يجمع الكثير من الدراسين والمراقبين أن الدولة الوطنية الموريتانية ظهرت ككيان مشكوك في شرعيته التاريخية والاجتماعية، هذا الوضع طبعاً كانت له تداعيات وخيمة تمثلت بمجموعة من الصراعات العرقية والقبلية والشرائحية ما زالت البلاد تشهدها إلى حدود اليوم.

وبالتالي فإن أزمة الدولة الوطنية – المدينية في موريتانيا وعدم تحققها مؤسسياً وقانونياً رغم وجودها أمنياً وإدارياً، راجع أساساً إلى غياب الشفافية السياسية بسبب الاستبداد وعدم الفصل بين السلطات، إلى جانب هيمنة الزبونية القبلية والعرقية على القرار السياسي؛ وكذلك العصرنة المشوَّهة الماثلة في تركة الإدارة الاستعمارية التي كانت قائمة على أساس أن القبائل تخدم المستعمر لجمع الضرائب مقابل جزء من المكانة لشيخ القبيلة؛ وهو بدوره يوزع جزءاً من تلك العملية على شيوخ البطون؛ ومن ثم تتبلور علاقة زبونية بين القبيلة والإدارة تكرِّس استبداد الشيوخ بالرأي والقمع لرعيتهم ضريبياً وتعنيفاً وسجناً أمام المستعمر، وهذا ما جعل رؤساء العشائر وبعض رعيتهم مجرد خدم للإدارة وجواسيس لها على مواطنيهم مقابل فتات الريع الضريبي والجاه السياسي المحلي[1].

ما يهمُّنا في هذا الصدد هو أن هذه العلاقة «الزبونية» لم تغيَّر بين السلطة الوطنية وكبار اللاعبين في الحقل السياسي؛ فالدولة الوطنية انتهجت السياسية الاستعمارية، ومن ثم أضحت كالزبون الأكبر، ذلك أنها أصبحت تقدم العطايا والهبات مقابل الطاعة والولاء لها، وهو في الحقيقة ما يمثل اليوم التحدي الأكبر في وجه إمكان القطيعة مع التصورات التقليدية للممارسة السياسية في موريتانيا، والانتقال بها إلى واقع الدمقرطة والتداول السلمي على السلطة، وفصل السلطات، وسيادة القانون واستقلال القضاء.

طبعاً هذه العلاقة بين الدولة والأفراد، المحكومة بمنطق الزبونية والمحاباة بدل الحقوق والواجبات، جعلت الدولة الوطنية الموريتانية تعاني أزمات بنيوية حادة أفشلت كل أوجه العصرنة السياسية والاجتماعية وجعلت المجتمع في حالة شلل وتفكك وقواه السياسية مشتتة ومقموعة[2].

تتمثل مظاهر هذه الأزمات بتحويل الاقتصاد الوطني إلى ريع رسمي يدار بغموض وبسرقة علانية تتجسد بتقديم العطايا الطائلة إلى كبار العسكريين (من أجل كسب ولائهم)؛ إضافة إلى عدم نزاهة القضاء واستعماله كآلية لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية؛ وفشل سياسات الاندماج الاجتماعي بسبب سوء معالجة الدولة الوطنية لها والحل التلفيقي لمسألة الهوية: «الاجتماعية والسياسية والثقافية والتعامل معها من منظور زبوني وقمعي»[3]، بدلاً من الحوار والتفاهم وتفعيل المدركات الجماعية للجماعة المجتمعية.

كل هذه التناقضات التي قامت الدولة الوطنية عليها جعلتها قابلة للانفجار في كل مرة؛ وعمَّقت الفجوة بينها وبين مجتمعها، وأذكت سياسة الاحتقان والأحقاد بين فئات المجتمع الموريتاني نتيجة لتأميم السياسة الاستعمارية؛ فأصبح البلد مهدداً بالتدخلات الخارجية تحت ذريعة عدم استقرار الدولة الوطنية.

على الرغم من أن الدولة الموريتانية نشأت نشأة مدنية خلال الحقبة 1957 – 1978، فإن هذه الحقبة لم تكن مثالية، لأنها تميّزت بالعمل على إنزال السياسة الاستعمارية على أرض الواقع والقضاء على الدور التاريخي لطبقة الفقهاء والتجار المحليين.

بمعنى أن هذه المرحلة (المدنية) أدت إلى ضرب ذلك التوازن الذي كان قائماً بين مؤسسات المجتمع الموريتاني الأهلية (الزوايا)، والسياسية (الإمارات).

كما تكرّست في هذه المرحلة أيضاً سياسة الحزب الواحد وقُضي على مظاهر التعددية السياسية والاجتماعية… إلخ. وانتشر نظام الاستقالة المسبقة في البرلمان، وهو نظام كان بمقتضاه يقدم النائب استقالته مسبقاً بشكل مكتوب وغير مؤرخ إلى رئيس الدولة، وذلك من أجل التحكم في النائب ومن ثم عزله إن اقتضى الأمر ذلك، ممّا يكشف مدى استبداد النظام الأبوي الموريتاني في تلك الحقبة.

بيد أن أزمة الدولة الوطنية في الحقيقة ستتعمق إبان وصول النظام العسكري إلى السلطة عام 1978 وتقنينه للمبادئ الاستبدادية والسلطوية، والقضاء على مختلف التنظيمات الأهلية الأخرى.

في هذه المرحلة، بدأ ما أطلقنا عليه في هذه الدراسة: ازدواجية العسكرة والتسييس؛ أي تسييس العسكر، وعسكرة المجتمع أي إيمانه بشرعية العسكر.

وعلى الرغم من أن النظام الموريتاني اتسم بنوع من الانفتاح الديمقراطي في تسعينيات القرن الماضي، إلا أن ذلك الانفتاح لم يكن انعكاساً لوعي مجتمعي بقدر ما كان مفروضاً من الخارج ولا سيَّما في قمة لابول الشهيرة في عام 1990، وهو ما يفسر سرعة الانتكاسة التي عرفها النظام الديمقراطي أو النظام العسكري غير المباشر على نحوٍ أكثر دقة مع انقلاب 3 آب/أغسطس 2005.

ونحن في هذا المضمار سنحاول التصدي لأهم الأزمات التي عرقلت مسيرة الدولة الوطنية الموريتانية نحو الدولة المدنية، على مختلف الصعد: السوسيو – ثقافية (أولاً) والسياسية – الاقتصادية (ثانياً).

الإشكالية: تحاول الدراسة أن تقدم تفسيرات علمية وعملية لأسباب إخفاق النموذج الموريتاني في عدم قدرته على القطيعة مع التصورات التقليدية لممارسة سياسة الحكم، والانتقال بها إلى الدمقرطة والتداول السلمي للسلطة.

الفرضية: تفترض الدراسة أن تعثر الدولة المدنية في موريتانيا راجع بالأساس إلى عدم قدرة الدولة الوطنية على استيعاب حركة المجتمع، لعدم وجود انسجام أو تناغم بين تاريخ الدولة الوطنية – المستوردة – ومجتمعها العربي العريق من جهة، ونتيجة للجمود السياسي والتصلب المؤسسي من جهة أخرى … لأن السلطة كلما تضخمت احتاجت إلى المأسسة.

المفاهيم الرئيسية للدراسة: الهوية، المشاركة السياسية، التداول السلمي للسلطة، الدولة، الممارسات التقليدية للسلطة، فصل السلطات.

أولاً: مظاهر تأزم الدولة الوطنية على الصعيدين الاجتماعي والثقافي

ولد الكيان الموريتاني على مجال مقسم، وظل الشعب الموريتاني يعاني التقسيم والتجزئة التي خلفتها السياسة الاستعمارية الفرنسية. كانت المعضلة التي واجهت بناء الدولة الوطنية تتمثل بعدم تطابق كيان الدولة الوليدة مع الحقائق الاجتماعية والثقافية التاريخية، أي التعارض بين العصرنة المشوَّهة التي جاءت في ركاب المستعمر وخصوصية المجتمع الموريتاني البدوي. هذا التنافر ما بين تاريخ الدولة الوطنية والمجتمع الموريتاني جعل الدولة الوليدة تظهر في أعين النخب، ولا سيَّما النخب التقليدية، منعدمة الشرعية لأنها ورثت دولة الاستعمار، واجتازت خطواتها الأولى تحت إشرافها، فحرمت الدولة الوطنية ولاء المجتمع؛ لذلك حرصت على انتهاج استراتيجية قائمة على أساس الضبط والتحكم في مختلف الأنشطة الأهلية من طريق سياسة «الحزب الواحد»، وضيَّقت الخناق على المجتمع ولا سيَّما بعد القضاء على مظاهر التعددية السياسية والاجتماعية عام 1965، وسيطرة الحزب الواحد على زمام الأمور.

وقد كانت الإدارة الاستعمارية التي ورثتها الدولة الوطنية وفيّة للنهج الحكومي اليعقوبي – نسبة إلى حكومة اليعاقبة بعد الثورة الفرنسية – القائم على ضبط الأطراف ومركزة العمل المؤسسي وفق سياسة شد الأطراف إلى مركز العاصمة؛ مع بيروقراطية توثيقية شديدة التعقيد والرتابة[4]. وكان أول اختبار واجهته الدولة الوطنية بعد ميلادها بست سنوات هو انفجار المسألة الثقافية والعرقية؛ وهذا يدل على أنها لم تحسم بالتوافقات التقليدية بين النظام وشيوخ العشائر الزنجية؛ ولا بالتحالف معها داخل جهاز الدولة[5]. كما أن الحقوق الثقافية واللغوية لا يمكن تأجيلها أو التَّستر عليها بالمجاملة أو بالتهدئة، بل لا بد من نقاش حقيقي وعلني حولها ودسترتها ومأسستها والاتفاق بين نخب المجتمع السياسي والثقافي من مختلف الفرقاء في الأقليات والأكثرية ومن دون سقف أو قمع من أي نوع[6].

يمكن القول إن أهم مظاهر أزمة الدولة المدنية في موريتانيا على الصعيدين الاجتماعي والثقافي تتمثل أساساً بالتنافر الثقافي والعرقي والشرائحي بين أطياف المجتمع الموريتاني، وعمل الدولة على استغلال ذلك لتحقيق مكاسب سياسية آنية؛ إضافة إلى ظاهرة اجتماعية أخرى لا تقل خطورة عن الظاهرة السابقة تتمثل بحضور القبيلة بقوة سياسياً واجتماعياً وعدم قدرة الدولة على احتوائها.

1 – المسألة الثقافية ودواعيها في موريتانيا (معضلة الوئام الأهلي)

بداية نوضح حقيقة مفادها أن المسألة العرقية والثقافية والشرائحية في موريتانيا هي تركة استعمارية بحتة، ذلك أن الإدارة الفرنسية إبان وجودها في موريتانيا استدعت بعض الموظفين الإداريين الزنوج من غرب أفريقيا رغم عدم حصولهم على جنسيات موريتانية؛ الأمر الذي زرع بذور العداء العرقي والثقافي بين العرب والزنوج، وهو في الحقيقة صراع بين النخبة العربية وإداريين أفارقة من تركة الإدارة الاستعمارية في غرب أفريقيا… بينما تتمتع النخبة الوطنية الزنجية الموريتانية بالقيم الأهلية نفسها التي لدى العرب من مبادئ الإسلام وحتى الأنساب كما هو حال قبائل الفولّان (Les pulse) [7]. والدليل على ذلك مقولة القائد الزنجي المشهورة باصمّبولي: «لا يوجد موقف عداء من الزنوج للعربية، بل إن أهل فوتا يحبون العربية ويجلّون العلماء وتراثنا كله مكتوب باللغة العربية».

انفجرت المسألة الثقافية في موريتانيا بداية عندما صدر قرار بتاريخ 30 كانون الثاني/يناير 1965 يقضي بإلزامية اللغة العربية في التعليم الثانوي، وذلك حينما جاء الرد على هذا القرار في الرابع من كانون الثاني/يناير من عام 1966 بتظاهرات وإضرابات نظمها الطلاب والتلاميذ الزنوج في ثانوية نواكشوط وفي الداخل، ووقَّعت 19 شخصية زنجية منشوراً كان أساسه نقد الإحصاء القائم آنذاك على أن العرب يمثلون نسبة تربو على 80 بالمئة؛ وعارضوا إلزامية اللغة العربية، ووصفوا المسألة بأنها تهدف إلى تذويب الأقلية العرقية، وعقدة العرب من كفاءة الزنوج وطالبوا بنظام تعليمي خاص بهم مع فدرالية خاصة بالزنوج[8].

وقد عبّرت مواقف الطرفين عن درجة عالية وقوية من التشنج والتصلب أدّت إلى منع النخبتين من رؤية الواقع وما فيه من انعطاف ومرونة؛ فجرت حوادث صدام بين الطلبة العرب والزنوج وتدخل البوليس والحرس وكادت الأمور تنفلت من يد الحكومة قبل تدخل الجيش[9]. بيد أن الخلفية الواقعية للصدام بين النخبتين الزنجية والعربية، ترجع أساساً إلى أسباب ودواع اقتصادية تتمثل بتوجس الموظفين الزنوج على مناصبهم ومنافسة المستعربين الجدد عليها في «ظل مناخ من الفشل المؤسسي والقانوني للدولة الوطنية في احتواء المسألة وحسم المشكل الثقافي والتعليمي والهوياتي وتلبية مطالب الخريجين من مختلف الفئات والأعراق»[10]. وبذلك فشلت الدولة الوطنية في بناء «مدرسة وطنية – مدنية» تحقق الاندماج الاجتماعي وتسمح بالخصوصية لمكونات المجتمع المختلفة[11].

يرجع هذا الفشل في نظرنا إلى أن الدولة الوطنية تعاطت مع هذا المشكل العمومي بمنطق التسلط والتجبر والخروج عن المألوف، بدلاً من الحوار والتفاهم واحترام الخصوصيات. ورغم أن المشكلة العرقية والثقافية لا تزال إلى حدود اليوم تمثل العقبة الكأداء في وجه بناء دولة وطنية – مدنية، قائمة على منطق الحقوق والواجبات والروابط الوطنية، فهي لا تعدو كونها مظهراً بسيطاً من مظاهر أزمة الوحدة في أفريقيا بوجه عام.

2 – ظاهرة القبيلة… (جدلية القبيلة والدولة)

عندما نكون في صدد التعاطي مع مجتمعات العالم الثالث بوجه عام، ينبغي دائماً استحضار هيمنة الأنماط التقليدية (القبلية) على المشهد السياسي في هذه البلدان، ومن ثم إعاقتها للممارسة السياسية. فالفرد في هذه المجتمعات يكون ولاؤه منقسماً بين انتماءين: قبلي وسياسي؛ وهذه الازدواجية النّكدة تسبب الكثير من الحرج لصاحبها، كما تحول دون ممارسة سياسية واعية تستمد مرجعيتها من المبادئ والأفكار السليمة والتجارب الناجحة[12].

وعلى الرغم من أن الدولة الوطنية حاولت تجاوز القبيلة واحتواءها – وهو ما يظهر بجلاء في خطاب الرئيس المختار ولد داداه بمناسبة عيد الاستقلال 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1960 عندما قال: «لا بد لنا من تنمية معنى التضامن ومفهوم المصلحة العامة وهكذا يمكن إنجاز التطور من القبيلة إلى الدولة»[13]. – فإن القبيلة التي ترسخت عبر الأجيال لها مناعتها وقدرتها على التكييف وابتلاع كل جسم غريب؛ فكل التنظيمات التي قامت على أديم موريتانيا حتى الآن احتوتها القبيلة وما زالت الدولة نفسها عرضة للاحتواء[14]، لذلك ظلت الدولة عاجزة عن صهر المجتمع وإخضاعه لسيادتها المطلقة. ويرى البعض أن ذلك راجع إلى غياب العامل الاقتصادي الذي يدفع المجتمع إلى الانحناء لثراء الدولة.

ويعطي الكاتب – محمد الأمين ولد سيد باب – مثالاً على ذلك بدول الخليج العربي ذات القوى الاجتماعية المشابهة للمجتمع الموريتاني.

هذه الظاهرة (القبيلة)، جعلت التعددية السياسية الحديثة في موريتانيا غالباً ما تطغى عليها التعددية البدائية؛ وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى استحالة فتح رهان مع القبيلة في موريتانيا.

تجدر الإشارة إلى أن المشكلة في موريتانيا ليست ظاهرة القبيلة فقط، بل تكمن في تسييس هذه الظاهرة أيضاً، ذلك أن الموريتانيين ليس من مصلحتهم القفز على ظاهرة القبيلة كونها جزءاً لا يتجزأ من ماضيهم ولها مبررات للبقاء في حاضرهم؛ فهي تشكل حصيلة التطور التاريخي الذي مر به المجتمع الموريتاني، وليس هناك من يتمنى زوال القبيلة على الضد مما هو موجود في بلدان عربية أخرى[15].

وعلى الرغم من استفحال ظاهرة القبيلة في موريتانيا «فقد بقيت محدودة التأثير لجهة العنف الذي يؤدي إلى انهيار الدولة؛ على نمط المشهد الصومالي، أو تخبطها في أزمات حادة على النمط السوداني أو الجزائري. ولم تظهر عادة القصاص من طريق الأخذ بالثأر القبلي المعروف في بعض البلدان العربية مثل اليمن؛ وظلت القبيلة في موريتانيا منذ نشأة الدولة الوطنية منزوعة السلاح»[16].

ولئن كانت الإصلاحات السياسية التي جاء بها منعطف التحول الديمقراطي قد أدخلت الممارسة السياسية الموريتانية عالم الحداثة، إلا أن الممارسة السياسية في هذا البلد ظلت تتخبط في إسار القبيلة، ما دفع بعض المتخصصين إلى إطلاق تسمية الديمقراطية القبلية على تجربة الديمقراطية الموريتانية[17].

وقد أسهم حضور القبيلة في المشهد السياسي الموريتاني بوجه عام في تدهور الإدارة وعرقلة مشروع تحديثها. ولم تستطع السلطات منذ الاستقلال وحتى اليوم منع الممارسات التقليدية من الولوج إلى رحاب الإدارة[18]، ومن ثم فقد ظلت القبيلة هي سيدة الموقف بحكم أن الدولة في موريتانيا ليست لها منافع توزعها على المجتمع وتسمح لها بالسيطرة على النشاط السياسي؛ أو تملك منافع ولكنها لا تديرها على نحوٍ معقلن ينسجم وفلسفة العدالة الاجتماعية، لذلك أصبحت «القبيلة أكثر حظاً وقوة من الدولة في منافستها على كسب ولاء أفراد المجتمع»[19].

بيد أن الممارسة السياسية في ظل المجتمع القبلي ستظل تسير داخل الكثير من المنعرجات الصعبة ولن توفَّق في أن تصبح ذات شأن في الحياة العامة؛ وسيظل الفشل سمة غالبة على جميع الممارسات السياسية في موريتانيا ما لم ينشأ وعي يتجاوز في فهمه للممارسة السياسية الروابط القبلية ويساعد على تفكيك البنى العصبوية[20]. ويلاحظ أن الدولة الوطنية تعاملت منذ نشأتها مع القبيلة، وهذا ما يظهر بجلاء في كلمة الرئيس الأسبق المختار ولد داداه، في مؤتمر آلاك المنعقد 2 أيار/مايو 1958، التي استهلها بقوله: «السادة أعضاء الحكومة والمستشارون المحليون والشيوخ التقليديون.. ها نحن نجتمع إذاً لتنبثق من صراع أفكارنا الوحدة المقدسة لمواطني موريتانيا الأحرار…».

وقد استعان ولد داداه بالزعامات التقليدية لمحاصرة معارضيه السياسيين، وعندما تخلص من المعارضة السياسية من طريق تكريس سياسة الحزب الواحد، ضيّق الخناق على الشيوخ التقليديين وجردهم من امتيازاتهم السابقة كافة. وعندما جاء العسكر إلى السلطة قفزوا بداية على الجهة لتحل محل القبيلة، ثم عادوا بعد مدة إلى القبيلة لفك العزلة التي خلفتها الجهة.

ومع بزوغ الثمانينيات سيلاحظ استفحال ظاهرة القبيلة بصورة تدعو إلى الاستغراب. وما المسلسل الديمقراطي الذي ستعرفه البلاد منذ تسعينيات القرن الماضي إلا انعكاس للصراعات والمنافسات القبلية، أدّت فيه عناصر الإرث الاجتماعي دورها، كما أذكته أيضاً الأنظمة القائمة ومارست اللعب على أوتاره السياسية؛ بل حولته ورقة قابلة للاستغلال من خلال جعله مصدراً للتعيين على رأس مؤسسات الدولة المالية والإدارية[21].

هذه الإجراءات الآنفة أعادت القبيلة إلى الواجهة، وجعلت أطر الدولة، سعياً منهم للحصول على منافع، يَحتمون بالولاء للقبيلة أكثر، من خلال تسويق قيم الزبونية القبلية في الميدان السياسي[22]. وعندما نحاول أن نعطي تفسيراً علمياً وعقلانياً لاستمرارية وصمود القبيلة في الحياة السياسية الموريتانية رغم التحولات التحديثية والمتسارعة التي عرفها المجتمع الموريتاني، ولا سيَّما بعد استقلال الدولة الموريتانية، فسنلاحظ أن ذلك راجع أساساً إلى قدرة القبيلة على التكيُّف مع أي وضع جديد واستغلالها لآليات جديدة لضمان مصالحها في المعتركين السياسي والاجتماعي؛ ومن هذه الآليات: مؤسسة الجيش، والأحزاب السياسية، والنقابات… إلخ. إضافة إلى ضعف سيطرة الدولة على محيطها الاجتماعي منذ الاستقلال وحتى اليوم، ومن المعلوم أن ضعف أي نظام ممركز يؤدي حتماً إلى انتعاش الأنظمة القبلية وتعاظم فعلها السياسي.

وإذا كان من المفترض – نظرياً – أن يتقلص نفوذ القبيلة لصالح الدولة وأن يتحرر الموريتاني من ربقة الولاء والارتهان القبلي والجهوي الضيق لصالح الدولة؛ فإن الواقع يشير إلى عكس ذلك؛ فمنذ استقلال الدولة الموريتانية وإلى يوم الناس هذا، ما زال الموريتاني أكثر تشبثاً بالانتماء إلى القبيلة، وأكثر ولعاً بقيمها وأعرافها التي تشكلت في غياب الدولة أو السلطة الشرعية[23]، لذلك فقد فشلت الدولة الوطنية في تفكيك البنى التقليدية وإحلال المواطنة محل العصبوية.

ورغم أن الدولة الوطنية الموريتانية عرفت التعددية السياسية والاجتماعية منذ وقت مبكر من تاريخها السياسي، إلا أن تلك التعددية ساهمت في تكريس التعددية التقليدية أو القبلية، أي جعلت رؤساء الأحزاب يستنجدون بقبائلهم للفوز بالانتخابات؛ من هنا ظهر مفهوم جديد في حقل الدراسات الأفريقية وهو: «القبيلة كمعطى سياسي»، وذلك حينما أدرك رجل السياسة في المجتمعات العربية والأفريقية ضرورة توظيف العصبية القبلية لانتزاع بعض المكاسب السياسية. وهو ما طبقه فعلياً في البداية مختار ولد داداه الذي استعان بالزعامات القبلية لمحاصرة معارضيه، وكان يستدعي أولئك الزعماء التقليديين في كل اجتماع ذات طبيعة سياسية.

ثانياً: أزمة الدولة الوطنية على المستويين السياسي والاقتصادي

عند الركون إلى مختلف الدساتير التي ظهرت منذ استقلال الدولة الموريتانية وحتى اليوم سنلاحظ أنها تشكل في مجملها عائقاً أمام الممارسة السياسية الناجعة؛ وهذا يعني أنها لم تكن تعبّر عن المضمون الاجتماعي الموريتاني بوجه عام، وإنما كانت تعبِّر عن نزوات ومصالح أقلية سلطوية حاكمة. فمثلاً عندما نعود قليلاً إلى دستور 22 آذار/مارس 1959 ودستور 20 أيار/مايو 1961 سنلاحظ أنهما قد كرّسا نظاماً فردياً صارماً لا يسمح بالمشاركة السياسية على نحوٍ فعّال؛ وهذا ما أدى في المطاف الأخير في 12 شباط/فبراير 1965 إلى هيمنة الحزب الواحد على الحياة السياسية في البلاد[24].

كما أن دستور 1961 أقام نظاماً رئاسياً غير متوازن لمصلحة رئيس الجمهورية؛ فالرئيس هو المسيِّر الأوحد للبلد والوجه الفرد لسياسته، والسلطات السياسية والإدارية الأخرى خاضعة لتوجهاته ولا تملك الجمعية الوطنية السلطة لإرغامه على الاستقالة[25]. وقد استمر الوضع على هذا المنوال حتى سنة 1978 حيث ظهر نظام عسكري دكتاتوري، وسادت اللجان العسكرية ذات الطابع الاحتكاري للسلطة، وعمت الاستبدادية والأحادية في هذه المرحلة.

وإذا كانت موريتانيا قد عرفت منذ تسعينيات القرن الماضي دستوراً جديداً يسمح بالتعددية السياسية (الأحزاب السياسية)، والاجتماعية (النقابات وهيئات المجتمع المدني)، فإن هذه التجربة سرعان ما انتكست بفعل رسوخ ثقافة الحزب الواحد، وغياب أفق للتداول السلمي للسلطة، وإصرار النظام الحاكم آنذاك على البقاء في الحكم؛ وضعف الثقافة الديمقراطية في أوساط المجتمع وعدم ترسخ قيم الممارسة الديمقراطية لدى النخب؛ وعدم وجود إرادة سياسية جادة[26].

أضف إلى ذلك أن هذا الدستور – دستور 20 تموز/يوليو 1991، الذي لا يزال ساري المفعول إلى يوم الناس، رغم التعديلات التي أدخلت عليه – قد كرّس السلطة لصالح الجهاز التنفيذي؛ حيث منح صلاحيات واسعة لرئيس الدولة تتجاوز الصلاحيات التي دأبت الدساتير الديمقراطية على منحها لرئيس الدولة، زد على ذلك أن دستور 20 أيار/مايو 1991، لم يكن انعكاساً لتطور أبنية المجتمع الداخلية؛ وإنما كان إملاء من الخارج ولا سيَّما فرنسا في قمة لابول، التي حرصت آنذاك على إرسال وزير خارجيتها رولان دوما إلى موريتانيا من أجل هذه المهمة، وقد أعلن لجريدة لوموند فور خروجه من مكتب العقيد ولد الطايع بدء المسلسل الديمقراطي في موريتانيا[27].

ومن ثم فإن هذا الانفتاح الذي عرفته البلاد في هذه الحقبة كان فقط خطة استباقية اتخذها النظام آنذاك للمحافظة على بقائه في الحكم ليس إلا. وهذا يفسر سرعة الارتدادات والعودة إلى ظاهرة الانقلابات العسكرية التي كان آخرها انقلاب 6 آب/أغسطس 2008.

وبما أن أزمة الدولة المدنية في موريتانيا ليست وليدة اللحظة، وإنما هي تراكم لأزمات صاحبت ميلاد الكيان الموريتاني وظلت تتزايد نتيجة للأخطاء التي ارتكبتها الأنظمة السياسية المتعاقبة على الحكم، فينبغي الوقوف على مظاهر هذه الأزمات وخصوصاً على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وتتجلى أبرز هذه المظاهر في ما يلي:

1 – إلغاء التعددية السياسية والاجتماعية وتبنّي نظام الحزب الواحد

تبنت الدولة الوطنية الموريتانية سياسة الحزب الواحد كآلية لبناء الدولة، وقضت على كل مظاهر التعددية السياسية والاجتماعية التي كانت قائمة في نهاية الحقبة الكولونيالية: حزب التقدم، والنهضة، والاشتراكي، والوطني. ورغم أن السلطة السياسية آنذاك أعلنت أن السبب الرئيسي وراء انتهاج نموذج الحزب الواحد راجع إلى حداثة عهد الموريتانيين بالسلطة ونقص الوعي لديهم، إلا أن هذه المسألة فيها نظر، ذلك أن «حديثي العهد بالسلطة وناقصي الوعي هم الأحوج إلى تجربة تتعدد فيها الرؤى وأساليب الممارسة السياسية»[28]. فالتعاطي مع أكثر من وجهة نظر واحدة وتقديم بدائل لممارسة السلطة كلها عوامل ستعزز تكثيف الوعي السياسي لدى العامة وتعودهم على اختيار قادتهم؛ هذا فضلاً عن أن تعدد الأحزاب يجعلها تتنافس على كسب ودّهم، وهو ما يشعرهم أن خياراتهم لها أهمية على مستوى الفعل السياسي وأنهم ليسوا مجرد أدوات في يد حزب وحيد يمارس بهم التغيير بما يتمشى وفلسفته في الحكم[29].

والحق أن اعتماد الدولة الوطنية في وقت مبكر سياسة الحزب الواحد – على غرار معظم البلدان الأفريقية والعربية آنذاك – هو سياسة لجأ إليها المختار ولد داداه لتصفية خصومه ومعارضيه على السلطة بعد انتخابه رئيساً بمساندة مطلقة من الفرنسيين؛ بعد التوحيد القسري للأحزاب السياسية خلف شعارات الوحدة السياسية داخل حزب الشعب والتصدي للمؤامرات والمطامع الإقليمية: الخطر المغربي القادم من الشمال! ومن ثم كان للرئيس مختار مسلسل «… من الانقلابات المدنية على التعددية السياسية والنقابية وتكريس سلطته الشخصية بالسيطرة على المؤسسات السياسية كافة دستورياً وقانونياً[30].

هذه الإجراءات أجهضت الحلم الديمقراطي في موريتانيا وأجهزت على التعددية وأسست لنهج أحادي سلطوي. في هذا الصدد يسجل أحد الباحثين – محمد دده محمد الأمين السالك – ملاحظة نافذة أبانت عن مدى تأثر المؤسسين لنظام الحزب الواحد في موريتانيا بفكر «جان جاك روسو» حول نظام الحكم الأرستقراطي، حيث تكون السلطة بيد جمهرة من أصحاب الامتيازات[31]، وهو ما أدى في ما بعد إلى أحد أهم تجليات الأزمة السياسية الموريتانية، وهي أزمة النخب.

هذه الحقبة – أي حقبة الستينيات وأوائل السبعينيات – مثلت البداية الفعلية لشخصنة السلطة ومأسسة المنطق الأبوي في الحياة السياسية الموريتانية.

2 – ضآلة مستوى المشاركة السياسية بسبب تحكُّم مبدأَي وحدة السلط وشخصنتها

معلوم أن ما يميز الدول الديمقراطية هو مشاركة المواطنين في القرارات السياسية التي تمسّهم – بمعنى أن تكون القرارات السياسية هي حصيلة نهائية لنقاشات المجتمع – وتحقيق التوازن بين السلط: التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ وهذا ما جعل بعض فقهاء القانون الدستوري يعتبرون «أن النظام الذي تغيب فيه المظاهر السابقة هو نظام يتَّصف بالشخصنة والفردانية؛ ذلك أن كل سلطة – كما يقول مونتيسكيو – تحتاج إلى سلطة موازية لها وقادرة على وقفها إذا ما أرادت الانحراف»[32].

كما أن المشاركة السياسية أضحت اليوم في حقل العلوم السياسية تمثل المقياس الأنجع لشرعية النظام السياسي وديمقراطيته؛ ذلك أنه كلما توسعت دائرة المشاركة السياسية واستوعبت مختلف الأطياف السياسية والفئات والطبقات الاجتماعية كنا في صدد نظام ديمقراطي؛ وكلما تراجع هذا المستوى اتسعت الفجوة بين الدولة وقواها الاجتماعية، ومن ثم كنا إزاء فردانية في السلطة تتجسد واقعياً من خلال مظاهر يمكن رصدها كالتالي:

أ – وحدة السلط

لا يثير تحديد مفهوم وحدة السلط إشكالاً، لأنه ببساطة يناقض تماماً مفهوم الفصل بين السلطات المطبق في الأنظمة السياسية العتيدة؛ ولكن الإشكال يتعلق أساساً بتكييف هذا المفهوم ومدى حضوره في الممارسة السياسية الموريتانية. وبغض النظر عما إذا كان مفهوم «وحدة السلط» يعني التّماهي المطلق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ أم يقصد به التحكم في العملية الانتخابية وتوجيهها من أجل إنتاج سلطة تشريعية لا تتعدى كونها غرفة للتصديق على إرادة السلطة التنفيذية، فإنه وبالعودة إلى التجارب السياسية الموريتانية سنلاحظ أن موريتانيا خضعت في مرحلة من مراحلها لنظم سياسية تتخذ من وحدة السلط مبدأ للفعل السياسي وممارسة السلطة؛ ولا سيَّما في المراحل الممتدة ما بين 1978 و1992، وكذلك ما بين آب/أغسطس 2005 و 2007 [33]. كذلك عرفت موريتانيا هذه الحالة في الفترة الممتدة ما بين 1965 و 1978، إبان هيمنة الحزب الواحد الذي كرس الأحادية وأدان مختلف التنظيمات السياسية والاجتماعية غير المنضوية تحت لوائه.

تفيد الإشارة هنا إلى أن دستور 20 أيار/ مايو1961 قد روجع بتاريخ 11 كانون الثاني/يناير 1965 من أجل دسترة هذه الأحادية، لذلك أصبحت مادة هذا الدستور التاسعة تنص على أن: «الإرادة الشعبية يترجمها حزب الدولة المنظم ديمقراطياً، فحزب الشعب الموريتاني المتولد عن إدماج الأحزاب الوطنية الموجودة في 25 كانون الأول هو الحزب الوحيد للدولة المعترف به».

وتظهر هذه الوحدة (وحدة السلط) بجلاء عندما نعرف أنه منذ 1960 حتى عام 2007 لم يُسقط البرلمان الموريتاني حكومة ولم يرفض قانوناً تقدمت به[34]؛ وهنا نكون أمام ثلاث فرضيات، الأولى، إما أن تكون جميع الحكومات كفوءة ورشيدة على مستوى الإنجاز والقبول، وهو ما لا تشهد له حالة البلد الغني بموارده الاقتصادية رغم أن شعبه مصنف من أفقر شعوب العالم اليوم. والثانية، هي أن يكون الدستور لا يعطي البرلمان حق إسقاط الحكومات، وهذا مناقض تماماً لنصوص الدساتير الموريتانية، ولا سيَّما دستوري 1959 و1991. والثالثة، هي أن يكون البرلمان قد تم تفصيله بحيث لا يقول إلا نعم[35]، وهذه الحالة الأخيرة هي الأقرب إلى الصواب في التجربة السياسية الموريتانية.

ب – شخصنة السلطة

تعني شخصنة السلطة على نحوٍ مبسط: التماهي المطلق بين شخصية الحاكم والدولة، أي التماهي بين المجال العام والمجال الخاص، وهو ما تترجمه صراحة مقولة لويس السادس عشر الشهيرة: «الدولة هي أنا». وغالباً ما يقاس مستوى توافر شخصنة السلطة في النظام السياسي أو عدمها بمعيارين هما: مدى مساهمة المواطنين في العملية السياسية – كل حسب مقدرته ومؤهلاته وموقعه – ومدى مساهمة ممثلي الشعب في تشكيل إرادة السلطة[36]، فما مدى حضور هذين المعيارين في الممارسة السياسية الموريتانية؟

تمثل الأحزاب السياسية وعملية الاقتراع غالباً أهم الآليات التي تمارس من خلالها المشاركة السياسية في الدول الحديثة، حيث تتأثر المشاركة السياسية سلباً أو إيجاباً بمدى تعدد الرؤى والخلفيات السياسية واستعداد النظم الحاكمة لفسح المجال لقيام أطر جمعوية للتعبير عن هذه الأفكار؛ بل ولمحاولة الوصول إلى مركز القرار من طريق العملية الانتخابية لوضع هذه الرؤية موضع التنفيذ[37].

أمّا معيار مساهمة ممثلي الشعب في تشكيل إرادة السلطة فيتحقق عندما يتميّز نظام الاقتراع بالشفافية إلى درجة تجعله يعبِّر حقيقة عن إرادة الناخبين؛ وبالرجوع إلى التجربة الموريتانية والأسس التي يقوم عليها النظام السياسي والممارسة السياسية التي درج عليها، يمكن القول بأن النظام السياسي الموريتاني لم يسمح بتشكيل الأحزاب السياسية إلا مع الإعلان عن المسلسل الديمقراطي عام 1991؛ والقول تالياً بانحسار مبدأ المشاركة في موريتانيا لصالح التفرد والشخصنة.

هذه الشخصنة التي طبعت الممارسة السياسية في موريتانيا يرى البعض أنها تسببت في أزمة شرعية النظام السياسي نظراً إلى بؤس أدائه وتهميشه للمواطن؛ واختزاله لهذا الأخير إلى مجرد آلة قابلة للتصرف[38]. وبالتي نستنتج من هذه المعطيات أن النظام السياسي الموريتاني يزوِّر الإرادات قبل تزويره للانتخابات.

ج – غياب المأسسة

من مظاهر أزمة الدولة المدنية في موريتانيا كذلك غياب منطق المؤسسات؛ وذلك لارتباط الدولة منذ نشأتها بجهات قبلية وعرقية، إضافة إلى تماسك النفوذ القبلي في مواجهة مؤسسات الدولة؛ وارتباط الذاكرة الجماعية للأشخاص بمفهوم الانتماء القبلي والعرقي وليس بمفهوم الدولة؛ وهي من الأسباب الجوهرية التي جعلت الدولة الوطنية تفشل في تكوين مجتمع حديث تربطه قيم المواطنة والانتماء الوطني للدولة بدل التنظيمات التقليدية.

وبما أن النظام السياسي – كما يقول هنتنغتون – تتوقف فاعليته واستمراريته على درجة قوة مأسسته وتنظيماته وإجراءاته، والقدرة على التكيف مع مختلف الظروف والحقب التاريخية[39]، فإن النظم السياسية التي تعاقبت على الدولة الوطنية منذ نشأتها في أوائل ستينيات القرن العشرين وإلى حدود كتابة هذه السطور لم تصل إلى درجة المأسسة، بسبب شخصنة الحكم، وعسكرة المجتمع، وتسييس العسكر.

د – التماهي المطلق بين الميدانين: المدني والعسكري

لقد مثّل الانقلاب الأول في موريتانيا 10 تموز/يوليو 1978 الذي أطاح الرئيس المدني المختار ولد داداه البداية الفعلية للتماس المباشر بين المجالين المدني والعسكري في التجربة السياسية الموريتانية. ومنذ تلك اللحظة أضحى الجيش محور الحياة السياسية في موريتانيا، وقد جاء العسكر تحت شعار إنهاء حرب الصحراء، وتقويم الاقتصاد الوطني وهيكلته من جديد والعودة إلى الديمقراطية التعددية[40]، بيد أن هذه الشعارات التي أطلقها العسكريون ليست في حقيقة الأمر إلا سياسة ملتوية للبحث عن شرعية قانونية ومشروعية اجتماعية لفعلتهم النَّكرى. ومنذ ذلك التاريخ تهيمن المؤسسة العسكرية على المشهد السياسي الموريتاني؛ وهو وضع أدى إلى تحول في طبيعة النظام السياسي الموريتاني وكاد يقضى على مشروع الدولة الوطنية.

ورغم أن النظام السياسي أعلن في تسعينيات القرن الماضي عن انفتاح سياسي أدخل موريتانيا في مسار انتقال ديمقراطي – عرف محلياً باسم «المسلسل الديمقراطي» الذي أخرجها من حقبة الأحكام الاستثنائية إلى حكم بواجهة مدنية يرفع شعار الدمقرطة، عبر إصدار دستور جديد يؤسس لتلك الممارسة؛ وهو دستور 20 تموز/يوليو 1991 الذي سمح بتأسيس الأحزاب السياسية، وإصدار الصحف وإقامة العديد من منظمات المجتمع المدن[41]. – إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى القضاء على ظاهرة «تسيُّس الجيش»، لأن ذلك الافتتاح الديمقراطي أو العسكري إن صح الوصف؛ كان وليداً لمتطلبات خارجية، وليس وليداً لإرادة وطنية داخلية.

ويرى أحد كبار الباحثين الموريتانيين، ديدي ولد السالك، أن انحراف المؤسسة العسكرية في موريتانيا عن دورها التقليدي المعهود، أي حماية الوطن وحماية مكتسباته، راجع أساساً إلى عوامل من بينها أن ضباط المؤسسة العسكرية الموريتانية الذين تمولوا بطرق غير مشروعة من ممارسة السلطة يخافون المتابعات الجنائية والمحاكمات القضائية إذا تركوا السلطة، لأنهم مارسوا الكثير من أنواع الفساد وتمولوا من أموال الشعب الموريتاني وتركوه يرزح تحت الفقر والتخلف[42]. إضافة إلى عامل آخر يتمثل بأن بعض ضباط المؤسسة العسكرية في موريتانيا يخافون بالمستوى نفسه فتح ملفات حقوق الإنسان التي تلاحقهم لما قاموا به من انتهاكات عنيفة لحقوق الإنسان خلال وجودهم في مراكز القرار السياسي والأمني خلال العقود الماضية[43]؛ زد على ذلك بحثهم عن استمرار المصالح والامتيازات التي كونوها في الحقب الاستثنائية.

وقد كان لوصول العسكر تداعيات مباشرة على مسيرة الدولة الوطنية الموريتانية؛ لأن وصولهم إلى السلطة أدى إلى ظاهرة اتسمت بها الحياة السياسية الموريتانية منذ ذلك الحين وإلى يوم الناس هذا؛ وهي: عدم الاستقرار السياسي و الاجتماعي والاقتصادي.

هذا الوضع الذي ساد في البلاد ردحاً من الزمن كان نتيجة للصراعات بين قادة الجيش الوطني؛ نظراً إلى اختلاف توجهاتهم الأيديولوجية المتناقضة وخلفياتهم القبلية والجهوية المختلفة. وقد أسهم عدم الاستقرار السياسي، الذي طبع الحياة السياسية والاجتماعية إبان وصول العسكر إلى الحكم، في تعثر الدولة المدنية وعرقل مسيرة بنائها، لأنه أدى إلى غياب التراكم الذي يؤسس للخبرة الضرورية لبناء المؤسسات لإدارة الشأن العام، المتعلقة بالإضلاع بوظائف الدولة الأساسية. كما أن غياب الاستقرار أدى إلى تغيير دائم في مؤسسات الدولة؛ الأمر الذي حال دون بناء تقاليد وقيم أساسية للممارسة الديمقراطية في البلد[44].

ونحن نرى أن هيمنة المؤسسة العسكرية وحضورها القوي في المشهد السياسي الموريتاني راجع بالأساس إلى تحكم العوامل التالية في الممارسة السياسية الموريتانية:

(1) سوء إدارة النخب المدنية للفائض الاقتصادي.

(2) ضعف المؤسسات الدستورية الموريتانية.

(3) استخدام العنف لتحقيق الأهداف السياسية.

(4) ربط المنصب العام بالثروة والمكانة والوجاهة في المجتمع، وهو ما أطلق عليه جان فرانسو بايار «سياسة ملء البطون».

وإذا كان من المفترض – نظرياً على الأقل – ابتعاد الجيش من الممارسة السياسية في موريتانيا فإن الواقع يشير إلى عكس ذلك، حيث يلاحظ أن الحكومة الموريتانية قد صدقت في اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ 12 تموز/يوليو 2013 على مشروع مرسوم تنظيم اقتراع القوات المسلحة وقوات الأمن في الانتخابات العامة؛ وهو الملف الذي تم التوافق عليه بين الحكومة وبعض أحزاب المعارضة في الحوار بينهما عام 2012، على أن يقوموا بالتصويت قبل يوم من الاقتراع العام حتى يتفرغوا للحفاظ على الأمن العام وحماية مراكز الاقتراع وفقاً لما هو مخول لهم قانوناً.

بناء على ما تقدم، يعتقد أحد الدارسين والمتابعين – عالي أبو فرحة – أن الجيش في موريتانيا ربما لا يحتاج مرة أخرى إلى اللجوء إلى الانقلابات العسكرية كوسيلة لتغيير رئيس الدولة، وإنما قد يستعيض عن ذلك بحقه الجديد، المتمثل باللجوء إلى التصويت المضاد في الانتخاب؛ وهو ما أسماه أبو فرحة «الانقلاب عبر التصويت»[45]؛ ونطلق عليه نحن «دسترة الدور السياسي للجيش».

أمَّا على الصعيد الاقتصادي، فقد كان لبرامج التكيُّف الهيكلي المفروضة على دول العالم الثالث بوجه عام تداعيات مباشرة على الدولة الوطنية ومشروعها المدني حيث أعادت لهذه الدول وظيفتها التاريخية، وهي: ارتهانها للخارج. هذه البرامج والسياسات طرحت في أفريقيا على نطاق واسع منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي بعدما عانت اقتصادات دول العالم الثالث بوجه عام أزمة تراكمات طاحنة. وقد كان لهذه البرامج المفروضة من طرف الدول المانحة تداعيات ومخلفات على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في بلدان العالم الثالث بوجه عام.

هذا الوضع عمّق أزمة دولة ما بعد الاستعمار ولا سيَّما في موريتانيا، لأن هذه السياسات كانت طموحة، ولم يكن بإمكان الدولة والمجتمع الوطنيين التجاوب معها؛ لذلك فإن تطبيق هذه البرامج على نحوٍ ارتجالي جعلها تنعكس سلباً على مسيرة الدولة المدنية في موريتانيا. كما أدت تلك البرامج والسياسات، من جهة أخرى، إلى ظهور ما بات يعرف في حقل الدراسات الدولية بمفهوم: المشروطية الديمقراطية؛ التي تمت بلورتها صراحة في خطاب ميتران في قمة لابول، وذلك حينما ربط بين تقديم المساعدات الاقتصادية إلى البلدان الأفريقية ومدى التزام هذه الأخير بالقيم اللبيرالية ولا سيما تلك المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

خاتـمة

لاحظنا في هذه الدراسة أن الدولة الوطنية الموريتانية واجهت ثلاث أزمات كبرى لا تزال تعرقل مسيرتها نحو المدنية إلى يوم الناس هذا: الأولى، تتعلق بوجود الدولة الموريتانية ذاتها، لأنها لم تكن من مخرجات المجتمع الموريتاني، أي أنها لم تكن حصيلة طبيعية للتطور الحر للجماعة المجتمعية في موريتانيا، وإنما كانت نتيجة سياسة فرنسية عكست رغبة الفرنسيين في المحافظة على مصالحهم السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة بعد حصول معظم البلدان العربية والأفريقية على استقلالها الشكلي في ستينيات القرن العشرين. والثانية، تتعلق بشرعيتها؛ ذلك أن مشروع الدولة الوطنية في موريتانيا، جاء في ركاب المستعمر الفرنسي؛ إذ جعل الدولة الوطنية تظهر في أعين النخب الموريتانية، ولا سيّما التقليدية منها، منعدمة الشرعية لأنها ورثت دولة الاستعمار واجتازت خطواتها الأولى تحت إشرافها. هذا الوضع حرم الدولة الوطنية في موريتانيا من ولاء المجتمع لها، ومن ثم عمَّق الفجوة بين الأبنية السياسية والاجتماعية، وكشف عن عدم تناغم بين تاريخ الدولة الوطنية وحقائقها الاجتماعية والثقافية العريقة.

أما الأزمة الثالثة فتتعلق أساساً ببؤس أداء الأنظمة السياسية التي تعاقبت على موريتانيا نتيجة عدم تماهيها مع مدركاتها الجماعية وأعرافها المحلية ومضامينها الاجتماعية. زد على ذلك أزمة الجمود السياسي، والتصلب المؤسسي حيث جعل الدولة الموريتانية عاجزة عن استيعاب حركة المجتمع وتفاعلاته. وكان لهذه الأزمات السابقة مخلفات وتداعيات على مختلف الصعد: السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فعلى الصعيد السياسي: عرف المشهد السياسي في موريتانيا إلغاء التعددية السياسية والنقابية، وشخصنة السلطة، وهيمنة الحزب الواحد في وقت مبكر من تاريخ الدولة الوطنية.

ورغم أن البلد عرف نوعاً من الانفتاح في تسعينيات القرن العشرين بعد صدور دستور 20 تموز/يوليو 1991 الذي وضع القواعد الضرورية لإقامة ديمقراطية تعددية سمحت بتأسيس الأحزاب السياسية وإصدار الصحف… إلا أن ذلك الانفتاح سرعان ما انتكس لأنه من جهة، لم يكن وليد إرادة داخلية (محلية) وإنما كان نتاجاً للإملاءات الخارجية. كما أن ذلك الانفتاح لم تضئ نتائجه النفق المظلم «لرسوخ ثقافة الحزب الواحد وغياب أفق للتداول السلمي على السلطة وإصرار النظام القائم آنذاك على البقاء في الحكم وضعف الثقافة الديمقراطية في أوساط المجتمع»[46].

وعلى الصعيدين الاجتماعي والثقافي، لا يزال المجتمع الموريتاني يعاني ظاهرة التشرذم والانشطار الثقافي والعرقي والشرائحي والقبلي، نتيجة غياب التناغم بين الإرادة الجماعية، والنخب المتعلمة، والقيادة السياسية، بسبب تأميم الدولة الوطنية للسياسات الاستعمارية المشتتة. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد أدى سوء إدارة النخب الوطنية للفائض الاقتصادي، إضافة إلى تداعيات برامج التكيُّف الهيكلي على الأوضاع السياسية والاجتماعية، إلى ارتهان الدولة الوطنية الموريتانية للخارج، وذلك عبر ما بات يعرف في حقل الدراسات السياسية والدولية بمفهوم المشروطية الديمقراطية، وتعني هذه الأخيرة على نحوٍ مبسط أن الدول الغربية أضحت تربط منذ تسعينيات القرن الماضي بين حجم المساعدات المقدمة إلى دول العالم الثالث ومدى الالتزام هذه الأخيرة بالقيم الليبرالية، ولا سيَّما تلك المتعلقة بالدَّمقرطة وحقوق الإنسان.

والخلاصة أنه لا يمكن حل الأزمات السالفة التي لا تزال تقف حجر عثرة أمام بناء دولة مدنية اجتماعية فاعلة، إلا بالتوافق عبر الحوار الوطني والتنازل المتبادل بين القوى الاجتماعية كافة، على أساس من تفعيل المدركات الجماعية، والقيم الأهلية من أجل تجاوز العدمية والكراهية والحدية التي تهيمن اليوم – بفعل استغلال السلطة السياسية الّلحظي للخلافات الاجتماعية من أجل تحقيق أهداف سياسية آنية – على المشهد السياسي الموريتاني.

 

عن موريتانيا أيضاً  الدولة والبُنى التقليدية في موريتانيا: صراع الفصل والوصل

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #موريتانيا #الدولة_الموريتانية #الحزب_الواحد_في_موريتانيا #الحكم_في_موريتانيا #الدولة_الموريتانية #النظام_الموريتاني #النظام_السياسي_في_موريتانيا #دراسات