تقديم:

أصبحت القيم السياسية تفرض وجودها على علم السياسة، كما أنها ظلت تغطي عدة مجالات في هذا العلم، وخصوصاً السلوك السياسي والتحليل السياسي‏[1]. على هذا الأساس، تأتي أهمية نظرية القيم السياسية، في دراستها للقيم السياسية كوحدة للتحليل. تتجلى هذه الأهمية في تناولها المدركات الجماعية لكل مجتمع كمبادئ مرجعية في توجيه السلوك الإنساني، إلى جانب دور هذه المدركات في تشكيل نسق المدركات السياسية، كإطار منظم لمفردات القيم السياسية العليا الجماعية والفردية‏[2].

ومن دون الخوض في إعطاء تعريف للقيم السياسية، والقيم ككل، لترك ذلك إلى حين الوصول إلى المحور الذي سيتم التطرق فيه إلى نظام القيم، داخل المتن، يكتفى هنا، بالإشارة إلى أن القيم السياسية كمنظومة، تختلف تبعاً لنسق المدركات السياسية الجماعية لأي مجتمع، حيث نجد على سبيل المثال أن القيمة الجماعية العليا في الفلسفة الغربية هي الديمقراطية، وعليها يرتهن لتحقيق الكرامة الإنسانية، في حين أن القيمة الجماعية العليا في نسق المدركات السياسية الجماعية الإسلامية تبقى هي التوحيد‏[3].

في هذا الإطار، الذي يشكل مجال الدراسة، ستكون المقالة معنية بالبحث – في ضوء نظرية القيم السياسية – عن ماهية الديمقراطية في أدبيات المفكر المغربي محمد عابد الجابري، وخصوصاً أن هذه الأخيرة، كما تمت الإشارة، تشكل قيمة جماعية لدى الغرب، على عكس الوطن العربي، الذي يوجد فيه من يرفضها نهائياً، ومن يحاول استبدالها بالشورى، ومن ظل يدافع عنها بقوة كالجابري، كما سيتبين.

لخوض غمار البحث في هذا الموضوع، لا بد من الوقوف عند سؤال مركزي يطرح نفسه بقوة. يستقصي عن دلالات مفهوم الديمقراطية لدى محمد عابد الجابري، وعن مكانتها في فكره؟ ومن أين تكتسي ماهيتها عنده، هل من المرجعية الإسلامية أم من المرجعية الغربية (الليبرالية)؟

وللإحاطة بالموضوع أكثر من كل الجوانب، لا بد من إثارة بعض التساؤلات الفرعية الأخرى. من قبيل: كيف يتصور الجابري نظام القيم؟ وهل تصل الديمقراطية في فكره إلى مرتبة القيمة السياسية أم لا؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى غياب الديمقراطية عن الوطن العربي حسب تصوره؟ وماذا تشكل الديمقراطية كآلية وكممارسة بالنسبة إلى واقع الوطن العربي في نظر هذا المفكر؟

في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات، سيتم الانطلاق من فرضية أساسية، يمكن أن تؤكدها الدراسة ويمكن أن تفندها، مفادها أن المفهوم الديمقراطي هو مفهوم مستورد لدى الجابري من المرجعية الغربية، وبالتالي فحتى مضمونها، المتمثل بالديمقراطية السياسية، سيكون هو المقصود لدى هذا المفكر بالديمقراطية، ولكن لا يمكن اعتبارها قيمة جماعية عليا لديه، كما هي في الغرب، لأنها لا تتمشى مع مرجعيته الإسلامية.

وسيتم قياس هذه الفرضية عبر اعتماد التصميم التالي: أولاً، نظام القيم عند محمد عابد الجابري؛ ثانياً، ماهية الديمقراطية في فكر الجابري؛ ثالثاً، أسباب غياب الديمقراطية عن الوطن العربي حسب الجابري؛ رابعاً، أهمية الديمقراطية لواقع الوطن العربي في نظر الجابري.

أولاً: نظام القيم عند محمد عابد الجابري

ليس هناك تعريف جامع وموحد للقيم، بقدر ما يوجد تعاريف متعددة، حسب زاوية الرؤية والإطار المرجعي الذي ينظر منه كل من يتناول موضوع القيم بالدراسة، لكن رغم تعدد التعريفات الخاصة بهذه الأخيرة، فدائماً ما يشار إليها على أنها موجهات للسلوك أو العمل‏[4]؛ أي أنها عبارة عن مجموعة من القواعد والأهداف التي تتسم بالعمومية والتجريد، التي لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع، كالحاجات العادية، رغم سعي الإنسان بطبعه لتحقيقها، لأنها ببساطة أهداف غير قابلة للتطبيق والإشباع. بعبارة أخرى، هي مثل عليا تسيطر على الحركة‏[5]، وتحدد وجهتها ومنطلقاتها وغاياتها، والحدود التي لا يمكن أن تتعداها.

بيد أن ما يهم في هذا المقال ليس القيم ككل، بل القيم السياسية كجزء فحسب ضمن الأجزاء المكونة لهذا الكل، وما يهم أكثر في هذا المحور، هو البحث في أدبيات المفكر المغربي محمد عابد الجابري، عن التصور الذي يقدمه للقيم، ولمَ لا، للقيم السياسية إذا كان له تصور.

بالعودة إلى الإطار النظري في كلياته، والاقتصار على إحدى جزئياته، يمكن الإقرار بأن القيم السياسية هي عبارة عن مثاليات سياسية، تهدف إلى تغليف الإطار الفكري للإنسان ككائن سياسي، وهو في سعي دائم إلى السلطة، وفي تعامل مع الآخرين بمساواة‏[6]. بعبارة أكثر وضوحاً، هي الإطار الفكري الذي يحدد الأهداف المباشرة للحركة السياسية، كما أنها المحفز الذي يتحكم في أداء هذه الحركة‏[7]، داخل الجماعة السياسية.

وفي ضوء هذه التوطئة النظرية، وفي إطار البحث في ثنايا أدبيات الجابري، يستشف أن له تصوراً للقيم، يقر من خلاله بأن نظام القيم، لا يعني سوى جملة من المثاليات، المترابطة فيما بينها، التي تحاول أن تشكل كـلاً واحداً، لتبث في الأجزاء المكونة له معناها، وتعطيها أبعادها‏[8].

كما أن القيم في نظره داخل أي ثقافة، لا تشكل فقط منظومة أو منظومات، بل تتعدى ذلك لتشكل أنظمة قائمة الذات، سمتها الأساسية الترتيب‏[9]، أو ما يسميه «ترتيب طبقي قيمي»‏[10]، ويمكن الإقرار بأن ما يقصده الجابري هنا، هو ما يسمى في نظرية القيم السياسية «الترتيب التصاعدي للقيم في كل نسق»‏[11]، التي تختلف من نسق إلى آخر، طبعاً حسب اختلاف المرجعيات، والمدركات الجماعية التي ينتمي إليها كل نسق.

هذا الاختلاف القيمي هو ما يميز بين ثقافة وأخرى من منظور الجابري، لأنه ضرورة وجودية قيمية ثقافية؛ لأن القيم لا يمكن أن تكون في مستوى واحد. وبالتبعية فإن الثقافة ليست في قالب واحد، بحيث يظل دائماً هناك تنوع ثقافي، أسهم فيه بشكل أو بآخر تدرج مستويات القيم، الذي يأخذ شكـلاً هرمياً تتزعمه قيم رئيسية أو أساسية، تنتظم حولها بقية القيم الفرعية. بل إن من جوف هذه القيم الرئيسية، تخرج وتتفرع بقية القيم الأخرى، الأدنى منها مرتبة، كما تكون هي المسؤولة حتى عن تحديد ماهية هذه القيم الفرعية‏[12].

وهو ما يصطلح عليه نفسه في أدبيات نظرية القيم السياسية، بالقيم الفردية، التي ضمنها توجد قيم فردية فرعية على رأسها قيمة فردية عليا، تكون هي المسؤولة عن تحديد وظيفة النظام السياسي تجاه الفرد والجماعة من جهة أولى، وتجاه الطبيعة من جهة ثانية، ناهيك بتحديدها الوظيفة الحضارية للجماعة ككل‏[13]، وهذا لا يخرج، مفهوماً ودوراً، عن دائرة ما أسماه الجابري «القيمة الرئيسية».

أكثر من ذلك، فهو يرى أن داخل كل ثقافة، هناك ما يسميه القيمة المركزية، التي تنتظم في إطارها جميع القيم، أثناء عصر من العصور، وهذا الانتظام لا تخرج عنه أي قيمة من القيم، كيفما كانت رئيسية أو فرعية، بل إنها تبقى مندرجة تحته‏[14]، وخاضعة له، وساعية بشكل حتمي ودائم نحو الأهداف المسطرة في إطاره، التي تصب بالضرورة في خدمة القيمة المركزية. هنا يمكن الإقرار بأن ما يطرح لدى الجابري على أنه قيمة مركزية، يجد ما يقابله ضمن محددات النظرية السياسية، وهو يتجلى في ما يطلق عليه القيمة الجماعية العليا، التي تسعى في إطارها كل القيم الأخرى، المختلفة والمتنوعة في ما يخص مستويات ترتيبها الهرمي لتحقيقها، لأنها تبقى كالهدف الكلي لهذه الأخيرة، والهدف المطلق للجماعة‏[15]، التي تتحكم في حركتها.

وفي محاولة الجابري دراسة الثقافة العربية، جعل من تصوره هذا للقيم، مدخـلاً لتفكيك نظام القيم، السائد في الثقافة العربية الإسلامية، وأخذ على عاتقه الإجابة عن تساؤلين يُطرحان بقوة في هذا الموضوع: أولهما يستقصي عن طبيعة وماهية القيمة المركزية في الثقافة العربية الإسلامية؛ والثاني يسعى إلى الكشف عن المنظومات القيمية التي تحاول أن تزاحم هذه القيمة المركزية. ولهذه المحاولة الفضل الكبير في إخراج الجزء الأخير – العقل الأخلاقي العربي – من مشروعه نقد العقل العربي، إلى الوجود.

لتصل هذه المحاولة التفكيكية المعنونة العقل الأخلاقي العربي، إلى أن الثقافة العربية الإسلامية، على المستوى القيمي، شهدت هيمنة لقيمة مركزية فارسية هي الطاعة، وسيادة قيمة عربية هي المروءة، وتداول قيمة يونانية هي السعادة، إلى جانب حضور قيم الموروث الصوفي، في حين كان هناك نوع من اللاحضور أو الغياب التام، للقيمة المركزية في الإسلام، المتمثلة حسب الجابري بالعمل الصالح‏[16].

بيد أن ما يهم الباحث في تحليل الجابري لنظام القيم، هو الوصول إلى جواب لسؤالين: أولهما، هل المفهوم الديمقراطي أو الديمقراطية في تصور الجابري وصل إلى مرتبة قيمة أم لا؟ وخصوصاً أنه توقف لدى مجموعة من الأهداف والمبادئ، كـ «الشجاعة والصبر والعدل والمساواة والخير ومضاداتها، [وجعلها] قيماً يمكن النظر إلى كل واحدة منها بمفردها»‏[17]، على أنها محركة للسلوك. وثانيهما، يطرح نفسه هنا بإلحاح، يتساءل من أين تستنبط الديمقراطية عند الجابري مضمونها، هل من المرجعية الإسلامية أم من المرجعية الغربية (الليبرالية)؟

ثانياً: ماهية الديمقراطية في فكر الجابري

سيتم التطرق داخل هذا المحور، إلى ماهية الديمقراطية لدى محمد عابد الجابري، وإلى علاقة المرجعيتين الإسلامية والليبرالية في تبنّيه الديمقراطية، بشقيها السياسي والاجتماعي، ناهيك بمحاولة تفكيك مفهوم الديمقراطية كما يراها الجابري، من خلال نظرية القيم السياسية.

1 – ماهية الديمقراطية لدى الجابري

أول ما يستوقف من يبحث في ثنايا أدبيات الجابري عن المفهوم الديمقراطي لديه، هو إشارته القوية إلى صعوبة تحديد تعريف لمفهوم الديمقراطية، إلا أنه يعود في النهاية ليقر بأنه يتبنى الديمقراطية بمفهومها المتداول في عصرنا، الذي ينصرف بالذهن إلى الطريقة التي تمارس بها السلطة، وكذا العلاقة الجامعة بين الحاكم والمحكومين، التي يكون أساسها احترام حقوق الإنسان والمواطن‏[18]، وربط المسؤولية بالمحاسبة.

كما تجده يضع تعريفاً خاصاً وجامعاً للديمقراطية مستلهماً من الممارسة الديمقراطية، مفاده أن هذه الأخيرة هي نظام سياسي اجتماعي اقتصادي، يقوم على ثلاثة أركان‏[19]:

أ – حقوق الإنسان في الحرية والمساواة، وما يتفرع عنها كالحق في الحرية الديمقراطية والحق في الشغل وتكافؤ الفرص… إلخ.

ب – دولة المؤسسات، وهي الدولة التي يقوم كيانها على مؤسسات سياسية ومدنية، تعلو الأفراد مهما كانت مراتبهم وانتماءاتهم العرقية والدينية والحزبية.

ج – تداول السلطة داخل هذه المؤسسات من القوى السياسية المتعددة، وذلك على أساس حكم الأغلبية مع حفظ حقوق الأقلية.

والأمر الأكثر إثارة في هذا الطرح الذي يقدمه الجابري حول الديمقراطية، هو تناولها بوصفها على وسيلة وهدفاً في نفس الوقت، حيث يقر بأن شق الوسيلة المتمثل بالديمقراطية السياسية، تبقى ضرورة حتمية من أجل توعية الجماهير، في حين أن شق الهدف، المتجلي في الديمقراطية الاجتماعية يعتقد بأنها هي الديمقراطية الحقة، بيد أن الديمقراطيتين تظل تربطهما علاقة جدلية، بحيث إن الديمقراطية السياسية لا يمكن تحقيقها خالية من الشوائب إلا في ظل الديمقراطية الاجتماعية، وهذه الأخيرة، لا يأتي العمل على تحقيقها إلا بفضل الأولى‏[20].

2 – الديمقراطية بين الإسلام والليبرالية في فكر الجابري

من الصعب الإقرار بصيغة الحسم، بأن الجابري في تبنيه الديمقراطية متحيز للمرجعية الإسلامية أو للمرجعية الليبرالية، لكن يمكن القول بأن الرجل متحيز للديمقراطية، ويفهم هذا من خلال قوله «نحن متحيزون للديمقراطية»‏[21]، وبما أن هذه الأخيرة خرجت من رحم المرجعية الغربية، فهل يمكن اعتبار الجابري متحيزاً بالتبعية كذلك لهذه المرجعية؟ وهل من الضروري أن يتبنى هذه المرجعية، ما دام هو مدافعاً عن أحد العناصر داخلها؟

ولكن أليس للتحيز أنواع مختلفة؟ ومن بين هذه الأنواع، هناك تحيز جزئي، يكون لعنصر واحد فحسب داخل منظومة معينة، كما يحدث حينما يستهوي مفكر غربي ما، كتاب أو نموذج شرقي، فهو لا يتبنى الرؤية الكاملة لحضارة صاحب الكتاب، بل يتبنى فقط العناصر التي يرى أنها يمكن استيعابها، في رؤيته هو للكون‏[22] والتي لا تتعارض مع مرجعيته.

كما أن التحيز الجزئي يمكن أن يكون عن وعي وكذلك عن غير وعي، ويبقى الأول سمة مرتبطة بالشخص الواثق بنفسه وفي هويته، الذي يدور في مجال رؤيتها، والواقف على أرضيتها الصلبة، وهو ممسك بميزان خاص به، يزن فيه كل ما يستورده من أفكار ونماذج معرفية خارجة عن منظومته، وهو لا ينتابه أي خوف من عملية الاستيراد هذه، لأنه ليس ضد الاستفادة مما ينتجه الغير والآخر، وليس من دعاة الانغلاق على هذين الآخرين، لكنه يرفض شيئاً واحداً فحسب، هو أن يحاول أحدهم أن يضع ميزاناً في يده، ليزن به هو ما يريده من المعارف والأفكار والأشياء‏[23]، وهنا يمكن القول، بأن الجابري واحد من هؤلاء الذين يقفون على أرضية صلبة، وبيدهم ميزان، يزنون به ما يستوردنه من فكر.

لذلك، فالجابري غير معني نهائياً بما تطرحه عملية استيراد فكر ما من إشكاليات، من قبيل مدى إمكان تطبيقه من عدمه في المنظومة العربية والإسلامية. فهو يعلم أنه حينما تستورد فكراً ما، فتلقائياً تقوم باستيراده بكل تطلعاته المستقبلية ومضمراته الأيديولوجية وأسسه المادية، لكن هذا الاستيراد لا يمكن أن يمر مرور الكرام‏[24]، بل بالضرورة يتم تحويله وإعادة تحويله داخل منظومتنا الفكرية، ليتمشى معها، ويؤكد الجابري أن هذه العملية ليست سهلة، لأنها تستوجب خروج الأمة من بوتقة الاستهلاك نهائياً، إلى مرحلة إنتاج الفكر وإنتاج العلم وإنتاج الفلسفة‏[25]، التي تمكن حقاً من القدرة على إعادة تحويل أي فكر مستورد، حسب ما يخدم المنظومة الفكرية التي استوردته.

ويظهر هذا بوضوح من خلال فكر الجابري، وبالأخص في انتقاده الديمقراطية السياسية كما هي مطبقة ومتعارف عليها في الغرب، التي تعني الحرية السياسية من جهة، أي تمكين المواطن من المشاركة السياسية في الانتخابات، ومن جهة ثانية تفيد الحرية الاقتصادية (الليبرالية)، أي تمكين المواطن من ممارسة نشاطه الاقتصادي بلا قيد‏[26]. ويبقى جوهر انتقاد الجابري لهذا النوع من الديمقراطية مبنياً على ماهيتها التي تؤسس للاديمقراطية، عبر عدم تخويل كل الفئات الاجتماعية إمكان الاستفادة مما تخوله من إيجابيات، وتقصير ذلك على الفئة الموجودة في فوقية المجتمع‏[27].

كل هذا في كفة، وإقراره بأن «الشورى غير الديمقراطية»‏[28]، في كفة أخرى، لأن قولاً كهذا، يوحي بأنه يرفض حتى الشورى التي خرجت من رحم المرجعية الإسلامية، في حين أن واقع الأمر يؤكد أنه يدافع عن الشورى بقوة، لكنه ينتقد فيها عدم إلزاميتها، وهذا ما يستشف من قوله «أن ما تردد في المرجعية الأولى للثقافة العربية الإسلامية، وأعني القرآن والسنة، من تنويه بالشورى والعدل، وحث على العمل بها، يمكن أن يجد اليوم آذاناً أخرى تجعل منها، وبالتالي من الديمقراطية بمعناها المعاصر، قيمة القيم فتؤسس عليها فقهاً سياسياً جديداً يجعل الشورى ملزمة – وليس معلمة فقط -، وينقل العدل من الآخرة إلى الدنيا، ويحرره من قيود الطاعة للأمير، ومن هاجس المماثلة بين نظام الطبيعة ونظام المجتمع»‏[29]. وهذا يعني أن الجابري يؤكد أن الشورى لو أصبغت بطابع الإلزام ستكون هي جوهر الديمقراطية، بل إنها ستنتقل بهذه الأخيرة، لتكون قيمة القيم.

وفي إطار عدم الإلزامية المرتبطة بالشورى، يرى الجابري أن الشورى ستظل غير مفعلة في العصر الحالي ما دامت غير ملزمة، كما أن وجودها سيبقى فاقداً المعنى، إلى أن تقترن بالأساليب الديمقراطية الحديثة، لأنه من غير الممكن ممارستها، إلا بوجود محددات رئيسية، تتجلى في تحديد دستوري، لمدة ولاية رئيس الدولة في الأنظمة الجمهورية، ولاختصاصات كل السلط، واختصاصات كل من رئيس الدولة والحكومة والبرلمان، وجعل هذا الأخير، ممثـلاً للأمة، ومصدر السلطة، ناهيك بإسناد مهام السلطة التنفيذية إلى الحكومة، التي تكون مسؤولة أمام البرلمان‏[30]، وأي محاولة لتطبيق الشورى غير الملزمة في الحياة السياسية، خارج آليات الديمقراطية هذه، يجعلها غير ذات معنى.

3 – الديمقراطية لدى الجابري وفق نظرية القيم السياسية

من المعلوم أن الديمقراطية وليدة المرجعية الغربية، وأن «الفقه الأوربي الغربي [يرى] أن […] القيمة الجماعية [في مرجعيته] هي قيمة الديمقراطية»‏[31]. فهل يعني هذا أن الجابري الذي استورد هذا المفهوم من هذه المرجعية، يؤمن بأن الديمقراطية هي قيمة، وأكثر من ذلك، بأنها هي قيمة جماعية كما هي في الغرب؟

في خضم محاولة الإجابة عن هذا التساؤل، عبر التعمق في بحر أدبيات الجابري، يتضح أن هذا المفكر، يعدّ الديمقراطية بمختلف أساليبها وآلياتها إرثاً إنسانياً، وأي رفض لها على أي مستوى، وعبر أي زاوية، يبقى موقفاً لا مبرر له‏[32]، وهذا ما يوحي بأن الجابري قد وضع قيمة الديمقراطية في ميزانه، الذي تمت الإشارة إليه سابقاً، وأخذ بالتالي ما يتمشى مع مرجعيته، أي المفهوم الديمقراطي وآلياته الممارساتية، وترك الصبغة القيمية الجماعية، التي تتسم بها الديمقراطية في الغرب، لأصحابها.

ما يزكي هذا الطرح، هو كون القيم أهدافاً مجردة، غير قابلة للإشباع كما أشير سلفاً، والجابري يرى حسب ما تم ذكره، أن الديمقراطية وسيلة (الديمقراطية السياسية)، – وهي ما يشكل قيمة جماعية في الغرب – وغاية كذلك (الديمقراطية الاجتماعية)، في الوقت نفسه، ويقر في هذا بأنه «متى تحقق هذا الهدف بتلك الوسيلة، أصبح الهدف وسيلة والوسيلة هدفاً»‏[33]. وبهذا يتضح أن الجابري يزيح عن الديمقراطية صبغتها القيمية، المتمثلة بكونها أهدافاً مجردة وعامة غير قابلة للإشباع، ويجعلها أهدافاً قابلة للتطبيق، وفي الوقت نفسه وسيلة لتحقيق أهداف أخرى.

يتأكد هذا بوضوح، من خلال رفضه القاطع التعريف اليوناني الخاص بالديمقراطية، الذي مفاده أنها حكم الشعب نفسه بنفسه، لأن هذا التعريف حسب تصوره، يجعل من الديمقراطية هدفاً لا يوجد له مجال للتطبيق، إلا في إحدى تلك المدن الفاضلة التي أنشاها أصحاب هذا التعريف، أي أن مضمون الديمقراطية من خلال هذا التعريف، يظهر أنه غير قابل للتطبيق‏[34]، وبتعبير آخر غير قابلة للإشباع، وهذا يتمشى مع موقع الديمقراطية كقيمة جماعية في الغرب، ولكن لا يتمشى نهائياً مع نظرة الجابري إلى الديمقراطية، ولا مع المرجعية التي ينتمي إليها.

ثالثاً: أسباب غياب الديمقراطية عن الوطن العربي بحسب الجابري

تعددت الأسباب التي أدت إلى تغيُّب الديمقراطية عن الوطن العربي، ولم تكن عملية التغيُّب هذه على مستوى واحد، بل كانت على مستويين رئيسيين: هما مستوى الوعي ومستوى الممارسة. وقد أسهمت في هذا التغيب ظروف واقعية وأخرى وهمية. كما أن هذه العملية قادتها قوى مجتمعية مختلفة، حاكمة ومحكومة، وعرفت مباركة جل القوى الخارجية، وكل حسب ما تقتضيه مصلحته الضيقة طبعاً.

أولى هذه الأسباب بحسب الجابري، هناك التأجيل الذي عرفته الديمقراطية، بذريعة أن هذه الأخيرة تستلزم أولاً، قبل تبنيها، أن يتم الوصول إلى مستوى معين من «نضج الشعب»، لأنه بدون هذا النضج تنقلب الديمقراطية إلى فوضى‏[35]، ويبقى هذا الطرح مردوداً عليه. ومن بين الردود نجد رد الجابري، الذي تضمن طابعاً هجومياً، تجاه دعاة هذا الطرح من المفكرين، لأنه يعتقد أنهم كانوا يعلمون جيداً أن الاستبداد والاستئثار بالسلطة، لا يتركان أي مجال أمام الشعب ليحقق هذا النضج، ورغم ذلك تبنوا هذا التوجه‏[36]، لأن هدفهم الأساسي كان تغيب الديمقراطية بمبرر نضج الشعب، وليس تكريس هذا الأخير، للوصول إلى الديمقراطية.

العامل الآخر الذي يؤشر إليه هذا المفكر، هو أن الوطن العربي مر بمرحلة عرف فيها موجة من الديمقراطية، وهي مرحلة الستينيات‏[37]، لكن للأسف الشديد تميزت هذه التجربة بسمات سلبية كثيرة، أهمها تزوير إرادة المواطنين واللوائح الانتخابية، وممارسة الضغط بمختلف أنواعه على الناخبين، ناهيك بأن الأحزاب الثورية التي قادت التجربة، تحولت إلى أحزاب إصلاحية، ومن بعد ذلك إلى أحزاب الأمر الواقع‏[38]، وهو ما أصبغ جل سلبيات هذه التجربة على الممارسة الديمقراطية.

زيادة على هذا، يستحضر الجابري أحد الأسباب المهمة في الموضوع، بتطرقه إلى تلك الانتقادات التي قادها المثقفون والوطنيون التقدميون في الوطن العربي ضد الديمقراطية السياسية، الذين كانوا يصبون اللعنات عليها، ولم يعتبروها مهمة، بقدر أهمية الديمقراطية الاجتماعية أو الاشتراكية‏[39]، التي لم تكن تخدم سوى أيديولوجيات هؤلاء المثقفين المؤدلجين، الذين لم يستطيعوا حتى أثناء محاولة خروجهم من بوتقة الأيديولوجيا، التخلص من إرثها الرث. على سبيل المثال، حينما صودف أحد قد امتلك الجرأة على الإقرار بأن الديمقراطية السياسية تحتوي على فائدة، فدائماً ما تجده يصر على التأكيد أنها لا يمكن أن تلمس هذه الفائدة، إلا في ظل الاشتراكية‏[40].

كما أن الجابري لا يتوقف عند هذه الأسباب فقط، بل تجده يشير بإصبع الاتهام إلى إسهام مختلف النخب العربية، التي ظلت تخشى الديمقراطية على وجودها، بداية من الأرستقراطية المدينية، التي رفضت الديمقراطية نهائياً، لكونها لا تهيمن على الأغلبية العددية من المواطنين. كما أنه حتى الطبقة المسيطرة، ظلت ترفض الديمقراطية، لكونها تعلم جيداً أن أي ممارسة ديمقراطية حقيقية، سيوازيها افتقادها لمركزها، أما في ما يخص الفئات المحتجة، فكانت هي الوحيدة التي تدافع عن الديمقراطية، إنما من أجل الوصول إلى الحكم فحسب، وبما أنها لم تصل إلى الحكم، عادت ورفضتها، بمبرر أنها تؤدي إلى وصول النخب العصرية إلى الحكم دون غيرها‏[41].

وينهي الجابري حديثه عن الأسباب التي غيّبت الديمقراطية عن الوطن العربي، بدعوى أن هذا الغياب شيء بديهي، لأن الديمقراطية كما يقر، كانت تدخل ضمن ما لا يقبل التفكير فيه، داخل الوطن العربي، لأنها ظلت مغيبة تماماً عن حقل تفكير مفكري الإسلام، فقهاء أو متكلمين أو فلاسفة، وهذا ما جعل الديمقراطية بالتبعية، تغيب نهائياً عن نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية‏[42]، وبالتالي غيبها كذلك عن الممارسة السياسية في الأقطار العربية.

رابعاً: أهمية الديمقراطية للوطن العربي في نظر الجابري

ينتهي الجابري إلى أن الأسباب التي أدت إلى غياب الديمقراطية عن الوطن العربي، لم تعد موجودة في حاضر هذا الأخير، وبالتالي فلم يعد هناك أي داع ولا مجال لتأجيل وتأخير تبني الخيار الديمقراطي من قبل الدول الوطنية العربية، تحت أي ذريعة من الذرائع، حتى من قبيل عدم اختمار الوعي الديمقراطي‏[43]، لدى شعوب هذه الدول.

ناهيك باندثار الأسباب السالفة الذكر؛ فالجابري يقر بأن الديمقراطية هي ضرورة ملحة بالنسبة إلى واقع الوطن العربي، وبالأخص مع ما يشهده هذا الأخير من تزايد في المطالبة بها، بحيث تعد أكثر الشعارات الرائجة في قائمة المطالب الشعبية، بل تعدت ذلك لتصير هي المطلب الجمعي في كل البلدان العربية‏[44].

كما أن إيمانه بالديمقراطية ليس منبثقاً من هذا فقط، بل هو منبثق بالأساس، من كونها تشكل في الوقت الحاضر، أكثر من أي وقت مضى، ضرورة حتمية، ليس من أجل تطور الوطن العربي فحسب، بل من أجل الحفاظ على وجوده‏[45]، واستمراره، بمختلف مكوناته وتنوع مشاربه، كما أن هذا يبقى رهين التحكم في كل شيء يقال فيه واحد، كالصوت الواحد، والفكر والواحد، والفهم الواحد، والحكم الواحد، وهذا لن يتم إلا عبر آلية الديمقراطية، المتجهة إلى تحقيق الوحدة‏[46].

من هنا، يمكن القول بأن هذه هي المعطيات هي التي جعلت الجابري يتبنى الديمقراطية، هذا التبني البعيد كل البعد عن الميولات العاطفية، والخاضع للتفكير المنطقي العقلاني، الذي فرض عليه أن يدافع عنها بقوة، إلى درجة أصبغ فيها تصوره لذاك المفهوم بغموض كبير، وهو ما خلق صعوبة في تحديد ما يقصده بالديمقراطية.

بالعودة إلى رؤيته في هذا الصدد، نجده يرى أن حقيقة جميع المشاكل داخل الوطن العربي هي غياب الديمقراطية. فالإشكال الذي يُطرح بصيغة العلمانية، في نظره هو تزييف لمشكل الدولة، سواء ألبست لبوساً علمانياً، أو لبوساً دينياً، أي أن مربط الفرس هو من يحكم، وما المبرر الذي يبرر سلطته ويؤسسها فعـلاً. بتعبير آخر، الأمر يخص مصدر انبثاق الحكم، هل من الإرادة الشعبية أم لا؟ وإلى أي مدى يحق ويمكن لهذه الأخيرة أن تغير من الحكم القائم‏[47].

ومن بين المشاكل التي يُعتقد أنها مزيفة كذلك، هناك إشكالية الطائفية، التي يرى بأنها مشكل قطري لا يعانيه إلا بعض الأقطار العربية، كما أن هذا المشكل داخل هذه الأخيرة، لا يكون بالمستوى الواحد، مما لا يجوز تعميمه على الوطن العربي ككل‏[48]. فإذا كانت هناك حقاً تعددية إثنية، أو دينية، أو لغوية، فليس من المنطقي طرحها على أنها قضية طائفية، ولا على أنها قضية عروبة/إسلام، لأن التعددية تنتمي إلى قضية الديمقراطية‏[49]، وبالتالي فلا بديل لتجاوز هذه التعددية الدينية والقبلية، إلا بآلية التعددية الحزبية‏[50]، التي توفرها الديمقراطية.

كما أن الديمقراطية حسب الجابري، ليست ضرورة وطنية فحسب، بل هي ضرورة قومية أيضاً، فإذا كانت الوحدة بالنسبة إلى العرب تشكل ضرورة لبقائهم ووجودهم، فإن هذه الوحدة تبقى من منظوره رهينة تحقيق الديمقراطية، لأنه لا يمكن القفز على الدولة القطرية، مما يفرض بالضرورة، انطلاق أي محاولة لتحقيق الوحدة من داخل هذه الدول ذاتها، عبر الضغط الديمقراطي داخل كل دولة، والذي يجب أن تتوافر له أرضية ديمقراطية، أساسها مؤسسات شعبية حرة، تُخضع الأجهزة الحكومية لها وتراقبها. آنذاك فقط، يمكن للقوى الشعبية العربية أن تشق طريقها نحو وحدتها المنشودة‏[51]، وأي محاولة أخرى خارج هذا الإطار، تظل خارج مسار التاريخ.

ما معناه، أن كل ظروف التخلف التي يعانيها الوطن العربي، من استبداد وتبعية وتجزئة وطائفية وتخلف اقتصادي وثقافي، رغم أنها بقايا عهد الانحطاط، ورواسب الاستعمار ونتيجة لهيمنة الامبريالية، إلا أنها تظل ملازمة للأمة العربية، ولا سبيل للقضاء عليها، إلا بقالب تنموي جدلي محكم، يجمع بين كل من الوحدة والتحرير ويخضع لقيادة الديمقراطية‏[52]، بشقيها السياسي والاجتماعي.

خاتمة

تخلص المقالة إلى أن في ثنايا فكر محمد عابد الجابري هناك تصور واضح للقيم أو لنظام القيم، وهو قريب مما يسمى «القيم السياسية» أدبيات نظرية القيم السياسية، إلا أن تصوره هذا في الحقيقة، يتجه بدرجة أولى نحو الأخلاق أو القيم الأخلاقية؛ فرغم طرحه بعض القيم من قبيل المساواة والحرية والصبر والخير، إلا أنه لا يحدد خيطاً فاصـلاً بين القيم الأخلاقية والسياسية والجمالية، بل إن كل القيم لديه تنتمي إلى حقل القيم الأخلاقية إن صح التعبير.

ويتأكد هذا بالأساس، من خلال ما أورده على أنه نظام للقيم في الثقافة العربية – الإسلامية، في كتابه العقل الأخلاقي العربي، هذا النظام الذي يرى أنه زاحمته موروثات عدة: يونانية، فارسية، صوفية، فأدى إلى غياب تام للقيمة المركزية الإسلامية عنه، المتمثلة حسب تصوره بـ العمل الصالح. ويلاحظ هنا أن تصور الجابري للقيمة الجماعية العليا في الإسلام مخالف لما هو متعارف عليه في أدبيات نظرية القيم السياسية، بالقيمة الجماعية العليا الإسلامية، المتجلية في التوحيد.

أما في ما يخص الديمقراطية، فالجابري يقر بأن هذا المفهوم منقول من الموروث الغربي، وأنه متحيّز له، ولكن ليس بمنحاز للموروث المنبثق منه، حيث يؤكد عدم وجود خلل في تحيزه هذا، ما دامت الديمقراطية لا تستبعد بأي صورة من الصور الإسلام. كما يخلص المقال إلى أن الديمقراطية، لا تشكل لدى هذا المفكر بأي شكل من الأشكال قيمة كالغرب. وينتهي أيضاً إلى أن ماهية الديمقراطية لدى هذا المفكر، تتحدد بالوظيفة التاريخية التي يرتهن عليها أن تقدمها للوطن العربي، وليس من الموروث الإسلامي، ولا من الموروث الغربي.

فالجابري ينتقد الديمقراطية الغربية نفسها، وينظر إليها على أنها وسيلة فقط يجب أن ترتبط بغاية هي الديمقراطية الاجتماعية، ليتشكل لديه ما يسمى الديمقراطية حسب تصوره، كما أنه يرى أن الأسباب التي أدت إلى غياب هذا المفهوم، على مستوى الوعي والممارسة في الوطن العربي قد اندثرت، وبالتالي لم يعد هناك من داعٍ لتأجيل تبنيها، لأنها هي السبيل الوحيد للقضاء على المشاكل التي تعتريه، كما أنها الطريق المعبد من أجل تحقيق وحدته المنشودة، والسبيل لركوب قطار التقدم، وكذلك الحفاظ على وجوده.

وهذا ما جعل الجابري يرفع شعار «الديمقراطية ضرورة»، على رغم أنه يعرف جيداً أن الديمقراطية ليست وليدة الموروث الإسلامي، لكنه يؤمن بأنه من الضروري «على الأم الراغبة في مولود جديد، أن تتحمل غثيان الوحم ووخزات الجنين وتقلباته»، ما يعني أن هذا هو ما على الوطن العربي أن يتحمله، إذا أراد «مولوداً جديداً» اسمه الديمقراطية.