عرفتُ عليًّا عندما كنت طالبَ دكتوراه في باريس من خلال مشروعٍ بحثيٍ فرنسي عن الجماعة العلمية في الوطن العربي، في مؤتمرٍ كنت ألقي كلمةً فيه. حينها دعاني إلى المدرسة الصيفية للجمعية العربية لعلم الاجتماع في تونس، مدرسة عظيمة لأنني تعرفت إلى طلبة الدراسات العليا القادمين من كل حدبٍ وصوب من الوطن العربي. هناك كان يستمتع بعض الأساتذة «بالأستذة» علينا ويصولون ويجولون في نقدهم «المتعالي» بعض الأحيان لمقترحاتنا البحثية، إلا عليًّا، فقد اشتهر بشخصيته الهادئة وتواضعه الكبير وبقلة كلامه. هو الذي يبحث عن الكلمات والمصطلحات باللغة العربية، أتذكر أنه كان يطلب إليّ أن أجلس بجانبه لأساعده على ترجمة بعض المصطلحات من الفرنسية إلى العربية، وقد شعرت آنذاك أنني أمام قامةٍ علميةٍ استثنائية.

حافظتُ عبر السنين على علاقتي معه ومع زوجته سوزان الفرا، كانت تجمعنا أحاديثُ اللجوء الفلسطيني، لنلتقي في القاهرة، تونس، الحمامات، بيروت، باريس، ليون، عنابة (كانت هناك تظاهرات عارمة لجبهة الإنقاذ مطالبةً بعدم إلغاء نتائج الانتخابات). عندما كنا نتحدث عن اللجوء الفلسطيني كنت أشعر بمرارة حديثه عن ألم اللجوء، وها هو يجد نفسه في 1990 لاجئًا في منافي تونس وفرنسا. لكن شاء القدر أن نكون معًا في نانت لعدة سنوات، حيث توطدت علاقةٌ إنسانيةٌ رائعة بين عائلتَينا… كنا نتزاور من الحينة للأخرى: أذكر كيف كان يلعب مع ابني أنسي ويذكّره بالعمليات الحسابية من الجمع والطرح والضرب.

نشاط سوزان الفلسطيني جعلنا نجتمع في سهراتٍ كثيرة مع أصدقاء مشتركين من الجمعية الفرنسية – الفلسطينية للتضامن.

كان علي ينتقد فيّ أي شعورٍ بالانبهار بالغرب، لم يكن يحب استشهادي ببعض الباحثين الفرنسيين الذين كان لهم وجودٌ سياسيٌّ مريبٌ في البلدان العربية وبخاصة الجزائر. كان في تحليلاته السياسية المتشائمة يعي حجم القوى الرأسمالية والعقدة الأوروبية باتجاه تاريخهم مع اليهود. لم يتوانَ عن نقده لاتجاهاتٍ عنصرية في فرنسا، وقد صرّح لتلفزيون النهار في 2018 بأن الإسلام هو أكثر دينٍ مندمج في فرنسا، ودانَ الإسلاموفوبيا لدى كثير من الصحافيين والباحثين الفرنسيين.

كان آخر اتّصالٍ هاتفيّ بيننا هذا الصيف، حين تحدثنا عن موضوعاتٍ كثيرة ومنها القضية الفلسطينية والانتفاضات العربية وبخاصة التجربة السورية، كنا نتأمل باللقاء… أندم الآن كثيرًا لأنني لم أستطع زيارته قبل وفاته.

يهمّني هنا أن أركّز على إرثه المعرفي والمنهجي على المستوى العربي والأفريقي، من خلال مسؤولياته في الجمعية العربية لعلم الاجتماع، وكذلك في مجلس تنمية البحوث الاجتماعية في أفريقيا (CODESRIA) ومنتدى العالم الثالث (TWF) في داكار.

كان علي مع ماركس وضدّه، عندما دُعي في 1997 إلى بيروت للمشاركة في ندوة بعنوان «نحو تجديد المشروع الاشتراكي» إحياءً للذكرى الثلاثين لاستشهاد أستاذه الماركسي مهدي عامل، قرّر تقديم ورقةٍ حول «البديل الديمقراطي في العالم العربي»، لأنه لايؤمن باشتراكية من دون ديمقراطية. كان علي مع التعريب وضدَّه، كان ينتقد كثيرًا الطريقة التي تمّ بها التعريب السريع في الجزائر، وكان يضحكنا كيف استقبلت الجزائر أساتذةً مشارقة بتواضع ٍمعرفي شديد لأنهم يتكلمون العربية، ليحلّوا محلّ أساتذةٍ مبدعين وضالعين بالمعرفة البحثية لكنهم لا يتقنون العربية.

علي كان ما بعد كولونيالي، لكن ضد موجةٍ عارمةٍ للخطاب ما بعد الكولونيالي التبسيطي الذي يؤسس لثنائياتٍ شديدة الحدية (التراث/الحداثة، الشرق/الغرب، طبيعي داخلي/ميتافيزيقي، العالمي/المحلّي، العقلاني /غير العقلاني، اللغة الإنكليزية /اللغة المحلية والعالمية/السياقية وما إلى ذلك…) لقد تبنى المقاربة النقدية الكونية – المحلية (Glocal). بالنسبة إليه، نحن لا نرفض فكرةً أو منهجيةً لأنها قُدمت من الغرب أو من أي مكانٍ آخر، أي أنّ العطب السوسيولوجي الّذي نعانيه اليوم مردُّه إلى علاقة الباحثين العرب بالأدوات المعرفية والمنهجية لا عطب الأدوات ذاتها. وكان حسّاسًا لموضوع الهيمنة في البحث العلمي، سأعطي مثالًا كيف حلّل ببراعةٍ في كلمته الافتتاحية في مؤتمر كودستريا في يووندي (الكاميرون) في 2008 النظرة الأوروبية – المركزية لأفريقيا، وكيف تم التركيز على بعض الظواهر مثل العنف والفقر والدين والبنية القبلية على حساب قضايا مثل الطبقات الاجتماعية والهيمنات، كولونيالية كانت أو محلية.  سأقرأ لكم نقده لهذه المشاريع البحثية:

«On pourrait multiplier à l’infini des extraits de ce genre. Ils sont bien entendu, de qualités très diverses et couvrent un large registre allant de l’enquête richement documentée et menée avec rigueur à des essais rapides à usage idéologique et/ou médiatique. Mais en grande majorité, ils partagent peu ou prou le même capital notionnel et si j’ose dire « émotionnel»: ethnies, conflits ethniques, violences, insécurité, «l’Etat Africain», crise, chaos, exode etc.  Régions du Sud comme l’Amérique du Sud ou le Monde musulman, lesquels, à leur tour, ont leur vulgate propre ; on ne saurait parler de la première sans parler les trafics de drogue et de la seconde sans la notion de terrorisme par exemple. Ce style et son vocabulaire constituent ensuite le champ de recherche de l’africanisme dont la maîtrise et l’usage deviennent obligatoires pour qui ambitionne d’y être intégré».

باسمي وباسم الجمعية العربية لعلم الاجتماع والجمعية الدولية لعلم الاجتماع، أوكد أن الجماعة العلمية خسرت عالمَ اجتماعٍ كبيرًا. كان من قلال الباحثين العرب المعروفين في العالم والذي كانت له رسالةٌ حول العرب، ليس بصفتهم استثناءً بل كونهم جزءًا من الكون والكونية. عندما كنتُ أبحث عن متكلمٍ للحديث في الجلسات الرئيسية في مؤتمرات الجمعية الكبرى، كان أول شخصٍ أتّصلُ به. كان ينبغي مشاركته في المؤتمر الدولي لعلم الاجتماع في يوكوهاما، لكنه اعتذر بسبب مرض زوجته آنذاك.

أثرُك خالدٌ يا علي وستبقى بيننا… نسأل الله الصبر والسلوان لسوزان ولأولاده مريم وسلمى وأنيس.

 

قد يهمكم أيضاً  جبران خليل جبران

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #علي_الكنز #الجمعية_العربية_لعلم_الاجتماع #الجمعية_الدولية_لعلم_الاجتماع #ساري_حنفي #مجلس_تنمية_البحوث_الاجتماعية #منتدى_العالم_الثالث