة 98، متفوقة على صربيا وأوكرانيا والهند؛ وفي مؤشر المكون الليبرالي[24]، جاءت مرتبة الكويت كأعلى دولة عربية، وبرتبة 56، متفوقة بذلك على دول مثل اليونان (70) ورومانيا (79) وبولندا (76)؛ وفي مؤشر مكون المساواة، جاءت مرتبة تونس كأعلى دولة عربية، برتبة 35، متفوقة بذلك على مراتب كل من: فرنسا (37)، وإنكلترا (38)، والبرتغال (41)، وكندا (45)، وجاءت مرتبة الجزائر (62) متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية (78)؛ وفي مؤشر مكون المشاركة الشعبية جاءت تونس كأعلى مرتبة لدولة عربية برتبة (82)، ورغم أنها مرتبة متأخرة نسبيًا، إلا أنها جاءت قبل الهند (103)؛ وفي مؤشر مكون تداول السلطات، جاءت تونس في المرتبة الأولى عربيًا، برتبة (62) تليها الصومال (72)، ثم المغرب (74)، ثم الأردن (86)، ثم ليبيا (79)، ثم لبنان (93)، وبعض البلدان العربية المذكورة تتفوق على الدول الغربية مثل: سلوفاكيا (108) كرواتيا (89) ورومانيا (143) وهنغاريا (142)، وتتفوق تونس على دولة الكيان الصهيوني «إسرائيل» (64)، وهذا كله يشير إلى أن هناك خللًا في توصيف الحالة الديمقراطية، وتصنيف الدول وفق المؤشرات الغربية، وهو ما قاد إلى فكرة إيجاد مؤشر عربي محايد لقياس حالة الديمقراطية، التي تبناها مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، الذي كان يعقد ندواته السنوية في جامعة أكسفورد في بريطانيا، وقد تألفت لجنة لدراسة هذا المشروع، لكنها واجهت عقبات قبل أن تستكمل عملها[25].

ثالثًا: لماذا الأنظمة العربية غير ديمقراطية؟

تركز أدبيات البحث الأكاديمي على جانبين في إجابتها عن إحجام الأنظمة العربية عن تبني الديمقراطية، الأول، يعزو ذلك إلى الثقافة الإسلامية والسجايا العربية، التي تتصادم في كثير من جوانبها مع متطلبات الحداثة الغربية، والثاني، يعزو ذلك إلى استراتيجية كولونيالية ثابتة، تهدف إلى إبقاء المنطقة العربية في حالة توتر دائم، وتغذي الأزمات، وترى أن الاستبداد يمنح الأنظمة العربية مرونة أكبر للاستجابة لمصالحها.

1- الثقافة والسجايا

اتهم معظم الغربيين الشعوب المغلوبة بعجز ثقافاتها عن استيعاب الديمقراطية، انطلاقًا من أن ثقافاتها الآسيوية تميل إلى الاستبداد الأبوي، وذلك خلال الحقبة الكولونيالية، ثم تراجعت هذه الاتهامات بعد الحرب العالمية الثانية على أربع مراحل، تضيق دائرتها في كل مرحلة لتشمل عددًا أقل من الناس.

المرحلة الأولى: اتهام شعوب القارة الآسيوية والأفريقية بالاستبداد الشرقي[26]، وصنعوا له سردية (علمية!؟)، بوصفها سجية متجذرة وأصيلة في الثقافة الشرقية، يصعب تغييرها والإفلات منها، وهي سردية استخدمتها الكولونيالية الغربية لتبرير احتلال الشرق وسلب خيراته، وصنع الغرب معها سردية عن نفسه تشير إلى تراثه الديمقراطي العريق، وقد خصص إدوارد سعيد كتابيه الاستشراق والثقافة والإمبريالية لفضح الأساطير الغربية التي كونها عن نفسه والآخرين، كما ناقش كتاب جذور الثقافة زيف السردية الغربية، وكشف تاريخ الشعوب الغربية المتوحش، عند ظهورها كقبائل همجية لأول مرة على مسرح التاريخ[27]، وعاشت بعد تدمير المدنية الرومانية شعوبًا من رقيق يستعبدها الإقطاع حتى نهاية القرن السابع عشر[28]، ولم تتوصل إلى الديمقراطية الكاملة إلا في الربع الأخير من القرن العشرين[29].

المرحلة الثانية: عُدلت هذه السردية بعد الحرب العالمية الثانية وحُصرت النزعة الاستبدادية بالمسلمين، وذلك مع نهاية الاستعمار المباشر، واكتُفي بالاستعمار الاقتصادي والمعرفي في ما سمي «ما بعد الكولونيالية»، إذ من غير الممكن ترويج رؤية الغرب الثقافية عالميًا بسرديات عنصرية، فحُصر الاستبداد في الإسلام عمومًا، والعرب خصوصًا، وتمت تبرئة شعوب آسيا الأخرى، وعُدّت الثقافة الإسلامية هي مصدر تخلّف المسلمين، وسببًا في عجزهم عن النهوض، واستُخدمت أشهر التعليقات في هذا الصدد للسير وليام ميور (William Muir) (1819-1905) التي تقول «سيف محمد والقرآن، هما أعند أعداء: الحضارة؛ والحرية؛ والحقيقة، الذين عرفهم العالم حتى اليوم»[30]، والذي عدّ دوغمائية الإسلام سببًا رئيسيًا في جمود المسلمين منذ القرن الثالث الهجري، «وقد تتقدم الشعوب في الحضارة والأخلاق والفلسفة والعلوم والفنون إلا أن الإسلام يبقى جامدًا من دون حراك، وهكذا سيبقى كما أفادتنا به دروس هذا التاريخ»[31]. ورأى المستشرق برنارد لويس (Bernard Lewis) (1916-2018) أن أمام العرب سبيلين، إما القبول بأحد أشكال الحضارة الغربية، ودمج ثقافتهم وذاتهم بالغرب، وإما السعي وراء سراب العودة إلى المُثل الثيوقراطية الضائعة، التي تنتهي بهم بحكم استبدادي[32]، وكان هو أول من بشّر بصدام الحضارات[33]. وقد التقط صامويل هنتنغتون (1927-2008) فكرة صراع الحضارات ليصنع منها نظرية، وشرحها في كتابه الشهير صراع الحضارات[34]، الذي روّج الإعلام الغربي بصورة غير مسبوقة، ورأى فيه أن أخطر الصراعات القادمة في نظر الغرب هو بينه وبين الإسلام والصين[35]، بينما يهمس الأوروبيون الغربيون فيما بينهم إلى أن التحديين الحقيقيين للمسيحيين الغربيين هما الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية[36]، وأعاد هنتنغتون مقولات مونتسكيو حول ديمقراطية المسيحية واستبدادية الإسلام بقوله «الثقافة الإسلامية تفسر إلى حد كبير فشل قيام الديمقراطية في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي»[37].

المرحلة الثالثة: تم تعديل الموقف من الإسلام بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الأب مهادنتها الدين الإسلامي، وحصر عدائها في الإسلام السياسي، الذي أطلق عليه في تلك المرحلة لفظ الأصولية (Fundamentalism)، وقد عبّر عن هذا الموقف رسميًا إدوارد جيرجيان[38] في كلمة ألقاها في مؤسسة ميريديان هاوس حيث أكد فيها: «إن الولايات المتحدة لا تنظر إلى الإسلام كأنه الخطر العقائدي الذي سيواجهه الغرب، أو الذي سيهدد السلام العالمي، لأن ذلك مبالغة في رد تبسيطي على واقع معقد»، وأكد الوقوف ضد جماعات الإسلام السياسي في قوله «نحن لا ندعم ديمقراطية الشخص الواحد، والصوت الواحد، لمرة واحدة»[39]، ولقد ترجمت الإدارة الأمريكية موقفها هذا بالحؤول دون تسلّم الجبهة الإسلامية للإنقاذ الحكم في الجزائر، بعد فوزها في الانتخابات في 26 كانون الأول/ديسمبر 1991، حيث علق جيمس بيكر فيما بعد قائلًا: «عندما كنت في وزارة الخارجية اتبّعنا سياسة استبعاد الأصوليين الراديكاليين في الجزائر، حتى لو اعترفنا بأنها كانت – إلى حد ما – مخالفة لموقفنا الداعم للديمقراطية»[40]. وفي تلك الحقبة أبدى بول ماري دولاغورس (Paul-Marie de La Gorce) (1928-2004) عن قلقه من الجماعات الإسلامية قائلًا: «ينطلق الأوروبيون في تعاملهم مع الظاهرة الإسلامية عمومًا من خلفيات ثقافية وتاريخية ومن معطيات التقارب الجغرافي، وفي العموم يخشى الفرنسيون والأوروبيون الظاهرة الإسلامية ويعدّونها تهديدًا خطيرًا»[41].

المرحلة الرابعة: تم تعديل هذه السردية بعد أحداث تفجير ناطحات السحاب في نيويورك في 9/11، فقد أصدرت الإدارة الأمريكية ثلاث استراتيجيات وطنية[42]، وتبنت مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق الأوسطية MEPI‏[43]، وفي هذا الوقت أوصت بيوت الاستشارة ومؤسسات صناعة الفكر بإشراك جماعات الإسلام السياسية في العملية الديمقراطية[44]، كمؤسسة راند عام 2005 [45]، ومعهد كارينغي للسلام[46]، ومعهد دراسات الاستراتيجيات القومية التابع لجامعة الدفاع القومي[47]، على أن يتم  التثبت من نيات الإسلاميين حول أسس الدولة الحديثة، كالعلمانية والالتزام بالقانون الدولي واحترام حقوق المرأة والأقليات، وبعدها تولى حزب العدالة والتنمية التركي الحكم منذ عام 2002 حتى اليوم، وحاز حزب العدالة والتنمية المغربي الترتيب الثالث في الانتخابات التشريعية لعام 2002، وحصد الإخوان المسلمون في مصر 88 مقعدًا في انتخابات 2005، وانتهى كل ذلك بتولي الإسلاميين الحكم في مصر وتونس والمغرب بعد عام 2011 في المرحلة التي أطلق عليها «الربيع العربي».

2 – تكريس الاستبداد وتغذية التوتر

سعى الغرب إلى تفتيت الوطن العربي بعد سقوط الدولة العثمانية، أخذًا في مبدأ «فرِّق تسُد»، وبنى استراتيجيته على تغذية التوتر في الوطن العربي، مستخدمًا الانقسامات الإثنية (عرب، كرد، فرس، أمازيغ)[48]، والخلافات الدينية (سنة، شيعة، إباضية)، والمشاحنات الطائفية (مسلمون، مسيحيون، يهود)[49]، والصراعات السياسية (إسلاميون، علمانيون، قوميون)[50]، والنزاعات الحدودية، حيث رسم خرائط حدود الأقطار في مناطق غير محسومة[51]، فهناك ما يزيد على خمسة وعشرين نزاعًا حدوديًا بين الأقطار العربية وبعضها، أو بين الأقطار العربية ودول الجوار، وقد أدت هذه النزاعات إلى اندلاع تسع حروب راح ضحيتها 320 ألف قتيل، وقام بزرع الكيان الصهيوني «إسرائيل» لوضع العرب في حالة انشغال دائم بالحرب[52]، ولتحقيق هذه الاستراتيجية دعم الغرب أنظمة عربية تستجيب لمخططه، خاضت بينها سلسلة من الحروب، ووضعت المنطقة العربية منذ القرن الماضي في فوضى الانقلابات العسكرية، والحروب الكلامية، والعمليات الإرهابية، من اغتيالات وتفجيرات ومؤامرات، وأهدرت الثروات العربية من خلال سياسات التسليح، وبدلًا من أن تتوحد البلدان العربية فقدت ما يقارب المليون ومئتي ألف كلم2 (1173235) من الأرض العربية في فلسطين وعربستان والإسكندرون وجزر الإمارات المحتلة وسبتة ومليلة وجنوب السودان وزنجبار وممباسا وإريتريا، أي ما يفوق مساحة مصر، وكان ذلك كله كفيلًا بصرف الأمة عن مشروع النهضة والتقدم. ومع ظهور أهمية النفط في مطلع القرن العشرين، حرصت تلك الاستراتيجية على ضمان إمداد الغرب بالنفط بأرخص الأثمان، وتحويل عائداته إلى سندات وأذون الخزانة الأمريكية[53]، وهو ما دفع كثير من الباحثين إلى ربط الاستبداد بالنفط، ووصفوا تلك العلاقة بلعنة النفط، مثل ميشيل روس[54]، وشارلوت وارجر[55]، ومينال شريفاستافا مع لورنا ستيفانيك[56]، ونیما مظاهری [57]، إلا أن القليل منهم أشار إلى دور الغرب في دعم هذه العلاقة، مثل محمد حويه[58]، وشادي حميد[59]، الذي قارن بين مطالبة الغرب الحركات الديمقراطية في أوروبا الشرقية بتغيير الأنظمة، في الوقت الذي كان خطابه اعتذاريًا وغير واضح في الوطن العربي[60]، ورعد أسد أحمد الذي أكد في ورقته هذا الدور، حيث ذكر «على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تعترف علنًا أبدًا بالسبب الحقيقي وراء غزو العراق، إلا أن بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع في إدارة بوش، وأحد المهندسين الذين خططوا لغزو العراق، لم يتمكن من إنكار الحقيقة عندما انزلق من لسانه في خطاب ألقاه في القمة الأمنية الآسيوية في سنغافورة، ونشرت صحيفتان ألمانيتان Der Tagesspiegel و  Die Weltاعترافه لاحقًا، حيث سُئل  عن سبب معاملة كوريا الشمالية بصورة مختلفة عن العراق في ما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل، فأجاب: دعونا ننظر إلى الأمر ببساطة، إن الفارق الأكثر أهمية بين كوريا الشمالية والعراق هو الناحية الاقتصادية، لم يكن لدينا أي خيار في العراق، البلاد تسبح على بحر النفط، كما ذكر وولفويتز أن أسلحة الدمار الشامل كانت «أعذارًا بيروقراطية» للحرب على العراق»[61]، وقد سبب هذا التصريح إحراجًا لوولفويتز، وهو ما دعاه إلى نفيه[62]. أما فولكر بيرتس فقد كتب أن أزمة الديمقراطية لا تكمن في الثقافة العربية، بل في أجندة التحول الديمقراطي الغربية وارتباطها بمصالح الغرب وبسياساته الأمنية[63]، ويرى لاري دياموند أن للاستبداد العربي ركيزتين، الأولى الأجهزة الأمنية والأنظمة الاجتماعية التي تدير بها سياساتها، وتحافظ من خلالها على قبضتها على السلطة، والثانية القوى الخارجية التي تساعد على الحفاظ على حكمها. ويضيف أن الحكام العرب رفعوها إلى درجة عالية من الصقل، واستخدموها بمهارة غير عادية، ويرى أن إحدى العقبات التي تحول دون التحول إلى الديمقراطية هي الخوف من أن الإسلام الراديكالي، الذي ينتظر خلف الكواليس في حالة انهيار النظام. وحول هذه النقطة يؤكد السفير أندرو غرين «أن «الدولة الإسلامية (داعش)» تمثل تهديدًا كبيرًا لاستقرار الشرق الأوسط برمّته، علاوة على ذلك، فإنها تنشئ منطقة تحت سيطرة المتطرفين الإسلاميين، وهو يمثل تهديدًا لبريطانيا نفسها»[64]، ويرى لاري دياموند أن هناك عاملين آخرين يعززان هيمنة الدولة الاستبدادية العربية: الأول، الصراع العربي – الإسرائيلي، الذي يوفر وسيلة جاهزة ومريحة لتحويل الإحباط العام بعيدًا من الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الأنظمة العربية، حيث تنفس الجماهير العربية عن غضبها على إسرائيل في الصحافة وفي الشوارع، وتظل آمنة، والثاني هو الجامعة العربية التي يتخذها المستبدون لتعزيز بعضهم بعضًا، حتى صارت الجامعة العربية على مر العقود ناديًا للمستبدين[65]. وضمن هذه الاستراتيجية الغربية لا يمكن تصور دعم غربي لنشر الديمقراطية في المنطقة، تمكن الشعوب من مراقبة حكوماتها، والتحكم في ثرواتها، ومحاسبة حكامها، وهو ما كشفه الرئيس الأمريكي ترامب في خطاب عام للعلن، عندما صرح بما يفيد أن الأنظمة العربية لن تستطيع البقاء من دون دعم الغرب، ولهذا هي تدفع مقابل ذلك[66]. وقد عبّر رئيس الوكالة اليهودية ناثان شارانسكي عن ذلك في أحد مقالاته، حيث قال: «على مدى عقود من الزمن، كانت سياسة العالم الحر تجاه الشرق الأوسط العربي والإسلامي مبنية على مبدأ بسيط، هدفه الأسمى الاستقرار، والذي تم شراؤه من خلال الصفقات المبرمة مع القادة، أما كون القادة المعنيين مستبدين – من نوع أو آخر – فلم يكن له أهمية تذكر، ولا القسوة ولا الفساد المستوطن في حكمهم، بل على العكس من ذلك، كان يُنظَر إلى الطغيان بوصفه الضامن للاستقرار، تمامًا كما يضمن الفساد شراء صداقة الأنظمة»[67]. إن تاريخ المنطقة الحديث الحافل بالتوتر والصراعات؛ دفع الاستراتيجيين الغربيين إلى وصفها – في مرحلة من المراحل – بقوس الأزمات، ويرى أنصار نظرية قوس الأزمات أن هناك إمكانًا لإنشاء دول نفطية مصغرة، يسهل السيطرة عليها أكثر من الدول الكبيرة، من على شاكلة إيران والعراق، وذلك من خلال «بلقنة» الشرق الأوسط. لهذا قام برنارد لويس بتطوير هذه النظرية ليعلن نظرية الشرق الأوسط الكبير[68]، التي تبناها الغرب بعد قمة مجموعة الثماني في حزيران/يونيو 2004 [69]. وقوس الأزمات أو الشرق الأوسط الكبير هما عنوانان لمشروع واحد يؤدي إلى بلقنة الوطن العربي[70]، وذلك بتكريس الإثنية والطائفية والمذهبية، ولهذا أكد تقرير الدفاع والأمن الوطني الفرنسي المسمى Le Livre blanc أن المنطقة لا تمثل كلًا متجانسًا، فقد تجاهل الأواصر التي تربط أهل المنطقة بعضهم ببعض، الثقافية والاجتماعية والتاريخية والسياسية، ورأى أن لكل دولة هويتها وتاريخها ومواردها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبشرية، ولكل من المجموعات الفرعية الإقليمية منطقها الخاص. ولما كان هذا الجزء من العالم يقع في جوار أوروبا، وفي قلب المصالح الاستراتيجية للأمن العالمي، «ربما يكون من المطلوب من أوروبا وفرنسا أن تصبحا أكثر انخراطًا في المستقبل في مختلف أنحاء المنطقة، للمساعدة في منع الأزمات وحلها»[71]، وعليه، يمكن تفسير حماسة الغرب الاستثنائية لنشر الديمقراطية في مطلع العقد الماضي (بما سمي الربيع العربي) على أنها خطوة في مشروع البلقنة[72]، وهو ما لمح إليه السفير الألماني في إسرائيل أندرياس ميكايليس في تعليقه على الربيع العربي قائلًا «هناك علاقة واضحة جدًا بين الربيع العربي والتفكك: فالربيع العربي بحكم تعريفه يتضمن التحول ويتطلبه، ومن ناحية أخرى، فإن التحول يخلق فرصًا للتفكك والتمرد، سيتم إنتاج الكثير من السيناريوهات المختلفة بمرور الوقت، التحولات التي تتوقف فجأة وتنهار إلى التفكك، تحولات تغذي تدريجيًا مراكز وجيوب انعدام الأمن لأنها ليست شاملة، لأنها متناقضة»[73]، كما صاحب نهاية الربيع العربي ظهور جماعات عنف غير مسبوقة في عالمنا الإسلامي، مجهولة المنشأ، ولها خطاب مقزز وفائق التطرف، وتقوم بأعمال تصب في خدمة مشروع البلقنة، حتى صارت سيفًا مسلطًا يهدد الأنظمة العربية كلما عاندت أو تلكأت[74]، ولهذا عارض السفير الأسبق السير أندرو جرين بصورة صريحة التدخل الغربي في الشرق الأوسط لدعم الديمقراطية، لأنه لن ينجح بسبب «التعقيد في المجتمعات الشرقية، حيث تتفوق العائلة، والقبيلة، والطائفة، والصداقات الشخصية على جهاز الدولة، من الأفضل وصفها بأنها مجتمعات (خدمة مقابل خدمة)»[75].

رابعًا: مستقبل الديمقراطية بعد حرب غزة؟

لا تتم دراسة المستقبل من زاوية واحدة، حتى لو كانت شديدة الالتهاب كحرب غزة، إذ تظل حركة المستقبل مثقلة بتاريخ أقرب نقطة لها، وتخضع للسياق التاريخي للأحداث، أو لتحليل الاتجاه (Trend Analysis)  كما يطلق عليه في الرياضيات، ولهذا فإن حرب غزة لن تحدث انقلابًا فجائيًا في مسيرة الديمقراطية في الوطن العربي، أو حتى في المستقبل القريب، فما زالت موازين القوى تتحكم ببقاء النظام الرسمي العربي، وهو نظام وجد ليكون مستبدًا، بل إن الحلول المقترحة لإنهاء القضية الفلسطينية في حاجة للاستبداد الرسمي أكثر من أي وقت مضى، وهو ما كشفته مواقف الأنظمة العربية في حرب غزة الأخيرة، حيث لم تكتفِ بالجلوس على مقاعد المتفرجين، أمام مشاهد الإبادة الجماعية والتجويع للفلسطينيين، بل منعت كل مظاهر التعاطف الجماهيري لدى شعوبها، كما كشف تاريخ اتفاقيات الصلح مع الكيان الصهيوني عن إخفاق على المستوى الشعبي، فعلى مدى أكثر من أربعة عقود – منذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 – وإسرائيل تواجه مشكلة التطبيع، أي قبول الشعوب العربية والإسلامية بعلاقات طبيعية مع الدولة والشعب الإسرائيليين، وتبين أن العداء للكيان الصهيوني مزروع في الوجدان العربي منذ احتلال فلسطين، وقد تحول إلى قيمة أخلاقية تفرز الحسن من القبيح، والخطأ من الصواب، عند عامة العرب والمسلمين، كما صار عقيدة عسكرية باطنية لكل أفراد الجيوش العربية، ولهذا اكتفت إسرائيل بالتفاهم مع الأنظمة، واتفقا على إقناع الدول الغربية بعدم ممارسة الضغوط لخفض الاستبداد العربي، وهو ما عبّر عنه ناتان شارانسكي «وهكذا تم التوصل إلى اتفاق، لقد تم تبرير المقايضة – دعم الاستقرار – من خلال اعتبارات السياسة الواقعية، والتأكيد المريح على أننا لا نملك الحق في الحكم على سلوك المجتمعات بمعايير أخلاقية تختلف عن معاييرنا الأخلاقية»[76]، فتطبيق النظام الديمقراطي في الوطن العربي يمثل خطرًا على الكيان الصهيوني، وهذا ما كشف عنه تقرير «دعم الديمقراطية» – الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية – بطريقة غير مباشرة، الذي أشار إلى أن الأنظمة العربية وإسرائيل تعاونا معًا في إقناع صناع القرار في الغرب بالحفاظ على الاستبداد العربي، يقول «ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تقبل الحجة التي ساقها بعض الزعماء العرب بأن التقدم نحو الديمقراطية غير ممكن قبل تسوية القضية الفلسطينية، كما لا ينبغي للولايات المتحدة أن تقبل وجهة النظر التي يتبناها بعض الإسرائيليين بأن مفاوضات السلام لا ينبغي أن تستأنف إلا بعد أن تستوفي السلطة الفلسطينية ديمقراطيتها بالكامل»[77]، وهو ما يشير إلى أن الاستبداد العربي والاحتلال الإسرائيلي يعملان كطرفَي مقص يجز كل تقدم في المشروع العربي النهضوي، وهو ما جعل الوطن العربي في حالة إحباط مقيت، وصفها الكاتب المصري محمد حسنين هيكل بحافة الانتحار، وعلق عليها قائلًا: «لا أرى حلًا سهلًا أو قريبًا أو طبيعيًا للأزمة، لأن تعقيداتها تجاوزت بكثير ما قد يطرح نفسه من بدائل يصح الاختيار بينها»[78].

لكن، من جانب آخر، تركت حرب غزة آثارها الواضحة في المجتمع الدولي، وفي مستقبل سردية التنوير الغربي والمنظومة الكونية لحقوق الإنسان، فلأول مرة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي يمتد أمد الحرب بين الطرفين إلى ما يتعدى ستة أشهر، شهد خلالها العالم تطورات مرعبة، كالمجازر الجماعية والقتل الإسرائيلي المتعمد للمدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء وكبار السن، وقصف المستشفيات، وقتل الأطباء والهيئة التمريضية والمسعفين ورجال إغاثة، وقنص رجال الإعلام والمراسلين، والتدمير الممنهج للأحياء السكنية، وتجويع السكان وحرمانهم الوصول إلى الماء والغذاء والكهرباء. لقد كشفت هذه الحرب انحيازًا جنونيًا إلى الرد الانتقامي الإسرائيلي، حيث تسابقت معظم الدول الغربية في تقديم الدعم المادي والمعنوي لإسرائيل، وتبنت سرديتها للحرب، التي روّجها الإعلام بقصص رعب خيالية عن الأطفال مقطوعي الرأس والاغتصاب الجماعي، وأنها حرب عادلة، وأنه يجب السماح لإسرائيل بإنهاء المهمة، وبناءً على قبول السردية الإسرائيلية قامت دول مثل: الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وإيطاليا والمملكة المتحدة وفنلندا وهولندا وألمانيا وفرنسا واليابان وسويسرا بتجميد تمويلها أو مساهماتها للأونروا، لزيادة معاناة المدنيين في غزة، ولأول مرة في تاريخ هذا الصراع تقف الأنظمة العربية والإسلامية متفرجة، ومكتوفة الأيدي أمام معاناة وتجويع المدنيين الفلسطينيين. غير أن هذه الحرب كشفت ضعف المواثيق الدولية وقانونها الذي خرقته إسرائيل مرات كثيرة[79]، وخدعة احترام الحكومات الغربية للقانون الدولي[80]، وتهرؤ سردية التنوير الغربي والمنظومة الكونية لحقوق الإنسان، وازدواجية المعايير في الخطاب الغربي الرسمي[81]، والانتقائية في حرية التعبير والنشر[82]، وزيف الحيادية العلمية في الأكاديميات الغربية[83]، وحقيقة الديمقراطيات الغربية التي تهيمن عليها أوليغارشيات صهيونية أو مالية. وعبرت عن ذلك نائبة البرلمان الأوروبي، الأيرلندية كلير دالي قائلة: «انخرطت في السياسة لمدة أربعين عامًا، لكنني لم أرَ قط شيئًا مثل ما يحدث في غزة على مرأى ومسمع من العالم، عشرة أيام من الغارات الجوية المتواصلة، واحد من كل ألف شخص يقتل على يد الحكومة الإسرائيلية»، وتابعت قائلة: «عندما كان على الاتحاد الأوروبي أن يدعو إلى وقف إطلاق النار احترامًا للقانون الدولي، وحماية المدنيين، وصلت أورسولا فون دير لاين (رئيسة المفوضية الأوروبية) إلى تل أبيب لالتقاط صورة للتحضير للإبادة الجماعية، وقالت إن أوروبا تقف إلى جانب إسرائيل الآن وفي الأيام المقبلة»[84]. وفي الوقت الذي كان الغرب يستخدم خطابه الأخلاقي والإنساني ضد روسيا في حربها ضد أوكرانيا، ويستخدم سرديته لكسب الرأي العام الدولي معه، وجد نفسه يتجاوز كل المعايير الأخلاقية التي استخدمها ضد روسيا في موقفه الداعم لإسرائيل، وكتب نيل ماكفاركوهار (Neil MacFarquhar) أن هذه الازدواجية بالمعايير ستدق إسفينًا بين الغرب والدول المتأرجحة في الجنوب، مثل البرازيل وإندونيسيا[85]، وستضعف موقفها لجذب بقية دول العالم نحو موقفها من الحرب الأوكرانية، وهو ما جعل الباحث التركي مراد يشيلتاش يحذر من أن يؤدي التراجع في التفوق المعياري الغربي إلى عواقب كبيرة كظهور نظام دولي جديد بصورة غير منظمة وبلا قواعد، أو يؤدي إلى انقسام عميق بين العالمين الغربي وغير الغربي وانتشار الصراعات القائمة على الهوية، أو يؤدي إلى نفور الجنوب العالمي بالكامل من الغرب واصطفاف العالم الإسلامي مع محور جيوسياسي غير غربي[86]، فهل تؤدي حرب غزة إلى بروز بوادر نظام دولي جديد أكثر احترامًا للقانون الدولي؟.

كتب ذات صلة:

جذور الثقافة في المنطقة العربية

ثورة بلا ثوار : كي نفهم الربيع العربي

الدين والدولة والديمقراطية من زاوية أركونية

الديمقراطية : طوق نجاة للمجتمعات والدول العربية