مقدمة:

يُحكى أن أحد مستشاري الخليفة العباسي هارون الرشيد نبهه إلى المخاطر المحتملة لزيادة إنفاقه على الجند، وكانت النصيحة على شكل حكاية قصيرة، قال: كان أحد الأعراب الذي يسكن في البادية يملك قطيعاً كبيراً من الأغنام والإبل، وكان يخاف من أن تفتك بها ذئاب البرية، التي كانت تهددها بالفعل، فقرر أن يربي عدداً كبيراً من الكلاب لحمايتها، ولم يمكنه دائماً توفير الطعام الكافي للكلاب، وحتى لا يصبح جوعها مصدر تهديد بدلاً من الذئاب، أخذ الأعرابي يذبح عدداً من الخراف والإبل وغيرها لإطعام الكلاب.

هذه الحكاية تختزل قصة الأمن في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وربما في مختلف مناطق وجهات العالم، وهي تحيل بكيفية أو بأُخرى إلى ميثولوجيا الراعي – القطيع أو الراعي – الرعية، التي ترد في أساطير العالم القديم وفي التوراة، على ما يقول ميشيل فوكو‏[1]، وتجد مثل ذلك في الأديان الأُخرى. ولكن منطقها العميق مستمر في فضاء السلطة والسياسة في المشرق على الأقل.

وعلى الرغم من أن الأمن هو هدف فوق كل هدف، ولا معنى لشيء من دون أمن‏[2]، إلا أن ثمة ما يجب التدقيق فيه والتحسب له، وهو أن تتحول الاستجابة لمدارك ومصادر التهديد إلى مصدر تهديد بحد ذاتها، سواء بالتسلط والقهر أو بالاستحواذ على موارد التنمية أو الإخفاق في تحقيق الأهداف المرجوة.

تعد المنطقة العربية والشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم إنفاقاً على السلاح، مقارنة بمناطق العالم الأخرى، وباعتبار نسبة ذلك من الناتج القومي الإجمالي‏[3]. وقد ضمت المنطقة سبعاً من الدول العشر ذات العبء العسكري الأكبر في العالم في عام 2017‏[4]، وفي مقدمتها السعودية وقطر والإمارات، إضافة إلى سورية واليمن كون الحرب الدائرة فيهما وعليهما منذ عام 2011.

قدر تقرير التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي لعام 2018 الذي يصدره معهد استوكهولم لأبحاث السلام الدولي والذي سوف نشير إليه اختصاراً بتقرير سيبري (SIPRI)، أن الإنفاق العسكري لدول منطقة الشرق الاوسط التي تتوافر في شأنها بيانات زاد بنسبة 6.2 بالمئة في عام 2017 عنه في عام 2016، إذ وصل الى 151 مليار دولار في عام 2017، ارتباطاً بطفرة الإنفاق العسكري السعودي وبالزيادات في الإنفاق العسكري لدى إيران والعراق‏[5].

ويُظهرُ الإنفاق العسكري الإجمالي لدول المنطقة التي تتوافر حولها بيانات زيادات متواصلة بين عامي 2009 و2015 بلغ مقدارها 41 بالمئة، لكن مع هبوط أسعار النفط انخفض إنفاق تلك الدول بنسبة 16 بالمئة بين عامي 2015 و2016‏[6]، بينما قدر الانفاق العسكري العالمي بـ 1739 مليار دولار للعام نفسه، وهو الأعلى منذ نهاية الحرب الباردة‏[7].

تتألف الدراسة من مقدمة وأحد عشر محوراً، أولاً: في المقاربة، ثانياً: في أولوية السلاح والتنمية، ثالثاً: السياسة الدولية وتدفقات السلاح، رابعاً: السلاح والسياسة في المنطقة، خامساً: الهيمنة والاختراق الخارجي، سادساً: الدولة وسياسات التسلح، سابعاً: بين التسلح والتنمية! ثامناً: سورية، صدوع الحرب، تاسعاً: سياسات التسلح في سورية، عاشراً: سورية، تحديات ماثلة، حادي عشر: شرايين سورية المفتوحة! وأخيراً خاتمة.

 

أولاً: في المقاربة

إن للجيوش والعسكر وقضايا الأمن والتسلح «أولوية» أو «قوامة» على ما عداها من قضايا السياسة في دول المنطقة العربية والشرق الأوسط اليوم، كما في تاريخها؛ كما تمثل المنطقة حيز تجاذب ومنافسة وصراع في النظام العالمي، ما يجعلها منطقة «مُدَوَّلَة»، و«لا داخل لها» تقريباً، إذ إن أي شأن من شؤونها أو شؤون أي من دولها وفواعلها هو شأن عالمي في آن، بما في ذلك الدفاع والأمن والسلاح والحرب والسلام والتنمية وغيرها.

تختلف عواملُ ودوافعُ التسلح بين دولة وأخرى، كما تختلف مداركُ التهديد أيضاً، وما يُمثّل فرصةً بالنسبة إلى طرف أو فاعل/دولة في المنطقة، يُمثِّلُ هو نفسه مصدرَ تهديد بالنسبة إلى فواعل أخرى، الأمر الذي يضع دول المنطقة أمام تحديات ومدارك تهديد دائمة.

التسلح وبناء مقدرات الأمن والدفاع هو حق وواجب من أجل مواجهة التحديات، ومقاومة العدوان واستعادة الأراضي المحتلة، ومقاومة مشروعات التسوية المفروضة وغير العادلة أو غير المتوازنة. مثلما أن تحقيق التنمية المتوازنة هو حق وواجب أيضاً، وهو لا يقل أهمية عن التسلح والأمن. وبين هذا وذاك ميزان بالغ التعقيد.

ثمة على الدوام، وفي أصل الموضوع، اختلافٌ كبير في «براديغم» الأمن والتنمية، وفي النظر لما يُمثل أمناً، فرصةً – تهديداً في المنطقة، وهل يمكن التوصل إلى اتفاق أو توافق متوازن ومستقر على ذلك؟

إن ما يُعدُّ تهديداً – فرصةً في عالم اليوم يتجاوز البعد العسكري التقليدي بدرجة كبيرة، وفي الوقت الذي تبرز فيه عوامل وفواعل تهديد – فرصة غير مسبوقة، من خلال سيولة في التدفقات التي يصعب حصرها كما يصعب التحكم بها، مثل الهجرات وأزمات البيئة والأمراض والأوبئة والكوارث الطبيعية وصولاً إلى بروز تحديات جديدة لعلاقات الأسرة والعمل والقرابة، وكذلك مدارك هوية وانتماء تتجاوز الوطن والدولة إلى البعد العالمي، فإن مفاهيم الأمن، وبخاصة البعد العسكري منه، يشهد جملة من التغيرات، ذلك أن ثورة التكنولوجيا العسكرية وثورة المعلومات وإنتاج السلاح والقدرة على التدمير الفائق، أصبحت أكثر انتشاراً، كما برزت شبكات عمل عسكري عابر للدول، وشبكات الجريمة والمنظمات الإرهابية عالمية النشاط، وبروز أنماط جديدة من العمل أو التهديد مثل «الحروب الهجينة» و«الحروب اللامتماثلة»، «والحروب الاستباقية»، و«الحروب المقدسة»، والتزايد الكبير في العنف والتهديد وضحايا الحرب على مستوى العالم.

ما الذي يدفعُ دولَ المنطقة، ومنها سورية، إلى وضع اعتبارات الأمن والعسكرة والسلاح في مقدمة أجندتها، وما الذي يدفعها إلى إعطاء «قوامة» أو «أولوية» للإنفاق العسكري على أنماط الإنفاق الأخرى مثل التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل أن الإنفاق على السلاح زائدٌ على الحاجة أو «بلا معنى» أم أنه أمر لا بد منه وربما أقل من متطلباته بالفعل؟ وهل أن الإنفاق على السلاح والجيوش هو نتيجة «خطأ» في تقدير أولويات دول المنطقة؟ وهل يكون الإنفاق على السلاح على حساب التنمية دوماً؟ وهل ثمة خيار أمام المنطقة لأن تسلك سُبُلاً أخرى؟ وهل يمكن لأي دولة في عالم اليوم ألّا تضع اعتبارات الأمن والعسكرة في مقدمة أجندتها؟ وما هي سياسات الأمن والتسلح لدى سورية قبل الحرب وخلالها، وأي أولويات لديها وما هي التحديات المحتملة في مرحلة ما بعد الحرب؟

 

ثانياً: في أولوية السلاح والتنمية

تُمثّل أولويةُ الأمن، أو الاستجابة لمدارك الأمن، ما يمثل تهديداً – فرصةً، أحد بداهات أو مسلّمات السياسة في عالم اليوم. وأما أن تمتلك الوحدة الدولية/الدولة موارد كافية للإنفاق العسكري أم لا، فهذا أمر مختلف. صحيح أن متطلبات الأمن والتسلح تتفوق في هذه الحالة، وتستحوذ على المزيد من الموارد على حساب التنمية، إلا أنه «لا بد مما لا بد منه»! إذ لا معنى لأي تنمية في ظل التهديد. وهنا لا بد من أن تكون سياسات الأمن والدفاع هي بالمعنى الواسع أيضاً، أي أن تشمل – ما أمكن – متطلبات التنمية والمشاركة السياسية وعوامل القوة والاستقرار الأخرى. وهذا باب فيه نقاش كثير.

في المقابل، إن امتلاك الوحدة الدولية للموارد يُمكّنها من الإنفاق على الأمن والتسلح، والموارد هي «شرط لازم»، ولكنه «ليس كافياً»، إذ إن امتلاك السلاح وحده لا يكفي، وبخاصة إذا افتقرت الدولة إلى إمكانات القوة الأخرى، مثل: رأس المال البشري، والخبرة والمكانة، وما يمكنها من مباشرة أهداف أمنية واستراتيجية تتجاوز «ضمان» أمنها في الداخل و«احتواء» مصادر التهديد من الخارج، إلى تحقيق مصالح مادية ورمزية أكبر.

التسلح ليس عائقاً بذاته أمام التنمية، كما أن خفض الإنفاق على السلاح والجيوش لا يعني بالضرورة زيادة الإنفاق على التنمية، وبخاصة في بيئة إقليمية ودولية تضع فواعل المنطقة في حالة مواجهة دائمة فيما بينها، وحالة استنزاف دائم للموارد. وما يجب التركيز عليه، ليس تقليص الإنفاق بقدر ما هو:

– مراجعة وحوكمة سياسات الأمن والتسلح.

– إعادة التفكير بما يمثل فرصة – تهديداً بالفعل.

– البحث في أي استجابة ممكنة حيال مصادر التهديد، بالاعتماد على موارد الداخل أو الخارج، بما في ذلك أنماط التفاعلات والتحالفات.

 

ثالثاً: السياسة الدولية وتدفقات السلاح

تُمثل ظاهرةُ التسلُّح وأسواق السلاح في العالم، جزءاً من العلاقات والتفاعلات الاقتصادية الدولية، بمئات المليارات من الدولارات، وثمة فواعل ومؤسسات وشركات صناعة السلاح الكبرى، وقد تضمنت قائمةُ تقرير سيبري (SIPRI) للدول المئة الأكثر إنتاجاً للسلاح، 38 شركة أمريكية، و10 روسية، و8 بريطانية، و6 فرنسية، و3 ألمانية… إلخ‏[8] وتمثل شركات إنتاج السلاح جزءاً من فواعل صنع القرار العالمي.

هنا لا بد من تأمين تدفق تلك المنتجات إلى زبائنها وطالبيها، بالتوازي مع التدفقات الحاصلة في كل شيء تقريباً، بما في ذلك عوامل التهديد، وفواعله، وشبكاته حول العالم‏[9]. وإن لم يكن ثمة مصادر تهديد فعلية، فليكن ثمة مصادر تهديد افتراضية أو متخيلة، أو حتى اختلاق مصادر تهديد وإشعال فتيل الأزمات والنزاعات، لا بد من الاستمرار في العمل!

بالنسبة إلى الموردين الكبار حول العالم بحسب الصادرات الإجمالية للفترة (2013 – 2017) والحصة المئوية ( بالمئة) لكل منهم وفق معايير سيبري، تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى بـ 34 بالمئة، تليها روسيا 22 بالمئة، فرنسا 6.7 بالمئة، ألمانيا 5.8 بالمئةـ الصين 5.7 بالمئة، المملكة المتحدة 4.8 بالمئة، إسبانيا 2.9 بالمئة، «إسرائيل» 2.9 بالمئة، إيطاليا 2.5 بالمئة، هولندا 2.1 بالمئة‏[10]. (انظر الجدول الرقم (1)).

انظر الجدال في بريطانيا مثــلاً، وحتى في الولايات المتحدة، حول تورُّط سلطات البلدين المذكورين في صفقات السلاح والمشاركة في إدارة العمليات العسكرية التي تقوم بها السعودية (وتحالفها) في اليمن. وكيف أن لندن وواشنطن تركزان على المكاسب والريوع المادية والسياسية من تلك الحرب.

الجدول الرقم (1)

الموردون الخمسون الكبار للأسلحة الرئيسة 2013 – 2017

المرتبةالموردةحجم الصادرات

قيمة مؤشر الاتجاه، ملايين

التغير (بالمئة) مقارنة بـ 2008 – 2012الحصة (بالمئة) 2013 – 2017
2008 – 20122013 – 20172013 – 20172017
11الولايات المتحدة50062123942534
22روسيا317226148−7.122
43فرنسا97062162−276.7
34ألمانيا84691653−145.8
55الصين83121131385.7
66المملكة المتحدة69521214374.8
77إسبانيا4262814122.9
108إسرائيل42481263552.9
99إيطاليا3590660132.5
1110هولندا31011167142.1
811أوكرانيا2481240−261.7
1512كوريا الجنوبية17845876.51.2
1313سويسرا1322186−110.9
1214السويد125683−530.9
2115تركيا11642441450.8
1416كندا109587−180.8
1617النرويج862134140.6
2018روسيا البيضاء65323120.4
2219أستراليا46997150.3
3620جمهورية التشيك4481104670.3
1721جنوب أفريقيا35674−510.2
3822الإمارات العربية المتحدة319723200.2
2423فنلندا31358−5.70.2
2324البرازيل27945−200.2
2925البرتغال25356740.2
2826الأردن24277360.2
5327إندونيسيا19610220780.1
4228الهند189562780.1
2629بولندا1843−120.1
4630بلغاريا1663370.1
3131رومانيا108−2.70.1
1832أوزبكستان102−840.1
3033سنغافورة98−320.1
1934بلجيكا9712−320.1
2735النمسا9122−490.1
3436الدانمارك8912−4.30.1
2537إيران8810−630.1
3538صربيا812−120.1
5239سلوفاكيا51222920
..40هنغاريا41..
..41أيرلندا39−630
..42اليونان3030..0
..43مصر30..0
3344تشيلي200..0
3945نيوزيلندا174−770
..46جورجيا147..0
5047قيرغيزستان14500
4748بروناي دار السلام12−500
..49السودان11..0
6150كولومبيا1010..0
..5117 دولة أخرى11230..0.1
المجموع1456233110610..

ملاحظات: (..) = بيانات غير متاحة أو غير صالحة للتطبيق. ( – ) لا توجد شحنات. القيم اعلاه تحيل إلى عمليات نقل السلاح الفعلية، وإلى حجم العمليات وليس القيم المالية لتلك العمليات.

المصدر: التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي: الكتاب السنوي 2018، ترجمة عمر وأمين سعيد الأيوبي؛ إشراف وتحرير مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2018)، ص 237 – 238.

مثلت صفقات السلاح بنداً رئيساً في سياسة الولايات المتحدة تجاه عدد من الدول مثل: السعودية التي التزمت أو ألزمت بطلب صفقات بمئات المليارات من الدولارات، و«كانت السعودية ثاني أكبر مستورد للأسلحة في العالم في الفترة 2013 – 2017، حيث زادت وارداتها بنسبة 225 بالمئة مقارنة بالأعوام 2008 – 2012.

وخلال المدة 2013 – 2017 استوردت المملكة 61 بالمئة من أسلحتها من الولايات المتحدة، و23 بالمئة من بريطانيا‏[11]. وثمة دول أخرى مثل الإمارات وقطر ومصر، يتحدث عنها تقرير سيبري (SIPRI)، لكنه لا يضع تلك الصفقات تحت بند الإكراه أو الإلزام أو الريعية أو التمثل‏[12]. وهذا باب فيه تقديرات كثيرة. (انظر الجدولين الرقمين (2) و(3)).

 

الجدول الرقم (2)

المستوردون الخمسون الكبار للأسلحة الرئيسة 2013 – 2017

المرتبةالمتلقيحجم الواردات

قيمة موشر الاتجاه، ملايين

التغير (بالمئة) مقارنة بـ 2008 – 2012الحصة (بالمئة) 2013 – 2017
2008 – 20122013 – 20172013 – 20172017
11الهند1804933582412
92السعودية14805411122510
213مصر657323552154.5
104الإمارات6370848514.4
25الصين57861117−194
86أستراليا555818067.53.8
57الجزائر54149050.83.7
178العراق49287121183.4
39باكستان4147710−362.8
2610إندونيسيا401411961932.8
1911فيتنام3990690812.7
1112تركيا3539410−142.4
413كوريا الجنوبية3239918−502.2
714الولايات المتحدة2930547−442
4115تايوان28464932612
5916عُمان25467836551.7
3617إسرائيل24745281251.7
1618المملكة المتحدة2260899−1.51.6
5719بنغلادش22393205421.5
4020قطر22126701661.5
621سنغافورة2149428−601.5
3722إيطاليا20437941111.4
3223أذربيجان1907279551.3
1824اليابان1805500−191.2
1325فنزويلا1533−401.1
2826كندا1470295141
6527الكويت14351134881
1528اليونان140256−441
4429تايلند1309310930.9
1230المغرب1309351930.9
6331كازاخستان11332093080.8
5532فنلندا11101002080.8
3933الأردن1104386260.8
2234أفغانستان1064250−480.7
4335المكسيك1041218530.7
2936ميانمار1024167−200.7
3037البرازيل882103−310.6
3138بولندا872197−300.6
5039تركمنستان82075960.6
2040النرويج749361−650.5
9141الفلبين7442716910.5
1442ماليزيا7442716910.5
7143البيرو668643120.5
7944روسيا663343120.5
3845كولومبيا651102−330.4
2746إسبانيا60472−540.4
3347هولندا55635−520.4
5248نيجيريا53626420.4
7449روسيا البيضاء4911452210.4
4550السودان46254−310.3
....153 جهة أخرى94881556..6.7
المجموع1456233110610..

ملاحظات: (..) = بيانات غير متاحة أو غير صالحة للتطبيق؛ ( – ) = لا يوجد شحنات؛ القيم أعلاه تحيل على عمليات نقل السلاح الفعلية، وعلى حجم العمليات وليس القيم المالية لتلك العمليات. يشمل الجدول كل الدول والفواعل من غير الدول التي استوردت أسلحة رئيسة في الفترة 2013 – 2017، الدول مرتبة بحسب إجمالي وارداتها. والأرقام هي قيم مؤشر اتجاه سيبري (SIPRI). وتم تدوير بعض النسب المئوية التي تجاوزت الـ 10 بالمئة إلى أقرب رقم صحيح، بينما تم تدوير النسب المئوية الأقل من 10 بالمئة إلى كسر عشري واحد. هذا يعني أن ناتج جمع الأرقام الواردة ربما لا يكون مطابقاً للمجموع المذكور.

المصدر: المصدر نفسه، ص 246 – 247.

 

الجدول الرقم (3)

المستوردون والموردون العشرة الكبار للأسلحة الرئيسة 2013 – 2017

الموردالمستورد
الهندالسعوديةمصرالإماراتالصينأسترالياالجزائرالعراقباكستانإندونيسيا
أستراليا3.3
روسيا البيضاء2.90.8
البرازيل0.10.62.2
بلغاريا0.10.052.3
كندا0.71.40.60.70.30.40.5
الصين0.20.20.5..150.3705.6
جمهورية التشيك4.00.1
فرنسا4.53.63733146.90.50.46.8
ألمانيا0.71.86.32.10.70.7130.60.17.3
إسرائيل11
إيطاليا0.21.50.36.62.96.53.43.50.4
الأردن3.3
هولندا0.20.50.62.60.711
روسيا62211.46559225.710
جنوب أفريقيا0.20.10.051.30.40.05
كوريا الجنوبية0.98.712
إسبانيا2.43.84.6266.00.22.7
السويد1.13.40.41.90.50.2
سويسرا0.41.83.90.90.93.4
تركيا1.3..0.1
الإمارات العربية المتحدة2.5..0.1
أوكرانيا1.28.410.50.1
المملكة المتحدة3.22312.80.31.30.317
الولايات المتحدة15612658610.4561216
أوزبكستان0.10.60.30.40.70.60.90.11
آخرون0.10.60.30.40.70.60.90.11

ملاحظات: (..) = بيانات غير متاحة أو غير صالحة للتطبيق؛ ( – ) = لا يوجد شحنات.

المصدر: المصدر نفسه، ص 248 – 249.

رابعاً: السلاح والسياسة في المنطقة

في المنطقة العربية والشرق الأوسط ولعٌ شديد باستيراد السلاح قد يزيد على الحاجة الفعلية، وقد كان الأمر كذلك خلال عدة عقود خلت، غير أن مدارك التهديد وطموحات التأثير والمكانة واتجاهات الدول إلى احتواء ما تجده مصادر تهديد في البيئة الإقليمية، إضافة إلى الريوع السياسية من صفقات السلاح، وكان جانب منها يأتي في إطار «إلزامات» و«التزامات» نمط العلاقة بين دول المنطقة والدول الكبرى الحامية أو الراعية أمنياً.

يتحدث تقرير سيبري لعام 2018 عن أن واردات المنطقة من السلاح زادت بنسبة 103 بالمئة بين الخمسية 2008 – 2012 و2013 – 2017. وخلال الفترة 2013 – 2017 أُرسل 31 بالمئة من شحنات الأسلحة التي استوردتها المنطقة إلى السعودية، و14 بالمئة إلى مصر و13 بالمئة إلى الإمارات. ولم تستورد إيران غير 1 بالمئة من واردات المنطقة من السلاح‏[13].

إن التدفقات الكبيرة من السلاح «تتزامن» مع اندلاع أزمات ونزاعات وحروب متعدّدة ومتداخلة في المنطقة، ونحن هنا لا نتحدث عن «سبب ونتيجة» بصورة مباشرة، أي أن تدفق السلاح أدى إلى انفجار أزمات الإقليم، ولا العكس، إنما عن علاقة مركبة ومتداخلة بين مدارك التهديد – الفرصة وبين أنماط الاستجابة لدى فواعل الإقليم، ومن بينها أنماط التدخل العسكري في دول أخرى كما تفعل السعودية والإمارات وقطر مثــلاً في الحروب الدائرة في سورية واليمن وليبيا، بدعم جماعات مسلحة مختلفة، وإمداداها بالمال والسلاح والمقاتلين ومختلف أنماط الدعم الأخرى، بما في ذلك إدارة العمليات العسكرية والاستخبارية.

غير أن ما حدث في المنطقة العربية والشرق الأوسط في ما سُمّي «الربيع العربي» كان مؤشراً على أن:

– مدارك الأمن وسياسات الإنفاق العسكري لم تكن مطابقة للواقع بالفعل، وأن ثمة فجوة كبيرة في هذا الباب.

– لا أحد من فواعل المنطقة يستطيع القول (أو الادعاء) بأن مدارك الأمن لديه كانت تُقرأ جيداً أو أن سياسات الأمن كانت تستشعر أو تستشرف أو تتحسب بالتمام لما يمثل تهديداً بالفعل.

– تخصيص مئات مليارات الدولارات، وإعداد سياسات الأمن والإنفاق على التسلح، على أهميته، إلا أن أكثره لم يكن في مكانه، ولم يحقق أمناً.

– سياسات الأمن والدفاع «ممسوكة» أو «محكومة» بحدود وسقوف فواعل الهيمنة والاختراق الخارجي، كما أنها محكومة بتجاذبات وحدود القوى على مستوى الإقليم، وباعتبارات السيطرة داخل الدول نفسها.

– تبدو سياسات إدارة تدفقات السلاح جزءاً من مشاريع دولية وإقليمية تريد «هندسة» و«تكييف» الأمور لصالح «تسويات» أو «صفقات» لا تراعي مصالح شعوب المنطقة ولا حقوقها التاريخية، ونخص بالإشارة فلسطين؛ أو «الاحتواء» الأمني والعسكري والاستراتيجي لـ «فواعل مقاومة» الهيمنة العالمية.

– تمثّل إسرائيل «عامل التهديد» الرئيس في المنطقة العربية، من منظور «فواعل المقاومة»، و«عامل توازن» و«تعديل» لاتجاهات القوة، وربما حليفاً، من منظور «فواعل الاعتدال» التي تدفع نحو تأسيس «ناتو إقليمي» ضد ما تعدّه تهديدات إيران في الإقليم.

– أن مشاريع التنمية والتمويل وإعادة الإعمار مشروطة أو محكومة بالسياسة واعتبارات الأمن الإقليمية والدولية، وتقع تحت تأثير فواعل رئيسة، وبخاصة الولايات المتحدة، إضافة إلى تأثير أقل من قبل فواعل أخرى مثل روسيا والصين وأوروبا.

خامساً: الهيمنة والاختراق الخارجي

ثمة شعور في المنطقة العربية والشرق الأوسط أن الغرب لا يريد لدولها وشعوبها أن تشهد استقراراً يمكن أن يهيئها لتنمية فعلية ومتوازنة وقابلة للاستمرار. ثمة استنزاف دائم للموارد والسياسات؛ والمعضلة أن نظم الحكم في المنطقة، هي شريك موضوعي للغرب في هذا الباب، وهي على العموم، استبدادية وفاقدة للمعنى وللشرعية في نظر المجتمعات والشعوب، وتعتمد على العسكر (أو على الحماية الأجنبية) في بقائها واستمرارها. والمعضلة أيضاً أن أكثر النخب الفكرية والسياسية، بما فيها مراكز الأبحاث، هي بين تمثلين أو استبطانين رئيسين على الأقل لمصادر التهديد – الفرصة: (1) تمثل/استبطان ما يريده السلطان، (2) والذي بدوره يتمثل أو يستبطن ما يريده الغرب.

أما فواعل «خط المقاومة» في المنطقة، إذا كان بالإمكان الحديث بهذا المعنى، فلديها مقاربة مختلفة لما يمثل فرصة – تهديداً في الإقليم، لكنها على الرغم من كل ما تقوله هي ويقال عنها، إلا أنها لا تذهب بعيداً في أجندتها، هي تقاوم فحسب، بمعنى أنها تحاول أن تنهج سياسات أمن وتسلح ترى أنها تستجيب لمدارك التهديد القائمة أو المحتملة، مُحاوِلَةً «احتواءها» أو «الحد من تأثيرها»، وليس لديها تطلعات أو إمكانات لتغيير كبير في الإقليم والعالم! وهذا يتطلب المزيد من التدقيق والتحليل‏[14].

 

سادساً: الدولة وسياسات التسلح

قامت الدولةُ في المنطقة العربية والشرق الأوسط، إن أمكن لنا الحديث عن قيامة فعلية أو حقيقية للدولة، بتأثير وازعٍ عسكريٍّ في المقام الأول. والواقع أن علاقة القوة والسلاح والعسكرة والجند بالدولة أو السلطة هي أمر قديم ومتجدد‏[15]. وثمة في كتب الآداب السلطانية ومرايا الأمراء والملوك الكثير مما يضع الجند والعسكر في مقام التأسيس – التدمير للدول والسلطنات عبر مراحل مختلفة من تاريخ المنطقة‏[16]. وهذا مستمر بأنماط وأشكال مختلفة حتى اليوم. وقد كشف سياسات التسلح في المنطقة‏[17]، ما ظهر منها على الأقل، عن:

– أولويات دول ونظم الحكم فيها، والجوانب الحاكمة لسياساتها العميقة.

– تخصيص للكثير من الموارد المادية والمعنوية من أجل بناء الجيوش والقدرات العسكرية.

– لكن من دون أن يحقق ذلك – حتى الآن – تطوراً جدياً في تلبية حاجات السلام والأمن والاستقرار ومن ثم التنمية، لمجتمعات وشعوب المنطقة.

– بل لعل ظاهرة التسلح تكون – في جانب منها – أحد مداخل أو فواعل حالة المواجهة والصراع المستمرة بلا انقطاع في المنطقة.

– مستوى الإنفاق العسكري بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، مقارنةً بمناطق ودول أخرى حول العالم، هو الأعلى في العالم تقريباً، إذ إن النسبة العالمية هي 2.2 بالمئة في عام 2017، وهي 5.2 بالمئة في منطقة الشرق الأوسط للعام نفسه، أما في أفريقيا فبلغت 1.8 بالمئة، وآسيا وأوقيانيا فبلغت 1.7 بالمئة‏[18].

والسعودية هي أكثر دول المنطقة إنفاقاً على التسلح، وثالث أكبر دول العالم إنفاقاً في عام 2017، وقد زادت إنفاقها العسكري بنسبة 74 بالمئة بين عامي 2008 و2015، ثم تراجع بنسبة 29 بالمئة عام 2016 وعاود الارتفاع بنسبة 9.2 بالمئة عام 2017‏[19]. وكانت الإمارات ثاني أكبر دول المنطقة إنفاقاً على السلاح عام 2014، بالنظر إلى تورطها (ومثلها السعودية وقطر) العسكري في سورية واليمن وليبيا، ولم تتح تقديرات لإنفاقها في الأعوام التالية‏[20].

– يمثل الإنفاق على السلاح في بعض الحالات أو في الكثير منها، وهذا ما تتكرر الإشارة إليه، ظاهرة في الريع السياسي، ربما هو نوع من الضغط والإلزام السياسي. يمكن الإشارة هنا إلى تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن على الدول المستفيدة من الحماية والمظلة الأمنية الأمريكية «أن تدفع مقابل ذلك»، موجهاً كلامه إلى حلفاء بلاده في أوروبا والناتو، وإلى حلفائه في المنطقة أيضاً، وهذا يفسر صفقات السلاح بمئات مليارات الدولارات بين الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية مثــلاً.

– من الملاحظ أن الدول التي تمتلك قدراً كبيراً من الموارد، مثل دول الخليج، تُنفق أكثر فأكثر على السلاح، وهنا من غير المُرجح أن يكون ثمة دالة ارتباط سلبية بين معدل الإنفاق على التسلح وبين الإنفاق على الجوانب الأخرى. ذلك أن الإنفاق على التسلح وزيادة الارتباط بالدول الراعية أمنياً وعسكرياً، يعزز مدارك الأمن والاستقرار لدى الدول المعنية.

– ثمة دول عربية لديها مدارك تهديد عالية، ومتطلبات إنفاق على السلاح والجيوش أكبر من قدرتها أو إمكاناتها المادية على الإيفاء بها، الأمر الذي يؤدي إلى تفاوت في المستويات بين الإنفاق العسكري والانفاق على التنمية، إذ ينطلق فواعل السياسات فيها من أنه لا معنى لأي إنفاق على التنمية، إذا لم تؤخذ متطلبات الأمن بالاعتبار، ما أمكن. ولا بد من أن يكون معنى الأمن هنا واسعاً وكُلياً، ولا يقتصر على أمن نظم الحكم.

 

سابعاً: بين التسلح والتنمية

أظهرت سنوات الاضطراب التي شهدتها المنطقة منذ عام 2011 وحتى اليوم أن دول المنطقة «لا داخل لها»، كما سبقت الإشارة، وأن الخارج معني بأدق تفاصيل دواخلها، والكل معني بالكل، يتدخل في شؤونه، ما أمكنه ذلك، وهذا يفسر حجم التورط والتورط المتبادل في قضايا الإقليم، فضــلاً عن حجم التورط الدولي وبخاصة من جانب فواعل الهيمنة الغربية على المنطقة. وما جرى في ليبيا واليمن وسورية خير مثال على ذلك. إذ إن الحرب محكومة – بدرجة كبيرة وأحياناً مُقرِّرَة – بتوافقات إقليمية ودولية، دولية في المقام الأول، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التسويات والحلول في الدول المذكورة‏[21].

إذا أمكن «تحييد» الاعتبارات والدوافع الداخلية في سياسات الأمن والتسلح، نعني الاعتبارات والدوافع الخاصة بالعلاقة بين المجتمع والدولة أو بين الحكومات والنظم السياسية وبين المجتمع، فسوف يكون للتجاذبات الإقليمية والدولية تأثير أكبر. ثمة قضايا كبرى تجعل من الأمن والعسكرة والتسلح في مقدمة الأولويات، نظرياً وعملياً، في طليعتها: الصراع مع إسرائيل؛ الصراعات بين الدول العربية وإيران؛ الصراع مع تركيا؛ أنماط التجاذبات والتحالفات والاصطفافات في الإقليم؛ أنماط التغلغل والاختراق الخارجي وكيفية حضور القوى الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة، في المنطقة، ومحاولتها رسم حدود التوافق والنزاع، وحدود التقارب والتنافر، وحدود الإنفاق على السلاح واتجاهات الأمن والدفاع… إلخ.

في ضوء التداخلات القائمة في الإقليم، وطبيعة التجاذبات الدولية حوله، يبدو أن البحث عن «نقطة» أو بالأحرى «مجال توازن» بين العسكرة والتنمية هو نوع من «مزاولة المستحيل»، ولا يلوح في الأفق أي أمل بأن فواعل المنطقة وفواعل التدخل الدولي يمكن أن يتوصلوا قريباً إلى توافقات حول متطلبات الأمن والسلام. بل إن المنطقة في صراع محموم على المعنى والقوة، وعلى كل شيء تقريباً.

 

ثامناً: سورية، صدوع الحرب

مثَّلَت الأزمةُ السورية «خط الصدع» في السياسة الإقليمية والدولية، وقد كان العالم – في بعض مفاصل الأزمة – قاب قوسين أو أدنى من حرب كبرى انطلاقاً من سورية‏[22]؛ كما مثلت الأزمة تحدياً لمدارك ونظريات وتقديرات الأمن والدفاع وسياسات التسلح باعتبارين رئيسين:

– الأول هو أن نظريات ومقاربات الأمن وسياسات التسلح ما قبل الأزمة لم تكن مطابقة للواقع، إذ لم يتوقع أحد تقريباً حدوث ما حدث. ثم إن التهديد جاء من أقل مصادره توقعاً، وبخاصة لبلد مثل سورية‏[23].

– الثاني هو أن المقاربات والنظريات التي ظهرت مع الأزمة، انطوت على تقديرات متسرعة نسبياً، واستندت إلى قراءة غير واقعية للأمور. كان ثمة ما يشبه الإجماع على أن النظام السياسي في سورية سوف يسقط خلال أسابيع أو أشهر قليلة‏[24].

طرحت الحربُ أسئلةً كثيرة حول طبيعة العلاقات المدنية – العسكرية، وسياسات التسلح والأمن والدفاع، والعقيدة القتالية والسياسية لدى الجيش ودورها في السياسات العامة، وفي مواجهة تحديات الأزمة، وما هي خبرات ودروس الحرب على هذا الصعيد، وبخاصة أنه حدث تدخل أو تورط عسكري وأمني واسع النطاق من جانب عدد كبير من الفواعل الدولية‏[25]، وقد قالت مصادر مختلفة إن الولايات المتحدة وأطرافاً أخرى حاولوا دفع الجيش إلى القيام بانقلاب عسكري، ولكنهم فشلوا في ذلك.

 

تاسعاً: سياسات التسلح في سورية

بالنسبة إلى سورية، فقد جاء التهديد – كما سبقت الإشارة – من أقل النقاط توقعاً أو احتمالاً، انفجار أزمة داخلية وتحوّلها السريع إلى عمل مسلح ثم حرب بل حروب مركبة ومتعددة الأنماط والمستويات، تدَخَّلَ أو تَوَرَّطَ فيها عددٌ كبير من الدول والشبكات والمنظمات حول العالم. وقد كان ثمة اعتقاد مستقر تقريباً بأن النظام السياسي والدولة آمنان بما يكفي لتجاوز أزمات ما سمِّي «الربيع العربي»، وهي تسمية أصبحت قليلة الاستخدام اليوم.

ركزت سياساتُ الأمن والعسكرة والتسلُّح في سورية قبل الحرب على‏[26]: المقاربة الأمنية لمصادر التهديد الداخلية، وسياسات التحالف والتحالف المضاد في الإقليم، وموازنة الضغوط والتجاذبات الدولية، وديناميات إدارة المخاطر والردع. لكن الحرب أظهرت أو كشفت عن تحول في مدارك الأطراف حول سورية من الضغط باتجاه «تغيير سلوك النظام» إلى العمل على «تغيير النظام» نفسه.

كما كشفت الحرب عن تحديات عميقة وعقبات كبيرة في سياسات التسلح لدى الجيش السوري، وبخاصة في سلاح الجو والدفاع الجوي، إلى درجة وجود صعوبات في الإمداد بالذخائر التقليدية، فكيف بأجيال متطورة منها، فضــلاً عن أن روسيا ربما لم تظهر استجابة مناسبة لمتطلبات التسلح السورية في ظل الحرب. وزاد في الأمر أن القواعد الجوية والمطارات وقواعد الدفاع الجوي ومراكز البحوث والصناعات العسكرية كانت من أولى ما استهدفته الحرب في سورية منذ آذار/مارس 2011، الأمر الذي وضع مدارك الأمن والدفاع تحت ضغوط وإجهاد شديدين.

مثل دخول روسيا وإيران وحزب الله على خط الحرب عامل تعويض للفاقد في القدرات العسكرية والتسليحية والتكتيكية وغيرها، وبخاصة أن تلك الفواعل انخرطت بصورة مباشرة في العمليات العسكرية، وتولت هي الجزء الأعظم من متطلبات السلاح وأنماط الدعم اللوجستي اللازمة لها في الحرب. صحيح أن تلك القوات هي جزء من العمل العسكري اليوم، إلا أنها ليست جزءاً من قدرات الجيش السوري.

وعلى الرغم من أن روسيا نشرت نظم دفاع جوي وصاروخي متطورة، وقالت إنها زودت سورية بنظم صواريخ «إس 300»، إلا أنها على ما يبدو «تضع حدوداً» لإمكان استخدامها لصد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ضد سورية. وهذا يثير مخاوف متزايدة لدى السوريين بشأن الرهانات الروسية في سورية، وبخاصة ما يتصل منها بعلاقات روسيا مع إسرائيل وتأثير ذلك في طبيعة الحل وطبيعة العلاقات بين سورية وإيران. والمهم هنا هو تأثير الرهانات الروسية في طبيعة التسلح وبناء الجيش والأمن في سورية اليوم وسورية ما بعد الحرب.

ومن التحديات مثــلاً: أي جيش، ومن ثم أي تسلح وتفاعلات عسكرية، وأي مدارك تهديد ومدارك أمن ومصلحة لدى الجيش والدولة وحتى لدى شرائح المجتمع، وهل يمكن أن يعود الجيش السوري إلى ما كان عليه قبل الحرب، وأي خبرات لدى الجيش بشأن التسلح وطبيعة السلاح المطلوب، وما الذي يجب أن يتم التركيز عليه وتخصيص الموارد له: السلاح أم التنمية؟

تحيل الأسئلة المذكورة على أن ثمة تحديات ثقيلة ومعقدة تواجه مدارك الأمن وسياسات التسلح في سورية، وبخاصة أن الأزمة تتوالى فصولاً، كما أن تراجع العمليات العسكرية لا يعني أنها انتهت، بل إن ثمة احتمالات كبيرة وقوية لتطورات «نكوصية» في الحرب، وبخاصة مع تزايد التهديدات في شرق الفرات من جانب الولايات المتحدة وتركيا وفواعل أخرى مثل القوات الكردية، وشمال غرب سورية من جانب تركيا والميليشيات الموالية لها، وفي المنطقة الجنوبية من جانب إسرائيل.

ويمكن افتراض وجود اتجاهات عامة لسياسات التسلح لدى سورية باعتبار دروس الحرب، من خلال عملها على:

– مراجعة هيكلية الجيش والقوات المسلحة، ونظم العمليات والتدريب وتكتيكات العمل العسكري، بالاستفادة من خبرات الحرب.

– تعزيز القدرات العسكرية الدفاعية، وبخاصة في الدفاع الجوي والصواريخ، في ظل وجود قيود وحدود متزايدة من جانب روسيا من جهة، باعتبار تفاهماتها مع إسرائيل، ومن جانب إسرائيل نفسها التي تعمل على استهداف القدرات العسكرية السورية بزعم العمل على منع تمركز إيران في سورية.

– التوصل إلى صيغة معقدة للتعاون العسكري مع روسيا، بمنحها قواعد جوية وبحرية، وضمان أعلى حد ممكن من إمدادات السلاح والتكنولوجيا العسكرية.

– تعويض ما تمتنع عنه روسيا من خلال تعاون عسكري مع إيران والصين وكوريا الشمالية، ولو أن ذلك دونه صعوبات كبيرة أيضاً، وذلك على صعيد الموارد من جهة، والحدود والإكراهات السياسية من جهة ثانية.

 

عاشراً: سورية، تحديات ماثلة‏[27]

أظهرت الدولة والنظام السياسي والبنى الاجتماعية وغيرها مقدرة كبيرة – حتى الآن – على الانتقال التدريجي والصعب من الحرب إلى التسوية أو السياسة، رغم أن الأثمان كبيرة أيضاً، وثمة مخاوف من أن يتم ترحيل عدد من القضايا الراهنة والعاجلة إلى مرحلة ما بعد التسوية، أي أن يكون البلد مُفخَّخَاً بالعنف وذا قابلية كبيرة للانفجار.

ثمة صعوبة كبيرة في تحديد وتقصي التحديات التي تواجه المشهد السوري، وأنه لا بد من التركيز على ما يُعدُّ ماثــلاً وذا أولوية، حتى مع صعوبة الترتيب من حيث الدرجة، ذلك أن مباشرة أو مواجهة تلك التحديات جميعها ربما لا يكون متيسراً فعلياً، وحيث تلتقي تجاذبات وتوازنات ورهانات مختلف الفواعل والأطراف.

تمثل التحدياتُ الماثلةُ مقدمةً وبيئةً وسياقاً ودافعية لقضايا أو مخاطر وتحديات أخرى من طبيعة مختلفة؛ ذلك أن المعركة المقبلة ربما تكون أكثر خطورة، إذ إنّها تتعلق بطبيعة الدولة وهوية التكوين الاجتماعي والسياسة الخارجية، وموقع سورية وموقفها من قضايا الإقليم والعالم. وما نحن في صدده اليوم هو شرط لا بد من أن ينقضي/يتحقق قبل أن تنطلق الدولة والنظام السياسي في بناء أجندة وطنية لسورية ما بعد الحرب.

الحديث هو عن التحديات الأبرز والأكثر تأثيراً في الأزمة السورية؛ ذلك انطلاقاً من تطورات اللحظة الراهنة، وكونها ملفات تحضر فيها الأطراف الأخرى أكثر من غيرها، بل يحضر فيها «الخارج» أكثر من «الداخل»، وكل واحد منها يمثل مساراً تطورياً على درجة عالية من الأهمية والخطورة، ويمكن أن يحدد بدوره ملامح المستقبل بالنسبة إلى سورية وربما المنطقة.

 

حادي عشر: شرايين سورية المفتوحة!

يحتدم «الصّراع على سورية»‏[28]، ليس من أجل إعادتها بلداً آمناً ومستقراً، وثمة من الحلفاء من يريد لها أن تعود آمنة، إلا أنه يريد مع ذلك أن يحقق أهدافاً أخرى، كأن تكون سورية ما بعد الحرب «على شاكلته» مثــلاً، أو قريبةً منه، أو جزءاً من رهاناته الإقليميّة والدوليّة، وقد لا يتطابق ذلك تماماً مع ما تريده سورية نفسها.

حدثت في سورية كلّ الأهوال الممكنة للحروب، من دمار، ليس للبنى المادية فحسب، وإنما المعنوية والرمزية منها أيضاً، وإذا تمكن أي من فواعل الحرب الدائرة اليوم من تحقيق ما يصبو إليه، فمن المحتمل أن تصل الأمور بنا إلى «سورية أُخرى» مختلفة عما كانت عليه قبل آذار/مارس 2011، وبالطبع مختلفة عن سورية المأمولة في ما بعد الحرب.

جانبٌ من الصراع المحتدم اليوم يتخذُ طابعاً مختلفاً، إذ إنَّ الهدف هو في جانبٍ كبيرٍ منه «اغتنام البلد» ككلّ، أو اغتنام الحصة الأكبر منه، أو ما أمكن من حصة. وقد ظهر منذ البداية أنَّ سورية أصبحت ساحة معارك متداخلة ومتوازية بين فواعل إقليمية ودولية متعددة، كما سبق أن عبَّر عن ذلك وزير الخارجية الأمريكيّ الأسبق جون كيري، أو ساحة «حرب بين الحروب» كما يصفها الإسرائيليون، ومن أسفٍ أن هذا صحيح. ومن الواضح أنَّ تراجعَ المواجهات العسكرية في سورية نقلَ البلاد إلى مستوى آخر من التهديد، يتركز اليوم حول طبيعة الحلّ أو التسوية، وطبيعة المجتمع والدولة، واتجاهات السياسة الخارجية في مرحلة ما بعد الحرب.

نستعير عنوان النصّ من كتاب للروائيّ الأوروغواياني إدواردو غاليانو بعنوان «شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة»، والمكتوب يظهر من العنوان، كما في مثل مشرقي معروف. ينطلق حديثنا هنا من أنَّ الحرب شملت كل شيء تقريباً في سورية، ولا يزال كل شيء تقريباً تحت التهديد، وهو ما يفسّر أو يبرّر حديثنا عن «شرايين سورية المفتوحة»:

– أول الشرايين المفتوحة هو استهداف «فكرة الدولة» وطبيعتها، وطبيعة النظام السياسيّ، والبناء الدستوريّ، وطبيعة التكوين الاجتماعيّ والتفاعلات الاجتماعيّة والإثنيّة والدينيّة في سورية.

– الهيمنة على مدارك ومخيال السوريين، ومحاولة جعلهم «يتمثلون» ما يراد لبلدهم، وأن تتنازعهم تلك «التمثلات»، ليقعوا ضحية قابلية انفجار بلدهم ودخولهم حروباً ومواجهات وتمزقات ماديّة ورمزيّة.

– شرايين مفتوحة في كلّ الجهات: في الشمال حيث تتدخل تركيا لإقامة كيانيّة في مناطق سيطرتها المباشرة وسيطرة الميليشيات الموالية لها في إدلب وريف حلب. وفي منطقة الجزيرة أو ما يُعرف بــ «شرق الفرات» التي تسيطر عليها فعليّاً الولايات المتحدة تحت واجهة كردية. وفي المنطقة الجنوبية حيث لا تزال لدى إسرائيل أجندات تغلغل واختراق في درعا والقنيطرة وربما الغوطة بريف دمشق، وثمة تقديرات بأنّها تُعِدُّ لأجندات مشابهة تجاه السويداء.

– ثمة شرايين مفتوحة، يسببها الحلفاء هذه المرة الذين يسعون للتدخل والهيمنة – من باب الاستثمار وإعادة الإعمار – على قطاعات حيويّة للبلد مثل: الفوسفات والنفط والغاز والنقل البريّ والجويّ والبحريّ، وحتى الصناعات الدوائية، والزراعة، والتعليم وغيرها. وهذا يتعلق بروسيا وإيران أساساً، بينما تنتظر الصين أن تتضح ملامح الحلّ أو التسوية واتجاهات القوة والنفوذ!

– ثمة شرايين مفتوحة في الداخل، وهي أكثر خطورة؛ بل أكثر كارثية وتنشأ من: الفساد والهدر، وسوء الإدارة، والإخفاق في السياسات الحكومية، واستنزاف الرأسمال البشري والمادي، والإجهاد القيمي والثقافيّ. وقد كشفت الأزمة عن أنَّ الهوية الوطنية والدولة لم يكونا مستقرين أو آمنين بالقدر الكافي، لذا أمكن للخصوم تفجيرهما بسهولة غير متوقعة.

شرايين سورية مفتوحة، ليس بما هي بذاتها «موضوعاً» للصراع فحسب، إنما بما هي «ساحة مواجهة» و«تراسل» بين مختلف الفواعل الإقليمية والدولية: تركيا وإيران، إسرائيل وإيران، إيران والولايات المتحدة، روسيا تجاه كلّ من تركيا والولايات المتحدة وحتى إيران، الولايات المتحدة، وحزب الله تجاه إسرائيل… إلخ.

إنَّ لدى مختلف الأطراف أولويات غير مطابقة لأولويات السوريين أنفسهم، وهذا غير مطلوب أساساً، بيدَ أنَّ ثمة مخاوفَ من أن يحاول الشركاء المُضيَّ في أولوياتهم، في مواجهة أولويات خصومهم من جهة، وفي مواجهة أولويات أهل الدار، أعني السوريين، من جهة أخرى.

لكن أن يشعر الفاعلُ أو الطرفُ أنه «قَوَّام» على أهل البلد، وأن له عليهم «دَيناً» ماديّاً أو معنويّاً، ويجب عليهم أن يسددوه، فهذا يمثل «شرياناً مفتوحاً» رئيساً يتهدد سورية بكليتها، ويهدِّدُ معها كلّ التحالف الإقليميّ المعروف باسم «حلف المقاومة»، كما يهدد الآمال والفرص البازغة بإمكان بروز نظام عالميّ متعدد الأقطاب وأكثر عدالة وتوزاناً.

 

خاتمة

إذا أخذنا في الحسبان الأساطير والسرديات والأنثروبولوجيا التاريخية والثقافية، وواقع المنطقة العربية والشرق الأوسط اليوم، المثقل بالعنف والنزاع والحروب المستمرة فيها، فسوف نخرج بتقدير صادم أو متشائم بعض الشيء، وهو أن قضاياها لا يبدو أن لها حــلاً في المدى المنظور. ومن المرجح أن تبقى المنطقة موضوعاً رئيساً لتقارير الأمن والتسلح مثل تقارير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI) وغيره! وموضوعاً رئيساً لوسائل الإعلام التي تغطي مناطق النزاع.

إذا استمرت الأمور على هذا النحو، فهذا يعني أن المنطقة مرشحة دائم تقريباً لأن تحتل مواقع متقدمة في معدلات الإنفاق العسكري وصفقات السلاح، وكذلك الأمر في مؤشرات الدول الفاشلة أو المهددة بالفشل أو الدول الهشة، ومثل ذلك بالنسبة إلى مؤشرات العنف الاجتماعي والديني والإثني والفقر والاضطهاد والهجرة واللجوء… إلخ.

وبالنسبة إلى سورية، ثمة مؤشرات على الاستمرار في النظر إليها بوصفها «ساحة مواجهة» أو ساحة «حرب بين الحروب» بالتعبير الإسرائيلي، بين: روسيا – الولايات المتحدة، الغرب – الشرق، الشمال الجنوب، إيران – تركيا، إيران – إسرائيل، دول الخليج العربية مع تركيا وإيران، «أهل المقاومة» مع «أهل الاعتدال»… إلخ. وهذا يحيل على أن الحرب السورية سوف تمثل – إلى جانب الحروب والنزاعات الأخرى – أحد أبرز محددات الإنفاق العسكري والتسلح في المنطقة والعالم.