لماذا تتعثر منظمة ترنو للوحدة والتكامل بين بلدان تُعد من أغنى بلدان العالم، وبينها من روابط الاتفاق أكثر من عوائق الافتراق؟ لِمَ لم تؤثر عوامل أساسية للتعاون كاللغة والجغرافيا وعلاقات القُربى في تقليص مخاطر التهاون التي تحركها عوامل كالسلطة والسيادة والثروة؟ بكلمة؛ لماذا تتعثر الوحدة، كسلوك وممارسة، بين بلدان «مجلس التعاون لدول الخليج العربية»؟ وأين الإنسان من واقع هذه الفكرة؟

يبدو أن الإشكال الأبرز في تعثر مسيرة مجلس التعاون الخليجي، وتعسّر تطوره كمنظومة وحدوية فاعلة ومقنعة، يكمن في الأساس، إذ إن الأساس الذي بُنيت عليه الفكرة كان قائماً على محورية الأنظمة السياسية لا على محور الإنسان.

الفرضية التي أبني عليها هذه المرافعة هي: إن الغائب الأبرز في هذا التكوين، محل النظر، هو الإنسان. لذا، لا يمكن أي مشاريع وحدوية أو وطنية تقدمية تروم الارتقاء والازدهار أن تنجح إذا ما استمر التعامل مع الإنسان، داخل حدود الدول المكونة لمجلس التعاون، على نحوٍ يتصف بالكبت والإقصاء والهدر والتمييز. أهو غياب أم تغييب؟ المسؤولية، في نظري، مشتركة. فإضافة إلى التغييب المتعمد الذي مورس على الإنسان، من جانب من احتكر القوة والثروة، وإبعاده من عملية صنع القرار والمسؤوليات المترتبة عليها، استطاب الإنسان عملية الإبعاد تلك، قَبِلها؛ تعوّدها؛ استجاب للإقصاء وبنى عليه نمط حياته وقراراته التوافقية ليعيش حياة الحد الأدنى: المأكل والمشرب والمسكن.

 

أولاً: في التشكّل والإشكالية

عجّلت الظروف الجيوسياسة المتعددة والمتنوعة في نهايات سبعينيات القرن الفائت، في ميلاد هذا التكوين السياسي/الأمني. لا يمكننا اليوم أن نخرج تلك الظروف من سياقات الخوف والتوتر اللذين اكتنفا المنطقة في حينها: الثورة الإيرانية التي أفصحت عن تطلعات تتجاوز حدودها لاجتياح الضفة العربية من الخليج؛ والصوت العالي لطبول الحرب العراقية – الإيرانية أصم كل ذي عقل عن الانتباه إلى كل ذلك النزيف في الثروات والأرواح؛ والعالم المنشغل بتذكية صراع الثنائية القطبية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، مضافاً إلى كل ذلك شركات النفط البريطانية والأمريكية التي أعادت تشكيل خارطة المنطقة وفق احتكاراتها وسيطرتها ومصالحها؛ كلها عوامل استثمرت النيات الطيبة لشعوب المنطقة، وتوقها للعمل المشترك، وحرصها على تجريب فكرة «المصير المشترك». لذا، استطاعت تلك العوامل الخارجية صبغ المنظمة الوليدة بصبغتها هي، لا بلون التمنيات الداخلية لشعوبها.

اليوم، قد يبدو لنا أن التوترات والقلاقل التي تواجهها دول المجلس قد اختلفت، لكنه اختلاف في الكم لا في النوع؛ في الأشكال لا الأسباب. صحيح أن الاحتقانات بين دول المجلس تشتد، ثم لا تلبث أن ترتخي، لكنها لا تزول، لأن أسباب تأزمها لم تُمَس. وأي محاولة للتهدئة أو بصورة أكثر دقة للترضية، لا تتجاوز «حُب الخشوم» الذي يمارسه شيوخ القبائل البدوية منذ القدم، من دون حسم جذور الخلاف والاحتقان على نحو منهجي يحترم العقول وينحاز لمصلحة الإنسان وكرامته. لذا لا تلبث النار بالاشتعال من جديد، ما إن تهبّ رياح خفيفة من الجيران أو من القوى الاستعمارية المعروفة لتنفخ الرماد عن جمر الصراعات والمعارك المُفضية لهدر الموارد وقهر الناس.

لا يزال هذا التكوين يحمل بذور ضعفه وعجزه وعدم قدرته على تجاوز كونه نادياً مغلقاً لأسر حاكمة أكثر من كونه منظومة مصالح مشتركة لشعوب وكيانات مستقلة تملك إرادتها الحرة على كامل ترابها الوطني؛ تتفاعل مع بعضها البعض بكل ثقة وحرص؛ تملك قرارها في استثمار مواردها الطبيعية والبشرية كافة، بعيداً من تقلبات أمزجة حكّامها، وقريباً من مصالح ومشتركات الجغرافيا واللغة والدين والمصير.

أضحت الصورة فاقعة، اليوم أكثر من ذي قبل، إذا ما تجاوزنا الكليشيهات الإعلامية التي حُقنت بها خيالات البشر في هذه المنطقة، طوال فترة ليست بالقصيرة، وبتكرار «غوبلزي»‏[1] ممنهج كـ «خليجنا واحد» و«مصيرنا واحد»، وإذا ما واجهنا الآمال والتطلعات التي تنشد الوحدة المفضية إلى الاستقرار والقوة بالإنجازات المتحققة ميدانياً، واضعين في الحسبان والتقييم عوامل: الفترة الزمنية من عمر المجلس؛ الثروات الهائلة التي تتكئ عليها دُوله؛ الهِبة السكانية المُكوّنة له، سواء على مستوى العدد أو متوسط الأعمار، أو نوع الطاقات الواعدة لنسائه ورجاله، وقمنا بوزن كل ذلك في مقابل ما حققته تكوينات في مناطق جغرافية مختلفة من هذا العالم؛ لتكشّف لنا حجم الفداحة الماثلة والمُعاشة واقعياً لا نظرياً.

لا يمكن أي عاقل أن يرفض فكرة الوحدة والقوة والرفاهة المستدامة المتأتية من حاصل جمع ثروات وإبداعات البشر والطبيعة، فهذا ما أثبتت تجارب العالم القديم والمعاصر نجاعته ورجاحته. الإشكال، إذاً، ليس في الفكرة بذاتها. على الضد؛ الفكرة تنطوي على الكثير من النبل والإمكانيات الهائلة للنهوض والنجاح والرفاهة للأفراد والمجتمعات. الإشكال، كان، ولا يزال، في أسباب النشأة وطريقة إدارة الفكرة، وفن «الفرص المفوتة»، في البشر والخيرات العامة، الذي مارسته الأنظمة، وما زالت، تتحكم بيوميات الأرض ومن يعيش عليها في هذه المنطقة، من دون الالتفات إلى الكثير من الدعوات الصادقة للحفاظ على الفكرة وتطويرها بشكل مستدام وفاعل.

لا غرابة في ذلك؛ إذ كيف لأنظمة تعيش قلقاً وجودياً على شرعيتها، أن لا تنظر إلى الإنسان الذي تُدير مصالحه على أنه قيمة في ذاته، بل تحاصره وتكبت طاقات تفكيره وإبداعه وإنتاجه، لأنها تنظر إليه كعنصر تهديد لا كوقود تجديد، يشغلها الآني واليومي أكثر ما يهمها الآتي والمستقبل.

التعاون المنشود طوال العقود الأربعة الماضية لم يتمخض عن أكثر من صُوَر شكلية تظهر في الاحتفالات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، ومجلس التعاون الذي يروم «تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولاً الى وحدتها»‏[2]، بات مجلساً للتهاون وتفويت الوقت والجهد لـ «تعميق وتوثيق الروابط والصلات القائمة [أصـلاً، وبشكل طبيعي] بين شعوب المنطقة».

الإنسان الذي يعيش في هذه المنطقة استقبل فكرة تكوين المجلس عندما أُعلن عنه في أيار/مايو 1981 بفرح بالغ وآمال عريضة. ورغم أنه لم يُشرَك في تأسيس الفكرة بداعي أن الشعوب غير ناضجة، وأن ولاة الأمر أكثر معرفة بمصالح الشعوب من الشعوب ذاتها؛ رغم ذلك، لم يثنِ نخب المنطقة من القيام بدور المبادرة والبناء على الانطلاقة، مدفوعين بالإيمان بمحورية الإنسان في أي مشروع وحدوي لاستدامة الفوائد ورسوخ الفكرة مع الزمن. حيث اقترحت نخبة من أبناء بلدان الخليج العربية «استراتيجية بديلة للتنمية الشاملة» تم شرحها في أربعة أبعاد متداخلة ومتكاملة هي: التنمية، والأمن، والاندماج الإقليمي في إطار التكامل العربي، والمشاركة السياسية الفعالة. وقد تم تفصيل هذه الأبعاد منذ 1983، على إحدى عشرة غاية تهدف استراتيجية التنمية والتكامل إلى بلوغها، لمواجهة ثمانية تحديات تم الاتفاق على وجودها المشترك في المنطقة.

وقد اقترحت الاستراتيجية ثمانية أهداف استراتيجية عاجلة، أربعة منها تتعلق بتصحيح المسار: أولها، خفض الاعتماد على النفط وإخضاع إنتاجه لاعتبارات التنمية؛ وثانيها: خفض حجم قوة العمل الوافدة وتعديل تركيبها وتحسين نوعيتها؛ وثالثها، إخضاع النفقات العامة لمعايير الجدوى الاقتصادية؛ ورابعها، إصلاح الإدارة الراهنة وتنميتها.

كما كانت الأهداف الأربعة الأخرى، من الخامس إلى الثامن، مختصة ببدء عملية التنمية الشاملة المستدامة ذات البعد الإنساني: أولها، بناء قاعدة اقتصادية بديلة؛ وثانيها، بناء قاعدة علمية تقنية ذاتية متطورة؛ وثالثها، إصلاح التعليم وربطه بمتطلبات التنمية؛ ورابعها، توفير البيئة الملائمة لتنمية ثقافية واجتماعية مستمرة. واختتمت الوثيقة بذكر متطلبات التنفيذ، منها الإشارة إلى الإصلاحات السياسية والإدارية المطلوبة على المستوى الإقليمي وفي كل دولة على حدة.

ساهم في وضع تلك الاستراتيجية ومناقشتها أكثر من مئة من أبناء المنطقة، وشارك فيها خبراء عرب من مختلف التخصصات والخبرات الدولية، إلا أن ما يؤسَف له أن مجلس وزراء التخطيط – آنذاك – رفض مناقشتها عندما عرضتها الأمانة العامة لمجلس التعاون عليه في آذار/مارس 1984، بسبب تطرقها إلى الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية لعملية التنمية وعدم وقوفها عند حدود المشاريع الاقتصادية المشتركة فقط»‏[3]!

على نحوٍ موازٍ، تنادى عدد من الخبرات العربية المدفوعة بالحرص على إنجاح الأفكار التي تعمق فكرة الوحدة وبسط مزاياها وقيمتها وثمارها على الإنسان الذي يعيش في أقطار الوطن العربي فأنتجت لأجل هذه الأهداف أدبيات متنوعة، وسيناريوهات موسّعة، أتاحتها لصنّاع القرار ولشعوب المنطقة على حد سواء، لكي يتم الاسترشاد بها والالتفات للإشكالات التي نبّهت عليها، تعزيزاً لتطور المجلس وصولاً إلى وحدة شعوبه ودُوَلِه، تأتي في طليعة تلك المشاريع الفكرية المتقدمة (زمنياً، ونوعياً) أدبيات مركز دراسات الوحدة العربية ومشروعه الرائد: «استشراف مستقبل الوطن العربي» الذي اثرى الوعي العربي بدراسات معمقة، أضاءت على الإمكانات والقدرات التي تتميز بها بلدان المنطقة، حاضراً ومستقبـلاً‏[4]. إضافة إلى الكثير من الأفكار المنشورة بلغات أجنبية حية، متاحة لجمهور واسع من الناس وأهل الاختصاص، هي، اليوم، أكثر بما لا يقاس من ناحية العدد والحجم.

 

ثانياً: لمن الأولوية: الإنسان أم الوحدة؟

الوحدة بوصفها مُقترحاً إنسانياً يروم القوة ويسعى لطمأنة الإنسان وضمان كرامته ورفاهته وأمنه واستقراره ورعاية أفكاره وابداعاته، لا ضمان لبلوغها النجاح المرتجى، في حده الأدنى، ما لم تُزلْ أغلب العوائق التي تعيق الإنسان عن تحقيق ذاته، وممارسة حقوقه الأساسية في الحرية والعدالة والمساواة. بدءاً من مربعه الأول؛ مجتمعه، وبلده. مروراً بإقليمه وانتهاءً بالعالم.

الإنسان الخائف، المقهور، المكسور، المهدور لا يمكنه أن ينفع نفسه، فكيف له أن يتحرك ويبادر ويتحد مع غيره ليحقق نفعاً أكبر وفائدة أعمّ. أي معادلة، مهما تعقدّت، لا تستقيم إلا باستقامة مكوناتها الأساسية، والمكون الأساسي لنجاح المجتمع والدولة والتنظيمات الأكبر من تنظيم الدولة يتمثل بنجاح الإنسان وشعوره بكيانه وقيمته وجدواه.

يُعَد واقع ممارسة هذه الحقوق في بلدان مجلس التعاون أوضح المؤشرات الدالّة على صعوبة بلوغ فكرة الوحدة بين الدول الست. لماذا؟! لأن الاستحقاق الإنساني في التكوين الأول لم يُنجز عمله كما ينبغي، ولأن الدولة والمجتمع، كلاهما، لم يستطيعا، على الأقل حتى اللحظة، تجاوز الصيغ البدائية التي توجه بوصلة حركتهما، إذ ما زالت العصبويات القبلية والطائفية والمذهبية، تتحكم باليومي والمصيري للإنسان في هذه المنطقة. وبدلاً من أن تعمل الدولة بمفهومها الحديث، على صون قيمة الإنسان وحفز طاقاته ليتحرر من أغلال الماضي وتقاليده المثبطة لتقدمه، يحدث العكس؛ تعيد الدولة بأجهزتها البيروقراطية والأمنية إنتاج «الخوف والرعب»؛ الخوف من المجهول، والرعب من السلطات المحيطة (السلطات الاجتماعية والدينية والسياسية)، في عملية لا تكرس إلا التأخر والإحباط، وهدر الأعمار والثروات والأحلام.

لكن، كيف لنا معرفة أن الإنسان غائب في هذه البلدان؟

بإمكاننا تتبع هذا الغياب/التغييب ومشاهدة عواقبه على مستويات ثلاثة: ممارسة الحريات، وتجسيدات العدالة، وظاهريات المساواة.

 

ثالثاً: هل الحرية أمرٌ يمكن تأجيله؟

أوضح المشتركات بين البلدان العربية الستة المكونة لمجلس التعاون الخليجي هو تشابه أنظمتها السياسية الحاكمة. جميعها تحكم من طريق ملكيات مغلقة، بل تُعد آخر الملكيات المطلقة في العالم. طرق الوصول إلى الحكم فيها إما بالوراثة وإما بالعنف، الأمر الذي أفضى بالمجتمع إلى ركود سياسي وفكري واجتماعي واقتصادي، هو نتيجة متوقعة لأي دولة تسلطية تسعى لاستدامة نفوذها بالقهر والتسلط، واحتكار مصادر الثروة والقوة.

عند تتبع موضوعة الحرية، في هذه المنطقة، وبصورة أخص في مسائل حرية الرأي والتفكير، وحرية التجمع والحركة، وحرية الاختيار والمشاركة، تتكشف لنا ملامح ولو أولية للإجابة عن السؤال البارز: لماذا لم تستطع الدولة، بصيغتها الحالية في الخليج، الاستقرار وتجاوز تقلبات أمزجة الحكام وخوف المحكومين بلوغاً لمقتضيات المصالح؟

الحكم بوصفه صيغة بشرية يرتضيها الناس لتنظيم علاقتهم بمن يُدير شؤونهم العامة، في الخليج على وجه الدقة، يعاني الانسداد والتصلّب في الشرايين والأوردة. الشرايين المتمثلة بالمؤسسات والأطر الشكلية السائدة في المنطقة، والأوردة المتمثلة بالوعي الجمعي المغذي لهذه الأجهزة البيروقراطية التي تضخمت عبر الزمن وتعاقب الأجيال. الإنسان الذي يكوّن ويتفاعل مع كل ذلك إنسان خائف ومرعوب. الإنسان، سواء كان فرداً، أو منضوياً تحت مظلة جماعة، واقع تحت نير هذا السقف الخانق للتعبير عن أحلامه وتطلعاته، إذ إن هناك محدودية في أي شيء: في الكلام، والحركة، والتنظيم، والعمل والمبادرة الاجتماعية والسياسية والفكرية. طبيعة الدولة التسلطية قائمة على تقزيم الإنسان ولجمه، لا إطلاق طاقات الحياة لديه. هذا النوع من الدول يستغل كل العوامل الكامنة في البشر ليحوّلها إلى نظام واقٍ له من أي حراك شعبي، أو اتفاق جمعي، أو اعتزاز ذاتي بالفردانية الشخصية، لأن كل ما سبق يعزز ثقة الإنسان بذاته وبأفكاره العامة، الأمر الذي قد يُثمر مطالبات بتغيير دائم وفاعل للشؤون العامة؛ مطالبات قائمة على الشفافية والمحاسبة والرقابة، وعلى أن الكفاءة والعدالة أبرز معايير البقاء في الإدارة والحكم. موضوعات كهذه غير مرحب بها في الدول التسلطية، القائمة على «تفتيت الأفراد أو تحويلهم إلى ذرات متناثرة. فالفرد [في هذه الدول] مطيع خانع للسلطة، ولاستعمال القوة الأعلى»، ولأن ثقافة الرعب هذه تراهن على الزمن وعلى تشابك المصالح وتعقيداتها، كون الإنسان لا يعيش لوحده، فهو محاط بأسرة وقبيلة ومجتمع، ولأن من بيده الأمر والتوجيه متحكِّم أيضاً بالرزق من خلال احتكار التوظيف والتشغيل؛ فإن الحال قد يصل إلى «توحيش الفرد، أي تحويله إلى وحش كاسر، وبمجرد أن تتاح له الفرصة في ممارسة العنف واستعماله» فإنه لن يتردد، لأن المسألة تغدو معجونة بغريزة الوجود أكثر من كونها اختياراً يمكن إشاحة الاهتمام عنه‏[5].

الإنسان في دول الخليج مرعوب من ممارسة حرياته الأساسية المتمثلة بالتعبير عن رأيه بمن يحكمه وكيف يحكمه، ومتى يحاسبه على تقصيره، وأين يوجهه وفق مصالحه المشتركة ومصالح من يراهم أهـلاً للتحالف والشراكة. أكثر من ذلك، الرعب يتمدد إلى قضايا وجودية تمس كينونة الإنسان واستدامة استقراره وطمأنينته، فلا يكفي أن يكون الفرد إنساناً لا دخل له في السياسة وفي اختيار من يحكمه، ولا يكفي أن يتوهم الإنسان استقلالية لا وجود لها، إذ إن العمل الذي سيدرّ له دخـلاً كريماً ليعيش من خلاله بسلام، لا علاقة له بالمجهود الشخصي للفرد، وغير مرتبط بمعايير الكفاءة والمعرفة والقدرات المُكتسبة، لأن أساليب التوظيف والترقي في السلم الاجتماعي والثروة «إنما تتم من طريق الزبانة السياسية والكفالة [المزاجية]. وفي كلتا الحالتين يتعهد أصحاب السلطة والنفوذ بعض الأفراد والجماعات ويتبنونهم مقابل تقديم الخدمات والولاء المطلق من الزبائن إلى المعازيب»‏[6].

على ضفة أخرى، تكشف أعداد السجناء المتزايدة في بلدان الخليج العربية، في الحقبة الأخيرة، عن واقع هذا الرعب. كما يقودنا نوع «التُّهم» الموجهة إلى أغلب نزلاء هذه السجون إلى منسوب الضيق الذي وصلت إليه هذه البلدان ومجتمعاتها في التعامل مع الأفكار والآراء التي يحاول البشر التعبير عنها بعدما تعلموا وتأملوا وقارنوا وجرّبوا وسافروا وتفاعلوا مع العالم الواسع الذي يُحيط بهم. «النيل من مكانة الدولة وهيبتها»، «إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي»، «إثارة السكينة العامة»، «إعابة الذات الحاكمة»، «إهانة الموظف العام»، وغيرها الكثير من التهم والقضايا التي شغلت الرأي العام، شوشت على الوعي الجمعي، أشاعت الخوف من الكلام ومن المشاركة والمسؤولية مما يبرهن على بروز «الدولة المُستَفزّة» من «الإنسان المُستَفِزّ»، حيث لا يمكن فصل مفهوم الدولة هنا عن كينونة الأشخاص الذين يديرونها ويسيطرون عليها. وإلا فإن الدولة كمفهوم وممارسة؛ كيان محايد، موضوعي، لا يُستفزّ ولا يغضب، كما أنه لا يفرح ولا يُغدق العطايا على من كانوا سبباً في بهجته. الدولة ليست الفرد الذي يحكمها، الدولة حاصل جمع إرادات وإدارات متنوعة تحركها المصلحة المشتركة لمن ينضوون تحت رايتها، وفق منظومة من القوانين المتفق عليها، وبرضا الأطراف الذين يشكلونها. إن مفهوم الدولة/الفرد، الدولة/العائلة الحاكمة ينطوي على بخس لقيمة الإنسان الذي يعيش ويتفاعل مع هذه الدول. إن مفهوماً كهذا، يُشيع «الخوف والاستكانة واللامبالاة وقمع الحياة العامة والانكفاء على الحياة الخاصة وتفشي الإحباط وخنق الثقافة وحظر الذاكرة التاريخية [مما يتسبب في].. بروز مأساة [شاملة] تشلّ القدرة الوطنية»‏[7].

إذاً، والحال كذلك، داخل كل بلد من بلدان الخليج العربية، لا يمكن أن يُفضي الوضع إلى علاقة سوية، مستقرة بين الناس ومن يحكمهم، فالرابط ليس قائماً على الثقة والاطمئنان من الطرفين. لأن العروة ليست على عقد واضح، يصون الحقوق ويحميها ويحدد الواجبات ويُنمّيها. العكس هو الواقع؛ نظام سياسي يخشى الإنسان الذي يديره، وإنسان يخاف النظام الذي يتحكم فيه. بالطبع هناك تفاوتات نسبية في معادلة التحكم والسيطرة هذه، سواءٌ داخل كل قُطر من هذه الأقطار أو الفترات الزمنية التي تستهلكها، إلا أن النتيجة واحدة: عُطل الدولة، وهدر الإنسان.

رابعاً: هل الثروة تكفي عن العدالة؟

إن النمو الاقتصادي الظاهر الذي حققته بلدان الخليج العربية في العقود الخمسة الماضية، والذي انعكس تحسناً نسبياً في شكلانيوية الحياة الحديثة من انتشار التعليم، وانخفاض مستوى الأمية، وارتفاع متوسط الأعمار المتوقعة عند الولادة، وانخفاض الوفيات، وتحسن خيارات التغذية، وتوافر المياه الصالحة للشرب، والإسكان واتساع خيارات الاستهلاك، يعود إلى إنفاق جزء يسير من عوائد النفط في التوظيف الحكومي للأفراد، ودعم حكومات هذه البلدان قطاعاً خاصاً معتمداً عليها، بل مُشكّلاً بشروطها وأحكامها، ووفق مقاسات جماعات المصالح داخلها، التي في أساسها ومجملها مكونة من الموظف العمومي/التاجر، الذي يشتغل ويتحرك، لا وفق أليات الاقتصاد المنتج، بل وفق حجم وسرعة العطاءات والاستقطاعات والحصص الممنوحة أو المنهوبة من المال العام.

إذاً لا تخضع معايير توزيع الخيرات العامة في بلدان الخليج لمعايير الجهد والكفاءة، وهي لا تلتفت كثيراً إلى ضرورات العدالة والإنصاف، سواء بين الجيل الواحد أو بين الأجيال المتعاقبة. ولم يتم بناء اقتصاد وطني أو إقليمي قائم على الاستثمار في الإنسان من خلال تعليمه، والثقة في قدراته ليتمكن من رفع إنتاجيته. ولم يتم الاشتغال، بصبر وجدِّية، على حفز المجتمع لينسج علاقات قائمة على التبادل، والتكافؤ، والتكامل، وإطلاق طاقات الفرد والمجتمع، للمشاركة في تنمية الحياة تنمية مستدامة، قابلة للتطور وفق متطلبات العصر ومقتضيات العلم والمعرفة، ومبدعة لوسائل وطرائق جديدة، نابعة من البيئة المحيطة ومقدّرةً لمكوناتها.

أبرز تجسيدات النظام السياسي والاجتماعي العادل يتمثل بطرائق الوصول إلى السلطة، والمكانة الاجتماعية، والحصول على الثروة. فإذا كانت طرائق الوصول إلى السلطة محكومة بالوراثة أو بالانقلاب (على اختلاف درجات العنف فيه)، لا بالانتخاب والجدارة؛ وإذا ارتبطت المكانة الاجتماعية بإجادة فن إظهار الولاء للسلطة، لا المعرفة والكفاءة؛ وإذا أدّت العطايا والمنح الدور المحوري في توزيع الثروات، لا العمل والجهد، كما هو سائد اليوم في المنطقة، فإننا بصدد مواجهة إشكال كبير، عندما نتحدث عن نشدان مجتمع عادل.

وإن كنا قد أوضحنا انسداد مسألة المشاركة في الحكم والسياسة، في دول المنطقة في الجزء السابق، فإن مسرح المكانة الاجتماعية يُعرّي واقع مجتمعات الخليج المعاصرة. التعليم، الذي هو العمود الأهم في الترقي وتحسين الوضع الاجتماعي يعاني في دول الخليج أزمة في النوعية والجودة، الأمر الذي انعكس محدوديةً في القدرات، وتناقصاً في الإمكانيات التي يتمتع بها خريجو الأنظمة التعليمية في هذه الدول. وأضحى التعليم في الخليج اليوم أحد أبرز وجوه عجز الدولة الحديثة، وشيخوختها المبكرة. قد يُعزى ذلك إلى «التوسع الكمي الهائل في فترة قصيرة، دون توافر المرافق والمستلزمات الملائمة لهذا التوسع، والذي [أنتج] طغيان كم التعليم على كيفه، بحيث أصبح التعليم المنظّم مجرد عملية ميكانيكية لمنح شهادات إلى أنصاف متعلمين، همهم الوحيد الحصول على الشهادة ذاتها، وليس التعلم والرقي الثقافي هدفاً‏»[8]. وقد يكون التوسع السكاني، والزيادات العالية في الخصوبة والمواليد الأصحاء حديثي الولادة قد فاجأ المخططين والمشتغلين في هذا القطاع؛ إلا أن كل ذلك لا يمكن أن يقنع سُكان المنطقة، الذين أصبحوا يقارنون أوضاعهم بدول وتجارب إنسانية، أقل قدرة في الموارد والثروات، وأكثر في العدد والمساحات، ورغم ذلك استطاعت أن تُغيّر أنظمتها التعليمية وتحدث تحولاً فارقاً في مسارها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري. إن التحكم بالعملية التعليمية أنتج موظفين أكثر مما أنتج متعلمين، أفرز مُوجَّهين أكثر من مبادرين مدركين لحقوقهم وواجباتهم، إذ لم يعد خافياً على أحد أن السلطة التي تسيطر على التعليم منشغلة بتكوين ولاء الأفراد والجماعات بالمقدار الذي يؤمن هؤلاء بأفكارها المركزية لا بقدر وعيهم بذاتهم ولذاتهم. هذا النوع من التعليم لن ينتج إلا حشوداً تابعة ومطيعة لخطابات السلطة الموجهة والمطمئنة وفق أولوياتها لا وفق حاجات الفرد والجماعة.

علاوة على ذلك، حرصت الأنظمة الحاكمة في الخليج على إبعاد المنهج النقدي من التعليم، مخافة تخريج أجيال متمردة، عصية على التأطير والتعليب، وبدلاً من التربية على مناهج النقد والتحليل والبحث، تم الاشتغال بانتظام على إشاعة التعلق بمحورية وجودها كأنظمة، ومركزية بقائها كحكومات للحفاظ على أمن البلاد وسكينة البشر، وعلى نحوٍ موازٍ كانت تشيع التقليل من قدرات الناس، وعدم بلوغهم النضج الذي يؤهلهم إدارة شؤونهم العامة، مع التخويف، ولو مجرد التفكير في مقاومة هذا الخطاب، وتجريم رفضه، وهو ما تسبب في تيبّس الحراك الاجتماعي وعطّله عن مهمته في التفاعل والتطوير لبلوغ صيغ عدالة متطورة، تحقق توازناً مقبولاً في حياة البشر.

أما في ما يتعلق بالحصول على الثروة فتشيع اللاعدالة ويعاد إنتاجها وتأطيرها قانونياً. الثروة بوصفها حق للشعوب، تتصرف بها، وفق حاجاتها الحاضرة، وتستثمرها بالطرق التي تكفل لها الاستدامة والنمو لأجيال قادمة، هذا المفهوم تعتريه الضبابية والتشويه في بلدان مجلس التعاون. فالأسر الحاكمة في هذه البلدان تخصّ نفسها ومن تختاره بثروات هائلة لا تصل إليها، في أغلب الأحوال، عين الرقابة ويد المحاسبة.

الفجوة بين قيمة الصادرات من النفط الخام والغاز، وما يتم إدراجه في الموازنات العامة أكبر بما لا يقاس. بل حتى التساؤل عن مصير هذه الثروات مجرّم بالقانون وقد يودي بالسائل إلى غياهب السجن أو قعر التهميش والإقصاء. «إن هذه المبالغ بالمليارات، كما أن مؤشر الثروة المفقودة، أو نسبة الأموال المفقودة، إلى إجمالي قيمة الصادرات، أو ما يمكن أن يسمّى «مؤشر النهب» هو مرتفع. فعلى سبيل المثال، كانت هذه الأموال الضائعة أو المنهوبة تصل في السعودية في العام 2007 إلى 56.4 مليار دولار، أو 27.4 بالمئة من قيمة صادرات النفط والغاز. وفي بقية بلدان المجلس التي توفرت عنها بيانات، كانت هذه الأرقام على النحو التالي: الإمارات 14.6 مليار أو 17.3 بالمئة، قطر 20.5 مليار، أو 50 بالمئة …»‏[9].

يرى الناس مظاهر هذا النهب على الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الأسر وكل من يدور في فلكها، كما يعايشون عدم التكافؤ الناجم عن احتكار السلطة والثروة، يلمسونه في توجيه فرص الاستثمار لهذه الفئة، والعطايا والاستقطاعات التي تُمنح لهم وللفئات المستنفعة تحتهم، على مستوى الشركات، والأراضي، وخصخصة خدمات القطاع العام، وتوكيلات السلع الأساسية التي تتحكم في حياة البشر في طعامهم وشرابهم ومساكنهم وعلاجهم. كل ذلك مما يطفح به السطح، وفي العلن، لا في السر. بيد أن الناس مسكونون بخوف التساؤل عن أسباب مقنعة لاحتكار كل هذه الامتيازات، يعزز هذا الخوف عجز المؤسسات الرقابية القائمة، وعدم كفاءتها في محاسبة المتسببين عن كل ذلك، لأن شبكات المصالح التي وُلدت من رحم بيروقراطية الدولة المركزية غدت صمام أمان أمام أية فاعلية في المحاسبة، وعطّلت آليات مراقبة ناجعة للمال العام، كما أن ترسانة القوانين التمييزية والحامية لمنافع هذه الشبكات المعقدة هي بمنزلة «قفص حديد» لا تستطيع المحاولات الفردية أو الجماعية المشتتة أن تخترقه أو تحدّ من أثره وتحكمه في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي.

 

خامساً: هل المساواة أمرٌ يمكن إخفاؤه؟

ينضح ملف المساواة في دول مجلس التعاون بكثير من التناقضات المتشابكة. ففي الوقت الذي يظن كثيرون أن الوفرة في المال وفي الفرص بإمكانها أن تقلّص الفجوات التي قد يخلقها توسع المجتمعات بشرياً وعمرانياً، فإن واقع الحال في الخليج أفرز فوارق اجتماعية كرسّت اللامساواة، معلنةً عن خطر ماثل على المدى القصير قبل البعيد. خطر يهدد الصيغة الحالية للدولة والمجتمع، ويضعها أمام اختبارات وجودها قبل سؤال تطورها وتقدمها. من نافلة الكلام ذكر أن تزايد الفوارق الاقتصادية والاجتماعية من شأنه أن يوسع الفجوة بين الناس، حيث يتكرس التهميش الاجتماعي المفضي إلى الاضطرابات وشيوع حالات الفوضى، الأمر الذي يترك تأثيراً سلبياً في منظومة المجتمع ويصيبه بالشلل عن بلوغ تحقيق أهدافه للخير العام؛ هذا إن كان ثمة أهداف عامة واضحة ومعلنة في الأساس.

بالإمكان تلمّس اللامساواة ومخاطرها في هذه البلدان على أكثر من مستوى، إلا أن أبرز هذه المستويات: الجنسية، المذهب، النوع، الجغرافيا.

أ – الجنسية

تعد الجنسية أحد أبرز مظاهر اللامساواة في المنطقة؛ ففي حين أن الكثير من دول مجلس التعاون لم تسوِّ مسألة الجنسية مع من عاشوا وولدوا على أراضيها منذ مدة طويلة، كمثال الكويت وقضية «البدون» تطفو على السطح الاجتماعي والسياسي لبلدان الخليج العربية ظاهرة خطيرة، تُكرّس اللامساواة وتنشر الذعر بين أفراد المجتمع؛ ألا وهي سحب الجنسية من الأشخاص الذين تصنفهم السلطات على أنهم معارضين أو مختلفين عنها في التوجهات السياسية.

وبدلاً من تعزيز الشعور بالاطمئنان لعروة المواطنة الراسخة المتساوية في الحقوق والواجبات وحماية ذلك بضمانات دستورية يرعاها القضاء النزيه والمستقل، تتطاول أيادي أجهزة الاستخبارات والأمن الداخلي ووزارات الداخلية في هذه الدول فتُسقط الجنسية عن من تشاء من المواطنين المختلفين أو المتخاصمين معها، سواءٌ أفراداً كانوا أم جماعات وقبائل[10]، حيث تنزع عنهم جميع وثائق السفر والهويات الشخصية ليصبحوا شخصيات «مجهولة» و«نكرة»، وعلى نحوٍ مفاجئ، وغير مفهوم، حيث تطلب منهم – الأجهزة نفسها – مغادرة البلاد فوراً، وإلا يتم القبض عليهم بتهم الوجود على أراضيها بصفة «غير قانونية»، في انتهاك صارخ وحصار مُركّب لأبسط حقوق هذا الإنسان الذي لم يرتكب أية مخالفة غير الاختلاف في الرأي السياسي عن من يحكمه، والذي قد يكون، أي هذا المختلف، أكثر تجذراً في بلده على مستوى النَّسب والأصالة والتاريخ  أكثر من أي متسلط  يستخدم وظيفته العامة لتغطية هذا الفعل اللإنساني، بل أكثر تجذراً من الحاكم نفسه.

إن تضخم  ظاهرة «سحب الجنسية» في بلدان الخليج العربية لأبلغ دليل على غياب الإنسان من معادلة الدولة والمجتمع، حيث تستمد هذه الظاهرة جذورها من نظرة الأنظمة الحاكمة إلى المواطنة التي تفهمها على أنها مجموعة خدمات وامتيازات تمنحها هذه الأسر الحاكمة لشعوبها مقابل التخلي عن أية مطالبات للحقوق، إلا إذا قدّرت هذه الأنظمة هذه الحقوق، وقتما شاءت، وقرّرت تقديمها إلى الشعوب على هيئة منح وأعطيات ومكرمات. في سياقٍ موازٍ في موضوع اللامساواة في الجنسية؛ تتعاظم اللامساواة بين المواطنين والأجانب الذين ارتبطوا بعقود عمل مختلفة داخل هذه البلدان، إذ تزداد الفوراق بين أجور المواطنين في بلدان الخليج وبين أجور الأجانب العاملين فيها. المثير أن ميزان الأجور الذي يميل إلى المواطنين ليس مبنياً على قاعدة الإنتاجية، ولا على نوع العمل، ولا على الزمن الذي يستغرقه إنجاز هذا العمل؛ إذ تمتد ساعات العمل لكثير من العمال الأجانب إلى أوقات طويلة قد تصل إلى سبعة أيام في الأسبوع، وبمعدل يتعدى العشر ساعات يومياً. كما أن ظروف العمل المحيطة تنطوي على مخاطر متزايدة، تصل إلى تهديد الحياة؛ درجات حرارة مرتفعة تتجاوز 50 درجة مئوية؛ تساهل في اشتراطات السلامة في مواقع العمل والسكن والتغذية، مع عدم السماح لهم بتأسيس نقابات عمالية تدافع عن حقوقهم وتساعدهم على استيعاب واجباتهم، في بيئة غريبة عنهم على مستوى اللغة والقوانين والعلاقات.

لا يمكن تجاوز واقع حياة العمّال الأجانب في هذه المجتمعات الذين يمثّلون في مجموعهم نصف عدد سكان بلدان الخليج العربية مجتمعة‏[11]، (في قطر والإمارات تصل نسبة هذه الفئة أكثر من 80 بالمئة من إجمالي عدد السكان) ولا يمكن تجاوز طبيعة استجلابهم واستقدامهم، وتحولهم إلى نخاسة جديدة، ولا يمكن غض البصر عن نظام «الكفالة»‏[12]، ولا عن ظروف العمل وساعاته التي تصل بعضها إلى درجة «السُخرة»، إذا ما أردنا أن نبحث عن الأسباب الحقيقية وراء هشاشة الدولة وعجز المجتمع.

ب – المذهب

تتزايد حدة اللامساواة والفرز المذهبي في بلدان كالبحرين والسعودية في متوالية من المظلومية لا قعر لها، إذ تدّعي الحكومات أن أتباع المذهب الشيعي لا يدينون بالولاء المطلق لحكومات البلدان التي يقطنونها، مقارنة بعلاقاتهم الروحية والجمعية مع حكومات مجاورة كإيران، في الوقت الذي يصرخ أتباع هذا المذهب من تزايد وتيرة التمييز الماحق بهم والمتمثل بإقصائهم من الكثير من الوظائف وفرص العمل التي يتمتع بها إخوتهم في «المواطنة»، ناهيك بتفشي الفقر بين أوساطهم، واتساع فجوة الدخل، وصعوبات حصولهم على الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة وغيرها. ورغم أن مجمل التشريعات الوطنية في دول الخليج سنّت قوانين تجرّم «الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها، ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل وطرق التعبير»؛ ورغم أن النصوص القانونية تحظر «التمييز بين الأفراد أو الجماعات على أساس الدين أو العقيدة أو المذهب أو الملة أو الطائفة أو العرق أو اللون أو الأصل الإثني»، وتجرم «كل قول أو عمل من شأنه إثارة الفتنة أو النعرات أو التمييز بين الأفراد أو الجماعات من خلال نشره على شبكة المعلومات أو شبكات الاتصالات أو المواقع الإلكترونية أو المواد الصناعية أو وسائل تقنية المعلومات أو أية وسيلة من الوسائل المقروءة أو المسموعة أو المرئية، وذلك بمختلف طرق التعبير كالقول أو الكتابة أو الرسم»؛ رغم كل هذه الصياغات الشاملة، اللامعة، فإن السلطات الحاكمة في الخليج لم تتورع عن استخدام هذه القوانين لتعقّب خصومها السياسيين، بل غدت هذه النصوص مبرراً شائعاً لمحاصرة ناشطي حقوق الإنسان في كل بلد على حدة، وفي البلدان المجاورة، واستخدام هذه النصوص كغطاء مشروع لمصادرة الحقوق والحريات الأساسية؛ كحق التعبير وحق التفكير وحق اعتناق الأديان، وباتت السجون في المنطقة تعجّ بالكثير ممن شملتهم تهم «التجديف» و«النيل من الذات الإلهية» و«الإلحاد» و«ازدراء الأديان». كما أعطت السلطات لنفسها الحق في اختراق خصوصيات البشر وإحكام المراقبة على حياتهم الخاصة ورصد وتعقب كل وسيلة اتصال وتواصل بين الناس، تحت مبرر حماية أمن البلاد، وضمان «السكينة العامة» للمجتمع.

ج – النوع/الجنس

تواجه المرأة تحديات معقدة في بلدان الخليج العربية؛ فإضافة إلى العوائق الثقافية والدينية والاجتماعية التي تغذّيها المجتمعات التقليدية، والتي تؤطر المرأة داخل أطر العيب، والشرف، وادعاء محدودية القدرات الذهنية والنفسية، وتكريس كل ذلك في الخطابات الدينية والإعلامية التي تسيطر عليها السلطات الدينية والاجتماعية والسياسية نفسها، المتحالفة في ما بينها من جانب، والموغلة في مركزية السيطرة والتحكم من جانب آخر؛ إضافة إلى كل ذلك، يأتي نمط الاقتصاد السائد في المنطقة ليعمّق اللامساواة في حق المرأة، إضافة إلى أن «نسب مشاركة المرأة في سوق العمل في جميع دول الخليج تعَد أقل من المتوسط العالمي لمشاركة النساء في سوق العمل، والذي بلغ في عام 2015 نحو 53 بالمئة بين الدول النامية، وهي نسبة لا تقترب منها إلا دولة الكويت، علماً بأن نسبة مشاركة المرأة في الدول المتقدمة تفوق الـ 67 بالمئة. إضافة إلى ذلك تزيد نسب البطالة في المنطقة بين النساء أكثر منها بين الرجال؛ فعلى سبيل المثال في السعودية بلغت نسبة البطالة بين الرجال 7.11 بالمئة، بينما وصلت بين النساء إلى 8.32 بالمئة. وفي البحرين تبلغ نسبة البطالة بين الذكور في الفئة العمرية 15 – 24 عاماً نحو 8.5 بالمئة بينما ترتفع إلى ضعف ذلك بين النساء فتصل إلى 16.8 بالمئة»‏[13].

وعلى الرغم من أن المرأة في الخليج حققت نسباً عالية في مجالات الالتحاق بالتعليم، وبخاصة في مراحله الأساسية، ونسباً أعلى في الحصول على درجات التحصيل العلمي، وكفاءات مشهودة في قطاعات الصحة والتدريس والمصارف والتجارة والخدمات، فهي ما زالت تواجه فرصاً أقل في مراحل التعليم العالي. كما يمارس المجتمع عليها ذكورية لا تخطئها العين عند بحثها عن العمل والمساهمة في الإنتاج، في تناقض اجتماعي ونفسي لم تفلح الكثير من القوانين والتشريعات المحلية في حلّه وتفكيكه، لأنه يُعبّر عن جذور أعمق تمتد في العقلية الفردية والجمعية للمجتمعات، التي حتى لو مارست بعض مظاهر الحداثة، في شقّها الاستهلاكي، والاستهلاكي «المُتعي» على وجه التحديد، فإن ذلك لم يؤثر في أنماط التفكير، ولا في العادات والسلوكيات التي تحرك المجتمعات التقليدية المحافظة.

د – الجغرافيا

تتمثّل اللامساواة الجغرافية باستحواذ بعض الأجزاء من الدولة على مجمل خطط العمران والاستثمار على حساب بقية أجزاء الدولة بثرواتها وساكينها. أبلغ هذه الأمثلة نجده ماثـلاً في الإمارات العربية المتحدة؛ ففي الوقت الذي تدير الإمارات الخمس (الشارقة، أم القيوين، الفجيرة، عجمان، رأس الخيمة) يومياتها من الدعم المالي للحكومة الاتحادية؛ تسيطر فيه الإمارتان (أبوظبي ودبي) على85 بالمئة من ثروة البلاد، كما تحتكر القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة.

في بلدان كالسعودية وعمان والبحرين لا يمكن العين أن تُخطئ الفوارق في العمران والتخطيط بين عاصمة كل بلد وبقية المناطق والمدن، إذ تستحوذ المدينة الرئيسية، وهي عادة ما تكون العاصمة أو لا تزيد على مدينتين محوريتين في كل بلد، على النصيب الأوفر من الإنفاق العام، وبأنصبة أقل على بقية المحافظات والمناطق، الأمر الذي أفرز خريطة سكانية جديدة، غير متجانسة، عشوائية. وجد الإنسان نفسه في إثرها مستسلماً، خانعاً لمدن خانقة، مكتظة بالبشر النازحين إليها من بقية أجزاء البلاد، تزداد شكواهم من الازدحامات ونقص الخدمات وسوء الاداء وصعوبات التنقل والتواصل.

لقد أفضى الإنفاق الحكومي، الذي مارسته السلطات الحاكمة في المنطقة على امتداد السنين الخمسين الماضية، إلى توهمات ظلّلت الإنسان الذي يعيش في هذه المنطقة عن معرفة حقيقة ذاته وحقيقة الواقع. إن ما حدث لم يكن فجائياً، بل متوقعاً، وتم التنبيه من مخاطره، إذ إن عواقب التوسع في الإنفاق الحكومي في الدول الريعية لا يأتي إلا بهذه النتائج؛ فهو يُظهر الرخاء والازدهار في العموميات بينما تزداد على الميدان حدة الفوارق الاجتماعية والتفاوتات الطبقية، وبخاصة في الدخل ومستويات الغنى والفقر. فالهوة تتسع بين الغنى المفرط والفقر النسبي، ولا يمكن تحسس ذلك في ظل الإنفاق الحكومي الذي يوفر السلع الاستهلاكية المستوردة، ويرفع مناسيب الرواتب المتأتية من احتكار وإدارة المورد الوحيد للدخل. إن مسألة الفوراق في الدخل ربما لا تكون ناجمة بالضرورة عن استغلال البشر، وبالتالي لن تؤدي بالضرورة إلى تنشيط حركات التغيير الاجتماعي لإحداث تغيير جذري يُحسن مستوى حياتها؛ لأنها، أي هذه الفوارق، قد تكون ناتجة من طرائق استغلال الموارد الطبيعية لا استغلال الموارد البشرية. وبإمكان الدولة الريعية أن تستخدم هذه الوسيلة بكل نجاح وكفاءة؛ إذ بمقدورها إعطاء الانطباع للجميع بحصولهم على حصص أكبر، لكن، بقرار حكومي، وهذا ما حدث بالتحديد أثناء احتجاجات الربيع العربي، الأمر الذي يمنح السلطة قدرة على البقاء واحتواء كل محاولات التغيير القادمة من القواعد الشعبية، التي عادة، في مثل هذه الأوضاع، ما تكون مسيطراً عليها تماماً، وقد تم حَيْد قدراتها التنظيمية المستقلة منذ مدة طويلة. لذا، لن يكون هناك نقاش جاد ومتكافئ حول المستقبل ما دامت السلطة المركزية مستحوذة على الموارد الطبيعية، وتديرها لمصلحة بقائها أكثر من استثمارها في استدامة تنمية المجتمع والدولة‏[14].

 

خلاصة

بكلمة، كشف الزمن أن قضية الإنسان في بلدان مجلس التعاون تتعدى التشخيص والتحديد والتوثيق والإشارة، إذ لا تعوز المجتمع ولا الدولة ولا الأفراد، اليوم، الأفكار والأبحاث والدراسات والأدبيات التي تضع الإصبع على أسباب الخلل وتتتبّع عثرات بلوغ مرحلة راسخة من التعاون والتكامل. كما لا تعوزهم الإمكانيات المالية ولا الثروات الطبيعية ولا القدرات البشرية.

كما أكدت الممارسة، في غير ذي مناسبة، أن الإشكالية ليست في وجود الحل، ولا في وضوح المخرج، بقدر ما هي في إرادة الفعل وإدارة الموارد البشرية والطبيعية والعمل؛ وأنه بقدر الإيمان العميق من جانب الحكّام والمحكومين، على حد سواء؛ بأن المكوِّن الأساسي لنجاح المجتمع والدولة وبقية التنظيمات يتمثل بنجاح الإنسان؛ إحساسه بكيانه وقيمته وجدواه، ضمان كرامة متساوية له في الحقوق والواجبات، احترام حريته الخاصة وتقدير حرياته العامة، تقليص الفوارق الاجتماعية التي تتحدى استقراره في مجتمع عادل. بمقدار هذا الإيمان ستكون النتيجة. الإنسان الآمن على حرياته، المستقر في مجتمع عادل، هو من سيتكفل بتنمية بلاده وإدارة تعاونها وتكاملها مع من يؤمن ويستحق الشراكة ووحدة المصير.