سؤال المستقبل، هو سؤال يشغل الإنسان وحده، بوصفه كائنًا عاقلًا له القدرة والرغبة في تطوير مهارات وأساليب، يبتغي منها تجنّب أذى سابق، ويبني على هيكلها اطمئنانًا لاحقًا. المستقبل بطبيعته مُعقّد، لأنه لا يتجه إلى الغد إلا إذا انطلق من الأمس واليوم، من ماضٍ ثري بالخبرات وحاضر متوثب بالقدرات. هل هذا ما حصل فعلًا للإنسان في هذه المنطقة من العالم، أم أن غُصةً تحرق قلبه وتعطّل عقله مع إشراقة كل صباح، على هيئة سؤال مغاير، ألا وهو: كيف تبخّرت خمسون عامًا في الخراب؟

لم تكن حياة الإنسان في هذا المكان، طوال هذه المدة، إلا تنويعًا على أوتار الشقاء والحرمان والهدر والهزائم؛ هذا ما يقوله الماضي. وهو الماضي نفسه الذي فرّخ حاضرًا لا يزال يشهد طغيان القمع الذي يمارسه الحاكم على المحكوم بديلًا من المشاركة في الحكم وفي إدارة الشؤون العامة. كما أفرز واقعًا اتحدت فيه وسائل النهب مع الاحتكار عِوضًا من تنوع مصادر الدخل (الفردي والعام)، أما الشعوب فلم ينلها غير التشرد والشتات في جهات الأرض الأربع، هاربةً من بلدان تناهشتها الصراعات الأهلية أو كتمت على أنفاسها عصابات الظلم والاستبداد. أسوأ انتكاسات هذه العصابات أنها مهَّدت الطريق لعودة المحتلّ بشراسة أكثر وبصفاقة أوضح بدلًا من تنمية البلدان بسواعد شبابها وتكامل جيرانها. هكذا، قضى الإنسان العربي عقوده الخمسة الماضية منقادًا لأنظمة سياسية واجتماعية أعادت له إنتاج الهزائم المتوالية عبر النفخ في أجداث العصبويات القبلية والعرقية والطائفية والدينية. وتفنّنت في تشويه أي تبرعم واعد لدولة المواطنة المتكافئة. حاشدةً كل طاقاتها وخبراتها الإدارية والسياسية ومواردها المالية للتشويش على قيم الحرية والعدالة والمساواة؛ مدعيةً بأنها أفكار غريبة لا تصلح للنمو في الأرض العربية.

ولأن المستقبل محصول لبذور الماضي وعناية الحاضر، وليس منطادًا معلقًا في السماء، يَعدّ المخيالات الخصبة بالطيران، كان لزامًا العمل والمثابرة، وكان واجبًا حماية الإنسان، وصون حياته، وحفظ حريته، وحماية حقوقه، والذود عن أمانه الشخصي والنفسي والجمعي، مع إدامة استقراره، واتقاء الحروب المستنزفة لدمائه وطاقاته، وتجنب الجهل والجوع والمرض، والاعتناء بالمعرفة والعلم، واستثمار كل مورد طبيعي لاستنارة كل مورد بشري. إلا أن الذي وقع هو نقيض كل ما سبق! مع بعض الاستثناءات (أفرادًا وبلدانًا) التي لم تُمهل، حتى تشكّل أنموذجًا وقدوة.

أليس المستقبل في اللغة العربية من ذات الجذر لفعل: استقبل؟

فكيف يمكن استقبال فكرة، شخص، حدث، وكل سبب لقدومه لا وجود له!

هل حقًا فرّ المستقبل من حسبان العرب، أم هو ترف لم يعرفوه؟

لنفترض أن الحد الأدنى من التفكير والانشغال بالمستقبل يتطلب أسبابًا أساسية يعرفها الفرد أو الدولة دونما تعقيد أو مبالغة، من هذه الأسباب: استقرار واطمئنان على الحياة الشخصية والعامة من خلال الشعور بالسيادة والانتماء والثقة على أرضٍ وبين أشخاص مأمونٌ العيش بجوارهم، وتوافر الطعام الكافل لكمية طاقة غذائية تُعين على ممارسة حياة طبيعية ونشطة وصحية، مع الحصول على مناعة ضد الأمراض والأوبئة، وتوفر مستوىً مقبولًا من التعليم في إثره يستطيع الشخص القراءة والكتابة تمييزًا لشؤون حياته اليومية، وأخيرًا؛ عملًا يسدّ به رمقه ويشغل به وقته ويوفر له حاجاته؛ هي افتراضات الحد الأدنى للحياة الكريمة، لا حياة الرفاهة والدعة. وهي المتطلبات نفسها التي يسعى إليها الإنسان في أي مكان في العالم. فماذا تحقق طوال الأعوام الخمسين الماضية؟ هل تكرست السيادة للدولة الوطنية الراسخة والراعية لواجبات الأمن الإنساني من حريات وغذاء وصحة وتعليم ومعرفة وعمل؟ أم الحصيلة كانت: احتلال، وجوع، ومرض، وأميّة، وعطالة؟

لنُلقِ نظرة خاطفة على بعض الحقائق المُعلنة، التي لا يكذبها الميدان:

من بين 80 مليون لاجئ ومُهجّر قسرًا حول العالم، وفقًا لأحدث أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR [1] ثمة 15 مليون إنسان من الوطن العربي (من فلسطين، سورية، العراق، السودان، الصومال، اليمن)، اضطرُّوا إلى الفرار بسبب الصراعات التي جاوز عددها الخمسين صراعًا داميًا ما بين: حروب أهلية، ونزاعات قبلية وعرقية، واحتلال خارجي (إسرائيلي، أمريكي، فرنسي، تركي، روسي…). واقع دامٍ أحال الإرث البطولي لحركات التحرر الوطني ضد الاستعمار (في منتصف القرن العشرين) إلى أسطورة صعبة التصديق، إذ ما كادت فلول المستعمر الخارجي تغادر التراب العربي، حتى تكالبت حشود المستعمر الداخلي على الإنسان من كل حدب وصوب، إلى أن بلغت سخرية الأقدار حدًّا لا يقبله عقل سوي؛ حينما تعالت الأصوات تستصرخ المحتل وتستغيث به ليعود وينقذها من عبث الدولة الفاشلة بالمصائر والثروات[2].

هذه الملايين الـخمسة عشر ستمسي 26 مليون نازح عشية انتشار جائحة كورونا (كوفيد - 19) نتيجة هشاشة التدابير الوقائية والاشتراطات العلاجية للرعاية والحماية[3].

أما خريطة الجوع فقد اتسعت قبل غيرها من الجوائح، وزحف العوز والفقر والعطش بقوة إلى بلدان عربية حَبتها الطبيعة، طوال تاريخها، بالخيرات والثروات لموقعها على ضفاف أنهار وافرة ومحيطات شاسعة: فاليمن يعاني 40 بالمئة من سكانه الجوع! أما العراق، «بلاد ما بين النهرين» فإن 29 بالمئة من أهله يعانون الجوع، الذي يفتك بـ20 بالمئة من السودانيين، وأكثر من 12 بالمئة من الأردنيين، و11 بالمئة من اللبنانيين، بحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)[4]. في الوقت الذي تواجه فيه جميع البلدان العربية، بلا استثناء، أزمة «سيادة غذائية»؛ إذ إنها تستورد أكثر من 60 بالمئة من حاجاتها الأساسية من الغذاء وليس بمقدورها التحكم في أمنها الغذائي، لا من ناحية الكميات التي تحتاج إليها ولا من ناحية الأسعار التي تصرفها عليها. فضلًا عن مواجهة تحديات متزايدة في مسألة حيوية أخرى وهي توافر مياه شرب صالحة، غير ملوثة، ومُؤمّنة التوصيل بالتساوي للجميع، تكفي لتغطية الحاجات اليومية والضرورية للأجساد، الأمر الذي أصاب سكان المنطقة بأمراض مزمنة، وتسبب في عودة أوبئة ظن العالم المتمدن بأنه قد تغلّب عليها، إذ «أصاب وباء الكوليرا في اليمن إلى حد الآن 2. 3 مليون شخص وتوفي 4000 يمني به»[5]. وهو «الوباء الأسوأ الذي يشهده العالم حاليًا، حيث ينتشر في ظل تدهور أوضاع النظافة العامة وتردّي الخدمات الصحية، وانقطاع إمدادات المياه في جميع أنحاء البلاد. فهناك ملايين الأشخاص لا يحصلون على المياه النظيفة، بل وتوقفت خدمات جمع النفايات في كبرى المدن»[6].

كما تُنذر التقارير المتخصصة بـ «شيوع أمراض سوء التغذية ونقصان الحديد في الأغذية، اللذين يهددان النساء في الوطن العربي بفقر الدم المفضي إلى الوفاة عند الولادة، وضعف النمو لدى الأطفال، والإصابة بأمراض الهُزال والتقزم»[7]، ناهيك بدوامة الأمراض النفسية والاضطرابات العصبية التي تواجه الإنسان نتيجة العيش وسط كل هذا الخوف والرعب.

في بيئة كهذه، يجد الجهل طريقه سالكًا، ممهدًا لخطف ما تبقى من حياة، كما يتوافر للإرهاب العُدة البشرية الكافية لإشعال الأرض وإراقة الدماء وتأبيد التخلف الاجتماعي والفكري، وهذا ما تؤكده نسبة الأميين الذين يقدّر عددهم بنحو 74  مليون نسمة، أي ما يعادل 21 بالمئة من إجمالي سكان الدول العربية تقريبًا، أي ما يمثل 10 بالمئة من مجموع عدد الأمّيين في العالم»[8].

هذه الأمية التي تغيّرت معاييرها وتجاوزت مفهومها التقليدي الذي كان يتطلب «مجموعة مهارات في القراءة والكتابة والحساب» إلى أن غدا معرّفًا على «أنه القدرة على تحديد الأمور وفهمها وتفسيرها، وعلى الإبداع والتواصل، في عالم يزداد فيه الطابع الرقمي، ويعتمد على المواد المكتوبة، وثراء المعلومات وسرعة التغير»[9].

كل ما سبق من احتلال وجوع ومرض وجهل لم ينتج إلّا إنسانًا محطّمًا، المستقبل كلمة لا محل لها في قاموسه. جُلّ ما يشغله هو معاشه اليومي، في منطقة تعد أعلى مناطق العالم في نسب البطالة؛ إذ يعاني بالمئة 10 من إجمالي سكانها من التعطّل وعدم توافر أي فرص عمل، بينما لا يتجاوز المعدل العالمي في نسب البطالة 5.38 بالمئة فقط[10].

هل الصورة قاتمة إلى درجة العجز؟ هل لم يَعد للعرب متسع في المستقبل؟

الإجابة: كلا بالطبع. إن قتامة الواقع لا تعني الاستقالة من المستقبل. هذا المستقبل الذي لا ينبعث إلا من شجاعة الاعتراف باقتراف الأخطاء، مع العمل الجاد على الأسباب نفسها التي أدت إلى هذه النتائج الكارثية ومواجهتها كما يليق بالإنسان الذي ارتبط وتجذّر بالأرض العربية. هذه الأرض التي أحبها، وتعلّق بها، عُجن من آلامها وأوجاعها، وسقاها بدمه وبأحلامه، ولديه من الإرادة ما يكفي لنهوضها ورفع رأسه عليها.

اللبنة الأساس للولوج إلى المستقبل يتطلب دولة مسؤولة أمام شعبها بتنفيذ حكم ديمقراطي صالح، قائم على الحرية والعدالة والكرامة لكل إنسان من دون تمييز، دولة تتمتع ببنية قانونية ومؤسسية تتعاون مع أجهزة رقابية ومحاسبية يقظة، مصدرها الشعب، تمارس المساءلة لصون المال العام، دولة (بكل سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية) لا عمل لها إلا ضمان وحماية حقوق الإنسان، مؤطرةً بالمواطنة، القائمة على المساواة في الحقوق والمسؤولية في الواجبات والكفاءة في الفرص والشفافية في الممارسات.

وضع الشباب في عين العناية، هو قاطرة أخرى لنقل العرب إلى المستقبل، إذ يمثل الشباب أكثر من نصف سكان الوطن العربي. وبالتالي فإن أكثر من نصف المسافة الزمنية تجاه المستقبل قد قُطعت بسبب هذه الهِبة السكانية النفيسة، إذا ما تعهدت الدولة بتعليم هذه الفئة وتحصينها من الأمراض، وكفالة نظام غذائي صحي مستدام لها، وتوفير فرص عمل كريم وتمكينها في صناعة قرارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

على نحوٍ موازٍ؛ تُمثّل المرأة العربية الحاضن والأساس لأي تنمية إنسانية حقيقية. إن البحث عن مكانة في المستقبل لا يتأتى إلا بحقوق متساوية للمرأة؛ تعليمًا وتطبيبًا وتمكينًا في العمل والقرار. وإن كان ثمة بقاء يعوّل عليه، رغم كل الحرائق التي اكتوت بها المنطقة، وإن كان ثمة بناء يُتطلع إليه، فسبب أن المرأة في هذه المنطقة كانت، ولا تزال صاحبة إرادة لا تلين وصلابة عصية على كل محاولات الكسر والامحاء.

التحرر من الاحتلال ومن التدخلات الأجنبية في السيادة الوطنية هو عامل حاسم في مسألة المستقبل. وكما أوضحت التجربة، طوال العقود الخمسة الماضية، فإن قضية فلسطين لا تعني الفلسطينيين وحدهم، حيث أكدت الأيام، وبأثمان باهظة للأسف الشديد؛ أن التفريط في الحق الفلسطيني، أخلاقيًا وسياسيًا وإنسانيًا جرّ وراءه احتلالات متصلة، وتنازلات لا قعر لها. وبعد أن كانت مواجهات المحتلّ الصهيوني في عاصمة عربية واحدة هي القدس؛ ها هي الحواضر العربية الأبرز كبغداد ودمشق وبيروت وصنعاء وعدن وطرابلس تتفجّر بالصراعات الممولة بالمال العربي، وتخوض حروبًا مفتوحة مع بعضها، تستنزف كل طاقاتها البشرية والطبيعية. وتهدد حرية الإنسان وحقه في الحياة بكرامة واستقرار. حيث غدت المنطقة بؤرة طرد عالمية لكل فرص السلم الدولي والوئام الوطني.

وأخيرًا فإن الكلام على تكامل عربي في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة والمعرفة لم يعد من قبيل التنظير الفارغ من أي معنى، ولا ضمن تكرارات الخطاب الرائج طوال السنين الفائتة. على العكس، أصبح ضرورة ملحّة، أكثر من أي وقت مضى. هذه المرة بلغة المصلحة لا بلغة الشعارات، ومن واقع التحالفات الدولية الواسعة لا من قبيل أمنيات المصالح المحلية الضيقة. ومن منطلق الحاجات لا من منظور الترف والمبالغات. لا مفاجأة من الانسداد الشامل الذي تعيشه المنطقة اليوم، هو النتيجة التي توقعتها وتنبأت بها النخب المفكرة من أبناء المنطقة منذ بواكير ميلاد الدولة الوطنية، ومرحلة ما بعد الاستعمار. الراهن العربي هذا هو ما جنته سياسات تعطيل أي صيغة فعّالة في سبيل تكامل عربي منذ عقود. انسداد أوجدته ورعته دول الاستبداد والعسكرتارية والدكتاتورية والحزب الأوحد، بقطع النظر عن الزي الأيديولوجي الذي كانت تلبسه، سواءٌ كان يساريًا أو قوميًا أو إسلامويًا، ومهما كان الشكل العام الذي أصبغته على نفسها؛ ملكيًا كان أم جمهوريًا أم هجينًا من اللانظام. حيث اتفق الخصوم والحلفاء على هدف واحد: قهر الإنسان، هدر طاقاته، نهب موارده، محو المستقبل من ذهنه، بإشغاله بأساسيات العيش، وإغراقه بخطابات الكراهية واللاجدوى، من التعاون مع الجار القريب وتقزيمه، وتعظيم الصديق البعيد وتضخيمه، حمايةً لصفقات بقاء الأنظمة على حساب القيمة الحقيقة لتكامل الشعوب وتعاونها العابر للحدود. لقد تحوّل الأمر من البحث والتفكير والعمل على إقامة اتحاد اقتصادي يضمن حرية الحركة لعناصر الإنتاج (عمال، رأس مال، أفكار) إلى شيطنة الشقيق والجار ودفعه إلى العداء والشقاق من خلال إبداع أسباب للحروب والصراعات والتدخلات في الشؤون الداخلية. فكانت الهزيمة، وكان الخراب الذي اكتوى بنيرانه الجميع.

بيد أن المستقبل يبدأ من إدراك كل هذا، لا يعاديه ولا يُنكره، إنما يفهم جذوره، يُحّيد مساؤه، يبني جسورًا لتجاوزه، وأفكارًا مضادة لتفادي وقوعه ثانية، مع العمل الجاد وطنيًا والتكامل الصبور إقليميًا. فهل العرب مستعدون للبدء من جديد في طريق المستقبل؟.

 

قد يهمكم أيضاً  نحو إنهاء حالة الضياع العربي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المستقبل_العربي #حال_الأمة_العربية #الجوع_في_العالم_العربي #الوطن_العربي #العالم_العربي #التشرد #المشردين_في_العالم_العربي #الحروب_في_العالم_العربي #الصراعات #أطفال_العرب #التنمية_في_العالم_العربي #الضياع_العربي #تفتيت_المنطقة_العربية #الاحتلال #السيادة #الدولة_الوطنية